الفصل التاسع عشر

وأقبلت معها على بيت من بيوت الريف هذه التي يظهر فيها الثراء؛ ويحسُّ أهلها سعة العيش، ولكنهم على ذلك لا يأخذون من ترف الحضارة إلا بأيسره وأهونه، محتفظين بما ألفوا من هذه الحياة الريفية التي لا دقة فيها ولا رقة ولا افتنان في إرضاء الذوق، والتي تكره النظام وتنفر منه، وترى في الترتيب والتنسيق تكلفًا وجهدًا لا خير فيهما ولا حاجة إليهما، بيت من هذه البيوت التي لا يكاد يدخلها داخل حتى يحس أن أهلها ميسورون ولكنهم فلاحون كما يقال؛ فالمتاع كثير ولكنه مهمل مضطرب لم ينظم ولم ينسق ولم يهيأ، وإنما حُمل إلى الدار ثم استقر فيها كما استطاع أن يستقر.

والفرق فيها ملغىً أو كالملغى بين حجرات الاستقبال للسيدات وحجرات الاستقبال للسادة، بل بين حجرات الاستقبال وحجرات الطعام، إنما يستقبل أهل الدار حيث توجد المقاعد والكراسي، ويأكل أهل الدار حيث يتفق لهم أن يأكلوا، إلا أن يطرقهم طارق أو يلمُّ بهم ضيف فيكون الطعام حيث يكون الاستقبال، ثم يكون نوم الطارق أو الضيف حيث يكون الطعام والاستقبال أيضًا.

في البيت مقاعد وكراسي، ولكن أهل الدار يؤثرون الجلوس على هذه الحصر والأبسطة قد ألقيت على الأرض إلقاء. فإذا طرق الطارق أو أقبل الضيف عرفت الكراسي والمقاعد أن لها في البيت منفعة وعملًا.

والفرق ملغى أو كالملغى بين من في الدار من الناس وما في الدار من الحيوان على اختلافه، فالدجاج مطلق يمضي حيث يشاء ويستقر هنا ثم يستقر هناك حاملًا معه أقذاره وآثاره، ولا يُحمى منه إلا حجرة أو حجرتان، ولا تحميان إلا في مشقة وتكلف للجهد. وقد لا يكره أهل الدار إذا اشتد القيظ أن ينفقوا مساءهم تحت السماء قريبًا من البقرة أو الجاموسة أو ما إليهما، يطلبون النسيم حيث يجدونه، لا يتكلفون في ذلك ولا يتصنعون، ولا يجدون في مخالطة الحيوان حرجًا ولا أذى. هي الحياة السهلة اليسيرة الغنية همَّت أن تتحضر وأن تترف، فأخذت من الحضارة والترف بحظٍّ، ثم لم تستطع أن تتقدم فاكتفت بما أخذت، ووقفت عند حدٍّ من الحدود لا تعدوه.

ولم أكد ألقى ربة البيت ومن حولها بناتها وخادماتها يعملن وتعمل معهن، يتحدثن وتشاركهن في الحديث، حتى أحسست أني سأجد في هذه الدار راحة وتعبًا، وسألقى فيها نعيمًا وبؤسًا. وقد صدق حسي، فنعمت في هذه الدار وشقيتُ: نعمت بهذه السذاجة التي ردتني إلى شيء يشبه حياتي في أقصى الريف، وخلطتني بأهل الدار كأني واحدة منهم، وألغت ما بين السادة والخدم من الفروق أو كادت تلغيه، ولكن أي حياة يموت فيها العقل أو يأخذه شيء كالموت! لم آسف على ما فقدت من الترف، ولعلي لم آسف على ما فقدت من صحبة خديجة؛ فقد استيأست من صحبتها واتخذتها — سواء أردت أم لم أرد — لنفسي خصمًا، حاربتها وإن زعمت أني كنت أدافع عنها، وظلمتها وإن زعمت أني أنقذتها، وانتصرت عليها وإن زعمت أني لم آسف لما فاتني من صحبتها فلم يكن من ذلك بدٌّ! ولكن أي أسف وأي حزن وأي لوعة وحسرة، وأي ندم يذيب القلب ويملأ النفس كآبة ويأسًا هذا الذي كنت أجده إذا أصبحت وأمسيت وقضيت الليل والنهار بين عمل باليد أو حديث مع أهل الدار لا متاع فيه للعقل ولا لذة فيه للقلب!

أين القراءة مع خديجة، وأين القراءة منفردة؟ أين هذه الكتب العربية وهذه الكتب الفرنسية التي كنت أنفق معها أكثر النهار وشطرًا من الليل قارئة أو متحدثة عما قرأت أو متمنية لاستئناف القراءة؟ لقد تركت هذا كله في بيت المأمور، وأقبلت إلى بيت لا يقرأ من أهله أحد، إلا رب البيت؛ فإنه يقرأ إذا أصبح، ويقرأ إذا أمسى، وأنا أسمعه في الصباح والمساء، وأكاد أحفظ عنه ما يقرأ. وما يعنيني مما يقرأ! إنما هي أوراده وأدعيته، ودلائل الخيرات. وأين أنا من هذا، وأين هذا مني؟!

ولقد خرجت من بيت المأمور لم استصحب كتابًا، وما كان لي أن أستصحب كتابًا، وإنما كانت كلها كتب لخديجة. ولقد سألت نفسي ألف مرة ومرة: أين يمكن أن أظفر بهذا الكتاب؟ فليس في هذه المدينة من مدن الريف كتب تباع إلا هذه التي يعرضها الطوافون في أيام السوق أو في يوم الخميس من كل أسبوع، يعرضونها في السوق ويمرون بها على الدور، وليس لي فيها أرب ولا منفعة، إنما هي قصص لا تعجبني ولا تروقني وسحر لا أحسنه، وصلوات دينية لا أعرف منها قليلًا ولا كثيرًا.

أين هذه الكتب المترفة ذات الطبع الجميل والجلد الأنيق، هذه التي تأتي من القاهرة والتي كنت أجد اللذة والمتاع حين آخذها في يدي أو حين أنظر إليها؟ أحيل بيني وبينها آخر الدهر؟ أقُضيَ عليَّ أن أُردَّ كما كنت فلاحة من بنات الريف تنفق نهارها في هذا العمل الآلي الذي لا يكاد يفرق بينها وبين ما يحيط بها من النبات والحيوان؟ كلا …!

هؤلاء فتيان الأسرة قد أقبلوا من القاهرة، وقد رأيتهم يفرغون حقائبهم، فما أكثر ما رأيتهم يستخرجون منها من الكتب ذات الأحجام المختلفة المتباينة، منها الضخم ومنها النحيف، منها متقن الطبع ومنها ما أهمل طبعه إهمالًا، منها ما جُلِّد في عناية وما ترك على حاله التي خرج بها من المطبعة! ولكن أين مني هذه الكتب؟ وكيف السبيل إلى النظر فيها؟ بل كيف السبيل إلى الوصول إليها؟ هنا حدثتني نفسي بما لم تحدثني به قط، فأنكرت حديثها بعض الشيء، ولكني لم ألبث أن عرفته وقبلته واطمأننت إليه ثم صممت عليه تصميمًا، وأي بأس في أن أختلس الكتاب اختلاسًا فأنظر فيه وقتًا طويلًا أو قصيرًا، ثم أرده إلى مكانه لم يمسسه بأس ولم يصبه مكروه؟ أسرقة هذه؟ أإثم هذا الذي أنا مقدمة عليه، إن وجدت إلى الإقدام عليه سبيلًا؟ والله يشهد ما سرقت ولا فكرت في السرقة، وما اختلست ولا فكرت في الاختلاس إلا هذه المرة، والله يشهد ما لُمت نفسي على ذلك ولا أشفقت عليها من تورط في الإثم أو تعرض للعقاب، وإنما قضيت أسابيع غريبة فيها مهارة لم أكن أعرف لنفسي منها حظًّا، وفيها خوف وإشفاق، وفيها بين ذلك لذات لن أنساها، فكم خدعت أهل الدار، وكم تغفلتهم، وكم اختلست الكتاب من هذه الكتب فأخفيته بيني وبين ثوبي، ثم انحزت به إلى حيث اتخذت لنفسي مأمنًا لا أخشى أن يُعثر عليَّ فيه، ثم أخذت أقلب صفحاته وألقي عليه نظرات طوالًا أو قصارًا تغريني به أو تصرفني عنه، وأنا أجد لهذه المخادعة ولهذا الخوف ولهذه القراءة لذةً غيرت حياتي تغييرًا وكادت تصرفني عن هذه الخواطر التي كانت تصاحب نفسي وتملأ قلبي وترسم أمام عيني بيت المأمور وبيت المهندس، صورة خديجة وصورة هذا الشاب.

نعم! كادت هذه الحياة الجديدة تصرفني عن هذا كله، لولا حديث سمعته وأنا أطوف بألوان الطعام وأقداح الماء على سادتي في ليلة من الليالي: سمعت حديثًا عن المأمور اضطربت له نفسي اضطرابًا، ولولا أني أنفقت جهدًا عنيفًا لظهر هذا الاضطراب ولسقط من يدي ما كنت أحمله من آنية؛ فقد نُقل المأمور من المدينة إلى مدينة أخرى في أقصى الأرض مما يلي البحر، وكان هو الذي طلب هذا النقل وسعى فيه وتوسل إليه بفلان وفلان، والناس يهمسون بأنه إنما فعل ذلك ليفر بابنته من جوار المهندس الذي كان قد خطبها ثم قطعت الخطبة، والناس يختلفون، فمنهم من يرى أن المهندس هو الذي قطع الخطبة لأشياء بدت له، ومنهم من يزعم أن المأمور هو الذي رفض الخطبة لما تبين من سوء سيرة هذا الشاب.

سمعت هذا واضطربت له، وكظمت عواطفي وأكرهت نفسي على التزام الأمن والهدوء ما اضطررت إلى الخدمة، فلما أتيحت لي العزلة أرسلت نفسي على سجيتها فقضيت ليلة ساهرة حائرة مفكرة محزونة. ولكن الصباح لم يسفر حتى أسفر معه للنفس أمل لا يخلو من حزن ولكنه أمل على كل حال، من أجله أفسدت الأمر على خديجة، ومن أجله خرجت من بيت المأمور، ومن أجله نفيت نفسي في هذه الدار، فقد خلا الجو لي في المدينة، وأصبح من الممكن أن تتصل الأسباب بيني وبين هذا المهندس الشاب، وأصبح من الممكن بل أصبح مما لا بد منه أن يكون الصراع بينه وبيني، فليعلمن بعد وقت قصير أو طويل أذهب دم هنادي هدرًا أم لا يزال على هذه الأرض من هو قادر على أن يظفر له بالثأر ويشفي نفسه بالانتقام؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤