الفصل العاشر

إنما يمضيان بنا إلى حيث الأمن والدعة، وإلى حيث العز والمنعة، وإلى حيث نقضي حياتنا كما تعوَّد أمثالنا من فتيات القرية أن يقضين حياتهن هادئات ناعمات، حتى إذا تقدمت بهن السن وأدركتهن ميعة الشباب ونضرته سعى إليهن الأزواج من شباب القرية أو من شباب القرى المجاورة، فأصبحت كل واحدة منهن سيدة في البيت أو سيدة في الخيام، واستقبلت حياة الجد والعمل والكد، وفيها الأبناء والبنات وما يستتبعون من بهجة وقرة عين، ومن شقاء وحزن وأمل وإشفاق، انظري يا ابنتي الكبيرة إلى كل هذا النور الذي يصبه الضحى علينا صبًّا والذي يغمرنا، والذي نمضي فيه كأنما نخوض لجة البحر. انظري إلى هذا النور الذي يغمرنا ويغمر السهل من حولنا؛ وانظري إلى هذه الحقول تنبسط عن يمين وشمال لا تكاد تنتهي؛ وانظري إلى هؤلاء الرجال والنساء وإلى هؤلاء الفتيان والفتيات وقد ملأهم النشاط، وبعث فيهم الجد حياة لا حدَّ لها، فهم يذهبون ويجيئون وهم يعملون لا يعرفون كلالًا ولا سأمًا، وأصواتهم ترتفع لا بالشكوى ولا بالأنين وإنما ترتفع بهذا الغناء الساذج الحلو الذي يبعث في هذا الجو نغمات ساذجة حلوة، والذي يصور الأمل في غير إسراف، والرضا في غير استكانة، والاطمئنان في غير حزن، وحب العمل على كل حال، والثقة بالله على كل حال أيضًا.

انظري يا ابنتي واسمعي، ثم سلي نفسك: أتجدين فيما ترين أو فيما تسمعين ما يثير خوفًا أو يبعث روعًا أو يدفع إلى يأس؟ كل شيء آمن وكل شيء يدعو إلى الأمن، كل شيء هادئ وكل شيء يدعو إلى الهدوء، إن ظلمة الليل لمنكرة وإنها لتحب الخوف وتثيره، وإنها لتبعث الأشباح من مكامنها، وإنها لتغري القلق بالنفوس وتسلط الهم على القلوب … لقد كنت يا ابنتي تثيرين في نفسي مثل ما كان يثور في نفسك من الخوف حين كنت تتحدثين إليَّ وظلمة الليل تغمرنا من كل مكان، فأما الآن وقد انجلت هذه الظلمة وأصبحت لا أمد عيني إلا رأيت، ولا أمد أذني إلا سمعت، فإني لأضحك منك ومن تلك الهواجس التي كانت تروعك، ومن تلك الأشباح الحمراء التي كانت تتراءى لك وتمثل أمامك، وإني لأضحك من نفسي ومن انقيادها لك بعض الشيء وتأثرها بك إلى حد ما، انظري واجتهدي في أن تستحضري الأشباح الحمراء، إنها لا تستطيع أن تظهر ولا تجرؤ على أن تتراءى فضلًا عن أن تمثل أمامك أو أن تسايرك. إن الأشباح لا تحب النور ولا تستطيع أن تظهر في وضح النهار، إنما الأشباح والخوف والفزع واليأس بنات الليل، تطمئن إليه ويطمئن إليها، تستظل به ويبسط عليها ظله المظلم الساكن المخيف؛ فإذا ابتسم الصبح وأشرق الضحى واستيقظت الحياة ذابت كل هذه المروعات، وانجابت مع الظلام، فلم يبق لها أثر في نفس ولا سلطان على قلب. انظري إلى هذه الضحى المشرق، وأفيضي بعض إشراقه على نفسك، انظري إلى هذه الحياة التي يملؤها النشاط فأفيضي منها على قلبك، ألست تحسين الحاجة إلى أن ترفعي صوتك بالغناء، كما يتغنى هؤلاء الشباب عن يمين وشمال؟! ثم انظري إلى أمنا وخالنا، إن جملهما ليسعى بهما مرحًا شديد النشاط، وإنهما ليتحدثان في هدوء وأمن واستبشار وشيء من الحنان كأنما يذكران أيام صباهما وشبابهما، وكأنما يودان لو رجعت بهما الأيام إلى مثل هذه السن التي نحن فيها. أترين عليهما مظهرًا من مظاهر الريبة أو آية من آيات المكر، أو دليلًا من دلائل الكيد؟ كلا، إنهما ليمتزجان بما حولهما فإذا هما حياة وأمن وأمل، فلنكن مثلهما حياة وأمنًا وأملًا.

ويسلك حديثي هذا سبيله إلى قلب أختي كما يسلك النور والحياة سبيلهما إلى نفسها، وإذا هي تطمئن بعض الشيء، لا تبسم للحياة ولكنها لا تسرف في العبوس، إنما هي كآبة ملحة تغشى نفسها ولكنها كآبة هادئة لا تثير روعًا ولا جزعًا ولا يأسًا، والطريق تمضي بنا مستقيمة جميلة يحببها إلى النفوس هذا النور القوي الذي يزداد قوة وصراحة وإلحاحًا كلما تقدم النهار، وهذه الحقول الخصبة يملؤها هذا النشاط الخصب وهذا الغناء الحلو يرتفع في الجو، ويمتزج بما يملؤه من الضياء والهواء، ونحن لا نجوز قرية إلا دُفعنا إلى قرية أخرى، حتى إذا تقدم النهار وكدنا نبلغ العصر، وكنا قد انتهينا إلى بعض القرى، قال خالنا: لقد آن لنا أن نستريح ساعات، ولست أرى بأسًا بأن نستأنف السفر إذا أقبل الليل، فقد أشرفنا على بلادنا وما أرى أن الليل سينتصف حتى نكون قد بلغنا البحر عند بني فلان فإذا أسفر الصبح عبرنا إلى أرضنا ولا يرتفع الضحى حتى نكون قد انتهينا إلى بني وركان.

ثم يعرج بنا على القرية وينيخ بنا عند دار العمدة وننزل من هذه الدار أحسن منزل، وإني لشديدة الرغبة في أن أنفق الليل حيث أنا، وإن أختي لتشاركني في هذه الرغبة، ولكن خالنا قد أزمع المسير مع الليل ولم تراجعه أمنا ولم تمتنع عليه، ولم يستطع مضيفنا أن يثنيه عما اعتزم؟

وبينما كنا نحن نأخذ حظنا من الراحة بعد أن أصبنا مما قُدم إلينا من طعام كان خالنا قد خرج من القرية يريد فيما زعم أن يلم ببعض من كان يعرف في قرية مجاورة، فيغيب عنا ساعة وساعة وساعة، ويقبل الليل ويبسط ظلمته بسطًا، ونكاد نستيئس من استئناف السفر ونكاد نطمئن إلى البقاء حتى يسفر الصبح.

ولكن هذا خالنا قد أقبل، وهذا صوته الغليظ القاطع يرتفع بالنداء إلى الرحيل، وها نحن أولاء نستجيب لندائه، وهؤلاء أهل الدار ينكرون عليه هذا السفر حين يقيم الناس وهذا الاضطراب حين يسكن الناس، ولكن خالنا إذا عزم أمضى. وما هي إلا ساعة أو نحو ساعة حتى كان الجملان قد دفعا بنا دفعًا إلى الطريق العامة وقد أسدل الليل أستاره من حولنا إسدالًا، وقد نامت الحياة وخلت الحقول وسكن كل شيء وانقطعت الأصوات، إلا هذه التي تأتينا من بعيد بين حين وحين فتنبهنا، فإذا هي أصوات الكلاب تنبح في القرى البعيدة، وإلا هذه الأصوات اليسيرة الخفيفة المختلفة المتصلة التي تحيط بنا وتمتزج بسكون الليل امتزاجًا فتحدث شيئًا من الموسيقى الرائعة المروعة معًا، وهي أصوات الحشرات والضفادع المنبثة في الحقول وعلى شواطئ الأقنية.

وربما وصل إلينا من حين إلى حين صوت بعيد يأتينا من يمين أو من شمال فننكره ونرتاع له وهو نداء بعض الطير ولعله نداء البوم، وربما ارتفع صوت خالنا ببعض غناء البدو فرجَّع ترجيعًا جميلًا مخيفًا معًا، ولكنه لا يتصل إلا قليلًا ثم ينقطع، ويمضي خالنا في حديثه مع أمنا، أو يغرق خالنا وتغرق أمنا في الصمت العميق، وأنا وأختي نسمع لهذا كله ونتحدث في شيء من الهمس الخائف الوجل كأنما نفرُّ من شيء نخافه أو نُقدِم على شيء نخشاه، ومن يدري، لعلنا كنا ننتظر ظهور الأشباح الحمراء، ونشفق من أن تتراءى لنا وتمثل أمامنا وتكرهنا على أن نتحدث إليها أو نتحدث عنها؛ والجملان يسعيان بنا سعيًا فيه إسراع ولكنه إسراع لا يكاد يُحس، وكأنهما مثلنا يفران من بعض ما يكرهان فهما يُجِدَّان في السعي! وسكون الليل يثقل شيئًا فشيئًا، وظلمة الليل تزداد كثافة من حين إلى حين، ونفوسنا تريد أن تهيم في هذا السكون وتختلط بهذه الظلمة وتود لو احتواها النوم، ولكن أنَّى لها أن تهيم في سكون الليل وهي مضطربة، وأنَّى لها أن تختلط بظلمة الليل وفي جنباتها هذه الأنوار الضئيلة الشاحبة أنوار التفكير في غد والتذكر لأمس، والرؤية فيما نحن فيه؟! وأنَّى لها أن تنام وهذه بنات الليل قد أخذت تظهر شيئًا فشيئًا وتدنو منا قليلًا قليلًا، وتثير فينا هذا الإشفاق البغيض الذي لا يستطيع أن يكون أمنًا ولا يبلغ أن يكون خوفًا صريحًا، وإنما هو قلق خفيٌّ ماكر يفسد من حوله كل شيء؟! ونحن نريد أن نقاوم بنات الليل هذه فنغمض أبصارنا حتى لا نراها ونسد آذاننا حتى لا نحس قربها منا! والجملان يسعيان في جدٍّ ونشاط لا يكاد يأخذ منهما الفتور، ثم يرتفع صوت خالنا غليظًا مخيفًا، كله شرٌّ وكله نكر وكله نذير: هنا يجب أن ننزل، وما هي إلا أن يُناخ الجملان ولم تستطع واحدة منا أن تقول حرفًا أو أن تنطق بكلمة أو أن تفكر في شيء، وإنما هو ذهول غريب كثيف قد أطبق علينا وملأ نفوسنا كما أطبقت علينا وملأت نفوسنا ظلمة الليل. وهذا خالنا قائم كالشيطان، وهو يأمرنا في غلظة وعنف أن ننزل فلن يمضي الجملان أمامها قيد أصبع.

وها نحن أولاء ننزل مضطربات، ونسعى متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول في غير منزل، وها أنا هذه أريد أن أقول شيئًا ولكني لا أكاد أدير لساني في فمي، ولا أكاد أستوعب ما كانت أمنا تقول؛ إنما هي صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صُرعت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها، ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة كما يتفجر الماء من الينبوع، ونحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئًا ولم نقدِّر شيئًا ولم ننتظر شيئًا، وإنما أخذنا على غرة أخذًا واختطفت هنادي من بيننا اختطافًا، وجسمها يضطرب ويتخبط ودمها ينفجر ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها، ثم يهدأ الجسم المضطرب، ويسكن اللسان المتحرك، ويخف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت، ونحن فيما نحن فيه من ذهول وغفلة وبله، وخالنا قائم أمامنا كالشيطان إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا …

وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز يبلغني من بعيد، وهذا صوتك يدنو إليَّ قليلًا قليلًا، وهذا غناؤك ينتشر في الجو كأنه النور المشرق قد أظهر لنا ما كان يغمرنا من الهول دون أن نراه، وها أنت ذا تبعث صيحاتك يتلو بعضها بعضًا، كأنما هي سهام من نور قد تلاحقت مسرعة في هذه الظلمة فطردت عن نفسي ذهولها وجلت عنها غفلتها وأيقظتها من هذا البله، وجلت لها الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثمًا بغيضًا، والضحية صريعة مضرجة بالدماء …

إن صوتك لم يوقظني وحدي وإنما أيقظ أمنا فها هي هذه تفيق وها هي هذه تسأل أخاها: أوَفعلتها يا ناصر؟! وها هي هذه تغرق في بكائها السخيف بكاء الأنثى المستسلمة التي لا تملك حولًا ولا طولًا إلا سفح الدموع. ويلك أيتها البائسة! إنك لتستطيعين أن تسفحي دموعك إلى آخر الدهر فلن تغسلي قطرة من هذا الدم الذكي، ويلك أيتها الأم الآثمة! إنك لن تستطيعي أن تردي نفسك إلى البراءة والأمن.

نعم! إن صوتك أيها الطائر العزيز قد أيقظني وأيقظ هذه الأم المجرمة التي سفكت دم ابنتها بيد أخيها، وأيقظ هذا المجرم فنبهه إلى أن جريمته يجب أن تُخفى، وإلى أن آثار إثمه يجب أن تزول. ولكنه لم يوقظ هنادي وما كان ينبغي له أن يوقظها لأن صوتك مهما يقوَ ومهما يلح فلن يستطيع أن ينفذ من أستار الموت. إنك لترسل صيحاتك متصلة متلاحقة وإني لأنشط مثلك للصياح، وإن صوتينا ليملآن الفضاء العريض لا يصرفان هذا الرجل عما هو مقبل عليه من إخفاء هذا الجسم في هذه الحفرة التي لم يفارقنا آخر النهار إلا ليهيئها.

لقد تمت الجريمة وبلغ الكتاب أجله، واستنفدت هنادي حظها من الحياة، وماتت لأن شابًّا آثمًا أغواها ولأنها لم تُحسن أن تدفع عن نفسها غوايته.

إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثًا وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعيًا وليس من يجيب، وإن هذا الرجل المجرم ليفرغ من إخفاء جريمته ومحو آثارها ثم يلتفت إلى هذه المرأة وإليَّ ويقول في صوت متهدج فيه الرعب وفيه الخوف وفيه النذير: هلم فقد آن أن نرتحل، فإذا أبطأنا عليه ردد هذه الكلمات في صوت أشد ترويعًا وأكثر امتلاء بالنذير، ثم يمثل أمامنا ويقول: تعلمان والله أن هنادي ذهبت مع من ذهب من أهل المدينة بهذا الوباء الذي ألمَّ بها منذ أسابيع!

أما أنا فقد انقطع عني صوتك أيها الطائر العزيز قليلًا قليلًا، وانقطع عني صوت خالي، ثم انقطعت عني الأشياء كلها أو انسللت من الأشياء كلها، وإني لأراني أمرض في بيت خشن حقير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤