الفصل الثالث عشر

بعدما ذهب شاو، ولا تزال الجلسة منعقدة في المجلس، وألزم ويست نفسه بالبقاء حتى نهاية تجمع موراي جراي الذي ظل قائمًا لبعض الوقت في غرفة الطعام المجاورة للغرفة جيه. لما دخل، كان كينيرد في الغرفة وأشار إليه من الطرف الآخر للطاولة. لم يكن روبرت يشعر بالانتشاء على وجه الخصوص، ولكنه كان في مزاج للشرب، بل شرب الكثير. احتسى النصف المتبقي من زجاجة الشمبانيا ولم يتوقف عن شرب كل ما يوضع أمامه. دقت الأجراس إشارة إلى انفضاض المجلس، ولكن لم يلحظ أحد من الموجودين في هذا الجمع. دقت ساعة منتصف الليل حين استطاع رئيس خدم الضيافة التنبيه على صاحب التجمع أنه لم يتبقَّ سواهم في المبنى.

لما خرجوا إلى الطرقة، بدأ خدم الضيافة يُطفئون الأنوار من خلفهم. وعندما خرجوا إلى ساحة القصر، هُرع الباقي من الموظفين إلى الخروج. انتظر ويست قليلًا بجانب سيارة المضيف يتحدث عن أعمال اليوم بعبارات غامضة.

فجأة، لما انطلق موراي جراي بسيارته وكان ويست يعبر الساحة، تذكر أنه نسي حقيبته في الغرفة التي كان فيها التجمع. ارتعب لما أدرك أن الحقيبة تحتوي على كل الملاحظات التي اعتنى بتدوينها عن قضية قتل أويسيل. يستحيل أن يتركها في ذلك المكان حتى إن كان الجميع قد ذهب. الفكرة الوحيدة التي سيطرت على عقله المخمور هي حتمية استعادة تلك الحقيبة بأي ثمن.

لما تحدث مع الشرطي الواقف عند المدخل، هُرع إلى دخول المجلس وصعد السُّلَّم ومنه إلى الرواق المركزي. لا يوجد مكان أغرب من مجلس العموم حينما يذهب الجميع. في غضون نصف ساعة بعد النبض بالحياة والحركة، يُهجر المجلس ولا يوجد على الأرض في الممرات الطويلة سوى مصابيح رجال الإطفاء ما يزيد من عمق الظلال على الجدران العالية. تلمَّس طريقه وهو ينزل على السُّلم إلى الأبواب المترنحة التي تؤدي إلى طرقة قاعة هاركورت. المكان تخلله ضوء خافت من النهر ثم تحول إلى ظلام دامس. لم يتذكر روبرت مكان المفاتيح لكنه فكَّر أن يتلمَّس طريقه إلى الغرفة إتش التي تجمع فيها جمع موراي جراي. تساءل هل الشرطي يظل في خدمة حراسة الغرفة إي طَوال الليل أم لا. كانت أوامر جليسون واضحة بألا تُترك من دون حراسة، ولكن ربما يكفي أن تُقفل الأبواب ويقف الشرطي الحارس عند المدخل الخارجي.

لما تلمَّس طريقه بطول جدران الطرقة، انتاب روبرت إحساس غريب بأنه ليس بمفرده. بدأت دقات قلبه تتسارع.

قال بصوت حاد: «هل أحد هنا؟ هل يوجد أحد هنا؟»

لم يردَّ عليه أحد. إذن، ربما لا يكون الشرطي.

حتى إن كان هناك أحد لا يزال في عمله، فلن يقف في الظلام الكالح. مشى إلى مسافة أبعد قليلًا بهدوء تام، وأخذ يتحسَّس علبة الثقاب لديه. وبحركة سريعة، أشعل عود ثقاب. أشعله بسرعة كبيرة. لمَّا اشتعل رأس العود، طار العود من يده. ولكن في جزءٍ من الثانية في أثناء سقوط العود، أحدثت النيران قوسًا من الضوء الخافت، وارتعب روبرت لمَّا رأى في هذا الضوء حذاء رجل له شريط تزيين من عند ساق السروال. شخص ما يقف على مسافة لا تزيد على ثلاث ياردات منه.

قال مرة أخرى: «من هناك؟» تسلل إلى قلبه شعور بأن أحدًا كان يتحرك بهدوء تام. أدخل أصابعه في علبة الثقاب كي يُخرج عودًا آخر.

قال بصوت عالٍ: «أوه، اللعنة، لقد كان آخر عود.»

عندئذٍ، لعن نفسه على هذه الحماقة. لقد أعطى أحدهم معلومة قيمة لما تفوَّه بتلك الكلمات. لا بدَّ أن أحدًا بالمكان. ذلك الحذاء بداخله قدم.

خوف مميت أيقظ روبرت من سكرته. أيًّا ما كان الواقف في الطرقة، فهو ليس صديقًا ولا شرطيًّا، وإلا فلتحدث إليه. من ذلك الواقف، وما جنسه، وهل يوجد غيره؟ ما الذي يفعله في الظلام؟

في تلك اللحظة، شعر روبرت متيقنًا أن الدليل إلى قاتل أويسيل — وربما القاتل نفسه — على بُعد خطوات منه وفي أشد المباني حراسةً في لندن وبينه وبين الشرطة مسافة ٢٠٠ ياردة. كاد يصاب بالجنون.

إن وصل إلى إحدى غرف الطعام الصغيرة، فربما تقع يده على مفاتيح الأضواء. كل تلك الغرف على صف واحد مع الغرفة جيه التي يعرفها عن ظهر قلب. تحسَّس روبرت طريقه بحذر بالغ وهو يشق طريقه بجانب الجدار وكاد قلبه ينخلع من مكانه من قوة ضرباته. ففي أي لحظة، قد تقع أي كارثة في الظلام مثل العيار الناري الغامض الذي قتل جورج أويسيل في تلك الغرفة الفارغة.

وصل إلى الغرفة جيه وحاول فتح الباب خلسةً. وجد الباب مقفلًا. إذن، الشرطي ليس واقفًا في خدمته. أم يا تُرى هل عاد صاحب الحذاء إلى داخل الغرفة؟ تحسَّس طريقه حذرًا إلى الباب التالي للغرفة إتش. انفتح الباب لما أدار مقبضه. تنفس الصُّعَداء لما عثر على المفتاح وأضاء المصباح. لكن حتى مع فتح الباب، كان جزءًا كبيرًا من الطرقة لا يزال مظلمًا. ومِن ثَم لا يرى أحدًا. إنه من يقف في النور، ما يجعله هدفًا سهلًا لأي عدو يتربص به في الظلام.

وجد عُلبة ثقاب متروكة على الطاولة. أشعل روبرت عود ثقاب ومشى بطول الطرقة. بالطبع لن يجد أحدًا في ذلك الطريق. ولكن على الأقل هذا يعني أنه لن يدخل في قتال. عاد إلى الغرفة إتش. لا بدَّ أن يُحضر الشرطة إذ لا تزال هناك فرصة لئلا يتمكن صاحب الحذاء من الهرب.

لما عاد إلى الغرفة إتش، كاد أن يصرخ. رأى وجهًا يضغط على النافذة. لكنه اختفى بمجرد أن رآه. وبحركة خاطفة، أطفأ روبرت المصباح. فهو في أمان أكثر في الظلام. تحسس طريقه إلى النافذة ونظر إلى الشرفة المكشوفة حذرًا. الظلام يُخيِّم على المكان كله؛ ولا تومض سوى مصابيح جسر ويستمنستر على مسافة بعيدة. عاد إلى الباب وفتحه على حذر. نسمة من الهواء المنعش داعبت وجهه. شخص ما فتح الباب الذي يفتح من الطرقة على الشرفة.

أضيء مصباح يدوي وسُلط على وجهه. قال روبرت: «الحمد لله. من أين أتيت؟» كان شرطيًّا.

«كنت في الشرفة حين أضيئت الغرفة إتش. ظننت أنها الغرفة جيه، وسررت لما رأيتك هنا يا سيدي، ولكن يبدو أنك مرتعب حقًّا.»

«هل أنت واقف في الخدمة طَوال الليل؟»

«نعم يا سيدي. إنها الأوامر بشأن الغرفة جيه. لم أتركها من قبل يا سيدي، ولكني أشعر بشيء غريب … شعرت أن الغرفة تدور. وأحسست أن لا بدَّ من الذَّهاب إلى الشرفة وأشم بعض الهواء … أنا …» صدرت من الشرطي حركة وكأنه يمسك شيئًا في الهواء ثم خرَّ عند قدمَي ويست.

همس ويست: «اللطف يا رب!» لم يتوقع المرء مطلقًا أن يرى شرطيًّا مريضًا. أفكار مرعبة عصفت بعقل ويست. هل تخدر الشرطي؟ هل يحاول أحد ما أن يخدر الحارس؟

ترك الشرطي ممددًا على الأرض وتلمَّس طريقه حتى وصل إلى الهاتف في الغرفة التي تركها لتوه. اتصل بالرقيب بورن. لم يردَّ عليه أحد. وصل إلى غرفة الشرطة عند مدخل الأعضاء. رد عليه صوت مبهج. وكأن الصوت شريان حياة ممدود من عالم سليم العقل.

لما كان روبرت منتظرًا حضور الشرطة، عاد إلى الشرطي الممدد على الأرض. أشعل المصباح اليدوي المعتاد وأرعى سمعه. كان كل شيء ساكنًا كأنهم بين القبور إلى أن سمع تسارع وقع أقدام رجال الشرطة وهم ينزلون السُّلَّم. هل تمكن صاحب تلك القدم من الهرب؟ بالتأكيد كانت أمامه كل الفرص، ولكن لا بدَّ أنه يعرف المكان أفضل من روبرت نفسه. تلك نقطة مهمة ينبغي تذكرها كي يقولها لبلاكيت.

عندما وصلت الشرطة، ترك روبرت شرطيًّا مع الشرطي المريض وبحث مع الباقين في المطابخ وغرف الطعام. فتحوا الغرفة جيه وأضاءوا كل المصابيح في المكان، ولكن لا يوجد أحد.

اتصل روبرت على بلاكيت في منزله الكائن بمدينة كامدن وطُلب منه أن يبقى في مكانه إلى أن يصل المفتش. حينئذٍ تمكَّن الشرطي الذي يرتدي شارة الإسعاف من إفاقة الشرطي الفاقد للوعي بإعطائه جرعات كبيرة من الملح والماء. ما شغل روبرت هو عدم إفشاء ما حدث في تلك الليلة قدر الإمكان. هل الشرطي بحاجة إلى أن يُنقل إلى المستشفى؟

كان المسعف يعطيه جرعة من البراندي، إذ قال: «لا داعي. إنه بخير حال الآن. هل تناول بعض المخدرات يؤثر في رجل مثلك يا روبنسون؟»

الحمد لله على تفادي خطر تسريب تلك الأحداث إلى الصحافة! انتفض ويست لما تخيل الصحف الصباحية إن تسربت أخبار تلك الليلة. لمَّح إلى كبار رجال الشرطة بضرورة التكتم على تلك الأحداث. «ينبغي أن أقدم تقريرًا إلى الحكمدار يا سيدي.»

قال روبرت: «نعم بالطبع، لكن احرص على ألا تتسرب تلك الأخبار إلى الصحافة. أنا متأكد من أن المفتش بلاكيت سيهتم بتلك المسألة كثيرًا.»

حين وصل بلاكيت، كان الشرطي بخير حال ولكنه لا يزال مصدومًا وشديد القلق من مغادرة الغرفة جيه. قال إن خدم الضيافة دائمًا ما يتركون فنجان قهوة له أو لأي شرطي يحرس تلك الغرفة كل ليلة. كلا، إنه لم يرَ خادم الضيافة الذي ترك القهوة في هذه الليلة. لقد وُضع الفنجان على رف الخدمة خارج الغرفة جيه. لقد شربه قبل أن يدخل إلى الغرفة وأُخذ الفنجان. بعدما شرب القهوة، دخل إلى الغرفة جيه وبدأ يشعر بالتعب. كلا، لم يشعر بالتعب من فوره، بل اعتراه التعب رويدًا رويدًا. اعتقد أن المكان يضيق به ومِن ثَم قرَّر أنه لا ضرر من الذَّهاب إلى الشرفة كي يتمشَّى ويبقي عينه على الغرفة جيه من مكانه.

سأل بلاكيت: «هل رأيت أحدًا في المكان؟»

«كلا أيها المفتش. كان السيد ويست والسيد موراي جراي آخر من خرجا بعد انتهاء التجمع، ولم يستغرق خدم الضيافة أكثر من دقيقتين بعدهما.»

«هل احتسيت قهوتك قبل أن يغادر خدم الضيافة؟»

«نعم يا سيدي. قال لي أحدهم «أسرع في احتساء القهوة؛ إننا نريد الفنجان»، ومِن ثَم شربته بسرعة.»

تبادلت النظرات بين بلاكيت وويست. «أي خادم ضيافة قال ذلك؟»

«إنه ذلك الشاب الصغير، الأصغر فيهم صاحب الوجنتين المكتنزتين، لا أعرف اسمه.»

قال ويست: «إنه ليس الخادم المسئول عن الغرفة جيه. هل كان الخادم الذي وضع لك القهوة على الرف أيها الشرطي؟»

«لا أعلم يا سيدي. لا أعلم من وضع الفنجان. الشاب الصغير أخذ الفنجان يا سيدي، لكن أحدهم أحضره.»

قال ويست لبلاكيت: «ينبغي إجراء مزيد من البحث في ذلك المطبخ.»

قال بلاكيت: «لقد بحثت كثيرًا هناك ولكني لم أحرز تقدمًا كبيرًا، ولكن ما حدث ينغص عليَّ حياتي. على أية حال، لا يمكننا فعل المزيد الليلة.» عندئذٍ كرر تعليمات ويست لرجال الشرطة بألا يقال شيء مما حدث في هذه الليلة باستثناء التقرير الذي سيُرفع إلى الحكمدار.

بعدما أُرسل الشرطي المريض إلى المنزل ووُضع حارس آخر على الغرفة، ذهب ويست كي يبحث عن حقيبته وأحسَّ بالراحة لما وجدها حيث تركها.

لما كان بلاكيت عائدًا معه إلى شقته، قال: «لا يخفى أن هذا الشرطي خدَّره شخص أراد الدخول إلى الغرفة جيه.»

«نعم، لكنه لم يُحسن فعلته. أظن أنه لم يُرِد سوى إعطائه كمية تكفي لجعله يغطُّ في النوم ريثما يفعل ما يريد، بحيث لا يستيقظ قبل أن يحل الصباح وتثار التساؤلات. من الواضح أنه لم يقدِّر الكمية الكافية التي يحتاجها رجل ضخم مثل روبنسون حق التقدير.»

«لا بدَّ أن خُططه فشِلت لأنه بدلًا من أن يغطَّ الشرطي في النوم داخل الغرفة، تمكَّن من قفل الباب من خلفه والذَّهاب إلى الشرفة، ثم أشغل نفسه بالذَّهاب والإياب لفترة.»

«نعم، ربما، لكن السؤال الذي نريد الإجابة عنه هو قدم مَن التي كانت في الحذاء الذي رأيته؟»

«لا بدَّ أنه شخص يعرف المداخل والمخارج في المكان جيدًا — خادم ضيافة، أو ربما … عضو.»

«هل ذهب كل الموجودين في الجمع قبلك؟»

«نعم، أعتقد أنني آخر من خرج مع موراي جراي. لقد خرجنا جميعًا بشكل غوغائي كما تعلم … كذلك … إمممم … لا أود القسم على كل ما كان يحدث وقتئذٍ. لقد شربنا كميات كبيرة من الشراب. موراي جراي ليس ممن يحتاطون في المجلس.»

«هل يمكنك أن تتذكر الموجودين حينذاك، بجانب السيد كينيرد والسيد موراي جراي؟»

حاول ويست التفكير. «لا أخفيك سرًّا، أنا مشوش، ولكن يمكننا الحصول على قائمة بهم من موراي جراي غدًا أو في وقت لاحق اليوم.»

«لكن هل كان بينهم من لم يكن من أعضاء البرلمان؟»

«أوه، نعم، الغالبية على ما أظن. بلغ مجموع الرجال في الغرفة ١٥ أو ١٦. لكني على يقين أن موراي جراي ليس له عَلاقة بأي سلوكيات مؤذية. إنه نزيه لأقصى حد.»

«لا أظن أن له علاقة. لكن يجب ألا نُغفل حقيقة أنه يوجد طريق خالٍ يمكن لغير الأعضاء في مجلس العموم أن ينزلوا منه إلى الطرقة السفلية بعدما تنفضُّ الجلسة وعندما لا يوجد أحد آخر في المبنى. والآن، هل تتذكر شكل الحذاء الذي رأيته؟ هل كان حذاءً بكعب على سبيل المثال؟»

«كلا، كان حذاء رجل يمشي. ولكن هذا لن يفيد كثيرًا — لا أحد من ضيوف موراي جراي كان يرتدي ملابس سهرة.»

«هل تتذكر إن كان الحذاء حسن المظهر؟ كأن يكون من أحذية خدم الضيافة على سبيل المثال.»

«لا أعلم ماذا أقول. ولكن ما أتذكره جيدًا أني رأيت حذاءً عليه حافة سروال أسود. دعني لحظات أتذكر … لا أتذكر بالضبط»، وبدا الأسف على وجه ويست.

«حسن إذن. لقد تذكرت الكثير. ربما كان الحذاء لأحد خدم الضيافة أو لضيف أو ربما شخص لا عَلاقة له بكليهما.»

«ربما كان حذاء أحد خدم الضيافة، ولكن ذلك الانطباع بشكل أو بآخر لم يُترك في عقلي … إنه حذاء ثمين غير الأحذية التي يرتديها خدم الضيافة في المجلس.»

بذلك، وصلا إلى الشارع الضيق في سوهو حيث يستأجر روبرت شقته الصغيرة الغريبة. توقَّف بلاكيت لحظة تحت عمود الإنارة في الركن كي يُشعل غليونه مرة أخرى. انتظره روبرت واقفًا على الجهة الأخرى من الطريق على بُعد أربعة أبواب من مدخل السلالم الضيقة الموصلة إلى شقته. تفاجأ لمَّا رأى رجلًا نحيفًا يرتدي مِعطفًا خفيفًا ويسحب قبعته على عينيه ويخرج من البوابة ويعبر الشارع بسرعة.

اندفع روبرت في الشارع وأمسك بلاكيت من ذراعه. «من ذاك؟ إنه يخرج من بوابة منزلي.» جرى روبرت خلف الرجل وبلاكيت في عقبه، ولكنه كان قد انعطف عند الناصية. ولما وصلا إلى الناصية، لم يريا أحدًا. اختفى الرجل في ظلام الممرات الضيقة لشوارع سوهو الخلفية.

لما عادا إلى السُّلَّم الموصل إلى شقة روبرت، قال بلاكيت: «الأفضل أن أدخل أنا أولًا. هل تظن أنه كان يختبئ في المدخل؟» يوجد ممر بطول ١٠ أقدام على الأقل قبل الباب الثقيل لمدخل البيت الذي يقطنه روبرت.

لم تكن هناك أي علامة على أن أحدًا حاول الدخول عَنوةً. صعد الرجلان حذرَين على السُّلَّم الدائري ووصلا إلى الباب الفعلي لشقة ويست. لم يجدا أي علامة على أن أحدًا حاول العبث بالباب. فتح ويست الباب وأنار المصابيح. الشقة فارغة ولم يُمس أي شيء بها.

قال بلاكيت: «ربما كان الرجل يأوي إلى المدخل أو يتخذ المكان مبيتًا في الليل.»

قال ويست مفكرًا: «ربما.» ثم قال متباطئًا: «شيء غريب يا بلاكيت، فعلى الرغم من أنني لم أرَ وجه الرجل، فإن فيه شيئًا مألوفًا لديَّ. أشعر أنني رأيته من قبل، أو أنه ذكَّرني بشخصٍ ما، لكني لا أتذكر من هو. أمر عجيب. أنا، لا، لا يمكنني تذكُّر التفاصيل الدقيقة … شعرت للحظة أني تعرفت عليه.»

اقترح بلاكيت: «أتُراه أحد المتسولين كان بانتظارك وأُحبط لما لم يرَك آتيًا إلى البيت بمفردك؟» ثم أردف مهتمًّا: «أم هل يُحتمل أن يكون صاحب الحذاء الذي رأيته في الظلام؟»

قبع روبرت على حافة الطاولة. «أنا لم أرَ حذاءه، ولكني أشعر أني أعرف الرجل. أوه، يا إلهي!» وأردف بسخط اليائس: «يا لها من ليلة! تكون الأشياء قاب قوسين أو أدنى طَوال الوقت ولا يستطيع الإنسان الإمساك بها! اللعنة!»

ابتسم بلاكيت: «أحضر القهوة التي وعدتني بها. ربما تتذكر الصلة بذلك الرجل.»

«جيد. سأشغل ماكينة القهوة التي تُسبب الدُّوار. إني أحذرك من أنها قد تُصدر هبة عنيفة يا بلاكيت، ولكن ذلك الجبان يحتاج إلى بعض القهوة السوداء الثقيلة. تبدو بخير حال على الرغم من أنك استيقظت من نومك في الواحدة صباحًا، وأخشى أن يكون هذا علامة على عدم الاستمتاع بالشباب.»

ابتسم بلاكيت وهو جالس على كرسي بذراعين بجانب مدفأة الغاز وتمنَّى لو كان كل زملائه في العمل ممن له عَلاقة بهم يتحلَّون باللطف في التعامل مثل هذا السياسي الشاب الجذاب والودود.

أخيرًا قدَّم له روبرت القهوة الثقيلة وامتنَّ له وقبلها. لما كان يقلب بضع مكعبات من السكر، قال مفكِّرًا: «إني أتساءل حقًّا هل الرجل الذي كان في الطرقة كان يحاول الدخول إلى الغرفة جيه؟»

«إن كانت له عَلاقة بقضية أويسيل، فلا بدَّ أنه كان يحاول دخولها. فتلك الغرفة هي مسرح وقوع الحادث على أية حال.»

قال بلاكيت بنبرته المتثاقلة المتأنية: «نعم، ولكن هذا ما يشغل عقلي. ركزنا كلنا على الغرفة جيه. افترضنا أن وسيلة قتل أويسيل لا بدَّ أنها بداخل تلك الغرفة. حسنًا، هل تقتضي الملابسات أن هناك شيئًا في الغرفة؟ بدأت أشك في ذلك.»

«لكن لا بدَّ أن الرَّصاصة كانت في الغرفة، وإلا ما كانت لتستطيع قتله.»

«صحيح، ولكن المسدس الذي انطلقت منه الرَّصاصة لا بدَّ أنه كان في تلك الغرفة. ذاك ما يقلقني حتى الآن.»

«هل تقصد أن أيًّا من كان في الطرقة الليلة كان يحاول إخفاء آثار لم نكتشفها بعد؟»

«إما ذلك … أو أنه كان يخطط لعملية اغتيال ثانية.»

«يا ربي! ما الذي جرى في العالم يا بلاكيت؟»

أردف بلاكيت: «ما أشعر به إزاء تلك القضية هو أننا كنا ندور داخل دائرة صغيرة، إذا جاز التعبير. لم ننظر إلى الأشياء الأكبر وراء تلك القضية، إن فهمتني.»

أخذ ويست يفكر في الملاحظات التي اطلع عليها في ملف وزير الداخلية، تمتم بصوت واهن: «نعم، نعم.»

«عندما شرعنا — أعني الشرطة — في التحقيقات بشأن عملية السطو التي وقعت في تشارلتون كورت، دخلنا في سلك التحقيقات المعتاد. ولم نتوصل إلا إلى نتيجة واحدة.»

«وماذا كانت تلك النتيجة؟»

«إنها لم تكن عملية سطو فحسب — ليست عملية سطو بالمعنى المعتاد، بل تأكدنا من أنها لم تكن عملية سطو عادية البتة. كل الدلائل تشير إلى شخص يعرف معالم المكان جيدًا.»

«هل تشتبهون في أحد؟»

«اطلعنا على قائمة الزوار المترددين على الشقة كما تعلم. ولا يوجد أحد نشتبه فيه من بين هذا العدد الكبير. ويُكَن لهم الاحترام مثل رئيس الأساقفة.»

«وماذا عن كينيرد؟»

«تحريت عن شئونه جيدًا، ولكني لم أتوصل لشيء يجعله محل اشتباه. تأثر بعض الشيء بالركود، ولكن من الذي لم يتأثر؟ وعلمت أن أصدقاءه لم يقفوا بجانبه. ولا يوجد حافز من جانبه. إنه خطيب الآنسة أويسيل، وكان على وفاق تام مع العجوز. لا، توصلت إلى نتيجة وهي ضرورة بَدء التفكير انطلاقًا من القرض. أعتقد أن وراء هذا القرض سرًّا مشينًا.»

وعلى الرغم من إنهاك روبرت، فإنه ابتسم قائلًا: «أو أنه هو السر المشين نفسه.» كان يتوق إلى النوم، ولكن لما بات لبلاكيت ونيس، كان له مزاج للحديث.

«وهذا ما يقلقني من جانب وزير الداخلية.»

انتفض روبرت واقفًا ومنتبهًا. «لماذا؟»

«حسنًا، هل أعتبر مسألة القرض تلك منتهية؟» أحسَّ روبرت أنه يجب توجيه المفتش إلى مسارات حديث أكثر أمنًا.

«إنها بعيدة كل البعد عن اهتماماته. لم يتدخل في تلك المسألة إلا لأنه كان يعرف السيد أويسيل معرفة شخصية. والآن خرج السيد أويسيل من المسألة وكذلك خرج وزير الداخلية.»

قال بلاكيت مفكرًا: «لا أطمئن إلى ذلك. ليتني أعرف المزيد عن … إمممم … حسنًا، مدى عَلاقة الصداقة التي تربط بين وزير الداخلية والسيد أويسيل.»

«لا أفهم ما عَلاقة ذلك بالقضية.»

أخرج بلاكيت غليونه منفعلًا. «حسنًا، أنا أجادل هكذا على الرغم من أن الصورة لم تتبين أمامي حتى الآن. كان هذا القرض يضم مبلغًا كبيرًا لشخص ما.»

قال روبرت بنبرة حادة: «ليس لوزير الداخلية»، ولكنه لما قال ذلك فكَّر في الملاحظات المكتوبة في الملف، وشعر بالسأم.

«لا، ولكن صداقته مع السيد أويسيل ربما منعت شخصًا آخر من أن يكون له دور، وربما يُستغل نفوذه بتلك الطريقة الآن.»

«كل تلك التفسيرات رائعة حقًّا يا بلاكيت، إنها رائعة حقًّا. هل معنى كلامك عن جريمة قتل ثانية أن أحدًا يحاول إقصاء وزير الداخلية من طريقه كي يكون له دور في مسألة القرض؟ كيف بحق السماء يمكن أن يساعد ذلك في معرفة المسئول عن قتل أويسيل؟»

«ربما توقع أن ينال من الوزير في المرة الأولى. من يعرف أنه سيخرج من الغرفة في وقت تقديم العشاء؟ هذا شيء غير محتمل إلا في حالة التصويت.»

«نعم، هذا صحيح. ما كان ليخرج لغير هذا السبب، ولو بقي لكان هناك شاهد على جريمة القتل.»

«أو جثة أخرى.»

«أو …» لكن عقل روبرت نبذ أن يتصور حتى الخوف الذي يكبر بداخله ويطارده بأن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقول كيف مات جورج أويسيل هو آخر رجل رآه على قيد الحياة. ونظرية بلاكيت عن وجود عصابة دولية كانت أكثر أمنًا على أية حال. وينبغي الترويج لتلك الفكرة.

قال ويست: «عندي ما يقال عن نظريتك يا بلاكيت. لم تتوقف العصابات الدولية عن جرائم القتل على نطاق واسع في الماضي. والحروب هي أدوات تجاراتهم. أظن أنه لا يوجد سبب يمنعهم عن تجارة التجزئة، إن جاز التعبير. المعضلة الوحيدة بالنسبة إليَّ هي أنني لا أفهم كيف يتوقعون الاستفادة من النتائج.»

قال بلاكيت: «أنا لا أتهم الممولين المحترمين.»

قاطعه ويست متحدثًا بأسلوب جلف: «لا يوجد أي ممول محترم.»

«ما أقصده أن أويسيل كان عميلًا صعبًا ولا يوجد أي وازع يوقفه. أظن أنه عرف الكثير والكثير عن عالم الجريمة. كذلك تعرَّف عليه وزير الداخلية قبل أن يصبح بهذا الثراء الفاحش. التقى هذان الرجلان مرة أخرى عندما أصبح أحدهم وزيرًا والآخر مليونيرًا. لكن ربما كانت هناك ديون قديمة ينبغي سدادها. واحد منهما كان أهلًا لأن يدفع. هل الحادث الذي تعثرت به في طريقك له عَلاقة بتصفية حسابات أحدهم تجاه الآخر؟ هذا ما أريد معرفته.» جلس الرجلان صامتَين ويفكِّران في هذا الحديث. ثم نهض بلاكيت كي ينصرف.

قال ويست بضحكة متثاقلة يودِّع زائره في تلك الليلة: «بلاكيت، لم أتوقع البتة أن تكون رومانسيًّا. على أية حال، يبدو أن جدول أعمالك مكتظ.»

رد بلاكيت: «يسرني أن ثمة تقدُّمًا ولو بسيطًا من جانبك. الوصول إلى طريق مسدود وعدم القدرة على الحصول على مفتاح في أي مكان هو ما يؤرقني.»

عندما ذهب بلاكيت، رمى ويست بنفسه في كرسي. كان مجهَدًا، ولكن جفاه النوم. ربما يستهزئ بنظرية بلاكيت، ولكن للأسف يعرف أن فيها مسحة من الحقيقة. لدى وزير الداخلية ما يُخفيه. ربما هناك تفسير وجيه لتلك الملاحظات في ملفه، انتابه الفضول حينما أُحضرت إليه أوراق جينكس، ولما كان على علم بأن صاحب المفكرة هو أويسيل (ولا بدَّ أنه كان يعلم)، فما كان له أن يعيدها إلى بلاكيت من دون أن يسأل كيف وصلت إلى حوزة جينكس — هذا غريب لدرجة أنه يصعب قَبول أي تفسير خالٍ من سوء الظن تمامًا.

لا يزال غريبًا أن يفكر في وزير متزمت وله سابقة أعمال غير قانونية. العطلة التي قضاها في الغابة تبدو تفسيرًا وجيهًا لصداقته مع السيد أويسيل، ولكن كما أشار بلاكيت، كانت في مرحلة ما قبل الثراء الفاحش لدى أويسيل.

وذلك الحذاء في الظلام. من الذي كان واقفًا في الطرقة وتسلل في الليل من دون أن يراه أحد؟ شخص يعرف أساليب المجلس، لا شك في هذا. ومن هو الرجل الذي كان يختبئ في مدخل البيت؟ على أية حال، لا توجد أعمال ينبغي إنجازها الآن، ولكن يجب أن يقابل وزير الداخلية في أقرب فرصة في الصباح. لما خلع روبرت ملابسه، دخل إلى السرير وغطَّ في نومٍ عميق جرَّاء التعب الشديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤