الباب الثامن

الخاتمة

غضب المستر باوندرباي غضبًا شديدًا من مسز سبارسيت، من جرَّاء اكتشافها مسز بجلر. فلما ذهب إلى حجرة المائدة ليتناول طعام الغداء، وجد مسز سبارسيت جالسة إلى جانب الوطيس، فتظاهرت بأنها حزينة جدًّا.

فسألها المستر باوندرباي، بطريقة مقتضبة جدًّا وبلهجة في غاية الفظاظة، بقوله: «ما الخطب الآن يا مدام؟»

قالت: «أرجوك يا سيدي ألا تقضم أنفي.»

فقال مُكرِّرًا قولها: «أقضم أنفك؟ أنفك؟» يقصد أن أنفها طويل جدًّا، فلا يمكن قضمه.

قالت: «يا سيدي المستر باوندرباي! هل ضايقك أي شيء، في هذا الصباح؟»

قال: «نعم يا مدام.»

قالت: «هل لي أن أسأل يا سيدي عمَّا إذا كنت أنا السبب اللعين في خروجك هذا عن طورك؟»

قال: «سأخبركِ الآن ما أغضبني يا مدام.»

وهو أن تلعب بي امرأة. لن أسمح لأية امرأة بأن تضايق وتزعج رجلًا في مركزي، لن أتساهل في هذا الأمر.

رفعت مسز سبارسيت حاجبيها، وقالت: «يتضح، يا سيدي، أنني أقف في طريقك الآن. سأذهب إلى حجرتي.»

فقال المستر باوندرباي، بلهجة جافة: «اسمحي لي بأن أفتح لك الباب، يا مدام.»

قالت: «شكرًا يا سيدي! بوسعي أن أفتحه لنفسي.»

قال: «من الخير أن تسمحي لي، يا مدام، بأن انتهز هذه الفرصة، فأقول لك كلمة قبل أن تنصرفي. لا أظن يا مسز سبارسيت، يا مدام، أن لكِ مكانًا في بيتي، لا يحق لامرأة، في مثل رجاحة عقلك ونبوغك، أن تتدخل في شئون غيرها.»

نظرت مسز سبارسيت إلى المستر باوندرباي، نظرة غضب شديد، وقالت في أدب: «أهذا حقيقي، يا سيدي؟»

قال: «كنت أفكر في هذا الأمر. أشعر بأن بيتًا آخر يمكنه أن يضم سيدة بمثل قواك، مثل بيت قريبتك الليدي سكادجرز Scadgers ألا تظنين أن بوسعك أن تجدي عملًا هناك، يا مدام، لتتدخلي فيه؟»

فقالت مسز سبارسيت: «لم يحدث هذا من قبل إطلاقًا يا سيدي، ولكن بما أنك تذكره الآن، فينبغي إلى أن أعتبره محتملًا جدًّا.»

فقال المستر باوندرباي، وقد وضع مظروفًا به شيك، في سلة أدوات الخياطة الصغيرة، الخاصة بها: «افرضي أنكِ تحاولين يا مدام.»

صمت المستر باوندرباي برهة، ثم استطرد يقول: «يمكنك اختيار الوقت الذي ترحلين فيه، يا مدام. ولكن، ربما كان من الأوفق لسيدة في مثل قواك العقلية، أن تأكل وجباتها بنفسها دون أن يزعجها أي إنسان.»

أقفل المستر باوندرباي الباب، ووقف أمام الوطيس يفكر في المستقبل.

•••

إلى كم مستقبل؟ هل يرى نفسه يقدم بيتزر إلى الأغراب، على أنه شاب يرتقي؟ هل يرى نفسه يكتب وصيته الأخيرة السخيفة والمعقدة؟ هل عرف أنه سيموت بعد خمس سنوات بالسكتة القلبية في أحد شوارع كوكتاون؟ نعم، كل هذا سيحدث.

وها هو المستر جرادجرايند، في نفس اليوم، وفي نفس الساعة، جالس في حجرته يفكِّر: كم من مستقبل رأى؟ هل رأى نفسه رجلًا عجوزًا ضعيفًا، أشيب الشعر، ما عاد عضوًا هامًّا في البرلمان في لندن؟

سيترك هذا الرجل نظرياته الصعبة، ويصير أكثر لِينًا. ستضيع حقائقه وأرقامه، في الإيمان والأمل والمحبة.

وها هي لويزا، في ليلة ذلك اليوم نفسه، تلاحظ النار في الوطيس، كما اعتادت أن تلاحظها منذ سنوات طوال، في أيام طفولتها، إلا أن وجهها صار أكثر رقة، ولم تعُد متكبرة مثلما كانت. يمكنها أن ترى الملصقات الآن، موقعًا عليها باسم والدها، تعلن براءة ستيفن بلاكبول النساج، وإدانة ابنه، هو نفسه، أخيها. استطاعت لويزا أن ترى هذه الأشياء بوضوح. ولكن، كم من مستقبل؟

مرضت عاملة، اسمها راشيل، لمدة طويلة ولكنها حلوة الطباع وهادئة ومرحة، وهي وحدها التي تعطف بعد ذلك، انضمت إلى عاملات كوكتاون. إنها امرأة ذات جمال مفكر. كانت ترتدي ثياب الحِداد باستمرار، ولكنها حلوة الطباع وهادئة ومرحة، وهي وحدها التي تعطف على سيدة فقيرة عجوز، هي زوجة ستيفن بلاكبول، التي تظهر من آنٍ إلى آخَر، وقد عبت الكثير من الخمر، فهل رأت لويزا ذلك؟ لا بد من حدوث أمثال هذه الأمور.

صارت راشيل نفسها زوجة، وأم أطفال ترعى أولادها بمحبة. فهل رأت لويزا ذلك أيضًا؟ لن يكون لها مثل ذلك الشيء.

ولكن أطفال سيسي السعيدة، السعداء يحبون أمهم حبًّا جمًّا ويحبون لويزا، التي تحب طبيعة الأطفال وتتفهمهم وتساعدهم على أن يشبوا، ليس كالآلات، وإنما كمخلوقات بشرية مفكرة. هل رأت لويزا أمثال هذه الأشياء؟ ستحدث أمثال هذه الأشياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤