الفصل التاسع عشر

كان يوم الثلاثاء يومًا عصيبًا على كل من كانت له صلة بعيدة بقضية أويسيل. كان رئيس الوزراء مضيافًا مساء يوم الإثنين إذ سره نجاح خطابه وأحاطه الناس يقدمون له التهاني على تحطيم هولدزوورث إذ لم يكن هذا النصر سهلًا أبدًا. ذكرته الصحف في صباح يوم الثلاثاء بالثمن الذي ينبغي له أن يدفعه. تلميحاته بأن هناك وقائع حيوية ستُعرف وستُعرض في التحقيق المؤجل إلى يوم الخميس وضعت مجلس العموم بالكامل في قبضته ومِن ثَم تجنب أي نقاشات إضافية. لن يخاطر أي عضو بأن يضع نفسه موضع الحمق؛ إذ أصرَّ كل فرد على خطأ ما فعله هولدزوورث لما فرض النقاش قبل يوم المحاكمة. ولكن إن لم يفِ بذلك الوعد، وإن لم يكن لدى الشرطة ما تقوله، وإذا طُلب تأجيل التحقيق مرة أخرى، فسيصبح الوضع سيئًا حقًّا.

كانت الشائعات قد بدأت تنتشر بأن الحكومة لديها معلومات أكثر من المعلن عنها. بدأت الصحف الصباحية الرائجة تلمح إلى احتمال التستر على شخصيات ذات نفوذ. أولى تلك الصحف صدَّرت عنوان «كشف الحقيقة!» صحيفة أخرى نشرت عنوانًا رئيسًا في الصفحة الأولى «هل تتستر الحكومة على أحدهم؟» ونددت بالتدخل السياسي في عمل الشرطة. تلك الشائعات أخمدها خطاب رئيس الوزراء. أثنت صحف يوم الثلاثاء على رئيس الوزراء وصبَّت جام غضبها على «طالبي الشهرة» الذين قد يَعيق نفاد صبرهم عمل الشرطة في لحظة الانتصار. نُشرت أخبار لاذعة عن مايكل هولدزوورث، وتلقَّى رئيس الوزراء مداهنات كثيرة طَوال جلوسه على مائدة الإفطار. ولكن بطل هذه الواقعة ترك البيض والخبز من دون أن يتذوقه لما تذكر أنه لم يتبقَّ سوى ٢٥ ساعة على موعد الوفاء بتلك الوعود، وأنه ليس لديه أدنى أساس لأي تلميح مما ذكره.

حينذاك، بدأ القاطنون في شارع داونينج يستيقظون. رفع طاقم السكرتارية الهواتف واتصلوا على كل فرد يأتي على بالهم. استمع قائد شرطة سكوتلانديارد إلى رئيس الوزراء عبر الهاتف حتى تصدع رأسه. قال: «اللعنة عليهم جميعًا. لماذا لم يدعوني إليه بدلًا من الحديث مدة نصف ساعة متواصلة عبر الهاتف؟»

أُرسل السيد جورج جليسون إلى رئيس الوزراء. دخل الموظف المدني العظيم إلى مكتب رئيس الوزراء متباهيًا، عازمًا على أن يُفهم حتى رئيس الوزراء أنه لا ينبغي للشرطة أن تضم هواة أمثال اللورد دالبيتي وروبرت ويست ليتدخلوا في عملها. لكنه لم يكن يتعامل مع «فلوسي»، بل مع رئيس دولة قانط بسبب أزمة ربما تطيح بالحكومة جمعاء. حينما خرج جليسون من شارع داونينج بعد ساعة، تملَّك منه الرعب مثلما تملَّك من رئيس الوزراء. كاد أن يحتضن اللورد دالبيتي، واندهش اللورد دالبيتي حينما أتى إلى جليسون للحصول على تصريح لإقامة العشاء في الغرفة جيه. إنه لم يمنحه الترخيص بأرق الترحيب فحسب، بل قبل الدعوة بعدما دعاه اللورد دالبيتي؛ إذ رأى أن اللباقة تحثُّه على دعوته بعدما لقيَ منه هذه الحفاوة التي لم يتوقعها. ولكن حتى لو اقترحت السيدة بيل كلينتون إقامة طقوس روحانية في هذا الصباح، للقيت داعمًا قويًّا في السيد جورج صاحب الهيبة.

سعد روبرت لما بدأ المساء يغشى ذلك اليوم. أحضر ملابسه معه وبدلها في الغرفة بالطابَق السفلي المخصصة لهذا الغرض. إنها غرفة كبيرة مربعة بها مقصورات صغيرة ذات ستائر لتغيير الملابس، ولما كان محل الحلاقة على متن السفينة مكانًا جيدًا لسماع آخر الأخبار عن عدد العُقَد في ذلك اليوم وآخر الفضائح بين الركاب، فإن الرجل الذي يترَّأس قسم الحلاقة في مجلس العموم تصله كل النمائم التي تدوِّي في المكان في لحظتها.

ترك ويست حقيبته مع مساعد رئيس القسم ونزل كي يتأكد من أن كل شيء على أُهبة الاستعداد. فُتحت الصنابير في دورة المياه رقم ١.

قال روبرت: «أظن أن دورة المياه تلك خُصصت للنساء من أعضاء البرلمان.»

«إنهن لا يستخدمنها كثيرًا يا سيدي. أظن أنهن يخجلن من النزول إلى هنا يا سيدي. ولكنها أفضل دورة مياه. أتت الآنسة ريتشاردز منذ بضعة أيام يا سيدي، وأخبرتها أن السيد جلادستون قد استحمَّ في دورة المياه هذه. لم تنشغل دورات المياه هذه كثيرًا في تلك الأيام.»

«وهل دورة المياه أعجبت الآنسة ريتشاردز كثيرًا؟»

«بالطبع يا سيدي، أنا متأكد من أن التجهيزات هنا تُعجب السيدات. ولا بدَّ أنها تعجب الرجال أيضًا. ولكن لا أظن أن السيدات تبهرهن التجهيزات هنا مثل الرجال يا سيدي … أعني الشابات منهن، أليس كذلك؟»

ضحك بوب. «هل تظن أن الآنسة ريتشاردز لم ترُق لها فكرة الاستحمام بعد السيد جلادستون؟»

«لا، لا أظن. يستغرق الأمر كثيرًا كي تثير إعجاب شابة هذه الأيام، وهذا لا يعني عدم احترام الآنسة ريتشاردز. هل انتهيت مما تريد يا سيدي؟»

«نعم، شكرًا لك. سآتي إليك من أجل الحلاقة في وقت لاحق.»

«أوه، نعم يا سيدي … هل تقيم السيدة بيل كلينتون العشاء في الغرفة جيه؟ اعذرني يا سيدي، ولكنه مكان غريب ولا أظنه يصلح كي يمتع المرء نفسه فيه، أليس كذلك؟»

إذن، عامل النظافة المسئول عن دورات المياه يعرف كل شيء عن حفل العشاء الذي حاول جاهدًا أن يُبقيَه سرًّا. ولكن أنَّى لحفظ السر عن الموظفين في مجلس العموم؟ بالطبع الكل يعرف كل المعلومات عن هذا العشاء بدايةً من عاملات النظافة وحتى رقيب النظام، كما علموا عن عشاء وزير الداخلية مع السيد أويسيل. موظفون متمرسون وعلى مستوًى عالٍ من الذكاء ولديهم سنوات خبرة طويلة في معرفة مد التيار وجزره بشأن الأعضاء الذين ينجرفون تحت أيديهم، لا يُتوقع من هؤلاء الموظفين أن يكونوا صمًّا وعميانًا لأن السلطات تريد منهم أن يكونوا كذلك.

قال روبرت: «إننا لا نتناول الطعام في تلك الغرفة من أجل الاستمتاع. بل إننا ندرس الأحداث التي ربما تكون قد وقعت في تلك الليلة. وإننا لا نريد الحديث عن الموضوع. أظن أنك ستذكر هذا إلى الموظفين لديك.»

«أوه، نعم يا سيدي. الموظفون لا يتحدثون بشيء البتة.» (قال روبرت في نفسه: «أتظن ذلك!») «ولكن يا سيدي، تساءلت كثيرًا لماذا لا يُقتل كثير من الناس في هذا المكان حينما تفكر في الفرص.»

تنبَّه روبرت وقال: «حقًّا، أي فرص تتحدث عنها؟»

«بالطبع يا سيدي لا أقصد قتل أعضاء البرلمان، ولكن لا صعوبة البتة في التخفي عن أعين الشرطة إذا ارتكب أحد هذه الجريمة. أعني يا سيدي، كل هؤلاء الموظفين الذين يتواجدون باستمرار في المبنى. لا يصعب على أي أحد أن يرتدي زيَّ الموظفين ولن يعرف أحد أنه يتخفَّى في الزي.»

قال بوب مفكِّرًا: «أظن أن هذا ممكن.»

«حسنًا، بما أنه ليس لك حاجة عندي يا سيدي، فسأغادر الآن.»

لما أُغلق الباب خلف عامل النظافة، جلس بوب على حافة دورة المياه. هل يمكن هذا؟ هل كان القاتل في المبنى متخفيًا في ملابس العمال؟ يعرف أن بلاكيت خمَّن أنه ربما تخفَّى أحدهم في ملابس خادم ضيافة، ولكن لا يوجد أثر لذلك الرجل. لكن أقسم مدير المطبخ وكل خدم الضيافة إنهم يعرفون بعضهم حق المعرفة ولا يُحتمل أن يحدث ذلك، لا سيما أن مأدبات العشاء التي أقيمت في تلك الليلة لم تكن كبيرة وبالتالي لا حاجة إلى تعيين موظفين إضافيين. ولكن كان هناك عامل مختلف. إنه ليس معروفًا لخدم الضيافة، ومِن ثَم لا يلاحظونه. لكن كانت الساعة التاسعة ليلًا. والعامل الذي ليس في طاقم التهوية — حيث إن جميعهم موظفون قدامى — لا بدَّ أنه لُوحظ وهو يتجول في طرقة هاركورت في تلك الساعة غير المعتادة. سبق أن استجوب بلاكيت كل فرد في طاقم التهوية يتجول على فترات كي ينظر في موازين الحرارة وكي يفتح فتحات التهوية. ولكن كل فرد منهم قدَّم تفسيرًا وافيًا عن تحركاته.

ولكن ذلك الحذاء في الظلام. شخص ما كان في الطرقة حينذاك، ولولا القدر الذي أرجع روبرت من أجل حقيبته، لَما علِم أحد البتةَ بوجوده حتى بالرغم من وقوف الشرطي في خدمته. هل هو شخص يمكنه الدخول إلى المطابخ بمساعدة أحد موظفي المطابخ؟ كل الإشارات مُصوَّبة إلى ذلك الحادث. ربما اللورد دالبيتي واتَتْه أفضل فكرة لما اقترح استجواب جريس. وقد يكون الشريك في الجريمة شخصًا لم يخطر على بال أحد … صاحب الحذاء في الظلام.

غاص بوب في مياه الحمام وفي عقله أنه يعرف شيئًا عما يجب أن يشعر به حينما تتفلَّت منه الأشياء التي يريدها. أوشك أن يضع يده على الحل. لديه شعور قوي بذلك. لا يفصله عن التحقيق سوى ٢٤ ساعة. ولكن الإجابة لا تزال بعيدة بُعد المشرق عن المغرب.

لا يزال الشرطي واقفًا على باب الغرفة جيه لما كان روبرت يسير نحوه. والغرفة لم تُترك من دون حراسة ولو للحظةٍ منذ ليلة الجريمة. فتح الشرطي الباب لروبرت. وجد السيد جورج جليسون واللورد دالبيتي وفيليب كينيرد بالداخل.

«هل تريد نبيذًا أم كوكتيلًا يا روبرت؟ يبدو أننا الجنس الملتزم بالمواعيد. آه، تدق ساعة بيج بن لتوها لتعلن عن لحظة حاسمة مثلما دقَّت في تلك الليلة.»

قال بوب: «نعم، لا ينقص سوى أن يدق جرس التصويت في الساعة التاسعة حتى تكتمل الضوضاء.» فُتح الباب ودخلت السيدة بيل كلينتون، وهي لا تزال ترتدي مِعطفًا نهاريًّا باللون الأسود، وهذا المعطف ترتديه دومًا في مجلس العموم.

قالت بنبرة صوتها العالية الناعمة: «لم أغيِّر ملابسي. ينبغي لأحد أن يهتم لأمر البلد العتيق طالما تهتمون أيها الرجال بأناقتكم. ما أجمل هذا الجمع! سأنضم إلى صفوف المستمعين الليلة. لمحت طرف أنيت لمَّا كنت آتية مسرعة. إنها تبدو آيةً في الجمال.»

الباب فتحه الشرطي المناوب بقوة ما أثار دهشة الحاضرين. قالت صاحبة الحفل: «ها هي، ألم أقل لكم؟» وقفت أنيت للحظة عند عتبة الباب ذي الإطار المصنوع من خشب البلوط وأطلَّت بجمالها الفتَّان. كانت ترتدي ثوبًا طويلًا بتصميم أنيق من الساتان الأبيض وبه مسحة من لون المحار ما يخطف الأضواء أينما تحركت. تلف على أحد كتفَيها وشاح تشانيل مُتقَن الصنع من الساتان الأزرق. لم ترتدِ أي حلي سوى مشبك من الياقوت الأزرق على الجزء الأمامي من الفستان، كان طقمًا يبرز تأثير بشرتها البيضاء وعينيها ذواتي اللون الأزرق الداكن غير العادي.

قالت مبتسمة: «بالتأكيد لست أنا آخر الحاضرين.»

لم تستطع آيفي بيل كلينتون كبح مشاعرها إذ قالت: «ولكنك الأخيرة بالفعل. هذا الدخول المهيب لا بدَّ أن يكون ذروة الحدث.» إنها تحب أنيت، ولكن ساورها شعور جامح بالرغبة في أن يضحك عليها أحد، وتلك المهمة لا يُحتمل أن يقوم بها أي رجل من الحضور. «والآن يا ديك، قد حانت وليمة هلاكك. كيف سننظم أنفسنا؟»

من الواضح أن دالبيتي خطَّط لهذا. وعلى المائدة البيضاوية، جلس على الكرسي المواجه للباب، المكان الذي جلس فيه جورج أويسيل. «بالطبع أخبرني خادم الضيافة أن المائدة كانت أصغر حينذاك، ولكن لا يخفى أن حجم المائدة لن يعنيَ فارقًا. هل ستجلسين على يميني يا آيفي، وأنيت على يساري، ثم السيد جورج بجوارك يا آيفي؟ ويست، ستجلس بجوار الآنسة أويسيل. كينيرد، ستُترك من دون سيدة بجانبك.»

«سيسرني النظر إليهن.»

«من المفترض أن يكون فيليب في بلاط الملك إدوارد، أحد أبناء السيدة وورويكس الصغار، ولكنه وُلد متأخرًا للغاية كما تعلمون.»

«أخبرتني لما تقابلنا في المرة الأخيرة أن دوري سيكون ديك توربين.»

«لا أعلم دورك الحقيقي يا فيليب، ولكن على أية حال، جمالك فتَّان لدرجة أنه لا يصح أن تتحرك بحريتك بيننا نحن النساء ذوات التأثر الضعيف. ديك، أتمنى أن يكون هذا العشاء سخيًّا.»

التفتت أنيت أويسيل إلى روبرت. «لماذا لم تأتِ مطلقًا كي تزورني؟ لم تأتني منذ ذلك اليوم المروع بعد وفاة جدي.»

«لا تعبر الكلمات عن مدى رغبتي في المجيء إليك، ولكن لم أرد أن أشغلك عن أعمالك.»

«أود أن أراك كثيرًا، ولكن يبدو أنك منشغل للغاية في تلك القضية.»

«حسنًا، إننا نحاول جاهدين أن نعثر على شيء نقوله أمام المحكمة يوم الخميس، وأنا منهمك في تلك القضية منذ أن رأيتك.»

قالت أنيت مفكرة: «هذا إهدار للوقت.»

«ولكنك قلتِ إنك تريدين العثور على القتلة.»

هزَّت أنيت كتفيها. «نعم بالطبع، كنت منزعجة صباح يومئذٍ وغضبت لأن الصحافة تقول إن جدي قتل نفسه. ما كان لشيء أن يزعجه أكثر من الموت. ولكنه مات. يعرف الناس أنه لم يقتل نفسه. ولن يعيده شيء إلى الحياة. فلماذا يهدر الأحياء وقتهم كي يعرفوا كيف مات؟ ما النفع الذي سيعود على أحد الآن؟»

نظر إليها روبرت منذهلًا. ما الذي جعلها تغيِّر موقفها الذي كانت عليه حين قابلها صباح يومئذٍ؟ أم تُراها لم تهتمَّ بشيءٍ إلا بألا يظن الناس أن العجوز مات منتحرًا. لكن إن كانت تعرف الحقيقة، ألم تكن نظرية الانتحار مريحة أكثر؟ هل كانت تحاول تضليلهم؟ ولكن حتى الآن، اختفى من حديثها القلق الذي تخلله لما تحدثت عن القضية قبل ذلك. بل إنها ببساطة لمَّحت إلى أن المسألة مضيعة للوقت ولا تستحق هذا العناء، وكان الأحرى أن تقول: «أوه، لا تزعج نفسك بإنقاذ الموقف إن ساءت الأمور.»

قالت أنيت متكاسلة: «إذن، سأنتظرك غدًا. ألا تحب أن تحتسيَ معي كوكتيلًا حوالي الساعة الخامسة؟»

«أحب أن آتي، ما لم أكن مقيدًا تمامًا في تلك القضية. إن لم أستطع، فسأتصل بك عبر الهاتف.»

تشدقت أنيت: «أوه، لا تزعج نفسك بالاتصال. تعالَ وقتما تستطيع. سأكون في المنزل طَوال الليل.»

أحسَّ روبرت أن الدم يتسارع في عروقه لما عاد إلى الحديث العام، وبدأ الجو يتخلله سرور كبير بفضل أحاديث السيدة بيل كلينتون المرحة. وكما قال اللورد دالبيتي، سيكون الحفل مملًّا من دونها. إنها قصيرة ومقبولة الشكل وممتلئة الجسم، على النقيض التام من أنيت، كما أن طاقتها المشعة مختلفة تمامًا وكأنها طاقة محفوظة يستشعرها أي شخص حسَّاس من وراء هدوء المرأة الشابة. كان روبرت متأكدًا من أن سانكروفت أخطأ في فهم أنيت تمامًا. مهما كانت الحياة التي تعيشها وعلى الرغم من العيشة الفارهة والوثيرة، إلا أن هذه المرأة كانت العكازة التي يستند إليها أويسيل العجوز. ربما كانت قادرة على وضع خطط كبيرة كي تشق طريقها الخاص مثله تمامًا.

غرق روبرت تمامًا في التفكير بها وكان سعيدًا للغاية بقربها منه، ولم يحاول أن يشارك في الأحاديث التي تجري من حول المائدة. ولكنه لاحظ — ببعض التسلية — كيف أن الجميع باستثناء أنيت كانوا يراقبون كل حركة تصدر من خادم الضيافة.

فكر روبرت: «بالطبع يعرف هذا الخادم أننا نشاهده، وهذا البائس لا بدَّ أن يبدر منه شيء عمَّا قريب، وعندها سيظن الجميع في ضمائرهم أنه المذنب. … لا بدَّ أن يتحلى هذا الخادم بالصلابة كي يواجه كل ما اضطُر إلى مواجهته في الأسبوع الماضي.» أسرَّ إلى أنيت بتلك الملاحظة الأخيرة.

تقابلت عيناها الزرقاوان الكبيران مع عينيه للحظة. «ولكني أظن أن هذا ينطبق عليك أكثر. أعتقد أنه من الرائع أنك تفعل الكثير وتحافظ على هدوئك في حين أن الآخرين لا يهدأ بالهم.»

لما تفوَّهت أنيت بتلك الكلمات، اكتمل خنوع روبرت لها. اختلس النظر إلى فيليب كينيرد كي يرى هل لاحظ اهتمام أنيت به وهل يضيره ذلك أم لا، ولكن كان كينيرد يناقش الأزمة المالية مع جليسون ودالبيتي.

قال اللورد دالبيتي: «سمعت أنك تعافيت من الأزمات المالية التي تعرضت لها.»

ظن روبرت أن تلك الكلمات غير موفقة نوعًا ما، ولكنها لم تحرج كينيرد. «نعم، كدت أن أضيع … والأزمة الأخيرة لم تكن متوقعة. ولكن لحسن الحظ استطاعت أنيت أن تُنقذني.»

من الواضح أنه لم يخفَ على الحاضرين الأزمات المالية التي تعرَّض لها كينيرد، لا سيما الأزمات الأخيرة. لم يظهر على وجه دالبيتي المفاجأة حينما ذكر روبرت معلومات عن زعزعة وضعه المالي، تلك المعلومات التي عرفها من سانكروفت.

قال دالبيتي بعفوية: «الكل متضرر ماليًّا. لا أحد منا يعلم ما الذي يحدث بين ساعة وأخرى. قد يضيع أعتى الرجال بخطأ واحد في الحكم الآن.»

قال السيد جورج جليسون بأروع أسلوب: «أعتقد أنه ينبغي إيقاف المضاربة في البورصة.»

قالت السيدة بيل كلينتون بنبرة رعب ساخر: «ماذا، متزمت في وزارة الداخلية! يا للعار يا سيد جورج، لا عجب من وقوع كل تلك المجريات في البرلمان طالما أن وزارة الداخلية نفسها بدأت تتحدث بتلك الطريقة.»

قال اللورد دالبيتي: «بالطبع، النظام كله عبثي. والنظام يشبه إلى حدٍّ بعيد قمار الروليت غير أن العالم كله داخل في تلك اللعبة. ولكن لا تعطيك الحياة كل ما تريد.»

سأل كينيرد: «لا سيما حين تتحدث عن رياضات دموية. ما الذي ينبغي أن يفعله الفتى؟»

لم يتوقع أحد أن تجيب آيفي بيل كلينتون إذ قالت: «يقنص الأجداد.»

ضحك الجمع بأكمله، ولكن روبرت لما راقب كينيرد رأى أنه تفاجأ بالرد على الرغم من أنه كان يضحك. أردف السيد جورج:

«ما ينبغي لي الاعتراض على نظام البورصة إذا كانت إدارتها تتسم بالشفافية بحيث توفر للمضاربين المخاطرة بأموالهم في ظل ظروف إدارة سليمة. لكن عند أخذ الأمر على محمل الجِد الآن، فعندما تتأرجح الحكومات بسبب بعض الشائعات البلهاء التي لا يعلم منبتها إلا الله، ومِن ثَم تغرق مدن كاملة في الفقر والبطالة نتيجة لتلك الشائعات، فإني أتعجب كيف للعاقل أن يتهاون في هذه العملية ويدافع عنها. أعلم أن الآنسة أويسيل ستسامحني حين أقول إنه لا عجب من قنص بعض العلية بالرصاص. لا أفهم لماذا لا يوجد مطلب عام من الشعب بضرورة وقف هذا النظام بأكمله.»

علقت السيدة بيل كلينتون: «لا تعلم ما يحدث لهم. وهذا هو السبب في السماح لنا بإقامة هذا العشاء على نفقة ديك.»

قدم الخادم القهوة ثم أغلق الباب بعدما انتهى من تقديم خدماته. صمتت المجموعة فجأة. شعر الجميع بالحيرة ما عدا آيفي. قالت: «حسنًا، ماذا تتوقعون أن يحدث الآن؟»

أشعل اللورد دالبيتي سيجاره على قدْرٍ من الحذر. «لم تنتهِ الحفلة بعدُ يا عزيزتي. إننا بانتظار ضيفين أو ثلاثة ضيوف.»

«بالتأكيد ليس من أجل العشاء؟»

«رجوت أن يتمكنوا من المجيء على العشاء، ولكن لما كانوا يحاولون الوصول إلى حلول ألغاز جديدة، فقد قالوا إنهم سيكونون هنا بحلول العاشرة.»

تعجبت آيفي: «حلول ألغاز جديدة … لكن يا للعجب! هل نحن في انتظار لوحة كبيرة تضم «القتلة المصنَّعين» أم أنك ستخبرنا عن ذلك مسبقًا؟»

«لن يطول الانتظار الآن يا آيفي. وقد لا يكون هناك ما يقال. ولكنها تبدو فرصتنا الوحيدة للتوصل إلى أي شيء.»

خيَّم الصمت على الحضور، صمت وكأن على رءوسهم الطير وكأنهم في جلسة تحضير الأرواح. حاول كلٌّ منهم أن يكسر هذا الصمت، ولكنه يشعر وكأن الكلمات تموت عند شفتَيه لا تخرج. جلست أنيت وكأنها تمثال من العاج. أحسَّت آيفي أن عليها الصراخ خشية أن يظهر شبح المقتول. لم يجلسوا إلا بضع دقائق، ولكن أحسَّ كلٌّ منهم وكأنها ساعات حيث إنه لم يكن هناك طرق على الباب. الباب فتحه المفتش بلاكيت الذي أبقاه مفتوحًا حتى تدخل جريس ريتشاردز ومن بعدها سانكروفت. تبعهما المفتش وأغلق الباب من خلفهم.

نهَض دالبيتي، ولكن بقي الآخرون جالسين ساكنين ولم يخرجوا من حالة الصمت الموحش.

سُحب مقعد إلى المائدة من أجل جريس. وجد الرجلان مقعدَين لهما — جلس المفتش على مقعد بجوار الحائط وجلس سانكروفت على حافة طاولة تقديم الطلبات.

غريزة الضيافة لدى السيدة بيل كلينتون ساعدتها على أن تعود إلى حالتها الطبيعية. «أرجو أن يكون لديكما بعض الأخبار، لأنني لا أظن أننا سنتحمل إحباطًا آخر.»

نظرت جريس إلى اللورد دالبيتي. قالت: «لدينا بعض الأخبار. أظن أننا في طريق الوصول إلى الرجل الذي تسبَّب في مقتل السيد أويسيل، ولكن لا يزال الرابط إلى المسدس مفقودًا.»

دوَّى الصوت العميق من المفتش بلاكيت: «أظن أننا لن نستغرق وقتًا طويلًا في العثور عليه. إنها فقط مسألة …»

وهنا، توتَّر الجمع بأكمله وانفعلت أعصابه وكاد الذهول أن يُميتهم. فجأة، بدأ جرس التصويت يدق. صرخت السيدة بيل كلينتون: «أوه»، وجدت أعصابها المرهقة المتنفس الذي حرمها من سيطرتها على نفسها في نصف الساعة الأخيرة.

سلك ويست وكينيرد طريقهما إلى الباب كي يصعدا من أجل التصويت. نهضت جريس فجأة مُهتاجة من الانفعال. «إنه القاتل أيها المفتش! أوه، ما أحمقنا! إنه هو!»

قال بلاكيت: «يا إلهي، إنك على حق!» وحينها اندفع سانكروفت إلى الباب. «ليأتِنا أحد بسُلَّم خشبي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤