الباب الحادي عشر

إلى أسفل وإلى أسفل

عندما علم المستر جرادجرايند بموت زوجته، رجع من لندن، ودفنها بطريقة عملية، ثم عاد مباشرة إلى أعماله البرلمانية في لندن.

في ذلك الوقت، إذ رجعت مسز سبارسيت إلى مسكنها في المصرف، داومت على المراقبة. لقد انفصلت عن سلمها طوال الأسبوع، بقدر المسافة ما بين كوكتاون ومنزل المستر باوندرباي الريفي، ولكنها ظلت تراقب لويزا، مراقبة دقيقة بطريقة غير مباشرة.

قالت مسز سبارسيت للشبح الهابط: «قدمك على الدرجة السفلى من السلم، يا سيدتي، وكل أفانين خداعك لن تعميني.»

حقيقة، كانت لويزا صامتة هادئة بصورة غريبة. وكانت هناك أوقات لا يتأكد فيها المستر جيمس هارتهاوس من لويزا، وأوقات لم يستطع فيها قراءة ذلك الوجه الذي درسه مدة طويلة.

مرَّ الوقت، وحدث أن استدعى العمل المستر باوندرباي بعيدًا عن بيته لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، ولكنه دعا مسز سبارسيت إلى أن تذهب إلى بيته الريفي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، كما اعتادت.

عندما أُقفل المصرف في ذلك المساء، قالت مسز سبارسيت لبيتزر، رسول المصرف: «اذهب من فضلك يا بيتزر، وأخبِر توم الصغير بأن يأتي ويشاركني وجبة.»

قبل توم الصغير الدعوة، وسرعان ما كان يتناول العشاء على مائدة مسز سبارسيت.

سألت مسز سبارسيت توم، بقولها: «كيف حال المستر هارتهاوس، يا مستر توم؟»

قال: «إنه بخير.»

فقالت مسز سبارسيت بلهجة ودية: «أين هو الآن؟»

قال: «كان بعيدًا عن البيت، غير أنني أتوقَّع أن أراه غدًا. عندي موعد معه. اتفقنا على أن نلتقي في المساء عندما يصل إلى المحطة هنا في كوكتاون، ثم نتعشى معًا. لا يستطيع البقاء في بيت أبي كثيرًا الآن، إذ عليه أن يتنقل، ولكني أظنه سيمكث هناك يوم الأحد القادم.»

فقالت مسز سبارسيت: «يوم الأحد؟ هذا يذكرني بشيء، فهل تتفضل يا مستر توم بحمل رسالة إلى أختك؟ أرجوك أن تخبرها وهي وحدها، بأنني لن أستطيع الذهاب إلى بيتها الريفي، في نهاية هذا الأسبوع لأن صحتي ليست على ما يرام.»

في يوم السبت التالي، جلست مسز سبارسيت بجانب نافذتها طول اليوم، وفي المساء، ارتدت معطفها وقبعتها وذهبت إلى المحطة، فجلست في أحد الأركان المظلمة بالمحطة، واختبأت في حجرة انتظار السيدات لفترة ما، وأخذت تراقب ما يحدث خارج الحجرة.

أبصرت مسز سبارسيت، توم على رصيف المحطة ينتظر القطار القادم، ولكن عند مجيء ذلك القطار لم يكن المستر جيمس هارتهاوس به، فتحدث توم مع موظفي المحطة، فعلم أن عليه أن ينتظر ساعة وأربعين دقيقة حتى يأتي القطار التالي.

فقالت مسز سبارسيت لنفسها: «هذه خطة مدبرة، لإبعاد توم عن البيت؛ هارتهاوس الآن مع أخته.»

وعلى هذا، تركت مسز سبارسيت هذه المحطة بسرعة، وذهبت إلى المحطة الأخرى التي بالبلدة حيث يمكنها أن تستقل القطار إلى بيت المستر باوندرباي الريفي، وسرعان ما كانت في القطار، وهي تتصور سلمها الخيالي، طوال الطريق، فترى الشبح يقترب الآن من الخراب والدمار.

كان مساءً غائمًا من شهر سبتمبر؛ فذهبت مسز سبارسيت إلى بيت المستر باوندرباي، واختبأت في الحديقة، ونظرت إلى نوافذ البيت، فلم تكن بها أنوار حتى ذلك الوقت، والجو يسوده الهدوء. فنظرت حواليها في الحديقة، فلم تبصر أحدًا. ثم فكرت في الغابة الصغيرة القائمة في طرف الحديقة، والمقعد الذي تحب لويزا أن تجلس فيه.

وسارت مسز سبارسيت، حتى صارت على مسافة آمنة من ذلك المقعد، ووقفت هادئة، وأصغت .. هناك أصوات خافتة قريبة؛ صوته وصوتها. إذَن، فقد كان الموعد مع توم في المحطة، مجرد خدعة لإبعاده من طريقهما .. كانا هناك يجلسان معًا، بين الأشجار.

اقتربت مسز سبارسيت مسافة ما، وكان جيمس هارتهاوس، قد جاء راكبًا حصانه خلال الحقول فلما وصل، ترجل وربط الحصان في السور. إنه يتكلم الآن مع لويزا.

قال المستر هارتهاوس: «يا أعز محبوبة! ماذا بوسعي أن أفعل؟ عرفتُ إنكِ وحيدة هنا، فهل من الممكن أن أبقى أنا بعيدًا؟»

حوَّلَت لويزا نظرها إلى أسفل، ورجت هارتهاوس أن ينصرف، ثم أمرته بأن ينصرف. لم ترفع عينيها عن الأرض، ولم تنظر إلى وجهه، أو إليه، أو نحوه. بل جلست ساكنة واضعة يدًا فوق أخرى، وهي تتكلم ببطء.

ابتهجت مسز سبارسيت عندما رأت ذراع هارتهاوس حول وسط لويزا، وهو يقول لها: «يا طفلتي العزيزة. ألا تسمحين لي بالبقاء هنا برهة؟»

– «ليس هنا.»

– «أين إذَن يا لويزا؟»

– «ليس هنا.»

فقال هارتهاوس: «ولكن ليس لدينا سوى القليل من الوقت الذي يمكن أن ننتفع به. وقد جئتُ من مسافة بعيدة، أنا عبدك!»

قالت بلهجة الغضب: «هل أُجبَر على أن أقول مرة أخرى إنه يجب أن أُترَك وحدي؟»

قال: «ولكن يجب أن نتقابل، يا عزيزتي لويزا. فأين نتقابل؟»

أخذ جيمس هارتهاوس يلقي على مسامع لويزا أنه يحبها حبًّا جمًّا، وعلى استعداد لأن يتنازل عن كل شيء من أجلها. فسمعت مسز سبارسيت هذا الكلام العاطفي وهي مبتهجة، وأخيرًا، ركب المستر هارتهاوس جواده وانصرف.

لم تتأكد مسز سبارست من المكان الذي سيلتقيان فيه. ولكنها كانت على يقين من أن اللقاء سيكون في تلك الليلة. ولاحظت لويزا وهي تدخل البيت وانتظرت في الحديقة تحت المطر الوابل، وقد ابتلَّ جوربها الأبيض كله، وسال المطر من قبعتها ومن أنفها المعقوف. وأخيرًا، أبصرت لويزا تخرج من البيت.

فكَّرَت مسز سبارسيت في أن لويزا ستهرب مع هارتهاوس. فلم تعبأ بالمطر الغزير، وتبعت لويزا.

خرجت لويزا من الباب الجانبي، ويمَّمَت شطر المحطة. وعرفت مسز سبارسيت أنه سرعان ما سيأتي قطار متجه إلى كوكتاون.

اختبأت مسز سبارسيت، من لويزا، في المحطة. فلما جاء القطار، وركبت لويزا في إحدى العربات، وركبت مسز سبارسيت في عربة أخرى. ورغم أن أسنانها كانت تصطك بشدة بسبب البرد، إلا أنها كانت مسرورة.

قالت مسز سبارسيت لنفسها: «ستصل لويزا إلى كوكتاون قبل هارتهاوس، فأين ستنتظره؟ أو إلى أين سيذهبان معًا؟ سوف أرى.»

ولكن مسز سبارسيت لم ترَ شيئًا؛ لقد أحدثت العاصفة ارتباكًا في محطة كوكتاون، حتى إن مسز سبارسيت فقدت رؤية لويزا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤