مقدمة

السياسة في العصر الذهبي للروايات البوليسية

إن الروايات البوليسية التي نُشرت خلال العصر الذهبي لروايات ألغاز الاغتيالات بين الحربين العالميتين لم تأخذ حقها في التقدير لفترة طويلة. شاع لسنوات عديدة نبْذُها باعتبارها رواياتٍ خياليةً وتقليدية وتحفظية. هذه الصورة النمطية الباعثة على الكسل (وما زالت كذلك في بعض الأماكن) تدعو إلى الأسف لأنها أدت إلى إهمال العديد من الأعمال البوليسية الممتعة بمجرد توقُّف طباعتها. بالطبع حازت أعمال أجاثا كريستي قدرًا من الشهرة، كما نجت أعمال بعض الكُتَّاب الآخرين وسمعتهم من براثن النسيان، ومنهم دوروثي إل سايرز. ولكن إلى أن انتعش الاهتمام مرة أخرى بالروايات البوليسية التي كُتبت في العصر الذهبي بفضل نجاح الأعمال الكلاسيكية التي تدور حول الجريمة والتي نشرتها المكتبة البريطانية — نجاحًا جزئيًّا على الأقل — راح معظم المؤلفين في العصر الذهبي طي النسيان من جانب كل المعجبين باستثناء حفنة من المتعصبين منهم.

لكن الصورة النمطية لم تكن سطحيةً فحسب، بل كانت مضللة أيضًا. على سبيل المثال، لم يكن هناك شيء من الدفء والحميمية في الفصل الأخير من رواية فرانسيس إلز «قبل ارتكاب الجريمة»، ولا في الصفحات الأخيرة من رواية إي آر بانشون «لغز الكلمات المتقاطعة». والشيء نفسه ينطبق، في حقيقة الأمر، على روايتي كريستي «ثم لم يبقَ أحدٌ» ولا «خمسة خنازير صغيرة». كان هناك قدر ضئيل من التقليد في رواية «مستندات الحقيبة» لسايرز وروبرت يوستاس، ورواية «إلى المجد» للكاتب ميلوارد كينيدي، ورواية «ماجدالين الوحيدة» للكاتب هنري ويد، والأمثلة على ذلك كثيرة.

وبالمثل، فإن المقولة السائدة بأن «كل الكُتَّاب البريطانيين تقريبًا» في العصر الذهبي كانوا «يمينيين بلا ريب» بعيدة كل البُعد عن الصحة، (هذه المقولة تلفَّظ بها جوليان سيمونز، وهو أفضل ناقد بريطاني في روايات الجريمة في النصف الثاني من القرن العشرين وفي تاريخه المؤثر في هذا الضرب الأدبي عن «القتل الدموي»). حتى إنه توجد مجموعة صغيرة من الكُتَّاب البارزين ممن انضموا إلى «نادي الروايات البوليسية» في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنهم نيكولاس بليك إذ انضم إلى الشيوعية لفترة وجيزة، واللورد جوريل إذ كان شخصية بارزة في حزب العمال في فترة ما، وعضوا الجمعية الاشتراكية الفابية دوجلاس ومارجريت كول، والصحفي السابق بجريدة «ديلي هيرالد» آر سي وودثورب وشخصيات أخرى ذات ميول يسارية أمثال بانشون وكينيدي وهيلين سيمبسون، وكذلك أول رئيس للنادي جي كيه تشيسترتون. من بين الكُتَّاب الناجحين في العصر الذهبي ممن قد تُصنَّف سياستهم اليوم بأنها «أقصى اليسار» بروس هاميلتون ورايموند بوستجيت والناقد والشاعر الماركسي كريستوفر سانت جون سبريج، وأشهر دور النشر في تلك الحقبة هي التي أسسها فيكتور جولانكز، كما أنه مؤسس نادي الكتاب اليساري. وبوجه عام، يُعزى المصطلح «العصر الذهبي للروايات البوليسية» نفسه إلى جون ستراتشي، وهو ناقد ماركسي عمِل وزيرًا للدولة لشئون الحرب في حكومة كليمنت أتلي بعد الحرب. بعبارة أخرى، كانت إلين ويلكينسون بعيدة كل البعد عن كونها الروائية اليسارية الوحيدة التي كتبت رواياتٍ بوليسية.

قد يعود تفسير الخرافة بأن كُتَّاب العصر الذهبي كانوا من أنصار مبادئ حزب المحافظين إلى أن كلًّا من كريستي وسايرز وأنطوني بيركلي وفريمان ويلز كروفتس وإتش سي بايلي وويد كانوا جميعًا من أفضل كُتَّاب الروايات البوليسية في عصرهم، وكانت تطلعاتهم في الحقيقة تتسق مع جوهر مبادئ المحافظين. الأعمال الروائية عن الجريمة التي كتبها زملاؤهم الراديكاليون تميل إلى القِصَر وقلة الشهرة. على سبيل المثال، تُوفي كلٌّ من سبريج وسيمبسون في سن مبكرة، وعلى الجانب الآخر لم يكتب وودثورب وهاميلتون وكينيدي أعمالًا كثيرة. لا ريب (وللأسف) أن الوظائف السياسية السابقة في الحياة الواقعية منعت إلين ويلكينسون من كتابة روايات بعد الرواية التي بين أيدينا. لكن حتى كريستي كتبت رواية واحدة كان القاتل «الأقل احتمالًا» فيها عضوًا أساسيًّا في مؤسسة سياسية، وحتى البارونيت ولاعب الكريكت ويد لم يخشَ النظر إلى وحشية جهاز الشرطة وفساده في سياق ألغازه الإبداعية التي غالبًا ما كانت معقدةً للغاية.

باعتبار كلٍّ من إلين ويلكينسون واللورد جوريل سياسيَّين ألَّفا روايات كلاسيكية عن الجريمة، فإنهما روائيان من طراز استثنائي، ولكن يبدو أن قراءة الروايات البوليسية الهواية المفضلة لدى شخصيات سياسية رائدة في البلدان الواقعة على جانبي المحيط الأطلسي. وُلد المؤلف جيه إس فليتشر في يوركشاير، وله مؤلفات كثيرة كما تعززت مسيرته المهنية بفضل الدعاية التي وفَّرها دعم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لأعماله. وعلى الجانب الآخر، صرح ستانلي بالدوين الذي تقلَّد منصب رئيس الوزراء البريطاني ثلاث مرات في خطاب له عام ١٩٢٨ أنه يعتبر رواية «قضية ليفنوورث» التي كتبتها الأمريكية أنَّا كيه جرين «واحدة من أفضل الروايات البوليسية على الإطلاق». السيد أوستن تشامبرلين هو الأخ غير الشقيق لنيفيل تشامبرلين كما أنه فشِل بفارق ضئيل في أن يصبح زعيم حزب المحافظين، وقد دُعي إلى حفل عشاء في «نادي الروايات البوليسية» بصفته ضيفًا متحدثًا، وحينها أخبر الحاضرين أنه معجب «شره ومهتم وشغوف» بهذا الضرب الأدبي. أدار فيكتور جولانكز قسمًا لكنه لم يستمرَّ طويلًا أسماه «مكتبة تحريات رئيس الوزراء» على الرغم من أن السبب وراء اعتقاده بأن هذا الاسم سيكون له جاذبية كبيرة لغز في حد ذاته.

في الحقيقة، كانت المساهمة الأساسية التي قدَّمتها فئة السياسيين في الروايات البوليسية الكلاسيكية هي تقديم مصدر موثوق فيه وغزير للضحايا. بالإضافة إلى ظهور الممولين الأوغاد والبخلاء البغيضين والأثرياء الذين لا يتمتعون بالحكمة في الإعلان عن نيتهم في تغيير وصاياهم، ظهر السياسيون مرارًا وتَكرارًا في روايات العصر الذهبي — إذ لا يُحتمل أن يُندب على الموتى كثيرًا. من الروايات في تلك الحقبة رواية روبرت جور براون «اغتيال برلماني!» ورواية ألان توماس «موت وزير الداخلية»، ورواية هيلين سيمبسون «مات رئيس الوزراء» (تلك النسخة الأمريكية، أما في بريطانيا فأخذت عنوانًا يكتنفه الغموض «مُضرب واتته الفرصة»). لم تكن القصة البوليسية التي كتبتها إلين ويلكينسون هي القصة الوحيدة التي تدور أحداثها في الأوساط البرلمانية؛ تدور أحداث رواية أنطوني بيركلي «موت في المجلس» حول «جريمة مستحيلة» وقعت في مجلس العموم.

في عشرينيات القرن العشرين، عبرت الروايات البوليسية في العصر الذهبي عن تفاعل تجاه مذبحة الحرب العالمية الأولى. كان الناس يسلون أنفسهم بالألغاز ويتخذونها وسيلة للهرب من الأهوال التي لم تترك سوى قلة من العائلات البريطانية من دون مساس؛ ومن هنا جاء «الهروب إلى الخيال» إذ نبع من الألغاز الكلاسيكية حيث إنها كانت تركز على معركة الفطنة بين القارئ والكاتب. لكن في ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح من الصعب تجاهل الحقائق المروعة للمشهد السياسي العالمي بعدما صعِد الطغاة ما هدد النظام حينذاك. لم يغضَّ كُتَّاب العصر الذهبي الطرْف عن ذلك، وصورت أعمالهم العالم الذي كانوا يعيشون فيه بصور شتى.

سخر وودثورب وبانشون من الفاشيين في كتبهما مثل «صمت قميص أرجواني» و«درب الطاغية» على التوالي، وكذلك تناول مؤلفون آخرون رفع مستوى الوعي بعدم عصمة أنظمة العدل التي يُعتز بها منذ أمد بعيد، ليس على المستوى الدولي فحسب بل على المستوى الوطني كذلك. صُورت مخاوف ذلك العصر في نهاية كتاب كينيدي «إلى المجد»، وذكر في إهداء الكتاب إلى جولانكز أن الكتاب كان «تجربة» إذ قال: «الحريات البريطانية والمحاكمات العادلة والعدالة وحرية التعبير كلها شعارات سهلة مثل الكليشيهات … لم يكن بإمكان هيئة المحكمة إلا أن تضمن الظلم. ما الجدوى من القانون إذا كان القانون لا يضمن العدل؟ تحدث الناس عن القتل القضائي؛ ألم يتساوَ في السوء مع عدم ضمان عقوبة عادلة للقاتل؟»

تتناول قصة كينيدي الأبعاد السياسية للظلم بوضوح، ولكن أشهر المعاصرين له الذين يميلون إلى التحفظ ناقشوا قضايا مماثلة بطريقة غير مباشرة وأنجح من طريقته. أدخلت كريستي أفكارًا جريئة عن أفضل السبل لتحقيق العدالة من خلال حبكات بارعة في اثنتين من روائعها وهما «جريمة قتل في قطار الشرق السريع» و«ثم لم يبقَ أحد». تناول بيركلي موضوعات مماثلة بطريقة ساخرة ورائعة في «محاكمة وخطأ»، لكن صاغها جون ديكسون كار وغلَّفها داخل لغز «الغرفة المقفلة» في رواية «تحذير القارئ».

لم تقلَّ رواية بروس هاميلتون «ريكس أمام رودس: محاكمة قاتل برايتون» في روعتها عن الروايات السابقة، إنها رواية سياسية بقدر كبير إذ كُتبت بأسلوب بعيد عن العاطفة وواقعي، وقد ارتبط هذا الأسلوب بسلسلة «المحاكمات البريطانية البارزة». نُشر الكتاب عام ١٩٣٧، ولكن يقال إنه كُتب عام ١٩٥٠، تُستهَل مقدمة الكتاب بما يلي: «في هذه الأيام من التوسع والعمل، تتجه أنظار أوروبا السوفيتية إلى المستقبل بدلًا من الماضي. لم يُكتب بعد تاريخ الثورة التي اندلعت منذ ثلاث سنوات والتي شرعت في مُهمَّتها الكبيرة المتمثلة في تحرير طاقات الجماهير الكادحة … [محاكمة رودس] كانت أول مناسبة في إنجلترا يُسمح فيها بالنظر في قضية واضحة تدور حول ما إذا كان إنسان ارتكب جريمة قتل أم لم يرتكبها في ضوء التعاطف السياسي لهيئة المحلفين المكونة من أبناء الطبقة الوسطى البسطاء.»

تبين أن نظرة هاميلتون إلى المستقبل مغلوطة مثل فهمه للنظام الاقتصادي السوفيتي، ولكن روايته — بكل سذاجتها — تسلط الضوء على الطموح والأصالة والوعي الاجتماعي والسياسي إذ تجلت تلك المعالم في الكثير من قصص العصر الذهبي أكثر مما هو معروف بوجه عام. وفي حال المقارنة، لا ترتقي الكتب التي ألَّفها هاميلتون وكينيدي إلى الكتب التي ألَّفتها كريستي وبيركلي وكار ولا يعود السبب إلى قلة مستوى الإثارة أو ضعف الأسلوب، بل إلى انخفاض مستوى التوازن بين محاور القصة وتقديم الرسالة على اللغز.

لم تقع إلين ويلكينسون في هذا الخطأ. لا أحد ممن يعرف أي شيء عن حياتها وعن مسارها المهني يشك في أن آراءها السياسية كانت شغوفة وتلمس مكنونات القلب. لكن بعيدًا عن التوجيهات، فإن رواية «لغز جرس التصويت» ماتعة للغاية على الرغم من بعض المغالطات التي عادةً ما تحدث في أول رواية عن الجريمة — لا سيما عدم كفاءة التحقيقات الأصلية للشرطة في مسرح الجريمة. يُحسب لويلكينسون أنها تتجنب الوقوع في فخ كسب النقاط السياسية الرخيصة في تصويرها للسكرتير البرلماني الخاص المنتمي إلى حزب المحافظين والشرطي الغِر روبرت ويست. إن تجنب التعصب الأعمى والطائفية ضيقة الأفق يقدم مثالًا يحتذي به الآخرون من أعضاء الفئة السياسية في أي عصر. وهذا من الأسباب التي تدعو إلى الأسف على عدم كتابة أعمال لاحقة بعد هذا اللغز الحيوي عن «الجريمة المستحيلة».

مارتن إدوارد www.martinedwardsbooks.com

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤