الفصل التاسع

لمَّا عبَر ويست ساحة القصر وانعطف إلى مقر شرطة سكوتلانديارد، ومن الواضح أنه يتحدث بشكل عفوي إلى المفتش بلاكيت، تملكه شعور كأن لغمًا يكاد ينفجر تحت قدمه. دقق النظر في ساعة بج بن عسى أن يجد الراحة وهي تقف مثل حارسٍ ضخم تحت قُبة السماء الزرقاء الصافية. بدا وجه الساعة مألوفًا جدًّا لدرجة أن ويست حاول التخلُّص من الفكرة التي كثيرًا ما كانت تطرأ في ذهنه في تلك الأيام، كان يفكر أن هذا كله ليس سوى واجهةٍ مزيفة وأن واقع البرلمان شيء مختلف تمامًا، وأن مقر الحكومة الحقيقي قد انتقل إلى مكان آخر، انتقل إلى شارع لومبارد أو ربما إلى ما بعد المحيط الأطلسي.

تحدَّث إلى بلاكيت بنبرة غير مألوفة: «أجد نفسي أفكر في أويسيل البائس المتوفى … ثعلب قتلته ضربة من براثن أسد مُحتضَر.»

انذهل بلاكيت: «أسد مُحتضَر يا سيدي؟»

ضحك ويست. «إنه مجرد خيال. أنا لا أعرض عليك نظرية جديدة بشأن جريمة القتل.»

فتح بلاكيت خزانة في مكتبه الصغير البارد بمقر شرطة سكوتلانديارد، ووضع على الطاولة الأشياء التي تشكل ما أسماه «حرز جينكس» واحدًا تلو الآخر. مثيرة للشفقة تلك النثريات التي نخلفها وراءنا. اكتسب ويست العديد من التصرفات البسيطة النابعة من دماثة الأخلاق وينبغي أن يشكر عليها الرجل الميت، شعر بالخجل قليلًا حينما نظر إلى المحفظة البالية ومجموعة صغيرة من الخطابات وبعض الصور الفوتوغرافية والبطاقات المتعلقة بالأحداث الرياضية.

في النهاية، وضع بلاكيت على الطاولة مفكرة صغيرة ذات غِلاف أسود من الجلد المتهرِّئ.

شعَر ويست كما لو أن قلبه توقف عن النبض. أخذ المفكرة. وجد بداخلها بعض الأرقام المكتوبة بطريقة عشوائية على ما يبدو، وبعض الكلمات المكتوبة بحروف ذات لون أسود وكأنها شفرة، وبعض الطلاسم الغريبة. كل تلك التفاصيل تتطابق مع الوصف الدقيق الذي ذكرته أنيت عن المفكرة؛ إذ قالت إنها الشيء الفعلي الذي سعى اللصوص إلى سرقته.

إذن، كيف وصلت إلى جيب إدوارد جينكس، الرجل الذي أرسله وزير الداخلية خصوصًا كي يحرس أويسيل وكل ما يمتلكه؟

هل يُعقل أن يكون لوزير الداخلية يد في أي شيء؟ شعر كأن المكتب يدور به. لم يرفع روبرت عينيه عن المفكرة كي يُخفيَ حيرته التامة. بالطبع ربما لا يعلم وزير الداخلية شيئًا … لكن ما معنى هذا كله؟ سُر روبرت أنه تمكَّن من كبح دهشته إذ لربما أثارت الشك في قلب بلاكيت. لا بدَّ أن يتبين طريقه إلى حل اللغز قبل أن يثق حتى بالمفتش، حيث إنه في النهاية موظف لدى شرطة سكوتلانديارد وليس موظفًا لدى الوزارة.

لا بدَّ أن ترى أنيت تلك المفكرة للتعرف عليها. لكن كيف يتمكن من الاستحواذ عليها كي يريها إياها من دون أن يوضح لبلاكيت أهميتها، إذ لن يسمح بإخراجها من مكتبه من دون سبب وجيه.

قال روبرت بنبرةٍ بطيئة وحذرة: «إذا فهمنا ما في تلك المفكرة يا بلاكيت، فربما توصلنا إلى أي معلومة مما نريد التوصل إليه.»

أخذ بلاكيت المفكرة وقلَّب في الصفحات. «هل تظن ذلك؟ يُخيَّل لي أن جينكس دوَّن ملاحظات عن رهاناته وربما ملاحظات في شكل شفرات من تأليفه.»

«لكن ربما تكون أهم من ذلك. ربما دوَّن جينكس ملاحظات عن تجاربه مع أويسيل. تعرف أن الرجل كان جيدًا في حكي القصص. وكثيرًا ما أخبرته أن يكتب ذكرياته يومًا ما.»

اخترع ويست تلك القصة في وقتها، ولكن يبدو أنها أثارت اهتمام بلاكيت. ففي النهاية، ويست يعرف جينكس أكثر مما يعرفه بلاكيت.

«ربما توجد معلومات في تلك المفكرة يا سيدي. سنكلف رجال فك الشفرات بالبت في شأنها على الفور. فربما يتوصلون إلى أي شيء قد ينطوي على أي معنًى.»

كان هذا الاقتراح آخر شيء يريده ويست.

قال متثاقلًا: «نعم، بالطبع، هذا اقتراح جيد. لكن … إممم … كما تعلم يا بلاكيت، تنطوي تلك القضية على العديد من المسائل الحساسة. اسمعني، لقد كنت خبيرًا كبيرًا في فك الشفرات. وكان ذلك الشيء الوحيد الذي برعت فيه حينما كنت في الدراسة.» بدأ ويست يتخيَّل نفسه مستعدًّا لأن يكذب. «اسمح لي أن آخذ تلك المفكرة ليلة واحدة. ربما أتوصل إلى شيء منها، والأجدر ألا نُدخل أي مسئول مهما كان محلَّ ثقة في الوقت الحالي.»

تردَّد بلاكيت. الاقتراح مخالف للقواعد وكل ما تمرس عليه، ولا يُسمح بإبعاد المستندات عن يده أو من خزانته ولو للحظة واحدة. وعلى الجانب الآخر، كان ويست — نوعًا ما — يتحلى بالمسئولية أكثر منه في تلك المسألة من وجهة نظر الحكومة، واضطُر إلى أن يفكر في السيد جورج جليسون. لا بدَّ أن يبقى على اتصال مع ويست إذا كان عليه إنجاز أي شيء يتعلق بحل أي عقدة في تلك المسألة الشائكة التي لا يُعرف بدايتها ولا نهايتها.

قال: «الاقتراح مخالف للقواعد تمامًا يا سيدي.»

تحلَّى ويست بقدر كبير من المراوغة في مناقشة تلك النقطة.

قال ببساطة: «يجب أن يثق بعضنا ببعض يا بلاكيت.» شعر بعدم الارتياح إلى حدٍّ ما من التأثير الناتج لأنه لم يكن يثق ببلاكيت، لكن قال المفتش: «حسنًا يا سيدي. على أية حال، لن تُطلب المفكرة حتى الصباح. ستحرص على أن تكون أول شيء تعيده إليَّ. فقد نُضطر إلى عرضها في التحقيقات.»

وضع ويست المفكرة القيمة في جيبه وانطلق مباشرةً إلى مكتبه في وزارة الداخلية واتصل بأنيت هاتفيًّا. أرادت أن تراه على الفور. بدا وكأن سيارة الأجرة استغرقت فيما يبدو وقتًا طويلًا للغاية وسط الزحام إلى أن وصلت شارع كلارجيز.

شقة أنيت مصبوغة بطابَع شخصيتها الكتومة بدرجة غريبة. الجدران والسقف والسجاد والستائر، تحتوي كلها على المسحة نفسها من البرشمان القديم. الأثاث الحديث مصنوع من الخشب الأسود. مظاهر الألوان الوحيدة كانت في لوحة من تصميم جوجان وأنيت نفسها؛ إذ كانت ترتدي فستانًا طويلًا من القماش المخملي البرتقالي. من الواضح أن الحداد كان واجبًا تعيَّن عليها تحمله.

من الصفات المميزة لها أن الابتسامة هي وسيلتها الوحيدة في التحية. شعَر روبرت أن عليه تقمُّص الحزن مثلها. كان على أنيت أن تحقِّق ما يُرجى منها. أخرج المفكرة الصغيرة من جيبه وأراها إياها.

سأل: «هل كنتِ تقصدين تلك المفكرة؟»

«نعم»، وأطبقت أصابعها عليها.

التقط ويست أنفاسه في لحظة من الخوف الشديد. كانت المفكرة مدخلًا جيدًا، ولكن ماذا لو لم تعطه إياها مرة أخرى؟ شعَر بالحماقة الكبيرة والحَيرة وهو بجانب تلك المرأة الأنيقة؛ لم يفهم ما الذي تسعى إليه، ولكن لا بدَّ أن يبقى متحكمًا في الموقف.

قال: «لقد حصلت عليها بصعوبة كبيرة. وقد اقترضتها من قسم الشرطة لبضع ساعات فقط. يجب أن آخذها معي مرة أخرى الليلة.»

«ولكنها ملكي. ترك لي جدي كل شيء كان يمتلكه.»

«مبارك لك. ولكن تلك المفكرة ليست مجرد تركة. قد تكون أهم حلقة في سلسلة الأدلة برمتها، ويجب أن تساعديني كي أعثر على قاتل جَدك.»

نظرت إليه أنيت بعينيها الغائرتين الصامتتين. «بالطبع. أشكرك على تحمل كل تلك المتاعب. سأفعل كل ما تريده مني.»

شعر بوب أن هذا كان محيرًا بالقدر نفسه تقريبًا. سأل: «هل أنت متأكدة من أن اللصوص كانوا يبحثون عن تلك المفكرة؟»

«أعتقد ذلك. إنها كتاب الشفرات الذي يحوي ملاحظات عن كل تعاملاته المالية. وعلى حد علمي، بالتأكيد كانت أهم مستند في الشقة في تلك الليلة. ولكن أين وجدتها؟»

«في جيب جينكس.»

سألت أنيت: «لكن لماذا؟ ما الذي كان يفعله بها؟ هل تعتقد أنه كان يحاول سرقتها؟»

قال روبرت بنبرة يختلجها القلق: «حسنًا، لم أسمع شيئًا كهذا عن جينكس. وما عَلاقته بتلك المفكرة على أية حال؟ هل تظنين أنه استحوذ عليها من اللصوص قبل أن يطلقوا عليه الرَّصاص؟»

«وهل كانوا سيتركونها معه إذا كان الأمر كذلك؟»

«كلا، لا أظن ذلك، ولكن بالطبع هناك احتمال آخر وهو أن يكون جَدك أعطاه المفكرة بيده كي يحفظها له. ذلك الاحتمال يتفق تمام الاتفاق مع ما أعرفه عن جينكس. كان السيد أويسيل يكسر قاعدته بأن يبعد عن المنزل في الليل. إننا نعلم أنه فكَّر كثيرًا بشأن جينكس. ومن المؤكد أن أبسطَ شيء يعطيه إياه هو المفكرة كي يعتنيَ بها.»

ارتسمت ابتسامة متثاقلة على شفتَي أنيت. «لم تعرف جَدي حقَّ المعرفة، وإلا لعرفت أنه ما كان ليفعل هذا الأمر بتاتًا. لم يثق في أي شخص ولا حتى فيمن أحبهم ولا حتى أنا. إنه لا يثق في أي إنسان سوى نفسه. أعلم أن هذه خصلة فظيعة، ولكنها الحقيقة.»

جلسا صامتَين. تساءل روبرت عن التاريخ الحقيقي لهذين الغريبين اللذين ألقى بهما القدر في مهبِّ حياته. كانت أنيت مختلفة كل الاختلاف عن كل اللاتي عرفهن. ليس معه مفتاح لمعرفة مزاجها. ود لو أنها تُرسم كما هي في جِلستها، مرتدية فستانها المخملي البرتقالي؛ إذ يعكس الألوان الغنية في لوحة جوجان التي تنبض بالحياة على الجدران التي تتخذ لون رق الكتابة القديم.

تتكئ بذراعها الأبيض على مسند كرسيها المصنوع من الخشب الأسود العادي، ولم يكن الخشب أشد لمعانًا أو سوادًا من شعرها. إنها تجلس ساكنة. كانت تتحدث من دون أن تتحرك، لكن لم يدرك روبرت السلام في سكونها، بل لمس قوة خفية تتحكم فيها بصلابة.

لم تُجدِ نفعًا محاولة جعل أنيت تتحدث بوجهٍ عام. ظهر هذا في تعاملها مع الصحافة. المشكلة أنه لا يعرف هل أرادت تقديم المساعدة، أم أن التحكم في الذات كان ستارًا تُخفي وراءه شيئًا، أم هل هذا موقفها المعتاد.

لكسر حاجز الصمت، قال بنبرة حزن: «إذن، تميلين إلى الاعتقاد بأن الأمور لا تبدو مُبشِّرة بشأن جينكس المسكين.»

فكرت أنيت في كلامه بعض الوقت، ثم قالت بنبرة هادئة: «لكن إن كان يحاول سرقة معلومات، فكيف عرَف أن هذه المفكرة هي المستند الأساسي الذي ينبغي سرقته؟ لا شك عندي أن جَدي لم يعطه معلومات عن ذلك. ما كان لأحد أن يعرف من الذي لا يجري مفاوضات فعلية معه.»

«إذن، هل تقصدين أن جينكس حاول الحصول على تلك المفكرة لشخص آخر يعرف أهميتها؟»

«يبدو لي أن هذا أوضح تفسير.»

«ربما يكون أحد أصدقاء جدك. هل تعرفينهم؟»

«نعم، أعتقد أنني أعرف كل الرجال الذين استقبلهم ضيوفًا. المهمة الوحيدة التي كان يطلبها جدي مني — مقابل كرمه السخي — أن أكون بمثابة مضيفة في حفلات عشاء العمل الصغيرة التي يقدمها. بالطبع كنت المرأة الوحيدة، وأغادر في نهاية الوجبة. لم أنضم إليهم البتة بعد احتساء القهوة. كانت تلك المهمة تافهة أمام كرمه معي.»

أعاد ويست على مسامعها الأسماء التي ذكرها بلاكيت. «سامحيني إن كنت تطفلت على شئونك بالفعل. هل كان هناك أحد غيرهم؟»

ابتسمت: «لا. يبدو أن معلوماتك كاملة تمامًا.»

أراد أن يذكر اسم فيليب كينيرد أمامها كي يرى ردة فعلها، ولكن يصعب قليلًا أن يسأل امرأة إن كان عشيقها لصًّا.

قال بأسلوب لبق: «أعرف كل هؤلاء الرجال جيدًا عدا كينيرد إذ لم أقابله سوى صدفة في المجلس. ألا تظنين أنه رتَّب تلك الأمور مع جينكس؟ أقصد … إممم … لا أريد أن أتهمه بالطبع.»

ظن ويست أن تنهال عليه بالقذع، لكن بقيت أنيت هادئة كما هي عادتها. «جينكس لم يحب فيليب كي يفعل شيئًا من أجله. هل تعرف طريقة فيليب مع الموظفين؟ إنه ليس لبقًا، ولم يكن جينكس موظفًا بالمعنى الحرفي للكلمة.»

«إذن، الاقتراح الوحيد الذي يمكن استخلاصه هو أن جماعة تنافس جَدك هي التي دبَّرت لذلك. لكن قتل رجل والسطو على شقته — على الرغم من غلبة تلك السمة على ولاية شيكاغو — تبدو طريقة غريبة نوعًا ما في إدارة عَلاقات الأعمال في لندن. إضافة إلى ذلك، لم يتصلوا هاتفيًّا برئيس الوزراء ويعرضوا عليه تولي الأعمال المتوقفة التي خلَّفها السيد أويسيل.»

ارتسمت ابتسامة أنيت المتثاقلة غير المعبرة على شفتيها. شعر ويست أنه لن يحصل على المزيد من المعلومات منها الآن. فقد تَثبَّت من هوية المفكرة. وعلى الرغم من أن المفكرة تعقد الأمور على ما يبدو في الوقت الحالي، فإنها بلا ريب مفتاح بالغ الأهمية، ولكن انطوت أنيت على نفسها مرة أخرى. عادت إلى حالة الصمت والموقف الدفاعي كما كانت في الصباح.

حاول ويست بشتى الطرق أن يُخرجها من تلك الحالة. أحسَّ أن شيئًا ما قد وقع في الساعات القليلة التي مرَّت منذ أن تحدَّثا في الشرفة المكشوفة. عندما كانت تحتسي الشاي معه، كانت ودودة وكتومة بعض الشيء. أما الآن، فكأنها استترت خلف لوح من الزجاج. لم يُجدِ نفعًا معها حينما قرر روبرت أن يحافظ على استمرار الحديث أطول فترة ممكنة إذ حاول أن يحوِّلها من التفكير في وقائع المأساة المحزنة إلى الحديث في الأمور العامة. لا يظهر منها أنها تريده أن يغادر. تساءل يا تُرى هل تشعر بالوحدة على الرغم من ثروتها أم تراها خائفة من شيء أو شخص ما.

انحنى إلى الأمام ووضع يده على يدها المتكئة على مسند كرسيها.

«آنسة أويسيل، أنا أريد المساعدة حقًّا. هل يقلقك شيء؟ لا أظن أنك ترغبين في الوثوق بي. ستشعرين أنني موظف لدى الحكومة البريطانية وحسب، وبالطبع لا بدَّ أنني كذلك، ولكن إذا كان هناك أي شيء يمكنني فعله من أجلك …» توقف عن الحديث متحيرًا. أراد أن يقول: «أوه، اللعنة على الحكومة، اتخذيني حليفًا لك، أريد أن أخدمك»، ولكن لا يخفى أنه لم يستطع التفوُّه بتلك العبارات ولن تصدقه إن تفوَّه بها.

وجد نفسه يُحدِّق النظر في يده التي كانت تضغط على يدها، وأجبر نفسه على النظر إليها. عيناها الزرقاوان الداكنتان تلألأتا للحظة. للحظة، كادت الدموع أن تنزل منهما.

تمتم: «أنا آسف … أنا …»

نهضت ووقف هو بجانبها ولكن من دون أن ينظر إليها. «هل في يدي ما أفعله من أجلك؟»

قالت: «لا، ليت بيدك شيئًا.» استجمعت رباطة جأشها. «تلك المفكرة غاية في الأهمية. مهمة لأقصى حد. إن تمكنت من الوصول إلى من كان يبحث عنها، فأنا متأكدة من أنك ستجد الحل للقضية بكاملها.»

وضع المفكرة الصغيرة في جيبه الداخلي وكأنها هدية صغيرة منها. قال: «يمكنك الاعتماد عليَّ. سأعرف هؤلاء الأوغاد.»

ابتسمت ومدت يدها. انحنى وقبَّلها، ولكي يخفي الحرج الطفيف للرجل الإنجليزي في تلك المجاملة، قال بنبرة هادئة: «أشعر كما لو كنتِ ترسلينني إلى الحروب الصليبية.»

«ربما. إلى اللقاء يا سيد ويست. أرجو أن تزورني قريبًا.»

امتلأ عقل روبرت بذكريات الفستان المخملي البرتقالي وهو عائد إلى مجلس العموم في سيارة الأجرة، هزَّه الزحام في ساحة البرلمان وأعاده إلى وعيه. انذهل لمَّا رأى حشدًا من الشرطة الخيالة بجوار نافذة مكتبه وفي الزحام. أخرج رأسه وألقى التحية على الشرطي المار به، إذ تعرَّف عليه الشرطي.

«ما الأمر أيها الضابط؟»

«مظاهرة بسبب البطالة يا سيدي. إن لديهم وفدًا مفوضًا للحديث عن سعر الخبز. لكنك ستمرُّ في بضع لحظات يا سيدي. الشرطة الخيالة عاكفة على إخلاء الميدان.»

شاهد روبرت الخيول المدربة وهي تفض الزحام أمامه. انزلقت امرأة معها طفل رضيع. فتح روبرت الباب كي يسحبها إلى سيارة الأجرة حفاظًا على سلامتها، ولكن ساعدها شرطي حتى وقفت على قدميها وجرفها الزحام معهم.

سعر الخبز. بذخ أنيت. لكن مسيرة من أجل الخبز لم تحدث في إنجلترا. أدرك روبرت فجأة أنه لم يشهد مسيرة من أجل الخبز في حياته من قبل. لقد قرأ عن المظاهرات في الثمانينيات والتسعينيات، والمسيرات الطويلة بسبب البطالة في عام ١٩١١. لكن إعانة البطالة حلت كل تلك الأمور. لقد خُفضت النفقات والخدمات إلى أقصى حد، ومِن ثَم …

تحركت سيارة الأجرة ببطء في سكون ساحة القصر. احتشد رجال الشرطة عند المدخل بدلًا من الشرطيين الودودين المعتادين. عندما دفع ويست الأجرة، وقف بضع لحظات عند المدخل ينظر عبر الساحة الساكنة المحاطة بالزحام المتلاطم المظلم بالخارج.

بدا المجلس بنوافذه المضاءة هو المركز الهادئ في الدوامة التي تعصف بلندن. تفاوض وزير منهك مع ممول أمريكي بالداخل، وبالخارج تقف المادة الخام لمعاملاتهم المالية، إذ تدافع وتظاهر الشعب الذي انتخب الوزير وسيدفع الفائدة على القرض. إنهم يريدون الخبز. إنها ليست إنجلترا — كان ستيوارت أورفورد على حق في تلك المسألة. إنها إنجلترا جديدة، وما الذي ينبغي فعله إزاء ذلك؟

دقَّ جرس التصويت من أجل آخر تصويت في ذلك اليوم. جرى ويست على السلم من أجل التصويت. ليس لديه أدنى فكرة عن موضوع التصويت. لكن تلك منطقة الراحة في مجلس العموم. إنها تمنح كل فرد الشعور بالراحة بأن «شيئًا ما قد تم». لكن ما هو وكيف تم ولماذا، فحتى الأفراد الذين كانوا ينجزون هذا «الشيء» لديهم فكرة بسيطة غير التفاصيل المباشرة التي ذُكرت في ذلك اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤