الفصل العاشر

عندما نادى دونالد شاو على ويست في شقته في اليوم التالي كي يصحبه إلى التحقيق، تفاجأ لما وجد صديقه يعتريه قلق كبير. كان واضحًا أنه لم يهنأ بنوم في الليلة السابقة.

قال شاو: «أسرع يا بوب. إذا وقفت أمامي منصة الشهود مثلي، فسيوجهون إليك تهمة القتل من دون أن يتكلفوا عناء المناداة على الشهود.»

«أنا قلق يا دون. قلق للغاية. يدخل في تلك القضية العديد من القضايا الجانبية. يُخيَّل لي أن كل من له عَلاقة بتلك القضية يُخفي شيئًا ما. لا أحد يقول كل ما يعرفه … ولا يمكن … هذا أسوأ ما في تلك القضية.»

رد شاو: «لم تكن صريحًا مع نفسك من قبل يا بوب»، إذ شعر أنه لم يعلم عن القضية كثيرًا منذ المحادثة مع سانكروفت وبلاكيت في الليلة التي وقعت فيها الجريمتان.

«أعلم يا دون، أنا آسف. أعني بشأنك. لكن لا يمكنني إخبارك بكل شيء، وأعتقد أن الآخرين في القارب نفسه. صدقني أنا أخشى التحقيق. يجري التحقيق فوق برميل من البارود الدولي، وربما يشعل قاضي التحقيق الجنائي الفتيل من دون أن يعلم.»

«وما الذي سيجري إن فعل؟»

أجاب بوب بوجوم: «ربما تقال الحكومة بأكملها»، وعندها توقفت سيارة الأجرة عند باب محكمة التحقيق الجنائي. «لكن أكثر شيء يقلقني هو النزاع بين وزير الداخلية وجليسون بشأن أدلة الشرطة، ومِن ثَم قد يقع أي شيء إذا أراد محامي أويسيل إثارة المتاعب.»

لا شك أن العامة تهتم بالتحقيقات اهتمامًا كبيرًا. اقتصرت الشرفة الداخلية على حاملي بطاقات الدخول، وكذا لم يتمكن العديد من أعضاء البرلمان وغيرهم من الشخصيات المهمة من الدخول.

لم يستبشر ويست حين قال إن مايكل هولدزوورث يجلس في أول صف. بالطبع ما كان ليستبشر. عندما كان ويست ماشيًا في طريقه، لمس مسحة من الحزم الهادئ من جانب رجل لانكشاير. لقد أُعجب بذلك العزم حينها، لكن لم يسرَّه احتمال أن يُضطر إلى التعامل معه بنفسه.

أُخذت شهادات كل من ويست وشاو والطبيب ريدنج في البداية ولكن تم تجاهلها بسرعة كبيرة. فكل كلمة تفوَّهوا بها نقلتها الصحافة أو كتبت عنها من جميع الجوانب. اعتبر الطبيب ريدنج أن الفقيد ربما أطلق الرَّصاص على نفسه، لكنه رفض أن يُلزم نفسه بما هو أكثر من تلك الشهادة وكذلك لم يتم الضغط عليه أكثر من ذلك.

بعد ذلك نودي على خادم الضيافة. لاحظ ويست أن محامي أويسيل بعدما كان يطرح أسئلة روتينية حتى تلك اللحظة، بدأ اهتمامه يزداد بشدة.

على الرغم من ذلك، لا توجد تحقيقات يمكن أن تشكك في القصة البسيطة التي حكاها خادم الضيافة. غيَّر الأطباق بعدما غادر وزير الداخلية الغرفة. ثم أخبره السيد أويسيل ألا يُحضر القهوة حتى يعود الوزير. وهو لم يلاحظ أيَّ شيء غير عادي بشأن السيد أويسيل. كان خادم الضيافة على يقين بأنه لم ينشب شجار بينهما أثناء تناول الطعام. وكلما دخل الغرفة، وجد وزير الداخلية والسيد أويسيل يتحدثان بطريقة هادئة ويتخللها المرح.

سأل المحامي: «هل رأيت مسدسًا على الطاولة عندما غيَّرت الأطباق في المرة الأخيرة؟»

«كلا يا سيدي.»

«ولا في يد السيد أويسيل؟»

«كلا يا سيدي.»

«ماذا كنت تفعل حين غادرت الغرفة بعد تغيير الأطباق؟»

«ذهبت إلى نهاية الطرقة كي أُخبر الخادمة في غرفة الخزين أني لا أريد القهوة في الوقت الحالي. فدائمًا ما تُحضر القهوة طازجة وقت العشاء يا سيدي.»

«وأين تقع غرفة الخزين؟»

«جهة اليمين في نهاية الطرقة.»

«إذن، هل تقول إن أحدًا دخل تلك الغرفة في الفترة بين مغادرتك إياها ورجوعك إلى الباب من دون أن تراه؟»

قال الخادم مقتنعًا: «أوه، نعم يا سيدي. المسألة سهلة للغاية. فالطرقة مزدحمة بالناس ذَهابًا وإيابًا طَوال الوقت ولا أحد سيلاحظ أي أحد يدخل إلى إحدى الغرف الخاصة يا سيدي.»

«لكن هل خرج مرة أخرى بعدما سمعت صوت إطلاق الرَّصاصة؟»

«كلا يا سيدي، كنت واقفًا عند الباب مباشرة حينما أُطلقت الرَّصاصة، وكذلك كان السيد ويست يا سيدي.»

«لماذا كنت تقف عند الباب حينذاك؟»

«دق جرس التصويت حينها يا سيدي، لذا علمت أن وزير الداخلية لن يتأخر. كنت سأدخل كي أرفع أطباق الحلويات وأجهز كل شيء لإحضار القهوة حين عودة الوزير حسب التعليمات التي صدرت إليَّ يا سيدي.»

«إذن، هل كنت بداخل الغرفة في بضع ثوانٍ أخرى؟»

«نعم يا سيدي.»

«وهل رأيت كيف مات السيد أويسيل؟»

«أظن ذلك يا سيدي.»

علَّق قاضي التحقيق الجنائي: «لربما وفر علينا الكثير من المتاعب.»

كانت هناك موجة خفيفة من الضحك في المحكمة.

كان استدعاء أنيت أويسيل إلى منصة الشهود سببًا في تطاول الكثيرين بأعناقهم.

لما رآها بوب في التحقيقات الأولية متمالكة نفسها وغير مكترثة البتة بالنظرات الفضولية التي ترمقها من الشرفة الداخلية العامة، قال في نفسه: «غريب ذلك التأثير النابع من إطلالة الألوان حتى وهي ترتدي ملابس ذات لون أسود فاحم.»

تعرفت أنيت على المسدس وقالت إنه مسدس جدها. سأل قاضي التحقيق الجنائي: «أليس غريبًا أن يحمل مسدسًا معه في عشاء ودي في مجلس العموم؟»

ردت: «لم يخرج جدي من دون سلاحه البتة.»

«هل لديه أي أسباب خاصة تجعله يتوقع أي تهديد لحياته؟»

«ليس أكثر من المعتاد، لا يوجد سبب على الإطلاق في الحقيقة، ولكن هذا لن يُحدث فرقًا. لقد أُطلق عليه عيار ناري ذات مرة وأصيب بجرح سيئ للغاية حينما خرج من دون سلاحه. وبعدها لم يَعُد يترك مسدسه حينما يكون بمفرده ولو كان بالمنزل.»

علَّق قاضي التحقيق الجنائي: «لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ مرتين»، وسُمع الضحك بين الحشود مرة أخرى. لما كان روبرت يراقب كل حركة من أنيت، تعاطف مع ازدرائها الصامت لتلك الوقاحة.

«ولكن ماذا تقولين في عدم رؤية الخادم للمسدس حينما كان في الغرفة وينظف الطاولة؟»

«ذاك ما لا أعلمه. من واقع معرفتي بجدي، أنا على قناعة بأن الخادم غُطي طيلة الوقت الذي مكثه في الغرفة بينما كان السيد أويسيل بمفرده.»

«من دون أن يرى المسدس؟»

كان جدي راميًا خادعًا. يمكنه إطلاق النار من أي مكان. والمعتاد منه أنه يحمل مسدسه في جيب معطفه.»

سأل قاضي التحقيق الجنائي: «ولكن هل يمكن ذلك حيث إنه كان يرتدي ملابس السهرة ويرتدي معطفًا له ذيل؟»

«لا، ولكني رأيته يحفظ المسدس بين ساقيه والرجل الذي يتحدث إليه لا يعرف تلك الحقيقة البتة.»

«لو كان الأمر كذلك في تلك الحالة، أفلا يسقط المسدس على الأرض حينما أُطلق عليه الرَّصاص؟»

قالت أنيت: «هذا محتمل.»

قال قاضي التحقيق الجنائي: «ولكن من المؤكد يا آنسة أويسيل أن هناك تفسيرًا أبسط وهو أن السيد أويسيل أطلق الرَّصاص على نفسه وسقط المسدس من يده لمَّا خر من فوق كرسيه.»

«لا أصدق أن جدي انتحر. فقد كان يتمسك بالحياة بطريقة غير عادية.»

ذلك التلميح المؤدب من قاضي التحقيق الجنائي أوصل انطباعًا بأن هذا بالطبع هو المتوقع أن تقوله حفيدة بارَّة بجدها على الرغم من وجود أدلة دامغة مناقضة لرأيها. بدا الإحباط واضحًا على وجوه الحاضرين حينما انتهت أنيت من الإدلاء بأقوالها وتبدلت الأناقة الواقفة أمام منصة الشهود وحل مكانها شخصية المفتش بلاكيت المتبلدة وغير المثيرة.

اتبعت شهادة المفتش المسارات المعتادة إذ طاف به قاضي التحقيق الجنائي في القصة مرة أخرى. بعد ذلك تولى محامي أويسيل المهمة.

«هل تفحصت المسدس حينما سلمه الرقيب بورن؟»

«نعم يا سيدي. بالطبع ترك كل شيء على حاله حتى أتيت.»

«كم عدد الرَّصاصات التي أُطلقت من المسدس؟»

«واحدة يا سيدي.»

«وهل تعتبر أن الرَّصاصة التي قتلت السيد أويسيل قد أُطلقت من ذلك المسدس؟»

«ربما يا سيدي. إنها من العيار والمقاس نفسه.»

«ربما؟ هل يعني ذلك أنك لست متأكدًا تمامًا من أن تلك الرَّصاصة قتلته؟»

صمتت المحكمة كأن على رءوسهم الطير. قال بلاكيت بنبرته الهادئة والمتثاقلة: «أنا لست مقتنعًا بذلك يا سيدي.»

أحس ويست بأنين في صدره وقد اجتاح هذا الإحساس المحكمة المحتشدة بالحضور. لقد كانت أول إشارة بأن الشرطة تشكك في نظرية الانتحار بأي حال.

«هل لديك أي أسباب تدفعك إلى التشكيك في انتحار السيد أويسيل؟»

بأسلوب هادئ للغاية وغير منفعل، شرح المفتش بالتفاصيل الأسبابَ التي أقنعت بالفعل السيد جورج جليسون وهي عدم وجود شرارات، واستحالة أن يطلق الرجل النار على نفسه في مكان كهذا من دون أن يحمل المسدس على مسافة قريبة جدًّا من جسده بحيث يستحيل ألا يُحدث خروج الرَّصاصة شرارات.

استمسكت الصحافة والعامة بتلك الكلمات. لا ريب أن نظرية الانتحار سُحقت في عقول العامة.

همس دون: «هل كنت تعرف ذلك؟»

«نعم، ولكني تعهدت بألا أخبر أحدًا حتى يأتيَ ذلك التحقيق. أحمق لعين من يفشي الأمر بتلك الطريقة. جعلها تبدو وكأن الحكومة كانت تحاول التكتم على المسألة لفترة لأن لديها ما تخفيه.»

قال دون وعلى شفتيه ابتسامة: «لو لم تفعل الحكومة ذلك، لكان ذلك مستغربًا منها.»

«أعلم، ولكن هذا أسوأ من أن ترسل المنادي كي يذيع خبر الواقعة.»

عندما وصل محامي أويسيل إلى ما يريد، انتابه القلق مثل أي أحد حتى تبدَّدت الأجواء المثيرة التي تسببت فيها شهادة مفتش الشرطة. ارتبطت باقي الأسئلة الموجهة إلى بلاكيت بتفاصيل فنية.

عندئذٍ، أرجأ قاضي التحقيق الجنائي القضية لمدة أسبوع، وانتهت الجلسة.

لما نهض روبرت كي يغادر المحكمة مع دون، تلاقت عيناه مع عينَي مايكل هولدزوورث إذ كان ينظر إلى الأسفل من الشرفة الداخلية. ابتسم هولدزوورث.

فكر روبرت: «الآن، ينبغي أن نضع ذلك الفتى في الحسبان، والاعتذارات الرسمية ستترك أثرًا كبيرًا بعض الشيء فيه.» ثم قال ملتفتًا إلى دون: «لنذهب ونحتسي البيرة وقطعة من جبن ستيلتون في مطعم بارني.»

ردَّ الآخر: «يسرني ذلك. مرحبًا، هذا رسول آتٍ إليك.»

سلم شرطي شاب رسالة إلى بوب. وصلت الرسالة عبر الهاتف من مجلس العموم. هلَّا تفضَّل السيد ويست بزيارة وزير الداخلية في مكتبه بالمجلس فور انتهاء التحقيق؟

لما كان روبرت عائدًا إلى مجلس العموم، قرَّر ألا يضيع مزيدًا من الوقت ويخبر الوزير بما وُجد في جيب جينكس ويستشيره بشأن التفسير المحتمل. تأجلت المحاكمة لأسبوع واحد فقط، وكان روبرت مقتنعًا أن المحاكمة التالية ينبغي ألا يتخللها المزيد من أجواء الإثارة. ستُعقد التحقيقات بشأن جينكس غدًا، وربما يخرج أمر ما إلى العلن، على الرغم من أن أنيت حرَصت على ألا يسأل محاميها شيئًا عن المفكرة، هذا لو كانت أخبرته بالفعل عنها. لقد اهتمت كثيرًا مثل روبرت لئلا تفشيَ سر تلك المفكرة.

لذلك، انزعج ويست لما وجد السيد جورج جليسون مع الوزير، ولما رأى رزمة الصحف التي كانت أمامهما، علم أن اتصاله به لم يكن اتصالًا عابرًا. نظرة الوزير عندما حيَّاه بوب بينت أنه لم يتوقع حضور السيد جورج لما أرسل رسالة إلى السكرتير البرلماني الخاص. وبالطبع يستحيل مناقشة أي شيء بشأن جينكس في حضور السكرتير الرئيسي الدائم.

طرح الوزير أسئلة عن التحقيق وأخبره روبرت عن أقوال بلاكيت. لم يعلِّق روبرت وكذلك الوزير، ولكن عبرت نظرة بينه وبين السيد جورج ولم يستطع روبرت تفسيرها.

لما انتهى روبرت من تقريره، سأل وزير الداخلية مبتسمًا: «وهل تستمتع بدورك الجديد بصفتك محققًا مبتدئًا؟»

أردف السيد جورج بنبرة يختلجها ازدراء طفيف: «لم تتوصل إلى أي نتيجة رائعة حتى الآن، أليس كذلك؟»

تلاقت عينا روبرت مع عينيه بهدوء تام. من السهل أن يطيق المرء السخرية حينما تكون في يده ورقة قد يتبيَّن أنها الورقة الرابحة. ابتسم روبرت من داخله لما أحس بالأثر الذي قد يتركه في تلك اللحظة إن رغب، لكنه لم يكن مستعدًّا بعد. يجب أن يرى وزير الداخلية بمفرده أولًا.

سأل: «هل أراك في وقت لاحق يا سيدي؟» ولما نظر السيد جورج، أردف: «بشأن مسألة أخرى.»

«دعني أرى. لديَّ اجتماع في مجلس الوزراء في الساعة الرابعة. ومن المفترض أن ينتهيَ بحلول السادسة. فهل يناسبك هذا الموعد؟»

«يناسبني تمامًا. إذن، أعتقد أنني سأذهب كي أُحضر الغداء إذا لم تكن بحاجة إليَّ الآن.»

«انتظر لحظة. هل يمكنك فعل شيء إزاء تلك القضية؟ أعطى هولدزوورث إخطارًا بطرح المسألة للنقاش في الجلسة القادمة. وبالتأكيد لا تريد الحكومة عقد أي جلسة نقاش حتى تتوصل الشرطة إلى بعض الاستنتاجات. فذلك الجدال يضعنا في حرج مع السفارة الأمريكية. هلا تزوره بعد ظهر اليوم وتهدئه؟ بالطبع لا يمكننا رفض بعض البيانات إذا أصر، ولكن لن يسعفنا الحظ إذا اضطُررنا إلى مواجهة المسألة في المجلس في الوقت الحالي.»

من الامتيازات التي يحظى بها الأعضاء المستقلون وأكثر ما يخيف الوزراء من الوقوف في زاوية الإحراج هو حق أي عضو في طرح أي موضوع يهتم به العامة للنقاش بعد إخطار رئيس المجلس على النحو الواجب في الاقتراح الأخير لليوم، «وإلى هنا، تنتهي جلسة المجلس». تنتهي جلسة النقاش في الساعة الحادية عشرة والنصف، ولكن إذا انتهى جدول أعمال ذلك اليوم في وقت مبكر، فقد يجد عضو ليس ذا أهمية كبيرة الوقتَ لبَدء نقاش مهم بشأن مسألة ذات أهمية في نظر العامة. ولا ريب أن مايكل هولدزوورث سيعرض اقتراحه في أفضل يوم ممكن.

كنز هو السكرتير البرلماني الخاص الذي يستطيع تحويل حنَق أعضاء المقاعد الخلفية إلى قنواتٍ آمنة حينما يريدون الحصول على سبقٍ صحفي. روبرت كان حريصًا على أن يكون جديرًا بتقاليد منصبه. وفجأة، أدرك أن جراسي ربما تفيده في تلك المهمة.

وبنبرة واثقة مقصودة كي تترك أثرًا في نفس السيد جورج، قال: «دع أمر هولدزوورث لي يا سيدي.»

قال الوزير: «حقًّا يا روبرت، ستقدم لي مساعدة كبيرة»، والتفت إلى الموظف الكبير في الخدمة المدنية وكأنه يقول له عليك أن تُبديَ استحسانك.

قال السيد جورج: «أتمنى لك السعادة في حل مسألة هولدزوورث.»

أحسَّ روبرت أنه قد حان الوقت كي يُثبت لجليسون المتباهي أنه على الرغم من كونه مجرد سكرتير برلماني خاص (متطوع) في الوقت الحالي، فإنه عضو برلماني أيضًا.

قال بنبرة تباهٍ: «هناك طرق للتعامل معه إذا كنت تعرف الطريقة الصحيحة للدخول له منها.» أردف لرئيسه: «حسنًا، إذا لم تكن بحاجة إليَّ الآن، فسأذهب للغداء ثم أرى ما يمكنني فعله مع هولدزوورث. مع السلامة يا جليسون.»

شعر روبرت أن خروجه كان عظيمًا للغاية. ولكن عليه أن يكون جديرًا به. يجب التوافق مع هولدزوورث بطريقةٍ ما، ولم يرَ أملًا في ذلك من دون مساعدة جريس ريتشاردز.

موقف روبرت ويست من الشابة العصرية هو موقفه من شابٍّ صغير. إنه يفضل المرأة الذكية. إنه يحب أن يُرى ومعه امرأة اسمها معروف للناس. لكن عندما كان منشغلًا معها، توقَّع أن تنحي شئونها الخاصة جانبًا وأن تكون معه قلبًا وقالبًا. وعندما ينتهي من حاجته إليها، فيمكن أن تعود إلى الحديث عن شئونها مرة أخرى، ولكن يجب ألَّا تزعجه. ويسمي هذا الأسلوب السماح للمرأة أن تعيش حياتها الخاصة.

جريس إحدى سكان لندن، وقد سبق أن فازت بدائرة في انتخابات فرعية بعدما كسب ويست مقعده بعام تقريبًا، وعندما كان الاثنان في المجلس معًا، استطاع أن يرى الكثير منها بطريقة حذرة. لقد تصارعا بشدة على السياسة. يسأم روبرت «المرأة الموافقة على أي مقترح» وكاد يصل إلى وجهة نظر جريس أسرع مما كان في ترتيباته. لم يرَ أي سبيل آخر للخروج من هذا المأزق. لكن لم يكن لدى روبرت فكرة عما ستعتقده جريس بشأن صداقتهما غير المعهودة، وتلك الحقيقة زادت اهتمامه بها. لم تتربَّ جريس في رغد من العيش، بل تربت في المصنع وفي شوارع لندن. إنها ليست من النساء اللاتي يكشفن عن مكنوناتهن. وعلى الرغم من صراحة ظاهرها مثلما كانت أنيت أويسيل كتومة، فإن لها آلية دفاع خاصة، وهذا ما اكتشفه ويست بالفعل. لكن، يبدو دومًا أنها على استعداد لتنحية شئونها الخاصة حينما يريد التحدث إليها.

مشى ويست بين الطرقات يبحث عن جراسي، إذ من المفترض أنها انتهت من لجنتها الصباحية الآن. لم تكن في غرفة الطعام، ولكنه رمقها توقِّع على بعض الأوراق في مكتب التصويت، رمقها من تلك النافذة الصغيرة المريحة في زاوية الرواق المركزي الذي يثبت فيه الأعضاء مطبوعات حكوماتهم مجانًا.

أدرك أن الأفضل أن يعتذر عن تجاهله إياها في المرة الأخيرة. التحلي بالحيوية وعقد اجتماع بين سياسي وآخر بمثابة الطريقة التي ينبغي اتباعها مع جراسي، إذ على الرغم من أنها في ريعان العشرين من عمرها، كما أنها صغيرة ومحبوبة، فإنها كانت عازمة على أن تكون جديرة بالدور الذي اختارته بأن تكون مشرِّعة شرسة وليست جذابة.

بدا الأمر كوميديًّا في بعض الأحيان في نظر من يرونها ممن يكبرونها، ولكن كان هذا جهدًا شجاعًا.

ذهب روبرت خلفها وقال بسرعة: «أتيت لتوي من التحقيق. أريد التحدث معك. إنها مسألة مهمة. هل تناولت الغداء؟»

«لا، لقد وعدت أن أنضم إلى مايكل، ولكن إذا كنت تحب …»

«جيد. إذن، لنتناول الغداء معًا. اسمحي لي أن أعثر على طاولة هادئة كي نستطيع التحدث.» أحسَّ روبرت بالرضا لما أخذ الفتاة من هولدزوورث العنيد.

أخبر جراسي بما جرى في جلسة التحقيق وهما يتناولان الغداء.

سألت غير صابرة: «لماذا كل هذا التكتم بشأن تلك القضية؟ هذا سيعطي انطباعًا لدى العامة قريبًا بأنك تعرف الجاني، وتحاول أن تتستر عليه.»

تلك هي الافتتاحية التي أرادها روبرت.

«إذا كنا نعرف الجاني أو لدينا أدنى فكرة عن الدافع وراء قتل السيد أويسيل، وهل لم يقتل نفسه — وعلى أية حال فتلك المسألة غير مؤكدة على الإطلاق — أو حتى إن كنَّا نعرف الدافع وراء السطو على الشقة، فعندها سنعلن كل التفاصيل بمنتهى الصراحة. لكن علينا أن نتوخى الحذر في تقدمنا لأننا لا نعلم وقد تطأ قدمنا لغمًا في أي لحظة.»

أرجعت جراسي كتلة شعرها الأسود الكثيف المستقيم بيدها. «لا أعرف السبب. قُتل رجلان. لكن جماعتك لا تهتم إلا لأمر السيد أويسيل، ولكني أعتبره لا يزيد أهمية على السيد جينكس.» (لقد أكَّدت في نطقها على كلمة «السيد» جينكس). «يجب أن تعثر الشرطة على الجناة ويجب أن يتلقَّوا عقابهم أيًّا من كانوا.»

«ليت المسألة كانت بتلك السهولة. أرجو أن ينال الفاعل عقابه أيًّا من كان، وأن ينال العقوبة الكاملة على فعلته. أحببت جينكس، ولست منزعجًا بأدنى درجة بشأن أويسيل باعتباره رجلًا. لكن كانت البورصة البريطانية في حالة تراجع. الأمريكيون محتدو الغضب — وتحوم كل أنواع الشائعات في الأجواء. إننا نعمل بكل ما أوتينا من قوة كي نتعقَّب الجناة. لقد كنت في العمل طَوال الليل البارحة.»

لما قال روبرت ذلك، وقعت عليه نظرة متعاطفة ومرعبة في آنٍ واحد، حتى إنه شعر بضرورة توضيح أن المقصود من «العمل ليلة البارحة» هو التحرك ذهابًا وإيابًا في غرفة النوم وهو يحاول التفكير فيما كان يفعله جينكس. لكنه شعر أن التوضيح بدا جيدًا وسليمًا مثل معظم تصريحات السياسيين.

قالت جريس: «لم أكن أعلم أنك معنيٌّ بالقضية إلى هذا الحد.»

قال روبرت متباهيًا: «لست معنيًّا فحسب، ولكني أظن أنني على المسار الصحيح. ليتني أستطيع إخبارك، ولكني أقسمت على الكتمان.»

«يا له من تشويق!» ابتهجت جريس كأنها فتاة صغيرة.

«أنا بحاجة إلى مساعدتك.» لو كان روبرت على مسرح ليسيوم، لتلقَّى التصفيق على نبرته التي توحي بضرورة الكتمان. كان يزهو بنفسه.

«بالطبع. تسرني مساعدتك، لكن كيف؟»

«هلا أقنعت هولدزوورث بعدم طرح موضوع تأجيل القضية للنقاش الليلة؟»

«هل ستسوء الأمور إلى هذا الحد؟ أم …» وتحولت جراسي إلى الخصم السياسي المتشكك مرة أخرى «… هل تحاول أن تُخرج وزيرك من تلك الورطة؟ لأنني لن أساعد ذلك الغبي العجوز.»

«فتاتي العزيزة، عليك أن تتحلي بقدرٍ أكبر من التبجيل. الوزير ليس غبيًّا كما يُعتقد. ولكن على أية حال، فأنتِ لا تساعدينه هو. بل تساعدينني أنا.»

«ولماذا عليَّ أن أساعدك؟»

صُدم روبرت صدمة كبيرة. ما الذي يدفعها إلى مساعدته؟! في ظنها، ما الدافع من عمل المرأة في السياسة إن لم تقدم المساعدة؟ إنه ينحدر من عائلة سياسية. هل سبق أن سألت امرأة من عائلته ولمَ عليَّ أن أساعد؟ كان يوافق دومًا على أن تحصل المرأة على حق التصويت ولكن لأنه يستحسن وجودها في المكان. إنهن يرغبن دومًا في المساعدة — على الأقل اللاتي أُعجب بهن. وها هي جريس بعد أن جاملها ببعض المجاملات، تريد أن تعرف السبب والدافع قبل أن تقدم المساعدة في أهم قضية سياسية.

رد متأففًا: «هذا بالطبع إن أردت المساعدة، ليس عندي ما أقوله غير ذلك.»

حاولت جريس إخفاء ضحكها — حاولت تلك اللندنية الصغيرة الغريبة إخفاء ضحكها إذ ذلك يقلل من شأن روبرت ويست صاحب السمو والنفوذ.

قالت: «أوه، دعك من هذا. هناك كلام كثير، ولكن لا فائدة من اعتقادك أنه يمكنني منع أحد الأعضاء من شيء من دون أن يكون لديَّ أدنى فكرة عن السبب. إضافة إلى ذلك، فإنني لن أحاول. إما أن تثق بي، وإما تهتم بالأمر بنفسك.»

وقع روبرت في موقف لا يُحسد عليه. إنه لا يستطيع فعل شيء مع هولدزوورث المتشكك من دون مساعدة جريس. إنه يرى ابتسامة جليسون إن فشل. إضافة إلى ذلك، أصبحت مكانته عند وزير الداخلية ذات أهمية كبيرة الآن. اختلجت في رأسه أفكار آيسة: «أوه، اللعنة على المرأة العصرية.» لو أنها تصبح إما عصرية وإما امرأة، ولكن الجمع بين الاثنين غير عادل في الحقيقة لشخص يُضطر إلى التعامل معها!

رمق روبرت رفيقته بنظرة عادةً ما تصنع العجائب. «والآن، لو كنت أنا امرأة وكنت أنت عضوًا برلمانيًّا ذكرًا ووقع في ورطة، واضطُررت إلى البَدء في استخدام فن الإغراء. فماذا سيكون المقابل؟ لا شيء. هذا ليس عدلًا.»

رمقته جريس بنظرة غامضة. «يمكنك قول الحقيقة بالطبع. ربما قولها غير معتاد … لكنه ينفع في كثير من الأحيان.»

«جراسي، لا أستطيع. صدقًا، أنا لا أطلب أي شيء مخالف لحزبك. إن استطعت أن أتفرغ في عطلة نهاية الأسبوع من أجل تلك المهمة، وأعتقد أنني سأتمكن من الوصول إلى المسار الذي يوصلنا بالجناة. ولكن إن عُقدت جلسة النقاش الآن واضطُر الوزير إلى الاعتراف بعدة أشياء، فهذا سيُنذر الجناة ما يدفعهم إلى التستر على كل القرائن التي معي. ألن تثقي بي؟ بإمكان هولدزوورث — أو أنتِ إن أردتِ — عقد جلسة النقاش الأسبوع المقبل. ألن تساعديني؟»

«ما ينبغي لي أن أقلق بشأن فن الإغراء المفقود يا روبرت. فأنت تبلي بلاءً حسنًا.»

«اللعنة يا جراسي، هل ستساعدينني؟»

«بالطبع سأساعدك. سأذهب الآن وأعثر على مايكل.»

عندما نهضت، أشار روبرت ووقَّع هو على فاتورتها. ما الذي كان ينبغي أن يفعله المرء مع امرأة كهذه؟ عندما عاد إلى الرواق المركزي، وجد نفسه يتفكر في شخصية المرأة التي يحب أن يتزوجها. كان يفكر في كل من جريس وأنيت قبل أن يوقظه من أفكاره الحالمة صحفيان يريدان معرفة آخر الأخبار عن جريمة القتل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤