الباب السابع

البارود

أخذ المستر هارتهاوس يفكِّر في لويزا، وكيف انفرجت أساريرها، وهشَّ وجهها وبشَّ، وابتسمت ابتسامة جميلة لمجرد رؤية أخيها، ذلك الكلب الصغير، وسيكون إحساسًا جديدًا، أن تغير ذلك الوجه من أجله هو، جيمس هارتهاوس.

كان المستر هارتهاوس سريع الملاحظة، قوي الذاكرة. لم ينسَ أي كلمة مما قاله توم عن أخته لويزا، ولكن الحقيقة أنه لم يفهم الجزء الأفضل من أخلاق لويزا. فالعمق لا يستجيب إلا للعمق، ورغم هذا، أخذ يقرأ بقيته في عيني الطالب المتعلم.

عندما تزوج المستر باوندرباي، اشترى منزلًا يبعد عن البلدة بحوالي أربعة وعشرين كيلومترًا، وعن أقرب محطة سكة حديدية بكيلومتر واحد أو اثنين. وكثيرًا ما كان المستر هارتهاوس يعيش الآن مع أسرة باوندرباي، في المنزل الريفي، عندما ينتقل في تلك المنطقة، يعمل من أجل حزبه السياسي. وكثيرًا ما كان المستر باوندرباي يفخر أمام جميع معارفه بأنه لا يهتم فيما يختص بذوي العلاقات السياسية؛ أمثال المستر جيمس هارتهاوس، ولكنه يقول إن اهتمت بهم زوجته رحبوا بصحبتها.

وذات يوم، جلست لويزا وحدها في الحديقة، والجو هادئ هناك وسط الأشجار، وقد اعتادت أن تجلس في الحديقة، تلاحظ أوراق السنة الماضية وهي تسقط، مثلما كانت تلاحظ رماد النار في بيت طفولتها.

جاء المستر هارتهاوس إلى حيث تجلس مسز باوندرباي، وقال: «يسرني، يا مسز باوندرباي أن أجدك وحدك؛ لأنني أريد أن أتحدث معك في موضوع خاص بك.»

جلس هارتهاوس إلى جانب لويزا، ينظر إلى وجهها الجميل، وقال: «أخوك توم، صديقي الصغير توم …»

ما إن سمعت لويزا اسم أخيها توم، حتى انفرجت أسارير وجهها، ونظرت إلى هارتهاوس باهتمام. ففكَّر يقول لنفسه: «لم أرَ في حياتي شيئًا جذَّابًا مثل هذا الوجه عندما تنفرج أساريره.»

أدرك هارتهاوس أن لويزا لاحظت إعجابه، فقال: «عفوًا يا سيدتي! ملامح محبتك الأخوية جميلة جدًّا، يجب أن يفخر بها توم.»

قالت: «يا مستر هارتهاوس؛ إنني لأوقرك من أجل محبتك لأخي.»

فاستطرد يقول بلهجة ألطف: «يا مسز باوندرباي، أخوك توم ما زال صغيرًا، وليس ذنبًا كبيرًا أن يبذر نقوده.»

قالت: «هذا صحيح.»

قال: «اسمحي لي يا مسز باوندرباي بأن أكون صريحًا. أتظنينه يراهن؟»

قالت: «نعم، أظنه يراهن، وأعلم ذلك.»

قال: «وبالطبع يخسر!»

قالت: «نعم.»

قال: «كل مَن يراهن يخسر. وهل لي أن أقول إنك ربما أعطيته نقودًا، في بعض الأحيان؟»

جلست لويزا تنظر إلى أسفل، ولكن عندما سمعت هذا السؤال، رفعت عينيها ذعرًا.

فقال هارتهاوس: «أريد مساعدة توم.»

قالت: «يا مستر هارتهاوس! أنا لا أندم على أي شيء فعلته، فعندما تزوجت، وجدت أخي مثقلًا بالديون، فبعتُ بعضًا من مجوهراتي وأعطيته النقود، ولكنه يحتاج الآن إلى مبالغ أكبر، لا يمكنني أن أعطيه إياها .. احتفظت بهذا سرًّا، حتى الآن، وإني لأثق في شرفك!»

فقال المستر هارتهاوس إن ذلك لم يكن خطأ أخيها، إذ كان تعليمه صارمًا، ثم أردف يقول: «إنني لألومه على شيء واحد؛ هو أن يكون أكثر رقة معك، وأكثر اعترافًا بالجميل.»

عندما سمعت لويزا هذا الكلام، لاح أمام عينيها منظر الغابات، إذ امتلأت عيناها بالدموع، خرجت من مآقيها العميقة، حيث ظلَّت خافية لمدة طويلة. وكان قلبها مفعمًا بالألم الحاد، إلا أن هذا الألم لم يجد شفاء في الدموع.

فقال هارتهاوس: «سأفعل كل ما في مقدوري لتغيير هذا، يا مسز باوندرباي. وها أنا ذا أرى أخاك قادمًا إلى الحديقة نحونا.»

نهض جيمس هارتهاوس، كما نهضت لويزا لملاقاة الكلب الصغير، وكان في حالة نفسية بالغة السوء. فلما وصلوا جميعًا إلى البيت، تركتهما لويزا.

سأل هارتهاوس، توم بقوله: «ما الخطب يا عزيزي توم؟»

قال وهو يتأوَّه: «آه، يا مستر هارتهاوس، أنا بحاجة فظيعة إلى نقود، وقلق جدًّا من أجلها.»

قال هارتهاوس: «وكذلك أنا يا صديقي الطيب.»

فقال توم: «أنت؟ إنك بخير يا مستر هارتهاوس. أما أنا ففي مأزق حرج. ليس لديك أية فكرة عن الحالة التي أوقعت نفسي فيها، لكن بوسع أختي أن تخرجني منها، وتنتشلني إن فعلت.»

قال: «إنك لتتوقع الكثير من أختك يا توم. لقد حصلت منها على نقود قبل الآن أيها الكلب، وأنت تعرف ذلك.»

قال وهو يكاد يبكي: «أعرف أنني أخذت منها نقودًا .. فإلى مَن أذهب للحصول على نقود؟»

فقال هارتهاوس: «ولكن يا عزيزي توم، إن لم يكن لدى أختك؟»

فأجاب توم بقوله: «يجب أن تحضرها. لم تتزوج العجوز باوندرباي من أجل خاطرها، بل من أجل خاطري أنا، يجب أن تكون أكثر رفقًا معه. إنها تجلس معه كقطعة من الحجر، بوسعها أن تجعل نفسها مقبولة وتأخذ منه كل ما تريده من نقود.»

كان بأسفل المكان الذي يقفان فيه بركة ماء للزينة، وكانت لدى المستر جيمس هارتهاوس رغبة قوية في أن يقذف فيها توم جرادجرايند الصغير، ولكنه استمرَّ يتكلم باللين.

قال هارتهاوس: «يا عزيزي توم، دعني أكون صاحب مصرفك.»

فقال توم، فجأة، وقد امتقع لونه: «من أجل خاطر الله، يا مستر هارتهاوس لا تتكلم عن المصارف.»

فقال هارتهاوس: «كم تحتاج الآن يا توم؟ ثلاثة أرقام؟ قل كم تحتاج.»

قال توم وهو يبكي: «الواقع يا مستر هارتهاوس أنه فات الأوان، ليس للنقود أية فائدة لي الآن. كان يجب أن أحصل عليها قبل الآن، ولكني شاكر لك جدًّا. إنك صديق حميم، وكم أتمنَّى لو أنني عرفتك من قبل.»

قال: «يا توم؛ يجب أن تكون أكثر محبة، ولطافة حيال أختك.»

قال: «سأكون كذلك، يا مستر هارتهاوس.»

فقال هارتهاوس: «ما من وقت مثل الوقت الحاضر، يا توم ابدأ فورًا.»

عندما ظهر توم عند العشاء، قال لأخته: «لم أقصد أن أكون ثقيلًا يا لو.» ومد إليها يده وقبَّلها، ثم استطرد يقول: «أعرف أنك مولعة بي، وتعرفين أنني مُولَع بكِ.»

ابتسمت لويزا، في ذلك اليوم، لشخص آخَر. للأسف، لشخص آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤