الفصل العشرون

قال كينيرد بصوت منخفض إلى ويست: «يجب أن نُصوِّت. سيبقى الحل إلى أن نعود.» لم يكد ويست يسمعه ولم يلاحظ أحد ذَهابه. كوَّن كل منهم مجموعة متحمسة حول جريس باستثناء أنيت إذ ظلت هادئة وأشعلت سيجارة أخرى. قالت آيفي بيل كلينتون بعدما لم تَعُد تتمالك نفسها تمامًا: «ما الأمر؟ ما الأمر؟ أخبرونا.» عاد سانكروفت وبلاكيت ومعهما سُلَّم خشبي.

قال بلاكيت بحدَّة وهو ينظر إلى الجمع: «أين كينيرد؟»

قال ويست: «لقد صعِد من أجل التصويت. قال إنه سيعود على الفور. كان يتعين عليَّ أن أذهب، ولكن لا أستطيع ترك ما يجري الآن.»

قال بلاكيت: «اللعنة!» وقف الآخرون مذهولين بينما أخذ هو سماعة الهاتف. «أوصلني بمكتب المفتش … شكرًا يا بورن. لا تدع السيد كينيرد يغادر المبنى. أمر ضبط؟ لا، بالطبع لا. فقط أبقِه عندك أو اطلب منه المجيء إلى الغرفة جيه، حسنًا؟»

حينئذٍ، أسند سانكروفت السُّلَّم الخشبي على الحائط، وأخذ يحاول في الشبكة الصغيرة التي تحتوي على جرس التصويت باستخدام مِفك براغي. تلك الشبكات المربعة الصغيرة — غير البارزة والقريبة من السقف — أشياء معتادة في كل طرقة وفي معظم غرف المجلس. إنها تُخفي الأجراس التي تدوِّي في المبنى صاخبة حين النداء إلى التصويت.

«هنا يا بلاكيت! انظر!»

تعجَّبت السيدة بيل كلينتون وأصرَّت على أن تكون الشخص التالي الذي يصعد السُّلم: «دعني أنظر أنا أيضًا.» شهقَت قائلة: «إنه هنا.» إنه مسدس مثبت ببراعة بحيث صُوبت فوهته تجاه قلب أي شخص يجلس على الكرسي على رأس الطاولة.

سألت آيفي بيل كلينتون وهي تنزل من فوق السُّلَّم الخشبي حذرةً وتُفسح الطريق إلى المفتش المهذب غير الصبور: «ولكن كيف تنطلق الرَّصاصة من تلقاء نفسها؟» قال بلاكيت وهو يتفحَّصه بعناية باستخدام كشاف يدوي: «هذا سهل. يوجد وصلة مكسورة هنا. لا بدَّ أنه ثُبت بحيث تعود الوصلة المكسورة إلى مكانها مع أول قرعة من جرس التصويت في الساعة التاسعة تلك الليلة، ومِن ثَم سحب الزناد. عبقري ملعون، ولكن — يا إلهي — لماذا لم نفكر البتة في سحب هذه الشبكة عندما نقرنا على كل بلاطة في المكان؟»

صعِد اللورد دالبيتي كي يُلقيَ نظرة. «إنه عبقري كما قلت يا بلاكيت، ولعبة أخذت بكل مجامع البساطة. أظن أنني كنت أرى تلك الشبكة في كل مرة أعود فيها لأنظر في تلك الغرفة، ولم يخطر ببالي أنها قد تحمل شيئًا غير الجرس.»

قال ويست منفعلًا: «يا إلهي، هذا المسدس الذي كان يسعى الرجل في الطرقة إلى أخذه يا بلاكيت. سُحب الشرطي بحيث يتمكن أحد من إبعاد هذا المسدس. ولو تمكن من الحصول عليه، لما وصلنا إليه الآن.»

رد بلاكيت: «جميل منا أن أبقينا حارسًا على تلك الغرفة. ولولا ذلك، لتمكن الفاعل أيًّا كان من الفرار بفعلته دون حساب.»

«ومن وضعه في هذا المكان؟ أليس …؟» نظرت السيدة بيل كلينتون إلى أنيت ولكن لم تستطع أن تلفظ اسمها. رن جرس الهاتف. أخذ بلاكيت السماعة. «ماذا، ليس في المجلس؟ ولكن سيارته في ساحة ركن السيارات. لكن لا بدَّ أنه هنا. ابحث في كل مكان. لا يُعقل ألا تجده. حسنًا، ضع حارسًا عند كل مخرج.» أعاد المفتش سماعة الهاتف ونظر إلى أنيت. كانت مثل تمثال إذ لم يصدر عن وجهها الأبيض أي حركة أو تعبير، وقماش الساتان الثقيل قد التفَّ بإحكام حول أطرافها وكأنه دثار من الحجر.

لم يقلْ بلاكيت لها شيئًا. ولكنه أسرع خارجًا من الغرفة.

التفت اللورد دالبيتي إلى سانكروفت وجريس. «والآن، هلا تفضلتم وأخبرتمونا ما الذي حدث، ولكن أريد كأسًا من الخمر قبل أن يبدأ أحد …» وناولته جريس الكأس المقدمة له وقبلها سانكروفت مبتهجًا. قالت: «يبدو أن المفتش بلاكيت انطلق وراء مُهمَّته في وقت ينبغي أن يتواجد فيه هنا كي يسمع كل المدح. إنه رائع حقًّا. أنا لم أفعل شيئًا إلا بأوامره.»

سألت السيدة بيل كلينتون غير صابرة: «ولكن ما الذي فعلته، ماذا حدث؟»

أصبحت جريس حادة في تصرُّفاتها. فهي لديها حسابات تسويها مع خَصمها المفعم بالحيوية. ربَّت اللورد دالبيتي على يد صديقه بحرارة وشجع جريس بنظرة تقول لها تقدَّمي.

قالت بنبرة هادئة بعدما تلاشى الحماس الغيور من صوتها: «حسنًا، عندما طلب مني بوب، أقصد السيد ويست، أن أعرف أكبر قدر من المعلومات، تحدثت إلى المفتش بلاكيت أولًا.»

علَّق اللورد دالبيتي: «فتاة راشدة. معظم النساء سيردن القيام بهذه المهمة من تلقاء أنفسهن.»

بعد هذا التشجيع، زال قدر ضئيل من حدة جريس. «طلب مني الحديث إلى شخص بعينه وهو أحد عمال النظافة إذ كانت ابنته على عَلاقة بسيدريك؛ وهذا خادم الضيافة المسئول عن الغرفة جيه.»

تمتمت السيدة بيل كلينتون: «سيدريك، يا لها من رومانسية!»

تجاهلت جريس مقاطعة الحديث ولكن أحسَّ اللورد دالبيتي أن الأمور بين السيدتين تتصاعد بسرعة.

سأل مبتسمًا: «وماذا بعد؟»

«بعد فترة وجيزة، توصلت إلى أنه لا أمل من الحديث معها في المجلس أو في مكان قريب منه. كل موظفي المطبخ غاضبون بشأن المسألة برمتها. إنهم يعتقدون أن ذلك ينعكس عليهم وأن الشرطة تضايقهم لدرجة أنهم لن يتفوهوا بكلمة عن أنفسهم وتبقى عيونهم مفتوحةً كي يروا ما إذا كان أحد يتجول خلسةً ويطرح أسئلة.»

«هل يتسترون على أحد؟» هذا السؤال من السيد جورج جليسون.

«لا، لا أظن. هذا مجرد تعصُّب لفئتهم وشعور بأن العمل في المجلس لن يقف في صفِّهم. حسنًا، عندي فكرة تجعل تلك المرأة تتحدث من دون أن تشكَّ في شيء. لن أتمكن من إحضارها إلى مسكني لأنني أعيش في مسكن بالإيجار، ولذا طلبت منها أن تأتيَ إلى مسكن السيد سانكروفت هذا المساء كي تنظف الغبار عن جميع كتبه. أخبرتها أني رتَّبت هذا العمل من أجله.»

هدلت السيدة بيل كلينتون: «وهل فعلتِ؟»

ومضت عينا جريس. تدخَّل دالبيتي مرة أخرى وأنقذها.

«آيفي، ما عليك أن تقاطعيها. استمري من فضلك يا آنسة ريتشاردز.»

أدارت جريس كتفها إلى السيدة بيل كلينتون وتحدثت حصرًا إلى اللورد دالبيتي ووجنتاها محمرتان. «جعلناها تتحدث لما كانت تنفض الغبار عن الكتب. أخبرني بلاكيت أنهم قد لا يجدون شيئًا يدين الابنة. إنها لم تكن تنفق أموالًا طائلة ولا أي شيء يُثير الشبهة من هذا القبيل. ولكن لما كانت الأم تثرثر وهي لا تُلقي بالًا لأي شيء، فقد ذكرت أنه عندما تزوج سيدريك من ابنتها، قرر أن يترك العمل في مجلس العموم وينشئ مشروعًا خاصًّا به في مجال الكهرباء. سألها السيد سانكروفت إن كان سيدريك يفهم أي شيء في الكهرباء، وقالت: «أوه، نعم. إن له خبرةً كبيرة في أي شيء له أسلاك.» حسنًا، يبدو أن تلك ملاحظة جديدة عليه. ولذا حالما تمكنا من تركها كي ترى عملها، فعلنا ذلك وأتينا إلى هنا كي نقابل السيد بلاكيت.»

سأل السيد جورج: «وهل هذا مفتاح للغز؟»

أخذ سانكروفت طرَف الحديث وأردف: «تناقشت مع بلاكيت عن نظرية مسدس مخفي. وكانت الصعوبة في معرفة مكان إخفائه والشخص الذي أخفاه. وتلك المعلومة أعطت بلاكيت المفتاح الذي يريده لحل ذلك اللغز. إنه يشك في كينيرد منذ بعض الوقت، ولكنه لم يُخبر أحدًا عن ذلك. قال لي ذلك حينما أعطيته بعض الأخبار عن شئون كينيرد المالية.»

لم يجرؤ أحد على النظر إلى أنيت باستثناء آيفي بيل كلينتون إذ ذهبت ووقفت بالقرب منها واتخذت موقفًا دفاعيًّا وكأنها تتحدى شرطة بريطانيا برمَّتها كي لا تمس صديقتها. لمَّا طال الصمت ولم يُطِقه أحد، سأل دالبيتي: «وماذا بعد؟»

أردف سانكروفت: «انتظرنا في غرفة المدير حتى انتهى سيدريك من تقديم العشاء لك. بعد ذلك أرسل بلاكيت في طلبه. هذا العشاء أتلف أعصابه ببساطة. لا بدَّ أن أعصابه من حديد حتى يواصل كل هذه الفترة الطويلة. لكن بمجرد أن رآنا، خمَّن أن سره يكاد ينكشف. قال بلاكيت بهدوء: «كم أعطاك السيد كينيرد كي تُصلح ما أفسده»، وعندها انهار تمامًا وبكى مثل الطفل.»

قالت جريس: «كان مشهدًا مروعًا يا لورد دالبيتي. لا أعتقد أنه تعمَّد إحداث أيِّ أذًى، ولكن السيد كينيرد تحدَّث إليه … أعني … أوه، عذرًا»، ونظرت إلى أنيت.

قالت السيدة بيل كلينتون بقوة: «لا أصدِّق ذلك. لا أصدق أن فيليب يرتكب هذا الجرم. لا يصح أن تأخذوا بكلام الخادم وتعتبروه إدانة لفيليب. هذه تهمة شنيعة، كما أن كل هؤلاء اشتراكيون. لا تصدق يا ديك.»

قال اللورد دالبيتي: «اهدئي يا سيدة آيفي. كيف تمكن من الاستمرار في وظيفته كل هذا الوقت؟ لو كان أحد غيره لفكَّر في الفرار.»

قال سانكروفت: «لم يفعل. كان بلاكيت مقتنعًا طَوال تلك المدة أنه يعرف شيئًا ما. وعلى الرغم من أن الشرطة لم يكن لديها أي دليل ضده، فإنها لم تُبعِد ناظريها عنه. كان أمله الوحيد في النجاة يكمن في البقاء متيقظًا وعدم التغيير في القصة التي رواها ومحاولة التحلي بالشجاعة. لا يمتلك سيدريك دليلًا ملموسًا ضد كينيرد، كان كل شيء في الاتجاه المعاكس. أخبرني أنه أراد المجيء إليك ذات مرة يا بوب، ولكن كان بلاكيت معك.»

قال ويست منفعلًا: «إذن، كان هو الرجل الذي رأيته في الطرقة. علمت أني تعرفت على شيء في ساقه. هل هو صاحب الحذاء الذي رأيته في الطرقة؟»

«لا، علمت أنه كان كينيرد. ولكن عرف بلاكيت كل تلك المعلومات منه. كان سيدريك في المطبخ حينذاك وهرَّب كينيرد. لقد كنت على مشارف الموت في تلك الليلة يا بوب.»

أصرَّت السيدة بيل كلينتون: «ولكنك لم تعتمد في ذلك إلا على شهادة خادم الضيافة. وأنت اعترفت أن الخادم ليس لديه دليل ضد السيد كينيرد. إضافة إلى ذلك، كيف أُقنع الخادم بارتكاب هذا الفعل؟»

قال سانكروفت: «لقد وظَّفه خادم ضيافة في المجلس … أوه، لا، تلك النقطة ليس لها عَلاقة بالموضوع … منذ سنتين. كان يعطيه فرصة أخرى. ولو لم يفعل سيدريك ذلك من أجل كينيرد، لقضى عقوبة السجن المشدَّد، ولكن هذا ليس الدليل الوحيد الذي يملكه بلاكيت ضد كينيرد.» لم يأبه سانكروفت البتة بمشاعر أنيت إذ جلست تشاهد كل تلك الأحداث وكأنها تمثال. أحسَّ الجميع وفيهم جريس أن الموقف يزداد صعوبة وأصبح لا يطاق.

ساد شعور بالارتياح حينما توقَّف الكشف عن المزيد من المعلومات لمَّا عاد المفتش بلاكيت. كان وجهه مكفهرًّا وعابسًا. مشى إلى الموضع الذي تجلس فيه أنيت ووقف ينظر إليها. لم تحرك أنيت جفنها حتى. وجد روبرت نفسه مثبتًا بصره على انحناء صدرها. كادت الدموع تذرف من عينيه. ما الذي يعنيه الأمر بالنسبة إلى كينيرد؟ ولكن هي … هل تورطت في ذلك … هل سيلقي بلاكيت القبض عليها؟ إذن، بلاكيت يعرف معلومات أكثر مما أفشى بها له. «أنيت، أنيت.» أحسَّ أنهم جميعًا يسمعون دقات قلبها. أراد أن يخنق بلاكيت قبل أن يتفوَّه المفتش بما أتى ليتفوَّه به.

قال المفتش متجهمًا: «آنسة أويسيل، فُتش هذا المبنى من أعلاه إلى أسفله، ولكن لم نعثر على كينيرد. هل لديكِ أي فكرة عن مكانه؟»

قالت أنيت: «ليس لديَّ أدنى فكرة.» لم تحرك أي عضلة باستثناء شفتيها.

قالت السيدة بيل كلينتون غاضبة: «وبالطبع لن تخبرك إن كان لديها فكرة عن مكانه. لم أسمع عن شيء كهذا من قبل.»

نظر المفتش بلاكيت إلى اللورد دالبيتي. كان واضحًا أن استمرار أي تحقيقات مع الآنسة أويسيل أمر مستحيل ما دامت آيفي الجسورة حاضرة في الغرفة. قال اللورد دالبيتي بلطف بالغ: «آيفي، أعتقد أنه حري بكِ أن تأخذي الآنسة ريتشاردز معك وتقدمي لها العشاء وربما يرغب السيد سانكروفت أيضًا في تناول الطعام، لقد جدَّا في العمل ولم يأكلا شيئًا كما تعلمين، وبعد ذلك يمكننا التحدث إلى أنيت ونرى إن كان هناك أي طريقة للمساعدة.»

صاحت السيدة بيل كلينتون: «مساعدة أنيت! تريدني أن أترك الفتاة البائسة معكم جميعًا كي تُخضعوها لتحقيق مشدَّد عن رجل وقعت في غرامه.» تذكرت السيدة الغاضبة كل الخطب التي ألقتها عن العدالة في حضور امرأة حينما تأخذ الشرطة أقوال الشهود. فهل ستضرب بكل تلك الخطب عُرض الحائط حينما تحتاج صديقتها إلى المساعدة؟ ذهب إليها اللورد دالبيتي ووضع ذراعه على كتفها إذ كان يعرفها حق المعرفة وكان تأثيره فيها قويًّا. قال بلطف بالغ: «آيفي، يجب أن تثقي بي. سأحرص على ألا تتعرض أنيت إلى وسائل الترهيب، ولكن يجدر بك أن تذهبي الآن وتأخذي الآنسة ريتشاردز معك.»

لن يُجدي الاحتجاج نفعًا بعد الآن. خرجت السيدة بيل كلينتون من الغرفة وتبعها جريس وسانكروفت. تركتهما في الطرقة من دون أن تنبس ببنت شفة. قال سانكروفت لمَّا رآها تمرُّ مسرعةً في الطرقة: «على الرغم من ذلك، ستكون في حالٍ جيدة ما دام هناك أحد بجانبها في هذا التحقيق.» كادت دموع جريس تُسكَب. لم يكن سهلًا البتة أن ترى روبرت ويست ضائعًا في عشقه المطلق لأنيت أويسيل. وفجأة، أدرك سانكروفت ما خطبها. ومن دون كلمة أخرى، وضع ذراعه في ذراعها. «لنتناول الشطائر يا عزيزتي. لنذهب إلى الحانة.»

وبداخل الغرفة جيه، حمِد روبرت ربَّه على أنه لم يؤمر بالخروج هو الآخر. أحسَّ أنه سيفضل إثارة الشغب على أن يترك أنيت بمفردها، ولكن بالطبع … لم يفعل. عجزه جعله يشعر بالوهن. هل سيستمر ضبط النفس لدى أنيت؟

الآن، لم يَعُد يغضب من السيدة بيل كلينتون إذ أصبحت نبرة صوت المفتش بلاكيت أرق. «السيد كينيرد خطيبك، أليس كذلك يا آنسة أويسيل؟»

أجابت أنيت: «إنه زوجي. أعرف أن القانون الإنجليزي يُعفيني من ضرورة الرد على المزيد من الأسئلة عنه.»

ساد صمت وكأنهم في القبور. وكان كل رجل يسمع صوت أنفاسه. اقترب ويست وجليسون ودالبيتي بعضهم من بعض دون أن يعوا تقريبًا. لا يزال بلاكيت يقف منحنيًا قليلًا على أنيت، رمز القانون اللعين.

وقفت أنيت وواجهتهم جميعًا. هل بدأ تملكها العظيم لنفسها ينهار؟ كانت شفتها السفلى ترتجف قليلًا. قالت فجأة: «لكن بلى، سأخبركم. ستسمعون الجانب الآخر قبل أن تسمعوا المزيد من الأقوال التي تدينه. لقد أحببت فيليب منذ أن تركت المدرسة. كان في حياتي رجال آخرون … لكن فيليب كان حبي الحقيقي دومًا. في البداية، كان مجرد صديق لجَدي وكنت أنا مجرد فتاة. ولكنه بدأ يحبني. بادلته الحب، ولما أراد أن يتزوجني بعد ذلك، كرهه جدي. ما برِح يريدني أن أتزوج ذلك النبيل الفَرنسي المعتوه. لكن كان جَدي يعلم أنه لن يستطيع كسري. لم يحاول … لم يحاول مباشرةً. لم يكن عطوفًا عليَّ البتة، ولكنه اعتقد أنه يمكن أن يكسرني عن طريق فيليب. تظاهر أنه وافق على فكرة زواجنا. ولكني لم أنخدع بذلك … فأنا أعرفه حق المعرفة. إنه لم يتغيَّر البتة. ومِن ثَم حذرت فيليب، ولكنه لم يصدقني. ساعده جَدي على جمع ثروته. وعندها حاز على ثقته التامة …» توقفت عن الحديث. ولكن لم يتحدث أحد. قالت: «حطمه جدي.»

شعر روبرت بالدُّوار. هذه الكلمات نزلت على مسامعه كأنها حُكم بالإعدام. أردفت أنيت متباطئة: «فيليب أصابه اليأس، لكنه ظنَّ أن الخطأ من عند نفسه. جَدي لم يبارِه أحد في الذكاء. لقد شجَّعه. ولا أحد مستهتر مثل فيليب. ثم رفعَه جدي إلى مكانة عالية حيث زوَّر أوراقًا مالية، وجعلها جدي بين يديه. أوه، أعلم أنه ما كان له أن يفعل ذلك … فيليب، أعني … لكنه كان يائسًا. أحسَّ أنه لا يجرؤ على إخباري. ولو فعل، لتعاملت مع جدي بطريقتي الخاصة.»

توقَّفت أنيت مرة أخرى. وضع اللورد دالبيتي ذراعه حول كتفيها وأسند ظهرها برفق على كرسيها. قال بصوت هادئ: «أوه يا عزيزتي، لماذا لم يأتِ إليَّ؟»

«لماذا لم يفعل … ولكن كان يجب أن يخبرني أنا. لم أخَف البتة من جدي. ولكنكم تعرفون فيليب. إنه مُعتدٌّ بنفسه مثل لوسفير. وأخبره جَدي أنه سيخبرني بما فعل إن لم أتزوج ذلك النبيل الفَرنسي المعتوه كما سيرمي عليه التهمة ويُدخله السجن.»

«ولكن إن كنت متزوجة من كينيرد بالفعل …؟» نبرة السيد جورج تخلَّلها الاندهاش.

«نعم، ولكني كنت قاصرًا حينما تزوجنا، وظنَّ فيليب أنه إذا زُجَّ به إلى السجن وعلمت فعلته تلك، فسأُضطر إلى الطلاق وأقضي أيامًا عصيبة مع جدي حينما يعلم بزواجنا من دون موافقته.»

أحسَّ السيد جورج بأن الآباء الإنجليز هم الأفضل على أية حال، ومِن ثَمَّ قال متعاطفًا: «أظن أنك مررت بوقت صعب.»

قالت أنيت بعد نفاد صبرها: «هذا هراء. قلت لكم إنني لم أخشَ جدي البتة. يعتقد الجميع أنه غول، ولكنه لم يُسمعني كلمة قاسية في حياته. ظاهره لا يدل على باطنه. ولو علمت أو لو أعطاني فيليب ولو أدنى فكرة، لتمكنت من خلع هذا المظهر الخادع عنه بسرعة ولأَصلح الأمور لفيليب.»

سأل اللورد دالبيتي: «إذن، لماذا لم تخبريه بنفسك عن زواجك؟»

«لأنني كنت حمقاء رومانسية وسخيفة. لأنني أحببت مغامرة إقامة العَلاقات مع الرجال الآخرين، وأن أحتفظ بذلك السر طَوال الوقت. لكنني لم أحبَّ غير فيليب على الرغم من أنه كان شديد الغَيرة.»

قال دالبيتي: «بدأت أشعر بالأسى تجاه فيليب الموضوع بين مطرقتك وسندان جدك. لا بدَّ أنه مرَّ بوقت مروِّع.»

اغرورقت عينا أنيت الجميلتان بالدموع. «أدركت ذلك الآن. لقد ضغطناه بيننا، ودفعناه من فوق جبل. لقد أحبَّني حد اليأس وأنا تلاعبت بذلك الحب. كنت أدفعه إلى الجنون في بعض الأوقات. وطَوال الوقت كان جَدي يضغط عليه ويهدده. لقد عوَّلت على خجل فيليب الذي منعه من إخباري … وهذا ما حدث، ولكن فات الأوان. لقد ضغط عليه جَدي كثيرًا. قرَّر فيليب أنه لا أملَ أمامه إلا إن استحوذ على ذلك الدليل الذي يدينه. كان يعلم أن الأوراق محفوظة في الشقة … تلك الأوراق التي ستدينه. واضطُررت إلى سرقتها. إنه من خطَّط للسطو على الشقة ولكنه لم يعمد إلى قتل جينكس. لقد انزعج كثيرًا من حدوث ذلك.»

سأل السيد جورج: «لكن لماذا قتل السيد أويسيل؟ أما كان كافيًا أن يسرق الأوراق؟»

«لكن جَدي بطبيعة الحال كان سيقول هي الأوراق التي سُرقت وسيشك في فيليب على الفور. أظن أن جدي كان سيسعد لو فعل فيليب ذلك. وهذا كان من شأنه أن يُصلح الأمور معي بقدر ما كان مهتمًّا. أدرك فيليب ذلك. لقد أجنه الغضب والخوف … وبدأ يحتسي الخمر بشراهة. كنت أتمنى لو كان عندي أدنى فكرة عما يُقلقه، ولكنه لم يخبرني بشيء. بدأت زياراته إلى شارع كلارجس تقل رويدًا رويدًا، لقد كان يعيش هناك بالفعل، ولكن بالطبع كان يأتي بالقدر الذي يُبعد شكوك جَدي عنا. وأنا ظننت أنه توجد امرأة أخرى في حياته، وبدأت أجعله يشعر بالغَيرة. لقد مرَّ بوقت مُروِّع وجدي يشاهد وينتظر. آه يا فيليب.»

وقف السيد جورج جليسون في ظل جدار واضعًا يديه في أعماق جيوب سترته. موظف حكومي عملي وبعيد عن التأثر بالعواطف كما كان يظن نفسه، ولكن في تلك اللحظة تمنى لو كان هذا الشيطان العجوز حيًّا حتى يهشمه بقبضتيه.

تسمرت عينا روبرت على بقعة الدموع الكبيرة المتجمعة في جفون أنيت. هل ستسقط؟ هل ستنهار؟ كان على استعداد أن يُطلق الرَّصاص على رِفاقه في تلك اللحظة في سبيل ثانية كي يهدئها. لم يشعر بالغَيرة من فيليب كينيرد. بل إنه لمس بعضًا من العذاب الذي مرَّ به حتى الآن.

استاء المفتش بلاكيت من الأجواء العاطفية التي تثيرها تلك المرأة وأراد أن يصل إلى الحقيقة الكاملة، ومِن ثَم طرح السؤال: «هل تعرفين أي شيء عن … إممم … المكيدة التي دُبرت قبل قتل جدك؟»

«أوه، بالطبع لم أعرف شيئًا. ليتني كنت أعلم شيئًا! لم أرَ فيليب في تلك الليلة. فقد كنت في حفلٍ راقص. اتصل بي هاتفيًّا قبلها. وعندما رجعت وجدت الشرطة منتظرة. كان يعلم أن الشرطة ستكون هناك ولم يُرد أن يُشعرني بالخزي. أعني لم يُرد أن يتواجد هناك على الإطلاق. اتصلت به هاتفيًّا صباح اليوم التالي، وطلبت منه أن يذهب معي إلى وزارة الداخلية. لم يكن يعرف ما سأقول. لم يتجرَّأ على قول شيء عندما ثار غضبي في السيارة بعدما نفِد صبري من رواية الشرطة بأن جدي قد انتحر. وهو يعلم أن الأمل الوحيد أن يبدوَ موته وكأنه انتحار. لقد خطط كي يبدو كذلك. ذهب معي بالسيارة إلى وزارة الداخلية كي يغطي على خطته، على حدِّ علمه. ولكنه لم يتفوَّه بكلمة. آه يا فيليب، يا فيليب …» اختنق صوت أنيت بالنُّواح. نظر روبرت إلى دالبيتي يائسًا. قال بصوتٍ هادئ: «هل تريد أن يستمر هذا التقطيع وهي حية؟»

همس دالبيتي: «لا بدَّ أن نتوصل إلى الحقيقة كي نستطيع مساعدتها.» إنه على حق. ربما أظهر جليسون الرحمة، ولكن بلاكيت كان تجسيدًا للقانون المجرد من الأهواء.

سأل بلاكيت بهدوء: «وهل اعترف لك؟»

قاطعه ويست: «وهل هذا عدل يا سيدي؟» إذ توسَّل إلى دالبيتي لكنه أسكته بإيماءة منه. يجب الوصول إلى الحقيقة — الأفضل أن يعرفوا الحقيقة أولًا. يبدو أن أنيت أحسَّت بذلك هي الأخرى، إذ لا يوجد غير الأصدقاء الذين بإمكانهم المساعدة وإذ يجب أن يعرفوا كل شيء.

ظلَّت صامتة للحظة ثم قالت: «اعترف لي في الليلة بعد إجراء التحقيق … جاءني في تلك الليلة … عرف من أقوال المفتش بلاكيت أن الشرطة لم تنخدع وأنها لم تقبل نظرية الانتحار كما تقول الصحف. لم يتحمل كتمان السر في تلك الليلة. كان يعلم ماذا يعني لي أن تخرج الحقيقة رويدًا رويدًا، ويعلم أن انتحاره لن يُنقذني، وربما أظهر وكأني شاركته في جريمته إن كُشف أمر زواجنا وأنني سأرث هذه الثروة. ومِن ثَم أخبرني بكل شيء.»

بتلك الكلمات، أدركَ الرجال الثلاثة ما الحديث الذي ذكره لها. لن يقع أي لوم على أنيت. في تلك اللحظة، كانت في أفضل حالاتها، وفهم كينيرد ما كان يغامر من أجله وفقده؛ كينيرد المُساق البائس المتهور.

بدا صوت المفتش بلاكيت غير لائق بالجدية حين كسر حاجز الصمت إذ قال: «هل ثبت هذا المسدس بنفسه؟ هل قصد أن تبدو الجريمة وكأنها انتحار؟»

«نعم، أنا التي سهلت عليه المُهمَّة، وأنا التي أعطيته الفكرة من دون أن أدري. أخبرته عن العشاء، وضحكت معه على خطاب السيد ويست الذي يعتذر فيه عن أن الوزير سيُضطر إلى تركه في الساعة التاسعة من أجل التصويت. وهو الذي وفَّر الوظيفة لسيدريك خادم الضيافة. كانت كل الظروف مواتية. ثبَّت سيدريك المسدس حينما كان في نوبة عمل مبكرة. لم يفعل شيئًا سوى أن أغلق الباب. وكان سيعتذر لو أراد أحد الدخول ولكن لم يأتِ أحد. لم يرَه أحد. ولو لم تحرس الشرطة المكان، لتمكن من إبعاد المسدس بعد ذلك من دون أن يعلم أحد أنه كان في ذلك المكان.»

تحدَّث جليسون إلى دالبيتي بصوت منخفض: «إنها فكرة مرحة أن يكون ارتكاب هذه الجرائم بتلك السهولة في مجلس العموم لمجرد أن لا أحد يتوقع ارتكابها.»

قال اللورد دالبيتي: «ولكن كيف توقع أن تبدو الجريمة وكأنها انتحار؟ من أين أتته الثقة بأن جَدك سوف يأخذ مسدسه؟»

«إنه يعرف جدي جيدًا لدرجة أن يكون واثقًا من معلومة كتلك، لا سيما أن جدي علم مسبقًا أنه سيُترك وحده ولو لبضع دقائق. وفي اليوم السابق في طريقنا بالسيارة، تحدَّى جدي في الرماية. اتخذت مقعد السائق. وهذا سهَّل عليهما الحديث. كان جدي فخورًا بمهاراته في الرماية. أطلق كل منهما رَصاصة، كلٌّ بمسدسه على علامة في شجرة. أصاب جدي الهدف. سُر جدي بذلك أيما سرور، ومِن ثَم أعاد المسدس إلى جيبه. بالطبع هذا ما أراده فيليب. بدا هو وجدي وكأنهما صديقان حميمان في ذلك اليوم. لماذا لم أشكَّ في أي شيء؟»

ساد الصمت مرة أخرى. أحسَّ السيد جورج جليسون بتضاؤل تعاطفه مع كينيرد بعض الشيء. وُضعت المكيدة بدم بارد، ومهما كان الاستفزاز، فإنها لا تشبه إطلاق النار على رجل في حالة غضب.

سأل اللورد دالبيتي: «وماذا عن المفكرة؟» إنه يعلم ما يريد الوصول إليه. بمجرَّد أن تتضح المسألة للحكومة، فقد يكون هناك مخرج لمساعدة أنيت المسكينة.

«أوه، المفكرة! في البداية، اعتقدت أن اللصوص كانوا يبحثون عن تلك المفكرة. وعندما عرَفتُ الحقيقة، ظللت أروِّج لتلك الفكرة لأنني أردت لفت الانتباه بعيدًا عن الأوراق التي رتَّب فيليب لسرقتها. ومن حديثي مع السيد ويست، خمَّنت أن الحكومة لديها شيء تُخفيه. وعندما أدركت ما فعلت حينما ذهبت إلى وزارة الداخلية وأحدثت ضجَّة بأن الحادث لم يكن انتحارًا، ظننت أنها ستضلل الشرطة. ولما كان الوضع كما قلت، فكان لا بدَّ من الاعتراف.»

قالت تلك العبارة بنبرة تثير الشفقة ما دفع ويست إلى موافقتها من أعماق قلبه. قال: «بالطبع لم يكن انتحارًا! لقد حوصرنا تمامًا.» قال في نفسه، يا إلهي، ماذا كان شعورها لما أدركت أنه ربما ساعدت في لف حبل المشنقة حول رقبة حبيبها — يا لها من شجاعة أظهرتها!

أنيت في حالة يُرثى لها، أنيت المتوسلة الرقيقة، حالتها تُذيب قلبًا أقسى حتى من قلب السيد جورج جليسون. كان اهتمام بلاكيت الوحيد هو إنجاز عمله على الوجه الأكمل، ولكنه بدأ يخاف من تأثير تلك العينين الدامعتين. عرَف مكان كينيرد. لن يهتم دالبيتي وويست إلا بأنه ستظهر براءة الحكومة الآن. أظهر التعبير على وجه السيد جورج أنه حتى هو لن يكون حليفًا موثوقًا به في الوقت الحالي. لا بدَّ أن يجعل تلك الفتاة تتحدث في صُلب الموضوع بسرعة، ومِن ثَم يمكنه — بصفته محققًا حساسًا — مواصلة وظيفته المتمثلة في تقديم القتلة إلى العدالة من دون أن يعيقه أصدقاء الوزراء ونساء المجتمع القويات أمثال السيدة بيل كلينتون في كل منعطف.

حاول مواصلة تحقيقه. «وأين السيد كينيرد الآن يا آنسة أويسيل؟»

نظر اللورد دالبيتي إلى السيد جورج جليسون بنظرة ذات مغزًى، ومِن ثَم أومأ إليه إيماءة خفيفة.

قال دالبيتي: «أعتقد أن هذا كل ما نتوقعه من الآنسة أويسيل الليلة يا بلاكيت. على أية حال، فقد ساعدت الآنسة أويسيل الشرطة كثيرًا بما قالته. لقد برَّأت الحكومة تمامًا وتلك مسألة مُهمَّة حقًّا في الوقت الحالي. وبصفتها زوجة السيد كينيرد، كان بإمكانها أن ترفض الإدلاء بأي حديث. أعتقد أنه يجب ألا نزعجها أكثر من ذلك. ربما نُكمل غدًا …»

نهضت أنيت. ثم استندت إلى ذراع روبرت. «شكرًا لك، لورد دالبيتي. أرجو من السيد ويست أن يأخذني إلى سيارتي …» تمنى كل رجل في الغرفة باستثناء المفتش العملي أن لو يحصل على هذا الامتياز، ولكنهم تنحَّوا جانبًا لما رفع روبرت وشاحها عن كرسيِّها ووضعه على كتفَيها. مشيا معًا من الغرفة.

كانت الجلسة التي تناقش التحقيق المؤجل التي أعقبت التصويت الأخير على وشك الانتهاء وهما يسيران في الطرقة. بدأت الأجراس تدق لما نهض المجلس. وفي نهاية الطرقة، أتت صيحات رجال الشرطة، النداء الأخير في اليوم البرلماني: «من سيذهب إلى المنزل؟ من سيذهب إلى المنزل؟»

وقفت أنيت عند المدخل. نظرت إلى ساعة بيج بن. قالت بصوت هادئ: «ذهب فيليب إلى المنزل. ونسيت الشرطة أمر النهر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤