الباب السادس

الرحيل

عندما خرج ستيفن من عند المستر باوندرباي كان الظلام قد خيَّم على الكون ولفَّه في غلالة سوداء، فسمع خلفه وقع أقدام يعرفها، فاستدار، فأبصر راشيل ومعها المرأة العجوز التي رآها قبل ذلك عندما زار المستر باوندرباي. فدهش لرؤيتها مرة أخرى.

سار ستيفن مع راشيل وتلك المرأة نحو البلدة، وفي أثناء الطريق، قالت المرأة العجوز إنها سمعت عن زواج المستر باوندرباي، وإنها لتحب كثيرًا أن ترى زوجته. غير أن المستر باوندرباي لم يخرج من منزله؛ لذا سألت راشيل عن منظر تلك الزوجة.

فقال ستيفن: «أنا أخبرك؛ فقد رأيتها منذ لحظة. هي صغيرة السن وجميلة، ذات عينَين سوداوين مفكِّرتين وجذَّابتين، وأخلاقها هادئة.»

سألت راشيل تقول بلهفة: «هل تركت العمل يا ستيفن؟»

قال: «يا راشيل، سواء تركت عمل المستر باوندرباي أو إن عمله هو الذي تركني؛ فهذان سيَّان. لقد افترقت أنا وعمله، وربما كانت هذه الطريقة أفضل. فلو بقيت هناك لجلب بقائي متاعب فوق متاعب، ولكن يجب أن أغادر كوكتاون، الآن، ثم أبدأ من جديد.»

فقالت راشيل: «إلى أين ستذهب يا ستيفن؟»

– «لست أدري، وسأفكِّر في هذا الأمر.»

استمرَّ الثلاثة يسيرون نحو بيت ستيفن، فلما اقتربوا منه، قال ستيفن للمرأة العجوز: «هل تتفضلين بالمجيء إلى بيتي، وتتناولين قدحًا من الشاي؟ وكذلك تأتي راشيل، وبعد ذلك أوصلك إلى مساكن السياح. سيمرُّ وقت طويل قبل أن ألتقي بكِ مرة أخرى يا راشيل.»

وافقت المرأة، فذهبوا جميعًا إلى حيث يقيم ستيفن. رأى ستيفن بارتياح أن شباك حجرته مفتوح كما تركه، ولا أحد بالحجرة. انصرفت منذ شهور زوجته التي كانت عفريت حياته الشرير، وأخذت معها بعض ممتلكاته، ولم يسمع عنها منذ ذلك الوقت، ولكنه كان يخاف دائمًا أن تعود.

تناول هؤلاء الثلاثة الشاي معًا، وأخبرته المرأة العجوز أن اسمها مسز بجلر Pegler، وأنها أرملة، ولها ابن واحد، ولكنها فقدته.

صعدت صاحبة بيت ستيفن، فجأة، واستدعته إلى الباب، وأخبرته بأن مسز باوندرباي تريد زيارته.

فبدا الخوف عندئذٍ على وجه المرأة العجوز، وانزوت في أحد أركان الحجرة حيث لا يلاحظ وجودها أحد.

هبط ستيفن السلم، وعاد بعد لحظات مع لويزا، وكان يتبعها أخوها توم.

نهضت راشيل في معطفها وهي ممسكة قبعتها في يدها، وقد دهش ستيفن لهذه الزيارة، فوضع الشمعة على المائدة، ووقف ينتظر أن تتكلم لويزا.

لأول مرة في حياة لويزا تذهب إلى بيت أحد عمال كوكتاون. ولأول مرة في حياتها تلتقي بهم وجهًا لوجه. كانت تعلم فقط بوجودهم، بالمئات وبالألوف. فوقفت لبضع لحظات تنظر حوالي الحجرة، فلاحظت قلة المقاعد، والكتب القليلة، والسرير والمائدة.

نظرت لويزا إلى المرأتين وإلى ستيفن، وقالت إليه: «جئت إلى هنا بسبب ما حدث بعد ظهر هذا اليوم، وأحب أن أساعدك، إنْ سمحتَ لي، ماذا ستفعل الآن؟»

قال: «سأغادر هذه البلدة، يا مدام، وأجرِّب غيرها.»

قالت: «وكيف ستسافر؟»

– «على قدمي يا سيدتي الرحيمة، على قدمي.»

تغيَّرَ لون لويزا، وظهر كيس نقود في يدها، فأخذت منه ورقة مالية ووضعتها على المائدة وقالت: «هل تتفضلين يا راشيل بأن تخبريه بأن هذه الورقة له لتساعده في سفره؟ وهل تتفضلين برجائه أن يأخذها؟»

figure
نظرت لويزا إلى المرأتين وإلى ستيفن وقالت إليه: «جئت إلى هنا بسبب ما حدث بعد ظهر هذا اليوم، وأحب أن أساعدك.»

فقالت راشيل: «لا يمكنني أن أفعل هذا يا سيدتي الصغيرة. وليباركك الرب نظير تفكيرك فيه، ولكن قبول هذه الورقة يرجع إليه هو نفسه. عليه أن يفعل ما يعتقده صوابًا.»

فقال ستيفن: «شكرًا لكِ يا مدام، سآخذ جنيهين فقط، بصفة قرض، وسأردهما ثانية.»

استعادت لويزا الورقة المالية، ووضعت مكانها جنيهين ذهبيين.

في تلك الأثناء كان توم جالسًا على السرير يهزُّ إحدى ساقَيه، وينظر إلى ما يجري بدون اهتمام، فلمَّا رأى أخته تستعد للانصراف، نهض بسرعة وقال: «انتظري لحظة يا لو، أريد أن أتحدَّث مع ستيفن؛ إذ طرأ على بالي أمر الآن، وإن صحبتني إلى الخارج يا بلاكبول فسأقوله لك.»

تبع ستيفن توم، فأغلق هذا الأخير باب الحجرة وراءهما، وقال هامسًا: «أعتقد أن بوسعي مساعدتك.»

وقعت أنفاس توم كالنار على أذن ستيفن، إذ كانت ساخنة.

قال توم: «متى سترحل؟»

فقال ستيفن، وهو يحسب: «اليوم الإثنين، إذَن، فسأرحل يوم الجمعة أو السبت.»

فقال توم: «يوم الجمعة أو السبت .. إنك تعرف الشاب الذي في المصرف، ذلك الذي جاءك بالرسالة اليوم؟»

قال: «نعم أعرفه.»

فقال توم: «حسنًا جدًّا؛ عندما تترك المصنع مساء، في كل ليلة حتى ترحل، اذهب إلى المصرف، وانتظر خارجه لمدة ساعة أو نحوها، قد ترى ذلك الشخص في النافذة، ولكنه لن يخرج ليتحدث إليك إلا إذا وجدت أن بوسعي مساعدتك، فإن أمكنني مساعدتك، خرج إليك ذلك الشاب، أو ترك لك مذكرة أو رسالة. هل أنت متأكد من أنك فهمت؟»

فقال ستيفن: «نعم فهمت يا سيدي.» ثم رجعا إلى الحجرة، إلى الآخرين.

بعد انصراف توم ولويزا، صحب ستيفن وراشيل مسز بجلر إلى مسكنها، وقد أعجبت هذه الأخيرة بمسز باوندرباي غاية الإعجاب، وبكت لكونها فتاة جميلة.

سار ستيفن وراشيل نحو ناصية الشارع الذي تقيم فيه راشيل، وعند اقترابهما منه، نزل عليهما سكوت تام ثم توقَّفا وهما لا يزالان صامتين، كما لو كان كلٌّ منهما خائفًا أن يتكلم.

وأخيرًا قال ستيفن: «يا راشيل، سأحاول أن أراكِ مرة أخرى قبل رحيلي، ولكن إذا …»

قالت: «لن تراني، أنا أعرف ذلك. من الخير أن يكون كلُّ واحد منا صريحًا مع الآخر. اكتب إليَّ وأخبرني بكل ما يحدث يا ستيفن.»

– «نعم، سأكتب إليك يا راشيل، وليكن الله معكِ، وليباركك ويجازِكِ ويُثِبكِ!»

– «عسى أن يبارك الرب جميع تجوالاتك يا ستيفن، وليمنحك السِّلْم والراحة أخيرًا، وليباركك الله، ومساء الخير!»

لم يكن هذا سوى وداع سريع في الشارع، ولكنه كان ذكرى مقدسة لدى هذين الشخصين العاديين.

عمل ستيفن في المصنع في اليوم التالي والذي يليه. وما من أحد من العمال تكلَّم معه، وكان في كل ليلة يذهب إلى المصرف ويقف خارجه أكثر من ساعة ولم يتصل به أحد، ولم يحدث أي شيء سواء كان طيبًا أو رديئًا.

قرَّر ستيفن في الليلة الثالثة والأخيرة أن يبقى خارج المصرف لمدة ساعتَين، فبدت هاتان الساعتان دهرًا. كان يعرف أن مديرة بيت المستر باوندرباي جالسة عند نافذتها بالطابق الأول، وأن رسول المصرف جاء إلى تلك النافذة مرة أو مرتين، وجاء مرة إلى الباب الأمامي، ولكنه لم يقُل شيئًا لستيفن.

وأخيرًا، ذهب ستيفن إلى بيته، وودَّع صاحبة البيت، وذهب إلى الفراش مبكِّرًا، ورغب في مغادرة البلدة مبكرًا، قبل أن يكون العمال الآخرون في الشارع الذي يسير فيه.

عندما بزغ النهار، ألقى ستيفن نظرة حول حجرته لآخِر مرة، ثم غادر البيت.

كانت الشوارع خالية من الناس، لم يبصر فيها أيَّ مارٍّ، كما لو أن سكان البلدة قد هجروها؛ لأنهم لا يريدون أن يتحدثوا معه. فصعد في التل. وعندئذٍ ارتفعت الشمس في السماء بعيدًا عن الأفق، وأخذت الحياة تدب في البلدة.

من الغريب أن يتحوَّل ما اعتاد ستيفن رؤيته، من المداخن العالية ذوات الدخان الكثيف، إلى الطيور تشقشق وتزقزق على أفنان الأشجار، ومن الغريب أيضًا أن يعلق تراب الشوارع بقدمَيه بدلًا من تراب الفحم، ومن الغريب كذلك أن يقضي حياته في تلك البلدة، ثم يرحل عنها ليبدأ حياة أخرى من جديد، في هذا الصباح من الصيف.

سار ستيفن في الطريق، وهذه الأفكار تدور في خلده، وهو يحمل صرَّته تحت ذراعه، تظله الأشجار وتهمس إليه بأنه ترك وراءه قلبًا محبًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤