أولًا: مقدمة: وضع المسألة

الحكم والثورة هو الموضوع الأخير في علم أصول الدين، موضوع الإمامة، وهو قضية الحاكم والشعب، تنصيب الحاكم أو خلعه، وثورة الشعب سلمًا أم حربًا. يبدأ علم أصول الدين بالتوحيد، وينتهي بالثورة؛ وكأن التوحيد هو البداية، والثورة هي النهاية. التوحيد وسيلة، والثورة غاية. ومن الطبيعي أن ينتهي التوحيد نهايةً سياسية، وأن ينصب التوحيد في الثورة، والله في العالم؛ فالإمامة هي الموضوع الذي يربط بين التوحيد والفقه، بين العقيدة والشريعة، بين التصور والنظام. من خلالها يتحول النظر إلى عمل، من المستوى الفردي في الأسماء والأحكام إلى المستوى الجماعي في الإمامة. الإمامة إذن ليست مجرد مسألةً فرعية عارية من علم أصول الدين، أدخل في الفروع منها في الأصول، بل هي من الأصول العملية إذ كان التوحيد هو الأصل النظري. ليست مجرد مسألة سياسية صرفة لا شأن لها بالعقليات أو النقليات، بالإلهيات أو السمعيات. وقد يكون وضعها الفرعي هذا مقصودًا من أجل إبعاد الناس عن السياسة، وجعلها حكرًا على الحاكم، وجعل التوحيد فارغًا من أي مضمون، فلا تُحرك العقائد الناس، ولا يكون لها أي أثر في حياة الجماهير،١ بل إن وضعها كفرع لا كأصلٍ كان مجرد اقتراح فردي ومبادرة غير مقصودة، ثم تحوَّلت إلى تقليدٍ جماعي وفعلٍ مقصود، تقليدًا لا إبداعًا؛ فالدافع على ذكرها هو مجرد التقليد، بعد أن ذكرها أحد السابقين فتبعه اللاحقون، مع أن إيمان المُقلد لا يجوز طبقًا لنظرية العلم في المقدمات الأولى، وكأن العادة التي وضعها أحد الأوائل أصبحت سنةً يتبعها الخلف دون تعقيل أو تأصيل، ودون سند من عقل أو من نص.٢ وقد يكون من أسباب استبعاده هو أنه موضوع يُثير التعصب والغضب، وتحنق منه النفوس؛ فالبعد عنه أسلم، والخوض فيه أصعب، خاصةً لو أدَّى إلى خطأ وجهل. والحقيقة أن السياسة علمٌ محكَم يقوم على تحليل الوقائع دونما تعصب؛ فالسياسة في موضوع الإمامة تعني الأحزاب السياسية والصراع السياسي. وإن بنية الموضوع إنما تكشف عن هذا الصراع بالرغم من إعلان الأصول عن حياده وموضوعيته. وهو من الموضوعات النقلية رابع موضوع في السمعيات بعد النبوة والمعاد والأسماء والأحكام، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يصل بعقله إلى يقين في موضوع السياسة ويترك الأمر إلى النقل وحده؛ فموضوع السلطة السياسية الحجة فيه السلطة الدينية، الموضوع هو السلطة، والمنهج هو السلطة؛ فالإمامة من المنقولات وليست من المعقولات، كما أنها من الفروع وليست من الأصول،٣ كما أنها من المختصرات وليست من المطولات؛ وبالتالي يكتفي فيها بأقل القليل، وكأن الأقلام تسيل في الموضوعات النظرية الخالصة ثم تخفُّ في المسائل العلمية، وكأن موضوع الحكم والثورة لا يُساوي مواضيع المعاد وعذاب القبر والصراط والميزان، وكأن صلاح الدين بالمعاد أفضل من صلاح الدنيا بالإمامة.٤
والإمامة من المسائل المختلف عليها مثل باقي الأصول، تُكفر الفِرق فيها بعضها البعض. أما عند الفرقة الناجية فهي موضوع اتفاق! اتفاق السلطة في مواجهة المعارضة، وحدة السلطة في مقابل تشرذم المعارضة. هي أولى المسائل التي يقع عليها الخلاف بعد موت النبي ودفنه وصفة القرشية. قد يكون الدافع على إدخالها ضمن الأصول الرد على المبتدعة، وظهور اعتقادات فاسدة تتطلب الرد والتفنيد؛ فدخلت في علم الكلام لما كان هو العلم الذي يُدافع عن العقائد ضد البدع.٥ وقد يكون الدافع هو الدفاع عن الصحابة؛ أي الدفاع عن حزبٍ سياسي بعينه، والهجوم على الأحزاب السياسية الأخرى. تكشف الإمامة إذن الهدف السياسي للعلم كله؛ لذلك توضع المسألة في نهاية العلم كملحقٍ تاريخي يُفصل فيما وقع من خلاف، ويحكم بين المُتخاصمين، أو كنظرية في اختيار الإمام، ثم أحكام تاريخية على الخلافة الأولى دفاعًا عن الفرقة الناجية.٦ وقد يكون الدافع الرغبة في الدفاع عن السلاطين وأنظمة الحكم القائمة، والكشف عن إمام العصر، والدعوة إليه من على المنابر، وطلب الطاعة له؛ لذلك تكون المسألة نظرية في اختيار الإمام، إمام العصر، مع أنه ليس من شأن دراسة المشكلة السياسية الدعوة لأمير وإثبات شرعية سلطة.٧

(١) هل الإمامة فرع أم أصل؟

يعني هذا السؤال أن الإمامة قد تكون فرعًا من فروع الدين وليست أصلًا من أصوله، جزءًا من علم الفروع وليست أصلًا من علم الأصول؛ وبالتالي تكون العقيدة قائمة بذاتها دون تحقُّق في نظامٍ سياسي، ويكون الدين دون سياسة، والتصور بلا نظام، والعقيدة بلا شريعة، والإيمان بلا عمل، والنقل بلا عقل. وقد تكون الإمامة أصلًا من أصول الدين وليست فرعًا من فروعه؛ وبالتالي تتحقق العقيدة في نظامٍ سياسي، ويتحول الدين إلى سياسة، والتصور إلى نظام، والعقيدة إلى شريعة، والإيمان إلى عمل، والنقل إلى عقل. والاختيار الأول هو اختيار السلطة القائمة التي تشعر باللاشرعية، والتي تودُّ إبعاد الناس عن السياسة فيصبح الجمهور غير مسيَّس؛ وبالتالي تصعب الثورة، في حين أن الاختيار الثاني هو اختيار المعارضة التي تشعر بالشرعية في مواجهة نظامٍ لا شرعي، والتي تودُّ إشراك الناس في العمل السياسي، وتجنيد الجماهير للقضاء على نظام القهر والغلبة. الاختيار الأول يؤدي إلى استكانة الجماهير وإبعادها على العمل السياسي، فلا تنفع صرخات المُصلحين، والاختيار الثاني يؤدي إلى تخريب الجماهير، ونزولها إلى ساحة العمل السياسي ملايين هادرة لإسقاط نظم العمالة والقهر، ولا تنفع جيوش السلطان ولا أجهزة العملاء.

وإن معظم الحجج التي تُقدَّم لاعتبار الإمامة فرعًا القصدُ منها كلها إيهام الناس بأنها أمرٌ صعب لا يمكن أن يُعرَف، كله تعصُّب وهوًى، عليه خلاف، لا يهمُّ في الدين كما تهمُّ الأركان الخمسة! وهل الخلاف عليها يمنع من كونها أصلًا من أصول الدين؟ وأي شيء لم يحدث عليه خلاف، حتى التوحيد والعدل والوعد والوعيد والنبوة والأسماء والأحكام، وهي أصول الدين، قد وقع فيها الخلاف، ولم يمنعها ذلك من أن تكون أصولًا للدين؟ وهل الخلاف عليها يُقلل من شأنها ولا يجعلها أصلًا، والخلاف في الرواية وارد في كل العقائد؟ لذلك وُضعت شروط التواتر التي يمكن بواسطتها تأسيس علم يقيني، بالإضافة إلى شواهد الحس وبراهين العقل وحقائق الوجدان، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات الأولى. ونظرية العلم منذ البداية تُفرق بين العلم ومضادَّات العلم من شك وجدل وظن وتردُّد وتعصُّب وهوًى. وكيف لا تكون معلومة بالدين ضرورةً والقرآن كله حديث حول الإمام والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثير من الموضوعات السياسية؟ وكيف تكون الإمامة غير معلومة في الدين وهي الموضوع الأول الذي اختلفت عليه الأمة، وكان سبب نشأة علم أصول الدين؟ ولماذا تكون أقل من الأركان الخمسة؟ وما قيمة الشهادتين في العبادات دون إمامة أو جهاد في المعاملات؟ إن استبعاد الإمامة مثل استبعاد الجهاد كأحد أركان الدين إنما كان محاولةً مقصودة لعدم تسييس الدين، واعتبار السياسة حكرًا على السلطة، وإبعاد الجماهير عنها حتى يستأثر بها الحكام. ولماذا لا يكفُر مُنكرها كما يكفُر مُنكر السمعيات وهي موضوعاتٌ نظرية خالصة لا تعمُّ بها البلوى؟ وأيهما أولى بالكفر؛ من يُنكر الملكين أو عذاب القبر أو الصراط، أو من يقهر المسلمين ويستذلهم ويتسلط عليهم ويستغلهم ويُصالح الأعداء؟ وبطبيعة الحال يشوب الموضوعَ حماسٌ وانفعال؛ فالسياسة ليست فقط علمًا نظريًّا فحسب، بل هي ممارسةٌ عملية، وتحزُّب ومواقف وتعارُض مصالح وتصادم قوًى؛ فمن الطبيعي أن يسود الهوى في الممارسة، وأن يتدخل في صياغة النظرية. ومع ذلك فإن نظرية العلم قادرة على الفصل بين العلم والهوى، بين اليقين والظن.٨
الإمامة إذن أصلٌ من أصول الدين وأحد أركانه الرئيسية؛ فالإنسان حيوانٌ سياسي بقدر ما هو حيوانٌ عاقل، ولكن هل يعني ذلك أنه لا تفويض للعامة فيها، أو تركها للناس، أو عدم قيامها على المصلحة، وإنما تكون غيبيةً دينية إلهية تفويضية؟ يبدو أن اعتبار الإمامة مجرد مصلحة فئة وليست مصلحة عامة وُلِد ردَّ فِعل مُضاد يجعلها خارج المصلحة كليةً. ولدت الذاتية النسبية أسطورة غيبية مع أن المصلحة العامة أساسٌ موضوعي تُقدَّم عليه الإمامة؛ ومن ثَم ينقلب الموقفان إلى هوًى وهوًى مُضاد، إلى ذاتية وذاتية مضادة، ويغيب الأساس المصلحي العام، وهو الأساس الوحيد للسياسة.٩
ومع ذلك تظهر الإمامة كأنها أصلٌ خاص داخل الشِّق العقائدي للفِرق المختلفة سواءً دون نظام، مجرد أصل، أو كأصل في نظامٍ مرتَّب، الأصل الرابع أو الخامس أو السادس أو الثاني عشر. وهنا يكون الأصل والموضوع والركن والعقيدة بمعنًى واحد.١٠ قد تدخل المسألة كإحدى مسائل السمع والعقل كأصلٍ رابع يتم طبقًا لها تصنيف الفِرق مع الصفات والتوحيد، والقدر والعدل، والوعد والوعيد، وهو السمع والعقل؛ أي إنها مسألة تتراوح بين النقل والعقل، وليست نقلًا خالصًا عاريًا عن العقل.١١ وقد تدخل الإمامة تحت الأصل الخامس «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».١٢ وقد تدخل كأحد موضوعات ستة يدور حولها علم التوحيد؛ التوحيد والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة اللطائف.١٣ ويظهر معها الجانب التاريخي في تفضيل الأئمة ومقارنتها؛ مما يدل على أنها مسألةٌ سياسية تاريخية، أي النبوة في التاريخ. ومع ذلك فقد تظهر مسألة الإمامة في موضوع النبوات، وبوجهٍ خاص في آخر مرحلة من مراحل النبوة؛ مما يدل على أنها ملحق للسمعيات لا ترتكز على أساسٍ عقلي، وأنها مرتبطة بخلافة النبي، فالإمام خليفة، وأنها استمرار للنبوة في التاريخ على الأرض، وليس في السماء كما هو في المعاد.١٤ وقد تظهر الإمامة كأحد موضوعات السمعيات مع النبوات والمعاد والأسماء والأحكام.١٥ وفي هذه الحالة لا تكون ركنًا خاصًّا أو عقيدةً خاصة. وقد تغيب المسألة عن بعض الرسائل المتقدمة لأنها فرعية وليست أصلية؛ وبالتالي يتعرَّى العلم عنها كليةً.١٦ كما أنها تغيب في بعض العقائد المتأخرة أمام شمول التوحيد بعد أن فرغ التوحيد من أي مضمون سياسي إلا من الثناء على الخلفاء الأوائل.١٧ وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة قد تبتلع وظيفة الوصي السياسية مسألة الإمامة، وتختفي الإمامة أمام النبوة كتحقق للوصي في التاريخ.١٨
والإمامة هي المشكلة الغالبة عند «الرافضة» و«الخوارج»، وهما الفرقتان اللتان خرجتا من واقعةٍ واحدة، وهي الخلاف على الإمام. عبَّدته الأولى، وكفَّرته الثانية. طرفا نقيض خرجا من واقعةٍ واحدة،١٩ لكل منها تصورٌ مختلف. الأولى تُخصصها في قريش، والثانية تُعممها خارج قريش. الأولى تجعلها بالنص والتعيين، بينما الثانية تجعلها بالاختيار والبيعة. الأولى تقول بالتقية، والثانية تقول بالقيادة الظاهرة. الأولى تقول بالطاعة، والثانية تشرع للمراجعة عليه. الأولى تُطالب بإسقاط الشرائع، والثانية تعمل على تطبيق الشرائع. ولما كانت الفرقتان مختلفتين في التوحيد والعدل، إذ تقول الأولى بالتأليه، والثانية بالتنزيه؛ فإنه يبرز سؤال: هل هناك صلة بين الموقف في التوحيد والموقف في الإمامة؟ هل يؤدي التأليه أو التجسيم إلى القول بالإمامة بالنص والتعيين وبألوهية الأئمة وبالخلود وبالرجعة وبالعصمة وبالتقية، كما يؤدي القول بالتنزيه إلى البيعة والاختيار؟ إن أكثر الفِرق التزامًا بالعالم كالخوارج أقلُّها إيغالًا في التوحيد تنزيهًا، فلا تجد عندهم أقوال في الله في ذاته وصفاته بقدر ما نجد في الإيمان والعمل والحرب والسلم والفقه والتشريع والسياسة؛ فالتوحيد عمليٌّ صرف، في حين أن الرافضة أكثر إيغالًا في التوحيد تأليهًا وتجسيمًا وتشبيهًا، كما أن لديهم أقوالًا في الإيمان والعمل والإمامة والسياسة وموضوعات الفقه والتشريع؛ فالتوحيد نظريٌّ وعملي.

(٢) اسمها وتعريفها وأقسامها

يختلف اسمها بين الإمامة أو الخلافة أو الزعامة. وهي في الحقيقة أسماءٌ واحدة تضع مسألة السلطة أو الزعامة في الأمة دون المؤسسات أو الجمهور، وهي بهذا المعنى أدخَلُ في النُّظم الإسلامية والشريعة الإسلامية في الأحكام السلطانية في علم الفقه.٢٠ الإمامة إذن هي قضية السلطة في المجتمع الديني والمدني وتسيير أمور الدين والدنيا. وفي هذه الحالة لا يكون هناك فرق بين النبوة والإمامة؛ فالنبوة إمامة، والإمامة نبوة، وكأن النبي يقوم بوظيفة الإمام، كما أن الإمام يقوم بوظيفة النبوة باستثناء الوحي وإيصاله من الله إلى الناس. وقد ظهر ذلك في علوم الحكمة أكثر من ظهوره في علم أصول الدين، ولكن من حيث الجانب المعرفي دون الجانب العملي التشريعي.٢١
أما تعريفها بأنها خلافة الرسول في إقامة الدين اتِّباعًا؛ ومن ثَم يخرج من التعريف العامل والمجتهد والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أي ثواب الإمام والعلماء ووسائل الرقابة الشعبية، فإنها تُشير إلى الوضع نفسه، وهو أن الإمامة تركيز للمشكلة السياسية على قضية الحكم أو السلطة دون المؤسسات التنفيذية (العمال)، أو القضائية (القضاة والمجتهدون)، أو الشعبية (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر).٢٢ كما أن الإمامة تكون عن استحقاق أم عن غير استحقاق؛ أي إنها قد تكون بالغلبة والقهر؛ وبالتالي لا تدخل البيعة كطريقة لثبوتها كجزء من تعريفها، كما لا تدخل طريقة عزل الإمام أو الخروج عليه كجزء من تعريفها إلا فيما ندر.٢٣ تدور معظم المشكلة حول الإمام، أي السلطة المشخَّصة؛ ولايته، وصفاته، ووجوبه، وطريقة ثبوته، دون التعرض لباقي جوانب المشكلة السياسية؛ أي المؤسسات الدستورية ووسائل الرقابة الشعبية. ولكن المقارنة تُعقَد باستمرار بين الإمامة العظمى وهي الخلافة، والإمامة الصغرى وهي إمامة الصلاة، من أجل إضفاء الطابع الديني على السياسة طلبًا للطاعة،٢٤ في حين أن المعنى هو أن الذي يؤم الصلاة يقود أمة.٢٥
لذلك كانت أقسام الإمامة كلها تدور حول الإمام المنصوص عليه تعيينًا مثل الخلود والرجعة والتقية، أو الإمام الذي عُقد البيعة عليه اختيارًا. ولكل نموذج تحققٌ في التاريخ وتعينٌ فيه، حتى يتحول الموضوع النظري إلى تحققاتٍ تاريخية صرفة عن تاريخ الأئمة والخلفاء الراشدين؛ فالتاريخ ذيل للإمامة أو تذييل لها. وقد يبدو أحيانًا الجانب النظري أهم من الجانب العملي، حيث يتم البحث في طريقة ثبوت الإمامة، أي كيفية تنصيب الإمامة، بعد أن يتم البحث في وجوبها وعلى من تجب وكيف تجب، أكثر من البحث عن شروطه ووظائفه. ومع ذلك يصعب تجريد البحث النظري من المواقف العملية والنماذج التاريخية، والدخول في صراع الفِرق وآثارها ومذاهبها، حتى لتضيع الموضوعات من خلال عقائد الفِرق، بل وتتغلب أحيانًا الدعوات لفرقة بعينها على العرض الموضوعي للإمامة، وكأن البحث السياسي لا يُفرق بين العرض النظري والالتزام العملي.٢٦
١  النظر في الإمامة ليس في المُهمات، وليس أيضًا من المنقولات فيها، بل من الفقهيات، ثم إنها مثار للعصبيات، والعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض، فكيف وإن أخطأ؟ ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد؛ فإن القلوب عن المنهج المخالف المألوف شديدة النفار (الاقتصاد، ص١١٨). مبحث الإمامة تبعًا للقوم وإن كان من الفقهيات (عبد السلام، ص١٥٣). وليس نصب الإمام من علم التوحيد ومباحثه لما علمت أنه واجب شرعًا؛ فهو من علم الفروع ومن مباحث علم الفقه (المطيعي، ص٩٩-١٠٠). وقد قيل في العقائد المتأخرة:
وليس هذا من أصول الدين
بل الفروع لائق التنبيه
فهْو من المباحث الفقهية
وليس من المباحث السمعية
الوسيلة، ص٩٨-٩٩
٢  الإمامة من مقاصد علم الكلام على أصل أهل السنة مسامحةً. مباحث الإمامة من الفروع، وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيًا بمن قبلنا، فحقيقة الأمر تقتضي أن جميع إيراد مباحث الإمامة مع إيراد هذه المباحث (الإسفراييني، ص١٤٦). ولكن لما جرت العادة بذكره في أواخر كتب المتكلمين، والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنفات الأصوليين، لم نرَ من الصواب خرق العادة بترك ذكرها في هذا الكتاب موافقةً للمألوف من الصفات، وجريًا على مقتضى العادات. ولكننا نُشير إلى تحقيق أصولها على وجه الإيجاز، ونُنقح مضمونها من غير اجتياز (الغاية، ص٣٦٣). تأسيًا بما قبلنا (المواقف، ص٣٩٥).
٣  ويراجع الكتب المصنَّفة في الكلام، فإن لم تشترط على نفس في هذا الكتاب نقل ما ذُكر في الكلام، وإنما شرطت حل المشكلات من المعقولات، وبيان منتهى إقدام أهل الأصول في مراتب العقول دون المنقول (النهاية، ص٤٩٦-٤٩٧).
٤  فهذا تحقيق هذا الفصل، وفيه غُنية عند البصير من التطوير، ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته. وإنما يثبت بطول الأُلفة في سمعه، فلا تزول النفرة عن نقيضه في طبعه، أو فطام الضعفاء عن المألوف شديد، عجز عنه الأنبياء فكيف بغيرهم؟ (الاقتصاد، ص١٢١-١٢٢).
٥  إن مباحث الإمامة وإن كانت من الفقه لكن لما شاع بين الناس في بليَّة الإمامة اعتقاداتٌ فاسدة، ومالت فِرق أهل البدع والأهواء إلى تعصباتٍ باردة تكاد تُفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ونقض عقائد المسلمين، والقدح في الخلفاء الراشدين، ألحقت تلك المباحث بالكلام، وأدرجت في تعريفه عونًا للقاصرين، وصونًا للأئمة المهتدين من مطاعن المُبتدعين (الخيالي، ص١٤٩–١٥١).
٦  التمهيد، ص١٦٤–٢٣٩؛ الإرشاد، ص٤١٠–٤٣٤؛ الغابة، ص٣٦٣–٣٩١. فإن المختلفين في العدل والتوحيد والقدر والاستطاعة، وفي الرؤية والصفات والتعديل والتجوير، وفي شروط النبوة والإمامة، يُكفر بعضهم بعضًا (الفرق، ص١٠). أهل السنة والجماعة مُتفقون على مقالةٍ واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفي أبواب النبوة والإمامة، وفي سائر أحكام العقبى، وفي سائر أصول الدين (الفرق، ص٢٦).
٧  في أن الخليفة في زماننا هذا هو أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ويجب على كافة المسلمين متابعته. والدليل عليه هو أن الأمة أجمعت على أنه لا بد من وجود الإمام في زمان، وقد ثبت بالدليل أن خلو الزمان عن الإمام غير جائز في شرع النبي، فلا بد من إمام (المسائل، ص٣٨٥-٣٨٦).
٨  الاختيار الأول هو موقف أهل السنة. الكلام في هذا الباب ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزلُّ فيه يَربى على الخطر على من يجهل أصله، ويعتوره نوعان محظوران عند ذوي الحِجاج: (أ) ميل كل فئة إلى التعصب وتعدِّي الحق. (ب) من المجتهدات المحتملات التي لا مجال فيها للقطعيات (الإرشاد، ص٤١٠). اعلم أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد، بحيث يقضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعيين، ولكن الخطأ على من يخطئ فيها يزيد على الخطر على من يجهل أصلها، والتعسف الصادر عن الأهواء المُضلة مانع من الإنصاف فيها (النهاية، ص٤٧٨). الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات ولا من الأمور الأبديات، بحيث لا يسع المكلَّفَ الإعراضُ عنها والجهل بها. لعَمْري إن المُعرِض عنها لَأرجى حالًا من الوغل فيها، فإنها لا تنفكُّ من التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسلف بالإزراء، وهذا مع كون الخائض فيها سالكًا سبيل التحقيق، فكيف إذا كان خارجًا عن سواء الطريق؟ (الغاية، ص٣٦٣). ليس نصب الإمام ركنًا يُعتقَد في قواعد الدين المجموع عليها، المعلومة بالتواتر، بحيث يكفُر مُنكرها كالشهادتين والزكاة والصلاة وصوم رمضان والحج؛ لأنه ليس معلومًا من الدين بالضرورة، فلا يكفُر مُنكره (البيجوري، ج٢، ص١٠١؛ عن عبد السلام، ص١٥٤). وقد قيل شعرًا:
فليس ركنًا يُعتقَد في الدين
فلا تزغ عن أمره المبين
الجوهرة، ج٢، ص١٠١
٩  عند الشيعة ليست الإمامة قضيةً مصلحية تُناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضيةٌ أصولية، ركن الدين لا يجوز إغفاله وإهماله وتفويضه إلى العامة وإرساله (المِلل، ج٢، ص٦٨-٦٩).
١٠  في بيان الأصول التي تجتمع عليها أهل السنة. اتفقت أهل السنة والجماعة على أصول من أركان الدين، كل ركن فيها يجب على كل عاقل بالغ معرفة حقيقته، ولكل ركن منها شُعَب، ومن شعبها مسائل اتفق أهل السنة فيها على قولٍ واحد، وضلَّلوا من خالفهم فيها. والركن الثاني عشر الخلافة والإمامة وشروط الزعامة (الفرق، ص٣٢٣).
١١  القاعدة الرابعة: السمع والعقل، والرسالة والإمامة. وهي تشتمل على مسائل التحسين أو التقبيح، والصلاح والأصلح، واللطف والعصبية في النبوة، وشرائط الإمامة نصًّا عند جماعة، وإجماعًا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بينها وبين الشيعة والخوارج والمعتزلة والكرامية والأشعرية (المِلل، ج١، ص١٢).
١٢  الشرح، ص٧٤٩–٧٧٠.
١٣  ما اختلف عليه المسلمون هو: التوحيد، القدر، والإيمان، والوعيد، والإمامة، والمفاضلة، ثم أشياء يُسميها المتكلمون اللطائف (الفصل، ج٢، ص١١٠).
١٤  نهاية الإقدام، ص٤٧٨–٤٩٧؛ الطوالع، ص٢٢٨–٢٣٩.
١٥  المحصل، ص١٧٩–١٨٢.
١٦  الشامل، الأساس، التحقيق.
١٧  العقائد المتأخرة مثل: السنوسية، الدر، الرسالة، الكتاب، العقيدة، الخريدة، الجامع، الحصون، ص١٢٨.
١٨  الرسالة، ص٨٣–٢٠٦.
١٩  وهذا معنى قول الرسول: «يهلك فيك اثنان، مُحب غالٍ ومُبغض غالٍ» (المِلل، ج١، ص٣٤-٣٥). وقد وافق المرجئة في بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة (المِلل، ج٢، ص٢٣).
٢٠  الركن الثاني عشر: الخلافة والإمامة وشروط الزعامة (الأصول).
٢١  تعريفها. قال قوم: الإمامة رياسةٌ عامة في أمور الدين والدنيا، وتُقصَد بالنبوة. والأولى أن يُقال: هي خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يُفرَض اتِّباعه على كافة الأمة. وبهذا القيد يخرج من ينصبه الإمام ناحية، والمجتهد، ويخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المواقف، ص٣٩٥). حقيقة الإمام في أصل اللغة المقدَّم عن استحقاق أم لا. وفي الشرع اسم لمن له الولاية على الأمة والتصرف في أمورهم على وجه لا يكون فوق يده يد، احترازًا عن القاضي والمتولي، فهما يتصرفان في أمور الأمة ولكن يد الإمام فوق أيديهم (الشرح، ص٨٥٠). قال قوم: اسم الإمامة قد يقع على الفقيه والعالم وعلى متولي الصلاة وأهل مسجد ما. نعم بالإضافة لا بالإطلاق، مثل المتولي لأمور المسلمين. وكذلك اسم الإمارة لبعض المؤمنين مثل الجيش، وكذلك الخلافة (الأصول، ص١٠٩).
٢٢  انظر الجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة.
٢٣  الإمامة العظمى (الخلافة): تعريفها، حكم نصب الإمام، شروط الإمام، ما يستحق به العزل (البيجوري، ج٢، ص١٠٠).
٢٤  رشيد رضا، الخلافة أو الإمامة العظمى، ولم نشأ استعماله لأنه ليس مؤلَّفًا في علم أصول الدين، بل في الفقه، ومكانه في علم الفروع لا في علم الأصول، في الشريعة وليس في العقيدة؛ فالموضوع تماس بين العلمين.
٢٥  ويقول إقبال:
يا إمامًا لركعة كيف تدري
في الورى ما إمامة الأقوام
٢٦  جملة الكلام لا تخرج عن ثلاثة أقسام: (أ) الذي يقوم به الإمام ويتصرف فيه. (ب) صفات الإمام. (ﺟ) طريقة وجوبه وثبوته (المُغْني، ج٢٠؛ الإمامة، ص١١). كونه صاحب معجزة، ومعصومًا، وله صفة النبي أو الألوهية عند الغلاة (الإمامة، ص١١–١٥). تشمل على طرفين: (أ) وجوب الإمامة وشرائطها وبيان ما يتعلق بها. (ب) معتقد أهل السنة في إمامة الخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون (الإمامة، ص٣٦٣). الإمامة على ثلاثة أقوال: (أ) الملاحدة يقبلون إمامًا جاهلًا. (ب) أكثر الرافضة، الإمام محمد بن الحسن العسكري، وهو غائب. (ﺟ) أصل السنة والسواد الأعظم، الإمام الحق في زماننا أبو العباس أحمد بن الحسن العباسي. وإذا كان من الإقرار بفساد القولين الأولين وبطلانهما وجب الإقرار بصحة أمير المؤمنين أحمد بن الحسن العباسي، ووجوب امتثال أمره، والانتهاء عن مناهيه (المسائل، ص٣٨٥-٣٨٦). شرائط الإمامة نصًّا عند جماعة، وإجماعًا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بين الشيعة والخوارج والمعتزلة والكرامية والأشعرية (المِلل، ج١، ص١٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤