الباب الأول

أعمال المصرف

المصرف في كوكتاون عبارة عن بيت ضخم مبني بالطوب الأحمر، أكبر قليلًا من بيت المستر باوندرباي. جلست مسز سبارسیت في حجرتها بالمصرف، التي كانت تستعملها بعد الظهر، عقب انتهاء ساعات العمل، وكانت في ذلك الوقت هي المسئولة عن سلامة جميع مباني المصرف، والخزائن بما فيها من نقود، كما كان هناك، أيضًا، شاب يحرس خزانة حفظ الأشياء الثمينة. فأعدَّت الخادمة صينية الشاي لمسز سبارسیت، أحضرها إليها ذلك الشاب بداخل الحجرة.

فقالت مسز سبارسيت: «أشكرك يا بيتزر.»

فردَّ عليها الشاب بقوله: «شكرًا يا مدام.» وبيتزر هذا، هو الغلام الذي عرف الحصان بمهارة في المدرسة منذ سنوات. وما زال أبيض الشعر والبشرة مثلما كان في أيام المدرسة.

سألت مسز سبارسیت، بیتزر بقولها: «هل كل شيء في أمان، يا بیتزر؟»

قال: «كل شيء مقفل يا مدام.»

فقالت وهي تصب الشاي في القدح: «ما الأخبار اليوم؟ هل من أحداث؟»

– «أستطيع القول يا مدام بأنني لم أسمع شيئًا بعينه.»

ولما كان ذلك الوقت هو الفترة التي يتحدث فيها مع مسز سبارسيت، عن الأمور السرية، تظاهر بأنه يرتب «كلا، لم يكن العمل كثيرًا، يا مدام.»

قالت: «هل كان اليوم كثير العمل يا بيتزر؟»

– «كلا؛ لم يكن العمل كثيرًا يا مدام.»

قالت: «بالطبع، الكتبة أمناء، ويعملون بجد وإخلاص!»

قال: «نعم يا مدام. كلهم على ما يُرام، مع الاستثناء الوحيد المعتاد.»

يقوم بيتزر بدور الجاسوس لمسز سبارسيت في المصرف. وفي نظير هذا العمل، كانت تقدِّم له هدية في عيد الميلاد، وهو شاب ألمعي بالغ النباهة، وشديد الحرص. وعلى يقين من أنه سوف يرتفع في الحياة، وإذ درب عقله بعناية، لم تكن لديه أية أمور عاطفية، كل أعماله نتيجة حسابات دقيقة.

كرَّر بيتزر قوله مرة ثانية، فقال: «كلهم على ما يُرام، مع الاستثناء الوحيد المعتاد يا مدام.»

فقالت مسز سبارسيت وهي تشرب الشاي وتهز رأسها: «يا للأسف!»

قال: «إنه المستر ثوماس يا مدام. أنا أرتاب كثيرًا في المستر ثوماس. لا تعجبني أساليبه بحالٍ ما.»

فقالت مسز سبارسيت بلهجة الأمر: «هل تتذكر ما قُلته لك عن عدم ذكر أسماء؟»

قال: «عفوًا يا مدام، هذا صحيح تمامًا. لقد مانعت في ذكر أسماء.»

قالت: «إنْ قلت: فردًا ما استمعتُ إليك، أما إن قلت المستر ثوماس، فينبغي لك أن تستسمحني!»

قال: «مع استثناء فرد واحد يا مدام.»

فقالت مسز سبارسيت: «حسنًا!»

قال: «فرد واحد لم يسلك أبدًا المسلك اللائق به، إنه يتلكَّأ في العمل، وكسلان، ويبذر نقوده.»

هزت مسز سبارسيت رأسها، وتأوَّهَت.

استطرد بيتزر كلامه، فقال: «آمل يا مدام في ألا يمده صديقه وقريبه بالنقود، ونحن جميعًا نعرف مِن جيب مَن تأتي النقود.»

فقالت مسز سبارسيت مرة أخرى: «حذارِ يا بيتزر!»

قال: «ينبغي لنا يا مدام أن نشفق على هذا الشخص الذي تكلمت عنه الآن.»

فقالت: «نعم يا بيتزر؛ كنت أشفق عليه دائمًا من أجل ذلك.»

قال بيتزر، وقد خفض صوته واقترب منها: «ذلك الشخص الصغير، يبذر نقوده مثلما يبذرها أي شخص في هذه البلدة. وإنكِ لتعلمين كم هم مبذرون!»

قالت: «لو حذوا حذوك لأحسنوا صنعًا!»

قال: «شكرًا يا مدام، لقد ادخرت نقودًا، والهدية التي أخذتها منك، في عيد الميلاد، لم أمسها على الإطلاق، أنا لا أنفق كلَّ مرتبي، رغم ضآلته. فما يستطيع أن يعمله أي إنسان، يستطيع غيره أن يعمله.»

فقالت: «نعم، هذا صحيح.»

قال: «أتريدين شيئًا آخَر أحضره لكِ يا مدام؟»

قالت: «لا شيء الآن يا بيتزر، وشكرًا!»

أطلَّ بيتزر من النافذة إلى الشارع، والتفت نحو مسز سبارسيت، وقال: «لا أريد إزعاجكِ، وأنت تشربين الشاي يا مدام. ولكن يوجد رجل في الخارج ظلَّ ينظر إلى هذا الشباك، مدة دقيقة أو اثنتين، وأظنه سيطرق الباب الأمامي. هل تريدينني أدخله لمقابلتك يا مدام؟»

قالت: «إن رأيتَ هذا ملائمًا يا بيتزر.»

طرقَ الغريب الباب، فهبط بيتزر السلم ليفتحه له.

وأزاحت مسز سبارسيت أدوات الشاي جانبًا.

جاء بيتزر، يقول: «الرجل الغريب يريد مقابلتك يا سيدتي.»

كان ذلك الزائر في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره، وأنيق المنظر.

فقالت مسز سبارسيت لهذا الزائر: «أعتقد أنك تريد التحدث إليَّ، تفضل بالجلوس.»

فقال: «شكرًا يا سيدتي!» ثم سحب كرسيًّا لتجلس عليه مسز سبارسيت، بينما بقي هو واقفًا إلى جانب المائدة، وقال: «معي خطاب توصية للمستر باوندرباي، صاحب هذا المصرف.»

نظرت مسز سبارسيت إلى هذا الزائر، فأعجبها حُسن هندامه، ووجدته ذا شعر أسود، وعينين جريئتين، وصوت عذب جدًّا.

قال: «سألت عن الطريق إلى بيت المستر باوندرباي، فقادني أحد الناس إلى هذا المصرف، ولكن من المؤكد أن المستر باوندرباي لا يقيم هنا.»

قالت: «طبعًا، هو لا يقيم هنا ولكن بوسعي أن أعطيك عنوان بيته.»

– «شكرًا، يا سيدتي؛ خطاب التوصية الذي معي من أحد أعضاء البرلمان، هو مندوب كوكتاون، واسمه المستر جرادجرايند. التقيت به في لندن.»

أطلعَ هذا الغريب مسز سبارسيت على خطاب التوصية، فأعطته عنوان بيت المستر باوندرباي ووصفت له كيفية الذهاب إليه.

فقال الغريب بأدب: «ألف شكر يا سيدتي، من المؤكد أنكِ تعرفين جيدًا صاحب هذا المصرف.»

قالت: «نعم؛ أعرفه منذ عشر سنوات.»

قال: «أظنه تزوج ابنة المستر جرادجرايند.»

قالت: «نعم.» وفجأةً انكمش فمها، واستطردت تقول: «كان له ذلك الشرف!»

فقال الغريب: «اغفري لي فضولي يا سيدتي، أنتِ تعرفين تلك الأسرة، وتعرفين العالم: هل عقيلة المستر باوندرباي بارعة الجمال؟ وكم يبلغ عمرها؟ هل أربعون أم خمس وثلاثون سنة؟»

ضحكت مسز سبارسيت، وقالت: «لم تبلغ العشرين عندما تزوَّجَت.»

فقال الغريب: «هل هذا حقيقي؟ إنه يدهشني!»

ثم انحنى لها، وخرج من الحجرة.

وقفت مسز سبارسيت خلف ستائر النافذة ولاحظت ذلك الغريب وهو يسير في الطريق، وقد جعل منظره وحسن هندامه الناس ينظرون إليه.

عندما كانت مسز سبارسيت وحدها، وهي تتناول وجبة العشاء، قالت: «يا لكَ من غبي!» فمَن كانت تقصد؟ لم توضح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤