تمهيد

عندما وقع هذا الكتاب بين يدي، كان هدفي الأساسي معرفة المزيد عن ثقافة مجلس العموم في الفترة بين الحربين العالميتين وعن وضع المرأة في البرلمان. لكن مع نهاية الفصل الأول، انتابني حماس كبير بفضل الدمج بين التشويق لمعرفة مرتكب الجريمة والتعقيب السياسي الذي تبْرع إلين ويلكينسون في تقديمه.

كانت ويلكينسون من أوائل نساء حزب العمال اللائي دخلن البرلمان، إذ انتُخبت عن دائرة شرق ميدلزبره في الانتخابات العامة التي أُجريت عام ١٩٢٤، وفي تلك الانتخابات مُنيت ثلاث مرشحات من حزب العمال بالهزيمة في مواجهة الفوز الساحق الذي حققته حكومة الأقلية الغارقة في المشكلات برئاسة رامزي ماكدونالد. ترعرعت ويلكينسون في بلدة فقيرة بمدينة مانشستر يعمل أبناؤها في المناجم، وتتذكر أن السُّخام لم يترك حتى أوراق الأشجار إذ تحوَّلت إلى اللون الرمادي. لكن سرعان ما اعتراها شغف جامح يطمح إلى العدالة الاجتماعية. ولمَّا تمكنت من الحصول على منحة بجامعة مانشستر — وهو إنجاز عظيم بالنسبة إلى امرأة من الطبقة العاملة — أصبحت منسقةً سياسية ومدافعة عن حق المرأة في التصويت وعضوًا في مجلس مدينة مانشستر.

عندما دخلت البرلمان عام ١٩٢٤، لم يفصل بين دخولها ودخول أول امرأة إليه (نانسي أستور) أكثر من خمس سنوات. ويلكينسون كانت المرأة الوحيدة التي في مقاعد حزب العمال بالبرلمان، وفي أول كلمة لها بالبرلمان قالت عن نفسها مازحة إنها واحدة من «أيتام العاصفة»، ولكن هذا لم يكن عائقًا أمام ثقتها وحماسها اللانهائي والتزامها المطلق بالسياسات البرلمانية. كان طول ويلكينسون ٤ أقدام و١٠ بوصات وشعرها أحمر كاللهب، ما ينمُّ عن سياساتها اليسارية ومِن ثَم لُقبت باسم «إلين الحمراء» و«صاحبة الطاقة النارية» و«الشغوفة الصغيرة» (بسبب مشاركتها في حملات الحرب الأهلية الإسبانية). سرعان ما حققت ويلكينسون قدرًا من الشهرة، فقد اشتهرت بولعها بالملابس الملونة وتعدُّد عَلاقاتها العاطفية بالرجال المتزوجين والاستقلال في الفكر. وفي داخل القاعة، أتيحت لها فرصة الحديث أكثر من أعضاء البرلمان المنتخبات وحصدت غالبية الأصوات على الرغم من نوبات اعتلال صحتها. كانت نانسي أستور ترتدي بِزَّة بسيطة باللونين الأبيض والأسود وقبعة تريكورن، ولكن ويلكينسون تجاهلت نصائحها وكانت ترتدي ملابس لافتةً للنظر. كذلك كانت أول امرأة تتجرأ وتدخل إلى حصن الرجال، ألا وهو قاعة التدخين. وعندما خاطبها شرطي وأخبرها أن السيدات لا يترددن على قاعة التدخين عادةً، ردت مازحة: «أنا لست سيدة، بل عضو في البرلمان»، ودفعت الباب وفتحته غير مبالية به.

لكن على الرغم من النجاح الذي حققته ويلكينسون في البداية بصفتها رائدة نسائية، فإنها أُزيحت في العاصفة الكبرى — مثل زميلاتها — إذ كانت تلك العاصفة أعنف من سابقتها؛ إنها عاصفة انتخابات عام ١٩٣١. بعد أربع سنوات، عادت إلى البرلمان، ولكن في تلك الفترة عكفت على كتابة أعمال في كل من المجالين القصصي والسياسي. ولأن ويلكينسون من أشد المتحمسين لألغاز جرائم الاغتيال لدرجة أنها أسمت غلايتها «أجاثا» على اسم بطلتها الروائية أجاثا كريستي، فقد تحلَّت بالجرأة والحماسة ودخلت المجال الأدبي بالجرأة والحماسة نفسيهما اللتين دخلت بهما قاعة التدخين في البرلمان. أُلِّف الكتاب على أعتاب مرحلة انتقالية في العصر الذهبي لروايات الجريمة، وحينذاك كان هذا الضرب الأدبي يستبدل الدراما ذات الصبغة السياسية بالقصص الخيالية تدريجيًّا. لذا نجد جزءًا كبيرًا من القصة مستمدًّا من المناخ السياسي حينذاك؛ على سبيل المثال، القرض المصيري الذي تفاوضت عليه الحكومة مع الممول الأمريكي أويسيل إشارة جلية على الصعوبات التي كانت تواجهها الحكومة البريطانية إثر انهيار بورصة وول ستريت عام ١٩٢٩. يتخلل التعقيب السياسي كل فصول القصة، ولكن على الرغم من قوة الأيديولوجية السياسية لدى ويلكينسون، فإنها لم تنحدر البتة إلى محاولة كسب النقاط على المستوى السياسي. بل إن خبرتها السياسية أضفت لونًا وحماسةً على الدراما التي ترويها. في الحقيقة، هي تقدم الشخصية المحورية في قصتها بصفته شخصًا يحظى باحترام كامل؛ شاب مُرهَف العواطف وعضو في حزب المحافظين كما أنه يعمل سكرتيرًا برلمانيًّا خاصًّا في أدنى المراتب الوزارية. لا شك أن ويلكينسون استرشدت بخبرتها في عملها سكرتيرة برلمانية خاصة لدى البرلمانية من حزب العمال سوزان لورانس في الفترة من ١٩٢٩ إلى ١٩٣١ في رسم صورة لشخصية ذلك الشاب. وعلى الرغم من تأكيد ويلكينسون (ربما الساخر) أن «جميع الشخصيات في تلك القصة من وحي خيال المؤلف»، فإن هناك أوجهَ تشابهٍ واضحة بين ويلكينسون نفسها وعضو البرلمان عن حزب العمال جريس ريتشاردز، وكذلك بين السيدة أستور وسيدة المجتمع القوية والمتألقة السيدة بيل كلنتون.

يمكن رؤية وضع البرلمان والمكائد السياسية التي تصورها ويلكينسون في البرلمان اليوم. ففي كل يوم تقريبًا، أمشي في الطرقة المجاورة للشرفة التي تؤدي إلى ما تشير إليه ويلكنسون باسم «قاعة هاركورت» (وأعتقد أنها قاعة تشرشل، وهي عبارة عن غرفة طعام كبيرة مزينة بلوحات لرئيس الوزراء في فترة الحرب)، وملحقة بها غُرف طعام صغيرة موسومة ﺑ «الحروف الهجائية» ومن ضمنها الغرفة المشئومة «الغرفة جيه» (التي وقعت فيها حادثة الاغتيال). في إحدى الليالي، بعد فترة من قراءة كتاب ويلكينسون، كنت أتمشى في الطرقة في وقت متأخر من الليل إذ ذهب معظم أعضاء البرلمان إلى منازلهم وكدت أرتعد خوفًا حينما دق جرس التصويت بصوت حاد.

كانت ويلكينسون شخصية برلمانية حقيقية، ومعرفتها بالمكان تتجلى بين صفحات الكتاب. إنها في عجلة من أمرها دومًا، وقد اشتهرت في الأوساط البرلمانية بنزعتها الطبيعية الكبيرة إلى التعثر، ولذا أهدت الكتاب إلى أصدقائها من الشرطة والعاملين في مجلس العموم الذين ساعدوها كثيرًا على النهوض. كانت محبوبة ويُكَنُّ لها الاحترام بين الأوساط الحزبية لدرجة أن مجموعة من أعضاء البرلمان من حزب المحافظين — المستائين من قلة الاهتمام الذي توليه لنفسها — اشترَوا لها موقدًا كهربائيًّا (ربما تشجيعًا لها على الطهي بدلًا من الاعتماد على نظامها الغذائي المعتاد المكوَّن من السجائر والشوكولاتة). في عام ١٩٣٥، عادت إلى البرلمان بصفتها عضوًا عن دائرة جارو، وفي العام التالي، برز وضعها بوصفها ناشطةً وسياسيةً راديكالية ومتحمسة من الأعماق بفضل دورها في تنظيم «حملة جارو»، وهي مسيرة ضمَّت ٢٠٠ عاطل خرجت من مدينة جارو إلى لندن احتجاجًا على بلوغ البطالة ٨٠٪ بعد إغلاق حوض بناء السفن ومصانع الحديد والصلب في المدينة. بعد ذلك، أصبحت ويلكينسون ثاني امرأة تدخل إلى مجلس الوزراء بصفتها وزيرة للتعليم في حكومة كليمنت أتلي عام ١٩٤٥، وحينها دافعت عن رفع سن ترك المدرسة وعن تقديم وجبات الحليب في المدارس مجانًا. وفي شتاء عام ١٩٤٦، تُوفيت ويلكينسون فجأة بسبب جرعة زائدة من دواء الميدينال، وهو أحد الأدوية التي كانت تتناولها بسبب زيادة اعتلال حالتها الصحية. كانت وفاتها فاجعة للبرلمان وحزب العمال كما كانت نهاية مأساوية لمسيرة برلمانية متفانية ومثمرة. أتلفَ أخو ويلكينسون مذكراتها خوفًا من أن تتشوه سمعتها بسبب الأخبار المتداولة عن عَلاقاتها مع الرسام فرانك هورابين ووزير الداخلية هربرت موريسون وغيرهما. وتبقَّت خُطَبها ومقالاتها وقُصاصاتها الصحفية وروايتان. لكن ما لا يمكن أن يضيع هو إرثها بصفتها مناصرةً للمرأة في البرلمان.

راشيل ريفز — عضو برلماني عن دائرة غرب ليدز

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤