السفر إلى فرنسا

(١) من لندرة إلى بولون

ثم إني ركبت الباخرة التي تسافر من لندرة إلى بولون بعد نصف الليل الواقع في السادس من كانون الأول، وكنت أرجو أنها تقلع في تلك الليلة فوقع الضباب الكثيف حتى تعذر السفر إلى الصباح، فلما دنونا من المدينة المذكورة صادفنا الجزر في البحر، فانتظرنا نحو أربع ساعات حتى جاء المد، فبلغنا المدينة في الفجر، فأخرجت أمتعتنا وفتحت في الكمرك، وكان معي عدة صناديق من جملتها صُندوقَا كُتبٍ فلم يأخذوا عليها شيئًا، وسمعت بعضهم يقول: هذا مرسل؛ أي قسيس مبعوث من طرف الإنكليز لهداية بعض الضالين، إلا أنهم وجدوا في أحدها رطلًا من الشاي فقالوا: «إما أن تؤدي عليه شلينين ونصفًا وإما تتركه هنا.» فقلت: «لا بل أؤدي عليه ما تطلبون.» وفرحت بذلك غاية الفرح؛ لأني كنت موجسًا من أنهم يتقاضون على الكتب كثيرًا لا سيما وأن كثيرًا منها كان جديدًا كما جلَّده المجلد.

(٢) نصيحة للمسافرين

وهنا نصيحة أو شبه نصيحة لإخواني من المسافرين، وهي أن من تصدى منهم إلى فتح صندوقه أولًا يلقى المفتش في عرام نشاطه وظمائه إلى أن يجد عنده حاجة جديدة فيضبطها منه إظهارًا لحذقه في صنعة التفتيش، فأما من يأتي آخر القوم فإنه يلقاه قد كَلَّ وضجر، فأول ما يفتح الصندوق ويلمسه يطبقه، وربما اجتزأ عن ذلك بسؤال واحد يلقيه عليه، كأن يقول له: «هل عندك شيء يؤدى عليه مكس؟» ولا بد بالضرورة أن يكون الجواب بالسلب، غير أن جل الناس يحبون التقدم والتصدر في كل شيء فتراهم يتزاحمون على فتح صناديقهم وإخراجهم وعيابهم كأنما هم في حلبة السباق.

وفي بولون هذه وفي سائر فرض فرنسا المقابلة لإنكلترة يزدحم الحمالون وخدام المطاعم على المسافرين — ولا ازدحام حَمَّارة مصر — وهناك ترى النساء حمالات يغطين شعور رءوسهن بمنديل، فيبرز من تحته شعيرات من عند أفوادهن على زي نساء اليهود، وسحنهن كسحن الرجال، وأقبح منهن النساء اللائي يصطدن السمك أو يبعنه، فلا يكاد النظر يعرف منهن علامة الأنثوية.

(٣) جواز السفر

واعلم أيضًا أنه من يدخل فرنسا وغيرها من بلاد الإفرنج فلا بد له من أن يبرز جوازه في الثغور — أي الباسبورت — وإلا فلا يَدَعُونه يدخل، وأقبح من ذلك أنه لا يمكن للغريب أن يخرج من بلاد فرنسا إلا إذا أدى في ديوان الجواز عشرة فرنكات، أما من يقدم إلى بلاد الإنكليز فليس عليه أن يبرز الجواز، كما أن الخارج منها أيضًا ليس عليه أن يؤدي شيئًا؛ ولذلك يقال: إن بلاد الإنكليز بلاد الحرية، وسببه عندي — والله أعلم — أن الإنكليز لما كانوا في الزمن القديم متخلفين عن سائر الإفرنج في أسباب التمدن والعلوم كما مر بك من جملة مُثُل ولا سيما في الكلام على منشستر، احتاجوا إلى أن يتساهلوا مع جيرانهم في أشياء تستميلهم إلى زيارتهم، وذلك أن أول ظهور التمدن والفنون في أوروبا إنما كان في إسبانيا حين كان المسلمون مستولين على الأندلس.

(٤) الأندلس وأوروبا

قال فلتير: «وكانت ملوك الإفرنج جميعًا تستخدم الأطباء من العرب واليهود، والتزم البابا يوحنا الثامن أن يدفع للمسلمين في كل سنة خمسة وعشرين ألف رطل من الفضة وذلك سنة ٨٧٧، وقد دخلوا إيطاليا، ونهبوا كنيسة ماربطرس، وفتكوا بالجيوش الفرنساوية الذين كانوا ساروا إلى رومية لإجارة أهلها تحت راية القائد لوثاريوس، وفي القرن الثاني عشر كان المسلمون مستولين في إسبانيا على أحسن البلدان، منها بورتغال ومرسية والأندلس ووالنسية وغرناطة وطرطوشة، وامتد ملكهم حتى إلى وراء جبال قسطيل وسيرقوسة.

أما دار الخلفاء فكانت في قرطبة، وفيها بنوا المسجد العظيم المشهور قَبْوُه، مرفوع على ثلاثمائة وخمسة وستين عمودًا، وهو من مرمر غريب الصنعة بديع الإتقان، ولم يزل معروفًا إلى الآن باسم «مُسْك» — أي مسجد — مع أنه حُوِّل كنيسة، وكانت الصنائع والفروسية والأبهة في عهدهم في مزيد، وكان عندهم مواضع شتى للفرج واللهو، أما علم المساحة والفلك والكيمياء والطب فلم يكن إلا في قرطبة دون غيرها من سائر المدن، حتى إن صانكو ملك ليون الملقب بالسمين، اضطر إلى أن يسافر إليها ليأخذ الطب عن رجل كان مشهورًا في عصره، فلما استدعى به الملك أجابه مع الرسول قائلًا: إن كان للملك حاجة إليَّ فليقدم عليَّ.» وقال بعض المؤلفين: إن المسلمين ملكوا من البلاد في مدة ثمانين سنة بعد الهجرة ما لم يملكه الرومانيون في مدة ثمانمائة سنة.

(٥) الساعة الدقاقة هدية هارون الرشيد

وقال فلتير في موضع آخر: «وأول ساعة دقاقة عرفت في فرنسا هي التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان.» وقال في أبجدية الأوقات: «علم الحساب إنما أُخذ عن العرب في إسبانيا وذلك في سنة ١٠٥٠، ثم شهر في إنكلترة في سنة ١٢٥٣.»

وقال صاحب معجم الجغرافية: «إن البابا سلوستروس الثاني — وكان يعرف أولًا باسم جربرت — سار إلى الأندلس، وأخذ العلم عن العرب، وكانت ولادته في سنة ٩٣٠، وانتخب بابا في سنة ٩٩٩، وكان ماهرًا في علم المساحة وجر الأثقال والفلك، وهو الذي بث رقم الحساب العربي في أوروبا، وأول من عمل ساعة ذات رقاص.»

(٦) الاختراع والإبداع

وقال فلتير: «أول من اخترع هذه النظارات للعيون إسكندر سبينا، وذلك في أواخر القرن الثالث عشر، وكذا اختراع طواحين الريح كان في ذلك العهد.

وأصل اختراع الفخار كان في فيانتزي، أما زجاج الطيقان فكان معروفًا من قبل ذلك إلا أنه كان نادرًا وكان يعد من الإسراف، وكان اشتهار صنعته في بلاد الإنكليز في سنة ١١٨٠ من بعض الفرنسيين، وكان يتنافس فيها، وأول من أبدع مرايا الزجاج أهل فينيسيا، وذلك في القرن الثالث عشر، وكان استعمال الساعات معروفًا في إيطاليا، ولكن على ندرة.

ولم يكن في أوروبا كلها من المدن ما يضاهي فينيسيا وجينوى وبولونيا وسيانا وبيزى وفلورانس، ولم تكن البيوت في مدن فرنسا والنمسا وإنكلترة كما هي الآن، وإنما كانت سقوفها من التبن المطين وبناؤها من الخشب، ولم يكن عندهم هذه المواقد المعروفة الآن لإيقاد النار، وإنما كانوا يوقدونها في نحو كانون يجعلونه في وسط البيت، فيجتمع حوله المصطلون والدخان متصاعد منه، وكانت أغطية الموائد من الكتان عند الإنكليز نادرة جدًا، ولم يكن النبيذ يباع إلا عند العقاقيرية، وكان الركوب في مركب ذي عجلتين في طرق باريس الوسخة إسرافًا حتى إن فيليب الملقب بالأزهر منع النساء من ذلك، وكان أهل بولاند يقتلون أولادهم إذا جاءوا ناقصي الخلقة، وكذا يقتلون الذين أسنوا وعجزوا، وقس على ذلك سائر سكان البلاد الشمالية.

وأول من أحيا صنعة نقر التماثيل برونلشي من مدينة فلورانس، وكان غيوتو نبهًا في التصوير، وبوكاشيو في اللغة والأدب، وأول من اخترع مقامات الموسيقى — على ما عرف الآن — غيدو أوتزو، وأشهر من برع في النظم والتأليف بتراك ودانتي، ولم يكن إذ ذاك في البلاد الشمالية سوى الجهل الفاحش والتفاخر بالفتك والقتال. ا.ﻫ.

(٧) اختراع الساعة

قلت وحيث جرى في معرض ما أوردناه ذكر الساعة، فلا بد من استيفاء الكلام عليها، ثم أرجع إلى ما كنت بصدده، قال مؤلف كتاب المخترعات العجيبة: ذكر المؤرخون من الفرنسيس أن أول ساعة عُرفت في بلادهم كانت الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، وذلك في سنة ٨٠٧، وكانت بِدْعًا في ذلك العصر، حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولًا، والظاهر أنها كانت من الآلات التي يديرها الماء المنحدر، وكان لها اثنا عشر بابًا صغيرًا تنقسم بها الساعات، فكلما مضت ساعة انفتح باب وخرج منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صور اثني عشر فارسًا على خيل وتدور على صفحة الساعة، قلت: بودي لو أعرف اسم الساعة في ذلك العصر، فإني أنكر هذه اللفظة، وأهل الغرب يقولون: منكالة وهي أنكر. قال: وكان ألفرد الكبير ملك الإنكليز يأمر باتخاذ شمع، طول كل شمعة اثنتا عشرة إصبعًا، ويُعَلِّم كل منها بعلامات متساوية منقسمة إلى أربعة وعشرين قسمًا، كناية عن الليل والنهار، فكان يأمر بإيقادها متعاقبة ليلًا ونهارًا، ويجعلها في قرن رقيق شفاف صونًا لها من الريح، ولم يعلم عمل الساعات الدقاقة إلا بعد موته بقرون عديدة.

أما تقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة فمعروف من قديم الزمان، قلت: ومن محفوظي أنه ذكر في المصباح المنير للفيومي أن أهل الحساب اصطلحوا على أربعة وعشرين قيراطًا؛ لأنه أول عدد له ثُمن ورُبع ونصف وثلث صحيحات من غير كسر، فلعل هذا هو السبب في تقسيم الساعات إلى هذا العدد، وذكر هيرودوطوس أن ميقاتية الشمس كانت معروفة عند اليونانيين، وهم أخذوها عن البابليين، فأما الميقاتية المائية التي تدل على الأوقات على نسق الرملية فكانت معروفة عند الكلدانيين وعند قدماء الهنود، فكانوا يحدرون الماء فيها من إناء إلى آخر كما يحدر الرمل في الزجاجة، وبذلك يستدلون على أوقات التنجيم، إلا أن عدم تساوي انحدار الماء وتخالف الهواء كان يجعل حسابهم غير مطرد، أما شكلها فغير معروف بالتفصيل، وغاية ما يعلم من أمرها أن الماء كان ينحدر في وعاء فيها قطرة قطرة، فإذا امتلأ الإناء علم مقدار الوقت المفروض.

وأول من أتقن الساعة المائية حتى صارت من الأدوات العلمية الدون كرلوس فالي، أحد الرهبان الباندكتيين وذلك سنة ١٦٩٠، وزعم بعضٌ أنها من مخترعات مرتينلي الطلياني. قيل: وأول مؤلف ذكر اسم آلة تدل على الساعات هو دانتي الشهير، ولد في سنة ١٢٥٦، ومات في سنة ١٣٢١، وشهر ذلك في إنكلترة في سنة ١٢٢٨، وكان أيضًا مشهورًا عند غيرهم، وفي زمن إدورد الأول وضعت غرامة على أصحاب الجنايات لأجل عمل ساعة دقاقة في غرفة وستمينستر لكي يسمعها الذين في المحكمة، وفي زمن هنري الخامس كان لها شأن عظيم حتى إن الملك وَكَّل محافظتها وتعهدها إلى وليم واربي دين كنيسة صانت اسطفان، وعين له في مقابلة ذلك نصف شلين في كل يوم من ديوان الخزنة. وفي سنة ١٣٣٤ أبرز يعقوب دوندي ساعته المشهورة، فكانت تدل على الساعات وعلى سير الشمس في منطقة البروج، وعلى مواقع الكواكب السيارة، ولقب بهورولوجيوس.

وفي أواسط القرن الرابع عشر وضع في كنيسة إستراسبورغ ساعة من أكثر الآلات تركيبًا وتألفًا، فإن صفحتها كانت تبدي الكرة السماوية وسير الشمس والقمر والأرض والكواكب ومحاق القمر ونموه، وتقويمًا يدل على اليوم الواقع من الشهر، وكان ربع الساعة الأول يطرقه ولد بتفاحة، والثاني شاب بسهم، والثالث رجل برأس عصا، والرابع الأخير شيخ بعكازه، وعند مرور كل ساعة يفتح الباب ملك وينحني مُسَلِّمًا على مريم العذراء ثم يطرق الجرس، وبقربه ملك آخر يحمل ساعة رملية يقلبها عند انتهاء الدقات الأربع، وكان بها أيضًا ديك من ذهب يصفق بجناحيه عند اقتراب كل ساعة، ويمد عنقه، ثم يصقع مرتين.

وفي أواخر القرن المذكور صنع رجل من جينوى اسمه دروز ساعة دقاقة ذات حركات غريبة، وكانت تشتمل على تمثال «رجل» أسود وراعٍ وكلب، فكان الراعي عند طلق الساعة يعزف على الناي ستة أصوات، فيدنو منه الكلب ويحرك ذنبه متملقًا، ولما عرضها على ملك إسبانية تعجب منها غاية التعجب، فالتمس إليه دروز أن يمد يده ويأخذ تفاحة من سلة الراعي، فلما فعل انبعث إليه الكلب ينبح نباحًا عاليًا حتى صار كلب الملك ينبح أيضًا. قيل: وكان إذا سئل الأسود عن الساعة أجاب بالكلام الفرنساوي ليفهمه الحاضرون، وأول من وضع الرقاص في الساعة الدقاقة ريشارد هارس الإنكليزي وذلك في سنة ١٦٤١.

أما الساعات الصغيرة التي توضع في الجيب مختصرة عن الكبيرة، فالجزم بمعرفة مخترعها صعب، والأرجح أنها من مخترعات هوك. ا.ﻫ. وقيل: إن أصل اختراع الساعات كان في نورمبرغ في سنة ١٤٧٧، وحقق البعض أن روبرت ملك سكوتلاند كان له ساعة، وذلك في سنة ١٣١٠، وكان استعمال الساعات في الأرصاد الفلكية في سنة ١٥٠٠، وقال بعض: إن الإمبراطور كرلوس الخامس هو الذي كان عنده ما يصدق عليه اسم الساعة، وذلك في سنة ١٥٣٠، وأصل جلب الساعات إلى بلاد الإنكليز كان من جرمانيا في سنة ١٥٧٧، أما الساعات التي توضع في الجيب فمن الناس من نسب اختراعها إلى دكطر «هوك»، وأهل هولاند نسبوه إلى هيكفس، وكيف كان فإن دكطر «هوك» هو الذي اخترع الساعة الدقاقة ذات الرقاص، وذلك في سنة ١٦٥٨.

وقيل: إن ساعة الماء عرفت في رومية في سنة ١٥٨، وإن البابا بولس الأول أهدى بيان ملك فرنسا ساعة مائية في سنة ٧٦٠، وقيل: إن أصل اختراع الساعة الشمسية كان في سنة ٥٥٠ قبل الميلاد، وقيل: إنها عرفت في رومية سنة ٢٩٣ من التاريخ المذكور، وفي سنة ٦١٣ نصبت في الكنائس، وفي مدة أحد عشر شهرًا من سنة ١٨٥٠ جلب إلى بلاد الإنكليز من هذه الساعات ٢١٥٤٧٤.

فقد عرفت مما تقدم أن التمدن في البلاد الإفرنجية بدأ أولًا في إسبانية بالنظر إلى العلوم، وفي بلاد إيطاليا بالنظر إلى الصنائع، ثم انبثت منهما إلى فرنسا، وأول اشتهارها فيها وبناء قصر فنتنبلو وقصر صان جرمان، وتهذيب اللغة الفرنساوية كان في أيام الملك فرنسوا الأول، كانت ولادته في سنة ١٤٩٤ ووفاته سنة ١٥٤٧، ثم لما انتشر مذهب البروتستانت في فرنسا، وكانت الدولة تضطهد المتمذهبين به، كانوا يضطرون إلى الفرار إلى البلاد الأجنبية، وحسبك بيوم ماربرتولماوس دليلًا.

ولما قام لويس الرابع عشر — وكان هو ووزيره الكردينال ريشيلو أشد الناس بغضة لأهل هذا المذهب — فر كثير منهم إلى بلاد الإنكليز، وكانوا ذوي معارف وعلم فبثوا فيها ذلك، وطاب للإنكليز أن يضيفوا من التجأ إليهم، وأن يعفوهم من الجواز، وبقيت الحال على هذا المنوال.

(٨) من بولون إلى باريس

ثم إن بولون هي مثل غيرها من فرض فرنسا المقابلة لإنكلترة في كونها موردًا للتجارة بين المملكتين، وأكثر ديارها منازل للمسافرين، وثلث سكانها إنكليز، وأحسن ما فيها متحفها، فيه من غرائب أنواع الطير والسمك وسائر الحيوانات، ومن الجواهر المعدنية وأنواع الورق الذي كانوا يكتبون عليه في الزمان القديم، ومن الصور وآلات الطرب لجميع الأمم ما هو عبرة للمعتبر، ومن رأى عظام السمك والوحوش الضخمة فلا يكذب شيئًا مما قاله الأولون.

ثم سافرنا منها فبلغنا باريس ليلًا فدهشت لما رأيت، فإني وجدت جميع الحوانيت مفتوحة في الساعة التي لا يفتح فيها شيء في لندرة غير حانوت المزر، وحين مررنا بالبلفار رأينا من الأنوار في الديار من فوق، وفي محال القهوة من تحتها، وفي فوانيس الطرق من بين الأشجار، وفي فوانيس العواجل الواقفة عن اليمين والشمال، ما خيل لي أني في جنات النعيم، فقلت في نفسي بَخٍ بَخٍ إن هذه مدينة بهجة وأنوار، تتفتح فيها أكمام المعاني في رياض الأفكار، وتتجلى بها عرائس القصائد في أخدار الأشعار، فلأجعلن دأبي النظم فيها الليل والنهار، وكلما ارتج عليَّ شيء جئت إلى البلفار، ثم لبثنا أربعة أيام في مبيت إلى أن تيسر لنا استئجار محل في دار على حدته، وكان الضباب في خلالها كثيفًا والبرد شديدًا.

أما البرد فلا ينقص عن برد لندرة نقيرًا بل هو أشد، وأما الضباب فكان أبيض بخلاف ضباب لندرة فإنه يقع أسحم، فطفقت أشكو من الانتقال من ضباب إلى ضباب، فقال لي أحد أصحابي: «إن هذا الضباب إنما قدم إلينا معك من لندرة، فإن باريس ليست مُضِبَّة، ووقوعه فيها نادر جدًّا.» لكني وجدت قوله بعد ذلك غير الحق، فإنه وقع أيضًا في السنة الثانية وأنا مقيم فيها من دون أن يعلق بأذيالي من قطر آخر، إلا أنه لا يدوم طويلًا كما يدوم ضباب لندرة.

(٩) نبذة عن فرنسا وإحصاءات متنوعة

وقد حان الآن أن أشرع في وصف باريس وأهلها، ولكن لما كان العالم الأديب رفاعة بك الطهطاوي قد ألف كتابه النفيس المسمى بتخليص الإبريز في تلخيص باريز وسبقني إلى هذا المعنى، كان لا بد لي هنا من أن أستأذنه في ذكر ما أضرب عنه بالكلية، أو أشار إليه إشارة فقط ما استغربته منه.

ثم أجعل ذلك مقياسًا للقارئ يقيس عليه باريس ولندرة، ولكن قبل الكلام عن باريس خصوصًا ينبغي أن أبتدئ بالكلام على فرنسا عمومًا؛ فإنها حَرِيَّة بذلك، وخصوصًا أني قد أجملت القول في أول هذا الكتاب على إنكلترة.

فأقول: إن فرنسا كانت تسمى في الزمن القديم بالغال، ثم سميت بهذا الاسم المتعارف الآن نسبة إلى الفرنك الذين فتحوها، وهم قبائل من البلاد الشمالية، وأرض هذه المملكة خصيبة، ينبت فيها جميع الأشجار والبقول والحبوب غالبًا، وكانت أرضها منذ نحو سبعين سنة مهملة، أما الآن فقد بذل الجهد في حرثها وتنبيت الأشجار فيها حتى صارت قيمة محاصيل الأرض وغلالها، تبلغ في العام ٥٣٣٧١٧٨٠٠٠ فرنك، يصرف على ذلك ٣٥٥٢٠٠٠٠٠٠ فيكون الفائض ١٦٨٥١٧٨٠٠٠ فرنك، وهي كثيرة المعادن، يوجد فيها معدن الذهب، لكن على قلة، ويكثر فيها الفضة والحديد والرصاص والنحاس والتوتيا وغير ذلك، وعدد سكانها في سنة ١٨٤٥ كان ٣٢٥٠٠٠٠٠،١ منهم مليونان وثلث بروتستانت ويهود، وبلغت قيمة المجلوب من التجارة إلى فرنسا في سنة ١٨٤٣ ٨٤٦٦٠٦٩٤٠ فرنكًا، وقيمة الخارج منها ٦٤٣٩٦١٦٧٧ فرنكًا.٢

وفي مدة ثماني عشرة سنة وذلك من سنة ١٨٢٥ إلى سنة ١٨٤٣ كان من جملة أهلها مائتا ألف مجنون في المارستانات، وثلاثة آلاف قتلوا أنفسهم، ومائة ألف نفس بهم علل وأخذوا إلى ديار المرضى، وثمانمائة ألف يعيشون من الصدقات، ومائة ألف في السجون لأجل جنايات مختلفة، وقال آخر: وبلغ عدد الإكليروس في سنة ١٨٤٣ أربعة وعشرين ألفًا، منهم ثلاثة كردينالات وأربعة عشر مطرانًا وسبعة وستون أسقفًا، ويضاف إليهم نحو ثمانية آلاف وخمسمائة من المترشحين للكنيسة، وعدة أديار النساء ثلاثة آلاف، وعدد الراهبات أربعة وعشرون ألفًا، وبلغ عدد الإكليروس في زمان الفتنة ١١٤٠٠٠، من جملتهم اثنان وثلاثون ألف راهبة.

وبلغت جملة إيرادهم اثنين وسبعين مليونًا، ومبلغ العشور الذي يستوردونه سبعين مليونًا، فجملة ذلك ١٤٢٠٠٠٠٠٠، وإيراد الكردينالات والأساقفة ١٠١٧٠٠٠ وجملة المصاريف على الديانة الكاثوليكية ٣٤٢٥١٠٠٠ فرنك، وعلى البروتستانت ١٠٣٣٠٠٠ وعلى اليهودية ٩٠٠٠٠، وفي سنة ١٨٤١ بلغ عدد المسافرين في فرنسا ٦٣٣٠٠٠٠٠٠ نفس، منهم ١٤٣٠٠٠٠٠٠ سافروا في سكة الحديد، وفي سنة ١٨٥٥ بلغ عددهم بليونًا منهم مليون وثلاثمائة واثنان وسبعون ألفًا سافروا في الأرتال، وبلغ إيراد الكمرك في سنة ١٨٥٦ ١٨٢٢٩٦٧٩٨ فرنكًا، وفي سنة ١٨٥٧ بلغ إيراد الدولة نحو سبعين مليون ليرة إنكليزية فكان نحو إيراد دولة الإنكليز بل أكثر.٣

وفي السنة المذكورة كان لها من العساكر البرية نحو خمسمائة ألف، وأمكن لها في أي وقت شاءت أن تجهز من الجيوش البحرية نحو سبعين ألفًا، والمحروث من أرضها لا ينقص عن اثنين وأربعين مليون هكتار، وملاكها نحو سبعة ملايين من رءوس العيال، وبهذا يظهر لك الفرق بين المملكتين.

وقال بعضهم بلغ مصروف دولة فرنسا في مدة عشر سنين آخرها سنة ١٨٦١: ٧٦٨٥٢٠٠٠٠ ليرة، وبلغ إيرادها ٦١٩٦٨٠٠٠٠ ليرة فكان إيرادها في كل سنة ٦١٩٦٨٠٠٠ ليرة، ومصروفها ٧٦٨٥٢٠٠٠، وكان مصروف أوستريا في مدة أربع سنين، وهي من سنة ١٨٥٧ إلى سنة ١٨٦٠: ١٥٤٢٠٠٠٠٠ ليرة، وهو عبارة عن ٣٨٥٠٠٦٧٤ في كل سنة، وكان إيرادها في المدة المذكورة ١١٥٥٠٠٠٠٠، وهو نحو ٢٨٨٥٧٠٠٠ ليرة في كل سنة، وبلغ إيراد إيطاليا في سنة ١٨٦١: ٣٢٢٠٥٦٧٤ وإيرادها ١٩٦٣٤٨،٤ وبلغ مصروف دولة شمال أميريكا في سنة واحدة من مدة الحرب ٢٥٠٠٠٠٠٠٠ ليرة.

فأما سكان هذه الممالك فإن عدد أهل فرنسا بلغ في سنة ١٨٦١: ٣٧٣٨٢٢٥٥ نفسًا، وزاد عدد الروسية في مدة خمسين سنة ضعفين، وكانت الزيادة في إنكلترة في تلك المدة ١١٩ في المائة، وكانت زيادة بروسية من سنة ١٨١٦ إلى سنة ١٨٥٨: ٧٢ في المائة، وزيادة أوستريا من سنة ١٨١٨ إلى سنة ١٨٥٧: ٢٧ في المائة، وزيادة فرنسا من سنة ١٨٢٦ إلى سنة ١٨٦١: ١٢ في المائة لا غير فتكون الولادة في فرنسا أقل من غيرها في سائر الممالك.

أما الزواج فذكروه على هذا التفصيل، وهو: أنه يولد فيها ١٠٠ ولد من كل ٢٨٥ زواجًا وفي بريتانيا ١٠٠ ولد من كل ٢٣٧ زواجًا، وفي أوستريا والروسية ١٠٠ ولد من كل ٢٢٣ زواجًا، وفي بروسية ١٠٠ ولد من كل ٢١٠ زواج، فيكون ولادة الولد في بروسية في ظرف سنتين وخمسة أسابيع، وفي فرنسا نحو سنتين و٤٢ أسبوعًا، فأما الموت فمن كل ١٠٠٠ نفس في بريتانيا يموت في السنة ٢٢، وفي فرنسا ٢٨، وفي بروسية ٢٩، وفي أوستريا ٣٢، وفي الروسية ٣٣.

(١٠) وصف باريس

كانت مدينة باريس في سنة ٣٨٠ تسمى باريسي، وكانت عرضة لنهب النورمان، وفي سنة ١٤٢٠ استولى عليها الإنكليز، وبقيت تحت يدهم خمس عشرة سنة، وفي سنة ١٤٣٨ رزئت بالطاعون والمجاعة، فمات بهما أكثر من خمسين ألفًا، فكانت الذئاب تدخل أسواقها وتغتال من تغتال، وفي سنة ١٨٤٠ حصنت بسور طويل يحيط بشاطئ النهر، وبقلاع متفرقة، وذلك مسافة خمسة عشر فرسخًا وربع فرسخ، بُدِئَ به في كانون الأول سنة ١٨٤٠ ونُجِزَ في شهر آذار سنة ١٨٤٦، وبلغت نفقته ١٤٠٠٠٠٠٠٠ فرنك، أو خمسة ملايين ليرة، قلت: وقد جرى ذلك كما قصده نابليون الأول، وهو في جزيرة صنت هيلانة، قال: ولما دنت منها الأعداء في سنة ١٨١٤ تبادر الناس إلى إنشائه على عجل، لكنه كان غير محكم، ثم أكمل وجعل حوله أربعة عشر برجًا.

وقال آخر: كانت باريس تدعى في القديم «لوكس» سميت بذلك في أحد الأقوال باسم «لوكوس» مؤسسها، والذي عليه الاتفاق، أنها من أقدم مدن الغال، ولما غزا قيصر بلادهم كان يقال لها: باريسي، ولم تكن حينئذ إلا عبارة عن خِصَاص مهينة كالجزيرة في نهر السين، مع أنه لما أراد فتحها قاومه أهلها مقاومة شديدة لم تكن تخطر بباله حالة كونهم خالين عن أسباب التمدن، ثم أخذت في التمصر والاتساع في عهد ملوك كثيرة ولا سيما في زمان يوليانوس وكلوفي، وأعظمهم فيليب أغوسط في سنة ١١٨٤، ثم قام لويس الملقب بالصغير وأنشأ فيها مدرسة، فأقبل الناس إليها لطلب العلم حتى صار عدد الطلبة أكثر من أهل الصقع الذي بنيت فيه، وهو الذي أحاط بها سورًا وصروحًا.

ثم قام فرنسيس الأول وأنشأ فيها اللوفر، فقام هنري الرابع وغير فيه تغييرات جمة، وفي زمان لويس الرابع عشر صارت كأنها مدينة جديدة، وما قصده نابليون الأول في تحسينها وتنظيمها استحسنته عائلة البوريون، وزاد عليهم أجمعين لويس فيليب، فإنه ظن أن حفظه ذكر أيام نابوليون يكون أدعى لاستمالة خواطر الناس إليه، فمن ثم أتم ما ابتدأ به نابوليون، فأنشأ السور وأتم الأزج أو القنطرة المسماة «أرك دوترايونف» ونصب تمثال نابوليون مرة أخرى على عمود فندوم، وفي عهده دفنت جثة نابوليون، قلت: وفي زمن نابوليون الثالث كسيت من الرونق والبهجة ما لا مزيد عليه.

وقال غالنياني في كتابه الذي سماه المرشد إلى باريس — طبع في سنة ١٨٤٤: «أول من ملك فيها من ملوك النصارى كلوفيس وذلك في سنة ٥٢٤، وأول من بشر فيها بالإنجيل كان ماردانيس وذلك سنة ٢٥٠، وأول كنيسة أسست فيها فيما عُلِمَ كانت كنيسة ماراسطفانوس في الموضع الذي ترى فيه الآن كنيسة «نوطردام»، وفي سنة ٨٥٧ أحرقها النورمان ثم بنيت، وقسمت المدينة إلى أربعة أقسام؛ ومن ثم يقال لكل جهة منها «كارتيه»، وفي زمن لويس السمين كان الإيراد من الباب الشمالي اثني عشر فرنكًا لا غير، وهي تبلغ بحسابنا الآن ستمائة فرنك، وفي القرن الرابع عشر أنشئ فيها مدارس للعلم، وفي عهد فيليب أغوسط كثرت فيها الأبنية والمغاني والكنائس، وبلط بعض الطرق، وألزم الأهلون تحصينها، وفي سنة ١٢٥٠ أنشأ فيها روبرت صوربن مدارس لم تزل تعرف باسمه.

وفي زمن شارلس المعتوه دخلها الإنكليز، ثم طردوا منها بعد أن أقاموا فيها ست عشرة سنة، وذلك سنة ١٤٣٦، وفي عهد شارلس السابع خربت من القحط والوباء والذئاب، حتى إنها صارت في سنة ١٤٦٦ مأوى لأصحاب الجرائر والنقائص من جميع الأقطار، وفي عهد لويس الحادي عشر بلغ عدد أهلها ثلاثمائة ألف، واكتسبت رونقًا وعمرانًا فهدم اللوفر القديم وأنشأه منشأً حسنًا، وأنشأ مدرسة يعلم فيها كل نوع من العلوم مجانًا.

وفي سنة ١٥٣٣ شرع في بناء «هوتل دوفيل» وحُسنت طرق وأنشئت أخرى، وفي سنة ١٥٦٣ أنشئ التولري، ثم لما قامت الحروب الدينية على ساق تعطلت أسباب التمدن إلى أن قام بأعباء الملك والسياسة هنري الرابع، فأصلح ذات البين ومد على الناس ظل السلم والرفاهية، وزاد في تبهيج المدينة غاية ما أمكن، وأنشأ جملة محال، وكبر التولري، وفي زمن لويس الثالث عشر أنشئت طرق عديدة، وأنشئ قصر اللوكزمبور، وبستان النباتات وغير ذلك، ثم لما قام لويس الرابع عشر أتم ما كان قصده خلفه هنري الرابع، فأنشأ أكثر من ثمانين طريقًا، وحسن القديمة، وأنشأ ساحة فندوم، و٣٣ كنيسة ومارستان السقط ومارستان النغول والمرصد، وكبر قصر التولري، ونظمت المماشي، وبلط كثير من الرصف، وغرست غَيْضَة شانزلزي.

وكذلك لويس الخامس عشر لم يألُ جهدًا في أن أفادها نضرة الملك حتى وسعت رقعتها في زمانه ٣٩١٩ فدانًا، وأنشأ عدة مدارس وعيونًا جارية، وفي أيام لويس السادس عشر أنشئت فيها جملة ملاهٍ وكنائس ومنازل سامية وأسواق بهيجة، فصارت رقعتها ٩٨٥٨ فدانًا، وجعل للسور ستون بابًا يؤخذ منها ضريبة على ما يدخل إليها من الخارج، ووسعت الطرق وأتم «بالي روايال» — أي السرايا الملكية — بما فيه من الحوانيت الظريفة، وفي زمان الفتنة خرب كثير من الكنائس، ثم رممت وأنفق عليها أربعة ملايين، ولما استرد المُلك إلى لويس الثامن عشر بنى مجلس المشورة العام، وأنشأ أسواقًا كثيرة ومستشفيات عديدة، ونصب عمود فندوم، وأنشأ خمس عشرة عينًا وزين القصر، وفي أيام شارلس العاشر زيدت فيها محاسن كثيرة جلها في الكنائس، وأنشئت ثلاثة جسور.

فلما قام لويس فيليب فتحت طرق جديدة وربع بناء هوتل دوفيل، ونصبت مسلة مصر، وأتم إنشاء كنيسة لامدلين أي المجدلانية وبلاس دولاكنكورد وعمود النصر. انتهى ملخصًا.

قال: وهي على بعد مائة وخمسة فراسخ من لندرة أو مائتين وأربعة وخمسين ميلًا، ودورتها ٢٣٧٥٥ مترًا أو ٢٥٩٧٩ ياردًا، وأطول أيامها ست عشرة ساعة وست دقائق، وأقصرها ثماني ساعات وعشر دقائق، وفيها أكثر من ٤٥٠٠٠ دار، و١٣٠٠٠ دكان، و١٢٦٠ طريقًا، و٣٨ ممشى، و٢١ بلفارًا، و٩٩ عرصة أو فسحة، و١٨٣ سقيفة أو معبرًا مما يقال له: «باساج» و٣٧ رصيفًا.

ومسطح طرقها يبلغ ٣٢٠٠٠٠٠ ذراع مربع، وطولها ٤٨٠٠٠٠ ذراع أو ١٢٠ فرسخًا، ومصاريف تنظيف الطرق تبلغ ٥٣٥٠٠٠ فرنك، ومن قبل سنة ١٧٢٨ كانت الطرق عطلًا عن الأسماء، ثم بعد أن رقمت غيرت مرارًا عديدة، وفي سنة ١٨٤٢ بلغت مصاريف تبليطها وتوسيعها ٧٥٠٠٠٠ فرنك. قلت: جميع الطرق كانت من قبل مبلطة، فلما صار الأهلون وقت الشغب والفتنة يتخذون حجارتها متاريس، أمر الآن بأن تصير رضراضًا، ومن سنة ١٨٥٣ إلى سنة ٥٧ بلغت مصاريف المدينة ٩٣ مليونًا، صرف منها في البناء وتجديد الديار ٤٧ مليونًا، وفي الماء وتصليح الطرق ٣٣ مليونًا، وعلى بوا دوبولون ٥ ملايين، وجل هذه المصاريف مما يرد من المدينة، ولم يصرف الميري من عنده أكثر من ستة ملايين. ا.ﻫ.

وقبل أيام لويس السادس عشر لم تكن تنور إلا مدة تسعة أشهر في السنة، وذلك عند غياب القمر، فأمر بأن تنور في كل ليلة، وعدة ما فيها من القناديل ١٣٢٢١، كلها تنور بالغاز، وفي سنة ١٨٤١ ولد فيها ٢٩٩٢٣، ومات ٢٦٠٢٨، وتزوج ٨٩٦٢، وكان عدد النغول ٩٨٣٠، وفيها نحو ٨٠٠٠٠ خادم.

وقال آخر: كان أهلها في سنة ٥٦ ١١٤١٣١٦، وفيها من الحرس الإمبراطوري ٩١٧ من جملتهم ٢٨ ضابطًا، ومصاريف ديوان الشرطة تبلغ في السنة ٥٣٣٥٢٩٥، وقال الأول: ولا يزال في مستشفياتها ١٥٠٠٠ نفس، وقدر من يدخل فيها ويخرج منها ستون ألفًا، وفيها تسعة آلاف من ذوي الأحكام النظامية، وهم أهل علم ودراية، ولهم موضع مخصوص لإغاثة الفقراء مجانًا وذلك في يوم السبت، ومائة وأربعة عشر كاتبًا للصكوك والعقود، وتسعة سجون، أحدها للمقضي عليهم تبلغ مصاريفه ١١٤٥٠٠٠، ويعاملون فيه بغاية ما يمكن من الرفق والشفقة، وعدها غيره عشرة.

(١١) مدارس باريس

وفيها إحدى وعشرون مدرسة ملكية، فيها من الطلبة ١٠٩٧٥، وإيرادها منهم ٣٨٣٥٤٤ فرنكًا، وثلاثمائة وسبعة عشر مكتبًا مما يقال له: «كومونال» فيها من المتعلمين ٢٢٥٨٨، وإيرادها ٢٢٧٦٩٣ ومائة وأحد عشر معلمًا يقال لها: أنستيتسيون، فيها ٨٣٧٨ طالب علم، وإيرادها ٢٥٠٦٢٠ وألف وسبعة مراب، ويقال لها: «بنسيونات»، فيها ٢٣٥٣٨ نفسًا، وإيرادها ٤٧٣٧٧٣ فرنكًا، وفيها أربع وخمسون جمعية للعلوم وفعل الخير وبث الديانة ما عدا مواضع أخرى.

قلت: إن كثيرًا من هذه المدارس والمكاتب يديره القسيسون فلا يأخذون من المتعلم إلا نصف المصروف عليه، فيمكن للوالد أن يضع ولده في أحدها بمصروف ثلاثين فرنكًا في الشهر، فمن أجل ذلك ترى جميع الأولاد هنا مترشحين للعلوم والصنائع، وللأخوات اللائي هن من جنس الراهبات فضل عظيم مشهور في تربية البنات وتمريض الرجال والنساء في بيوتهن أو بيوت المرضى، حتى إن بعضهن يداوي وبعضهن قوابل، وقد يسافرن إلى البلاد الشاسعة في فعل الخيرات، ولهن لباس مخصوص يعرفن به على تنوعه، فهذه الطريقة أنفع من طريقة الراهبات في الشرق؛ إذ يحتجبن عن الناس في الدير فلا ينفعن أحدًا من الناس، وهاتان المزيتان — أي التعليم على الوجه الذي ذكرناه، والاعتناء بالمرضى — لا توجدان في لندرة.

(١٢) مستشفيات باريس

على أن التداوي في مستشفيات باريس هو على طرف الثمام، وفي لندرة يحتاج إلى ذرائع ووسائط، قال: وفيها ستة وثلاثون مارستانًا، وقد علم من خلاصة صدرت في سنة ١٨٤٢ أن هذه المارستانات تقوم بمُؤْنة اثني عشر ألفًا من المرضى والعاجزين رجالًا ونساء، وفي كل سنة يدخلها نحو ثمانين ألفًا، وأن مصاريفها في السنة المذكورة بلغت أربعة عشر مليونًا ونصف مليون، لكن إيرادها أكثر من المنصرف، وهو يتحصل من ضرائب على الملاهي ومن العقار الذي يشترى للمقابر وغير ذلك، ويصرف فيها — أي في هذه المستشفيات — من اللحم ٢٥٦٠٢٥٠ رطلًا، ومن الزبدة ٤٨٨٠٠ كيلوغرام، ومن اللبن ٥٣٠٠٠٠ ليتر، ويوجد أيضًا ما عدا ذلك مواضع عديدة لإغاثة الفقراء وتشغيل البطالين.

قلت: وقد علم من كتاب طبع في سنة ١٨٥٥ أن هذه المستشفيات تقوم بمؤنة أكثر من أربعة عشر ألف مريض يعالجون فيها، وأقدمها المارستان المسمى «هوتل ديو» يتداوى فيه من مدار السنة أحد عشر ألف مريض وتخدم فيه ستون راهبة، وعدد أطبائه اثنان وسبعون طبيبًا.

(١٣) أهل باريس وأسواقها

وقال آخر: المحسوب أن نصف أهل باريس صناع وعملة، وليس فيها أكثر من ألف نفس ممن يحسنون إثبات كونهم سكانها في باريس سلفًا عن خلف من عهد لويس الثالث عشر، وقال آخر: إن ثلثي سكان باريس لا يقدرون على مصروف الجنازة وكل واحد من ثلاثة آلاف يقتل نفسه، ومن كل ثلاثة مواليد يكون نغل، وفي سنة ٥٣ ولد في مدينة ويانه من الحلال ١١٢٦٤ ولدًا ومن الحرام ١٠٦٨٦، وفي سنة ٥٤ ولد من الأول ١١٢٦٥، ومن الثاني ١٠٨٠١، وفي سنة ٥٥ ولد من الأول ١٠٦٥٠، ومن الثاني ٩٥٢٢، وفي سنة ٥٦ ولد من الأول ١٠٨٧٠، ومن الثاني ١٠٣١١، وإن من أهل باريس ثلاثين ألفًا من غير الذين يعيشون من الصدقات يقومون في الصباح ولا يعرفون من أين يحصلون غداءهم، ومنهم سبعة عشر ألفًا سكارى منهمكين في القبائح.

وقال آخر: وفيها تسعة أسواق كبار للمأكولات، وخمسة مجازر بلغت مصاريف بنائها وتنظيمها ١٦٥١٨٠٠٠، وثَمَّ المسالخ والمدابغ العديدة، وعدد الجزارين أكثر من خمسمائة، وفي كل يوم يذبح في أحدها — وهو المسمى مجزر مونت مارتر — ٩٠٠ من الثيران، و٤٠٠ من البقر، و٦٥٠ من العجول، و٣٥٠٠ من الضأن.

والمُؤْنة السنوية من المأكول والمشروب وما هو من قبيل ذلك تبلغ ٣٥٠ مليونًا، منها ٤٩ مليونًا ثمن خمر، و١٢ ثمن لبن، و٧٨ ثمن شمع وسكر وبن، وما أشبه ذلك، ومليونان ثمن ملح، وثمانية وثلاثون مليونًا ثمن خبز، وأربعون مليونًا ثمن لحم، وخمسة عشر مليونًا ثمن بقول، و٤٤٤٠٠٠ ثمن فحم، والمؤنة من البطاطس في السنة تبلغ ٣٢٥٠٠٠ كيلوغرام، ومبلغ ما يباع فيها من التبغ في كل سنة ٧٠٨٧٩٣ كيلوغرام، ومؤنتهم في كل يوم من الخُلَّر ونحوه ٢٠٠٠٠، وكل يوم يأتي إليه عشرون عجلة مشحونة بالفضة، وفي بعض الأيام يباع فيها من الدقيق ما قيمته ٤٥٠٠٠ فرنك، ويرد إليها من الخارج في السنة ١٢٠٠٠ قارب مشحون بالفاكهة والقمح.

وقال آخر: ومن جملة أسواق المأكولات بباريس السوق المعروفة بالهال، أول حجر وضع في أساسها وضعه الإمبراطور في سنة ٥٢ تباع فيها البقول والخضرة والفاكهة على أنواعها، فيرد إليها في كل يوم ثلاثمائة وعشرون عجلة مشحونة بها، وفي أوان الفاكهة يستخدم في نقلها ٤٢٠ عجلة ونحوها، ويباع فيها في العام من صنف واحد من البقول مما يتخذ للسلطة بمليون فرنك ونصف مليون، ومن صنف من محار البحر يسمى الدزويتر بنحو ١٦٧٠٩٢٦ فرنكًا.

قلت: والفاكهة والبقول في فرنسا تعظم للغاية كما في إنكلترة، فقد يصنعون من قشر ثمر الجوز شبه حقة للنساء، تحوي مقصًّا وإبرة ونحو ذلك، قال: ويباع فيها في سوق الزبدة بنحو ستة ملايين، ومن البيض ٥٥٣٩٨٩٠ فرنكًا، قلت: ومن هنا يعلم أن ما ذكره الشيخ رفاعة بك من أن أهل باريس يقطعون من البيض بخمسة آلاف فرنك سهو، والظاهر أنه أراد خمسة ملايين، كيف لا؟! وقد قال: إنهم يخلطونه في نحو ثلاثمائة صنف من الطعام.

(١٤) أكادميات باريس ومكتباتها

وفيها — أي في باريس — خمس مشيخات كبار أي أكادميات، من جملتها الأكادمية الفرنساوية للنظر في تهذيب اللغة وتنقيح أصولها وفروعها، وكل من ألف كتابًا بديعًا في التاريخ والأدب ينال منها جائزة، وفيها ديار كتب عديدة، أكبرها وأعظمها المكتبة العمومية، فيها مليون من الكتب المطبوعة، وثمانون ألف كتاب بخط اليد، ومائة وخمسون ألف ميداي — أي نيشان — ومليون وأربعمائة ألف صفيحة منقوشة، وثلاثمائة ألف راهنامج، وفيها رسائل محفوظة من لويس الرابع عشر وكليبر وكلبرت، وكتاب واحد من اللورد بيرون.

ومن جملة تلك الكتب كتب مطبوعة من عهد فوست وسوفر، وما من ديوان أو محترف ميري إلا وفيه ألوف من الكتب، وجملة الكتب المطبوعة الموجودة في المكاتب ما عدا المكتبة المذكورة ١٢٩٣٥٠٠، والتي بخط اليد عشرة آلاف ما عدا ديارًا أخرى على حدتها، بعضها يحوي عشرين ألفًا، وبعضها أقل، وهو كافٍ في بيان ما لهذا الجيل من الحرص على العلوم.

وفيها مطبعة ملكية من تأسيس فرنسيس الأول، فيها حروف متنوعة يطبع بها كتب بإحدى وخمسين لغة، ويطبع فيها في ليلة واحدة ثمانمائة صفحة من قطع الربع، وعدد المستخدمين فيها من ثمانمائة إلى تسعمائة، ومصاريفها ثلاثة ملايين.٥

(١٥) جسور باريس وقنواتها

وعلى نهر المدينة سبعة وعشرون جسرًا منها سبعة معلقة وثلاثة من الحديد والحجر، وواحد من الخشب، والباقي من الحجر من جملتها جسر دولاكنكورد بدئ به سنة ١٧٨٧، ونجز في سنة ١٧٩٠، وبلغت مصاريفه ١٢٠٠٠٠٠ فرنك، طوله ٤٦١ قدمًا، وعرضه ٦١، وآخر يعرف بجسر لويس فيليب، بلغت نفقته مليون فرنك، وآخر اسمه جسر روايال طوله ٤٣٢ قدمًا، وعرضه ٥٢، وآخر يسمى بون دزار — أي جسر الصنائع — طوله ٥١٦ قدمًا وعرضه ٣٠، ومصاريفه ٩٠٠٠٠٠، وقد أجري إليها الماء في قُنيٍّ، من جملتها قناة مسافتها أربعة وعشرون فرسخًا بلغت مصاريفها خمسة وعشرين مليونًا، وأخرى أنفق فيها أربعة عشر مليونًا ومائتا ألف فرنك.

(١٦) مهنيو باريس

وقال آخر: يوجد فيها ٧٢٧ من وكلاء الدعاوى، و١٤٥٦ من الأطباء والجراحين، و٤٩٧ من باعة الأدوية أو الكمياويين، و٨١١ من البنائين، و٤٤٢ من المصورين، و٨٨٠ من النقاشين على الحجر والحديد ونحوهما، و٦٨٩ من الخبازين، و٤٨٧ من الجزارين، و٦٦٢ من الصيارفة، و١١٦٠ من التجار بالكومسيون، و١٨٤٥ من باعة الشمع والصابون والسكر ونحو ذلك، و٦٨٠ من صناع الساعات، و٣٩٧٩ خمارًا، و٢٦٠ من باعة الشريط والقيطان ونحوهما، و٧٣٨ من صناع الزهر من الورق، و١٢٦ من المصورين على نور الشمس، و١١٧ من الحمامات السخنة، و٢٤٠ معملًا للورق، و٥٢٣ موضعًا للأكل، و١٠٣٥ موضعًا للقهوة، و٣٣ محترفًا لاشتهار الإعلامات، و١٢٨ موضعًا للتضمين والتعهيد، وفيها سبعة مواقف لسكة الحديد، وسبعة وعشرون مأوى للجند من جملتها مأوى يسع خمسة آلاف وثمانمائة رجل وثمانمائة فرس، وفيها اثنا عشر حوضًا، وثمانية وعشرون ملهى — أي ثياطرًا — ولم يكن فيها في أيام لويس الرابع عشر سوى ثلاثة.

(١٧) مسارح باريس وملاهيها

وفي سنة ١٧٩١ صدرت إجازة للأهلين من أهل المجلس المعروف بالأسامبلي، بأن كل من استطاع منهم أن ينشئ ملهى فهو غير معارض فبلغت ثلاثة وأربعين، وهناك أيضًا محال أخرى للغناء والسهريات والحظ مما يطول شرحه، قال: والملهى الطلياني يرد إليه إمداد في السنة من خزنة الدولة بمائة ألف فرنك، وإن كثيرًا من الإنكليز والنمساويين بل الروس أيضًا يقصدون ملاهي باريس ليروا فيها من التمثيل ما لم يروه في بلادهم إلا غير كامل، وكلهم يقر بأفضليتها على غيرها، وإمداد «الأوبرة» الفرنساوية ٧٥٠٠٠٠ فرنك ما عدا مرتبًا آخر لها قدره ١٣٠٠٠٠٠ فرنك.

قلت: في أول المرفع وفي نصف الصيام يصنعون في هذا الموضع رقصًا، فتنحشد إليه الرجال والنساء بلباس السخرية، بحيث لا يعود الرجل يعرف زوجته ولا بنته، ويبقون هكذا إلى الفجر، وهذا الموضع يشتمل على نحو خمسين ثريا أو نجفة، وعدد الآلاتية فيه ينيف على خمسين، قال: وإمداد «الأوبرة» كوميك؛ أي ملهى الضحك ٢٤٦٠٠٠، وفيها عشرة منتديات مما يعرف بالكلوب، وثمانية مراقص أصلية، من جملتها مرقص يختص بطلبة العلم، فأما المراقص التي تكون مجتمعًا للدون فغير جديرة بالذكر.

(١٨) كنائس باريس

وفيها إحدى وأربعون كنيسة كبيرة، ونحو منها المعابد، وأقدم الكنائس وأشهرها كنيسة «نوطردام» أول حجر جعل في أساسها وضعه البابا إسكندر الثالث، وذلك في سنة ١١٦٣، ولم يتم بناؤها إلا في عهد شارلس السابع، طولها ١٢٦ ذراعًا وكسور، وعرضها ٤٨، وارتفاعها ٣٣، وعلو برجها ٦٨.

(١٩) أسواق باريس وإيراداتها

وفيها خمسة أسواق للزهر على أجناسه وأنواعه، وفيها سوق للكلاب يعرض فيها للبيع في كل يوم أحد ٢٨٠ كلبًا، وأخرى للخيل والحمير، طولها ٤٨٠ ذراعًا، وعرضها ٨٨، وفيها ساحة للخمر، وسعها ٢٦٠٠٠ ذراع مربع، يرد إليها في كل يوم ١٥٠٠ برميل، وهي تَسَع منها ٤٥٠٠٠.

قال غالنياني: وبلغ إيراد الخزينة من الدخان ٧٠٠٠٠٠٠، وبلغ مكس باريس الوارد إليها مما جعل على الأسواق والحوانيت والمجازر والمخازن والعيار والدفن وغير ذلك خمسين مليونًا، وبلغ المصروف عليها خمسة وأربعين مليونًا، من جملتها مصاريف الأبنية والمستشفيات وديوان الشرطة والمكاتب والمتاحف والمماشي والزينة في الأعياد، وبلغت مصاريف الدواوين الميرية ١٣٨٩٢٠٨١٧٢ فرنكًا أعظمها مصاريف دين الأمة وديوان الحرب، وبلغ إيرادها ١٢٤٦٨٨٠٣٣٦، ودين الدولة يبلغ ١٩٥٩١٦٩٠١، وبلغت مصاريف العسكر في سنة ١٨٤٤: ٣٤٨٠٠٠٠٠٠.٦

(٢٠) وزارات فرنسا

والوزراء هم وزير الأمور الخارجية، ووزير الحربية، ووزير البحرية والمستعمرات، ووزير المالية، ووزير الزراعة والتجارة، ووزير الداخلية، ووزير الأبنية الميرية، ووزير العدلية، ووزير المعارف، ومن هؤلاء الوزراء، ومن مجلسي المشورة الخاص والعام، ومن صاحب الملك تتألف دولة فرنسا.

وقال آخر: في باريس تفرق المكاتيب سبع مرات في كل يوم، وذلك من الساعة السابعة ونصف صباحًا إلى الساعة التاسعة مساء، وأول من رتب البريد لويس الحادي عشر وفي سنة ١٧٩٢ اطرد ترتيبه كما نراه الآن.

(٢١) الشبه والاختلاف بين باريس ولندرة

وقد حان لي هنا أن أقول: إن باريس تشبه لندرة في كونها شطرين يفصل بينهما نهر، إلا أن نهر باريس صغير لا يسع المراكب الكبيرة، وتخالفها في أحوال كثيرة:
  • أحدها: إن ديار باريس من الحجر، فلا يزال ظاهرها أبيض أنيقًا، بخلاف ديار لندرة، فإنها مبنية من الآجُرِّ، فلا يأتي عليه سنتان أو ثلاث إلا ويسود من كثرة الدخان والضباب، بل المنازل المبنية فيها من حجر تسود أيضًا.
  • الثاني: إن ديار باريس متناسقة الارتفاع في الغالب، متناسقة الظاهر، فإنها كلها بيضاء متناسقة وضع الشبابيك، أما ارتفاعها فإن بعضها يشتمل على سبع طبقات، فربما ارتقى فيها الإنسان مائة وثلاثين درجة، حتى يصل إلى غرفته، فهي من هذا القبيل متعبة، ولكل طبقة فانوس يشعل بالغاز، ولكل دار رِتاج كبير لا يزال مفتوحًا إلى نصف الليل، وبواب يتبوأ كِنًّا بالقرب منه، فإذا خرج أحد السكان أعطاه مفتاح غرفته، ومتى رجع أخذه منه، وإذا غاب بعد نصف الليل أطن الجرس فيقوم البواب من فراشه ويفتح له، ولا بد وأن يعطيه شيئًا في مقابلة ذلك.

    هذا؛ إذا كان ساكنًا في دار مفروشة، فأما إذا اكترى شقة من دار تشتمل على مبيت ومقعد ومطبخ، فله أن يأخذ مفتاحه معه، وعند ذلك يحتاج إلى أن يستخدم امرأة لتصلح له مسكنه أو يستأجرها ساعة أو ساعتين في النهار، وربما كانت هذه المرأة أجيرة عدة أشخاص، فتذهب إلى كل منهم في ساعة معلومة، ولا يمكن لغريب — بل لأهلي — أن يستأجر دارًا من بابها بجميع مرافقها، وذلك لكبرها وغلائها، فكل دار في باريس عبارة عن قصر، فأما ديار لندرة فلا تزيد غالبًا على أربع طبقات، ثلاث ظاهرة، وواحدة تحت الأرض لادخار الفحم وغسل الثياب وما أشبه ذلك، وبعضها كبير وبعضها صغير، ومن ثم يمكن للإنسان أن يستقل بدار منها.

  • الثالث: إن درج باريس متين جدًّا، ومبلط الغرف التي بنيت من عهد حديث من خشب متين جلي بهي، ومبلط الديار القديمة من الآجُرِّ الأحمر، وفرش المبلط بالبسط أو الزرابي غير مطرد، وإنما يجتزئون عن ذلك بنحو سجادة يجعلونها عند الموقد، أما في لندرة فإن جميع المساكن مفروشة بالبسط، ولذلك سببان؛ أحدهما: أن البسط فيها رخيصة، وفي باريس غالية، والثاني: أن خشب المبلط في لندرة قبيح وسخ؛ فكان لا بد من ستره.
  • الرابع: إن جميع طيقان باريس تنفتح على مصراعين كالباب، فيسهل غسلها وتنظيفها بأهون سعي، وطيقان لندرة لا يفتح إلا نصفها الأدنى صعدًا، ويبقي الأعلى مطبقًا، فلا يمكن تنظيفه، فيكون لا بد من استخدام من ينظفه من الخارج، وهو معنت شاق.
  • الخامس: إن مواقد ديار باريس هي في موازاة المبلط، ولا يمكن طبخ شيء عليها، وجل وقودهم إنما هو الحطب لا الفحم المعدني، فإنهم يكرهونه غاية الكراهية لرائحته وتوسيخه الثياب، ولا يطبخون عليه أصلًا، وحين كنا نوقده للاستدفاء على عادة الإنكليز كانت خادمتنا تتأفف منه، وغير مرة غشي عليها منه، وفي بعض الغرف والدكاكين يوقدون ما أطفئ من الفحم — أو الفحم مع الحطب — في كوانين عالية من الحجر القيشاني الظريف، أو من الحديد، وقد تكون متصلة بقصبة من حديد نافذة في الحائط ليخرج منها الدخان وقد لا تكون.

    وفي الجملة فإن مواقد لندرة أحسن؛ فإنها مجعولة لأن يوقد فيها فحم الحجر، ولأن يطبخ عليها؛ وذلك لارتفاعها عن المبلط، هذا في الديار الصغيرة، فأما في ديار الكبراء فتكون أيضًا في حيز المبلط كما هي في باريس، والحكمة في ذلك عندهم وعند أولئك إيصال الحرارة إلى الأرجل، فإنها أحق الأعضاء بالدفء، والحاصل أن الشتاء داخل الديار في لندرة أهنأ وأهون؛ وذلك لاعتنائهم بفرش المساكن والدرج، وبكون المواقد قابلة لوقيد الفحم كما مر، وأنت خبير بأن بناء الحجر يحدث رطوبة أكثر من الآجُرِّ.

  • السادس: إن لكل طبقة من ديار باريس مرحاضًا، ووراءه مصب للماء، وفي ديار لندرة لا يكون إلا مرحاض أو اثنان، فهي من هذا القبيل أنظف وأدنى إلى الصحة.
  • السابع: إن مداخن باريس الخارجة من السطوح تكون غالبًا من الحديد، وفي لندرة من الخزف، فتلك أبهج منظرًا، والحاصل أنه لما كان النظر في أمور المدينة والديار بباريس موكولًا إلى أرباب السياسة، كانت الديار وحدها تؤذن بأبهة المكان وجلاله فضلًا عن الدكاكين والدواوين الملكية، فكم فيها من رواشن حديد مذهبة ومن جدران مزخرفة وأبواب موزجة مما يستوقف المجتاز، وكذلك الدكاكين، فإنك تراها وضيئة بهيجة والحاجات فيها زهية ناضرة فيود الإنسان لو يشتري كل ما فيها، فكأن في رقيع المدينة نورًا يلقي شعاعه على المرئيات فيكسبها بهجة وطلاوة، وكأن القاعد على كرسي في بيته إنما هو قاعد على شوك القتاد أبدًا يتحلحل ويتحرك للخروج ليرى الديار والحوانيت مما يشوق ويروق.

أما أثاث الديار وفرشها فالغالب أنه في باريس أنفس وأغلى، وأكثر ما يحمل على العجب منها سررهم التي يرقدون عليها، فإنهم ينضدون عليها عدة من الفرش، حتى إنهم يصعدون إليها على درج وذلك مطرد للغني والفقير، وخشبها في الغالب من النوع الذي سماه الشيخ رفاعة بك الكابلي، ويجعلون فوقها إطارًا من خشب مذهب على هيئة التاج، ومنه يسدلون الناموسية، ولا بد وأن يكون في البيت مرآة كبيرة، وساعة دقاقة يضعونها فوق رف الموقد.

وتفضل باريس لندرة أيضًا في كثرة العيون الجارية في الطرق، وفي كثرة الحمامات، وإذا شاء الإنسان أن يستحم في بيته أوعز إلى قيم الحمام في أن يبعث له بمغطس وماء حميم، وهذا يكاد أن يكون معدومًا في لندرة، ومن ذلك الكتابة التي تكون فوق الحوانيت والرواشن، فإن جلها مكتوب بماء الذهب، وفي لندرة جلها بالحبر، وإذا كان بماء الذهب فلا يلبث أن يسود، ومن ذلك أبواب الدكاكين والقضبان الفاصلة بين ألواح الزجاج، فإنه هنا أكثر رونقًا، فأما من حيث السعة فدكاكين لندرة أعظم، ومن ذلك الرصف التي على جانبي نهر السين، فإنها مبلطة نظيفة بحيث يمكن للإنسان أن يقعد عندها ويسرح ناظره في النهر، وهو يشتمل على عدة حمامات ومغاسل كالبيوت تغسل فيها النساء ثياب السكان.

ومن ذلك وجود دكاكين أخرى في الطرق للغسالات، فإنك في كل طريق تجد منها واحدًا أو اثنين، وذلك نادر في لندرة جدًّا، وإنما يغسل النزيل ثيابه عند غسالة الدار التي يسكنها سواء كانت نظيفة أو وسخة، وهي غالبًا في الريف، ومن الغريب أن غسالات باريس يغسلن الثياب بالمطارق، وكلٌّ عنهن راضٍ، ومن ذلك أنه يوجد في باريس مواضع يتخلى فيها الإنسان لقضاء الحاجة، ولا يخفى أن وجود ذلك في المدن الغناء ضروري؛ فإن من يخرج من داره ويضطر إلى قضاء الحاجة لم يمكنه الرجوع إليها، وذلك في لندرة معدوم، بل مواضع البول فيها على قلتها قذرة رديئة، ما عدا ما صنع منها حديثًا في طريق استراند وهوبرن، فهي تعز عن النظير، وأجدر بهذه الحاجة أن تكون في باريس من المصالح وفي لندرة بالتحريف، وما أحسن ما قيل في الفرنساوية من أنهم «يجعلون كل مقصد حرفة وكل حرفة مقصدًا».

وتفضل باريس لندرة من حيث النظر لا من حيث الفائدة بكثرة العساكر، فإن فيها وفي ضواحيها نحو مائة وخمسين ألفًا فلا تزال تسمع منهم الموسيقى، وتنظر منهم الملابس الحسنة، وهي أحسن من ملابس عسكر الإنكليز، وقد جرت العادة بأن يكون مع العساكر نساء للخدمة يتبعنهم وهن مترديات بلباسهم، أما المعيشة فحيث كانت المطاعم عندهم كثيرة، وكل ما يشتهونه من المأكول والمشروب يجدونه فيها، لم يكن أحد يتكلف الطبخ في بيته، أما أصحاب العيال الذين يكون لهم مطبخ ومحل للمؤنة في منازلهم، فلا ينتابون تلك المطاعم إلا في الأعياد، وهي نظيفة للغاية، وأول ما يجلس المستطعم يأتيه الخادم بدفتر فيه أسماء الطعام وبفوطة، فيختار ما يشاء.

أما في لندرة فحين يجلس أحد في مطعم يأتيه الخادم ويصرخ في أذنيه: «شواء لحم بقر»، «شواء ضأن»، «كرنب»، «جزر»، «بطاطة»، وهنا تنتهي الفهرسة، ولا يقدم له فوطة، وأي مطعم دخلت في باريس رأيت فيه الرجال والنساء والأولاد، وربما تعمدت امرأة أن تجلس قبالتك لتخاطبها أو تعرض عليها شيئًا من المشروب فيكون فاتحة الألطاف وخاتمة المطاف، ولا بد من أن يوضع أمام الآكل نبخات من الكبريت لإشعال السيكار، وخلال لتنظيف أسنانه.

والخاصة من أهل باريس يأكلون مرتين فقط: الفطور أو الغداء، وهو في الساعة الحادية عشرة، والغداء أو العشاء في الخامسة، ويفطرون على شواء الضأن والمحار، والعامة يأكلون ثلاث مرات، أما طعامهم فإنه وإن كانوا يتفننون فيه كثيرًا فلا يستطيبه إلا مَنْ أَلِفَه؛ وذلك لأنهم يسلقون اللحم أشد السلق ليتخذوا منه نوعًا من الرعديد، ثم يطبخونه بالشحم بدل السمن فيأتي مسيخًا، وقد قلت في ذلك:

رُبَّ قوم يستمرئون طعامًا
فيه شحم الخنزير والدَّمُ يهمي
وأنا إن أكلْتُ منه لُماظًا
بات شحم الخنزير يأكل شحمي

وفي الجملة فإنه ألذ من طعام الإنكليز كما ستعرف ذلك في بابه، غير أن الشواء عند الإنكليز ألذ منه عند الفرنسيس، وهناك طريقة أخرى للمعيشة وهي أن بعض الديار يصنعون مائدة عمومية يسمونها «تابل دوت» أي مائدة الضيوف، فمن شاء أن يأكل فيها لزمه أن يذهب في ساعة معينة، ولعلها أرخص من المطاعم العمومية وأطيب، وثمن الغداء في هذه نحو فرنك ونصف، وثمن العشاء نحو فرنكين، وهو يبتدئ غالبًا بالشوربة، ويختم بالسلاطة، ثم بشيء من الحلو أو الفاكهة، وفي البلفار مطاعم لا ينتابها إلا الأغنياء والمسرفون؛ فإن ثمن العشاء فيها أربعون فرنكًا أو خمسون.

أما القهوة فإذا دخلت محلها جاءك الخادم بكوب سميك كالذي يشرب فيه الشوربة وبسكر جزيل، وصب القهوة بمرأى منك، ثم أتبعها بالحليب المسخن، وقد رأيت كثيرًا من ذوي السمت والرواء يضعون نصف السكر في الفنجان ويختبئون النصف الآخر، والمطاعم ومحال القهوة في هذه المدينة لا تحصى كثرة، وهناك محال للقهوة تغني فيها الرجال والنساء، يدخلها الناس مجانًا، ولكن بشرط أن يشربوا شيئًا يقوم عليهم قيمة شيئين.

ومما يعجب منه في باريس الدكاكين التي يباع فيها المربيات والشراب: وذلك لنظافتها وأنوارها، وربما كانت سقوفها من مرايا، وعندهم من أصناف المربيات والمعجنات والحلويات ما يزيد على ما عند الإنكليز عشرة أضعاف، إلا أنهم مثل الإنكليز في أن حلوياتهم جميعًا معمولة بالسكر لا بالعسل.

واعلم أن أرباب الرئاسة هنا يتعهدون صحة الرعية فيما يباع من المأكول والمشروب، فلا يسمحون للباعة بأن يبيعوا شيئًا فاسدًا أو مضرًّا بالأبدان أو مغشوشًا، وكأن الخمر مستثناة من ذلك، فلهذا كان كل ما يؤكل ويشرب هنا ألذ وأذكى مما يوجد بلندرة، بل البقول والفاكهة هنا أطيب وألذ، فمن ذلك الخبز وهو ألزم ما يكون للمعيشة، فإنه في غاية الطيبة، وهو من محض الحنطة غير مخلوط بشيء من الشب أو البطاطس كخبز الإنكليز، وقد يصنعون منه شكلًا في طول قامة الرجل، واللحم، على أن الإنكليز يدعون بأن لحمهم أطيب، ويعجبني هنا نظافة دكاكين اللحامين، فلا يمكن أن تشم منها رائحة كريهة، بخلاف دكاكين لندرة، وهم يقفلون دكاكينهم قبل أن يوقدوا الغاز، فإنهم يقولون: إنه يغير طعم اللحم.

ومن ذلك الزبدة والجبن ومحار البحر على أنواعه، والزيت والخل والخردل واللبن، وقد يصنعون منه الرائب والقريشة كالموجود في بلادنا سواء، وكذا الصابون والشمع، بل الكبريت وحطب الوقود هنا أحسن مما يوجد بلندرة، وعندهم كثير من البقول والفواكه مما لا وجود له في تلك، فأما جعتهم فغير طيبة، ولكن قلما يشربونها لاستغنائهم عنها بالخمر.

أما الهواء فبرد باريس ولندرة صنوان، غير أنه لما كانت الديار كلها مبنية هنا من الحجر وكانت مواقدها غير صالحة لوقود الفحم المعدني كما مر، كان البرد أشق وأبلغ وزد على ذلك توالي الأمطار شتاء وصيفًا، وقد شاهدت جمًّا غفيرًا حضروا من باريس إلى لندرة، وسألتهم عن الهواء، فكلهم أجاب: بأن المطر لم ينقطع مدة إقامته، وكان فيها بلندرة صحو إلا أن الناس لا يشعرون في باريس بِعَنَت المطر أو الثلج؛ لكثرة ما فيها من السقائف والمنتزهات ومحال القهوة مما يذهب بالكرب، أما في لندرة فلن يجد الإنسان من ذلك مهربًا إلا في بيته، وهذا حَسْب.

(٢٢) مواضع في باريس لا نظير لها

وفي باريس عدة مواضع لا نظير لها في الدنيا بأسرها، فإن ابتدرتني لتقطع عليَّ كلامي بأن تقول: «وهل رأيت الدنيا كلها حتى تحكم بذلك؟» قلت: إني لم أرَ الدنيا، بل رأيت محاريث عقول أهل الدنيا، أعني أقلام المؤلفين ممن طوفوا وساحوا في مناكبها، فكلهم حكم لهذه المواضع بالأحسنية والأفضلية.
  • أحدها: البلفار، وهو طريق واسع طويل ممتد يحيط بباريس كالمِنْطَقة للخَصْر؛ كلا جانبيه محفوف بالشجر المتوازي الوضع، وبالدكاكين الظريفة والديار الشاهقة، ومواضع القهوة الأنيقة الحافلة، فلا تزال ترى أمامها ألوفًا من الكراسي يجلس عليها الرجال والنساء، وهناك يقرءون صحف الأخبار ويتفاوضون في إدارة المصالح والأشغال، فهي عندهم بمقام المصر، وقد تكون حيطان المحل كلها مرآء، وسقفه كسقف الكنائس مزخرفة منقوشة، وفيها متكآت ومقاعد ومواقد نفيسة، ولا تزال غاصة بالناس إلى نصف الليل، وقد يكون لها رواشن أو مشربيات فيها مقاعد يرى الإنسان منها جميع ما يمر في الطريق.

    وأكثر الملاهي هناك من جملتها مواضع للغناء واللعب، وفي ختام اللعب تضعف أنواره ويبرز في محرابه نساء لابسات بَزًّا رفيعًا على هيئة الجسم ولونه، فيحسبهن الناظر عرايا، ويبقين كذلك في أوضاع مختلفة من دون حركة، فإن برزت إحداهن رافعة يديها بقيت كذلك إلى أن تدور بهن المائدة التي برزن عليها دورتين، ثم يسبل الحجاب وترجع الأنوار، ثم تضعف ويبرزن بهيئة أخرى، وذلك كله يدوم نحو ربع ساعة، ويقال لهذا المنظر: «تابلو فيفان» أي الصور الحية، وأحسن محل في هذا البلفار المحل الذي يقال له: بلفار الطليان، فثم ترى النساء يخطرن بالديباج والإستبرق والشيلان الكشميرية والمحمل والخز الرفيع، وهن متلعات شافنات، والرجال يرنون إليهن بأفخر اللباس وأحسن السمت، وثم أظرف المحال للقهوة، وفي طرف البلفار عمود شاهق من المرمر في قنته تمثال ملك من نحاس واقف على كرة وهو يلمع في مقابلة الشمس له كأنه ذهب، ويقال للملك ملك الحرية، وعلى العمود أسماء الذين قتلوا من كبار الأمة في سجن باستيل، مكتوبة بالذهب، وتحته حوض يُستقى منه، وكان إنشاء البلفار في سنة ١٥٣٦.

  • الثاني: الموضع الذي يقال له: «بالي روايال» أي القصر الملوكي، وإنما سمي كذلك لمجاورته قصرًا كان مقر الملوك، وهو عبارة عن صَفَّيْ دكاكين متقابلين، فوقها منازل ومطاعم وحمامات ومحال للقهوة، وبينهما أشجار وحوض ومقاعد ومماشٍ للناس، ففي الدكاكين ترى أحسن الملبوس وأنفس الحلي والتحف من المعادن والجواهر، وهي وإن كانت دون دكاكين البلفار في الكبر إلا أن حسن تنضيد ما فيها وبراعة ترصيفه وبهجة ذلك المكان يكسبها سعة في النظر.

    ومن رأى كثرة الجواهر والألماس في هذا الموضع وفي غيره أيضًا حكم بأن أهل باريس أغنى من أهل لندرة، إلا أن الجوهريين من الإنكليز لا يبرزون ما عندهم من الجواهر في وجه الدكاكين، وإنما يخبئونها في خزانة، فلهذا لا يكاد الناظر يرى عندهم من خارج الدكان غير الذهب والفضة، وفي تلك المطاعم جميع ما تشتهيه النفس، فإذا قعدت للغداء رأيت الرجال والنساء والأولاد يمرحون في تلك الروضة، وصفة الحمامات صفة المطاعم، وفي الروضة أيضًا موضع قهوة عنده كراسي عديدة، بعضها عند الحوض وبعضها تحت الشجر، وثم تضرب العسكر بآلات الطرب ثلاث مرات في الأسبوع، وطول هذه الحديقة سبعمائة قدم وعرضها ثلاثمائة، وكان إنشاء هذا المحل البديع في سنة ١٧٢٩.

  • الثالث: الموضع المسمى «شانزلزي» أي روضة الأصفياء، وهو غيضة طويلة ذات شطرين طولها إلى حد الأزج أكثر من ثمانمائة ذراع، وعرضها في الأقل مائة وستون، ولها مقاعد من خشب، وكراسي على طول جهتي الطريق، وبين الشطرين طريق واسع لمرور الخيل والحوافل والعواجل، ففي أيام الأعياد ترى هذا الممر ملآن من تلك المراكب، فإن أهل الثروة يذهبون إلى هناك متفاخرين بما فوقهم من اللباس، وبما تحتهم من المركوب، وترى النساء في العواجل المفتوحة متكئات كأنما هن على نمارق وفرش، والعجب والتيه يلمعان من جنبهن، وكثيرًا ما تراهن راكبات على هذه الصفة ودخان التبغ خارج من أفواههن.

    ومن العجب أن أهل باريس يخرجون إلى هذا الموضع وإلى «بوا دبولون» في أيام الأربعاء والخميس والجمعة من جمعة الآلام قصد المباهاة والمفاخرة فيما يلبسون ويركبون، فهي عندهم موسم التأنق والتظرف، ومع ذلك فإن الجزارين يتحرجون من بيع اللحم يوم الجمعة، إما احترامًا له أو حياء من الناس، وفي هذه الغيضة «جاردن مابيل» وهو بستان بهيج تنتابه الرجال والنساء للرقص، فيه خمسة آلاف نور، وبستان الشتاء، ولا يمكن أن يكون في العالم بستان أجمل منه على صغره، فإنه راموز الجنة، وفيه عين فوارة يصعد الماء منها علو قامات، وفيها قصر للزهور، وموضع واسع ترمح فيه الخيل، وخيام لا تحصى يباع فيها الشراب والنقل والحلواء، وفيها زمر شتى كزمر باب الرميلة بمصر، فمن بين مشعوذ ومغن وعازف ومحدث ومحنبش وغير ذلك.

    وفيها ثلاث قبب مزخرفة ذات بهجة وأنوار، يجلس في كل منها ست نساء أو خمس من القيان الحسان ويغنين على آلات الطرب، وهن كاشفات عن الصدور والأكتاف، ولكن لا يكون ذلك إلا في فصل الصيف، فمن شاء أن يقعد على كرسي ويسمع الغناء لزمه أن يشرب شيئًا من محل القهوة ودفع ثمنه ضعفين، وإذا انتقل من كرسي إلى غيره وجب عليه تجديد الشرب، ومن وقف يستمع فلا تكليف عليه، وهناك من الحياض والتماثيل والملاعب والملاهي والصروح والأعلام ما ينسي الغريب وطنه، وكان غرس هذه الغيضة في سنة ١٦٧٠، ويقال: إن في باريس ثلاثة عشر ألف شجرة من غرس سنة إلى عشر سنين، وعشرة آلاف شجرة من عشر سنين إلى ثلاثين سنة، وأكثر من أربع وثلاثين ألفًا من ثلاثين سنة فصاعدًا، وغالبها من شجر المَيْس.

  • الرابع: الساحة المسماة «بلاس دلاكنكورد»، وهي بين الغيضة المذكورة وبين حديقة التولري، يجوز الناس من هذه إلى تلك ومن تلك إلى هذه، وفي هذه الساحة حوضان كبيران وسع كل منهما خمسون قدمًا، وفيها تماثيل من نحاس تقذف بالماء صعدًا فيقع على شبه جرن عليه تماثيل أربعة أولاد وبطة يخرج الماء من أفواهها، فيلتقي كلا المائين وينحدران إلى الحوض، وبينهما عمود جلب من مصر عليه حروف بلسان قدماء مصر، قال غالنياني: هذه المسلة انتزعت من موضع بمصر أمام هيكل طيبس بمصر الذي بني سنة ١٥٥٠ قبل الميلاد، واسمها «لكسور» محرفة عن القصر، وكانت إحدى اثنتين جاد بهما محمد علي باشا على دولة فرنسا تذكارًا لألفتهما ومودتهما، والثانية لم تزل في موضعها، ولا بد من أنها تجلب.

    وقد أنشئ لنقل الأولى سفينة مخصوصة في طولون، وذلك في سنة ١٨٣٠، وفي سنة ١٨٣٦ نصبت بحضرة الملك لويس فيليب وآله وأهل المناصب، وبحضرة مائة وخمسين ألفًا من الأهلين، وفي مدة نقلها ونصبها لم يحدث أدنى خلل ولا أذى، طولها اثنتان وسبعون قدمًا ووسعها من أسفلها سبعة أقدام، ومن أعلاها خمسة أقدام وكسر، وزنتها ٥٠٠٠٠٠ ليرة وآخر ما صرف على تحسين هذه الساحة بلغ تسعمائة ألف فرنك، وقال آخر: أنشئت هذه الساحة في سنة ١٧٥٤، ونصب فيها تمثال لويس الرابع عشر على جواد، وعلى قاعدته تماثيل القدرة والحزم والعدل والسلم، ولم تكد هذه الساحة تتم حتى حصل فيها نائبة عظيمة في يوم عرس لويس السادس عشر ملك فرنسا، وهي هلاك مائة واثنين وثلاثين نفسًا في الزحام، وفيها — أي هذه الساحة — قتل الملك المذكور وزوجته ماري أنطوانيت ومدام رولاند وغيرهم، وشارلت كوردي وغيرهم.

    قلت: كان لويس السادس عشر حفيد لويس الرابع عشر، وتزوج بنت ملكة أوستريا المسماة ماريا تريزيا، واتهمه الفرنساوية، بأنه كان ذا ضَلْع عليهم مع النمسا، فتحزب جمهورهم عليه وحكموا عليه بالقتل، فلما جيء به إلى مقتله قدم غير جزع ولا وَجِل، وكلم الناس بصوت جهير قائلًا: «ألا يا أيها الفرنسيس، إني أموت بريئًا من الذنوب التي تجنيتم بها عليَّ، وإني أسامح جميع أعدائي، وأتضرع إلى الله تعالى أن تكون فرنسا العزيزة عليَّ …» فما كاد يتم قوله هذا، إلا وصرخ رئيس أهل الفتنة — ويعرف باسم «صانتر» — بأن تضرب الطبول ويضرب عنقه، فلما صعد المكان الذي أعد لقتله ضج القسيسون وهم يصرخون: «يا بن مار لويس اصعد إلى السماء.» ثم بعد أن ضربت عنقه حملت جثته، ودفنت في قبر مليء جبسًا، وجعل حرس عند قبره إلى أن بليت بالمرة.

    وفي هذه الساحة نحو خمسة وعشرين عمودًا لها قبب في أعلاها، وهي مضلعة مذهبة، ولكل منها جناح يقل فانوسين مذهبين، وهي تظهر للناظر في الليل كأنها أبراج نجوم، وطول هذه الساحة ٢٤٨ مترًا، وعرضها ١٦٩، فأما حديقة القصر الإمبراطوري فلا يحكم لها بالفضل لسعتها وعظمها، وإن تكن أنيقة زهية، وإنما لكونها مجتمعًا للناس، فتراها مشحونة بالكراسي والمقاعد ينتابها المتكيسون والمتكيسات عند العصر وخصوصًا في الأعياد، وفيها تماثيل عديدة، ومحل ينال فيه الطعام والشراب، ولهذه الحديقة درابزين من حديد، جلي يطيف بها رءوس رماحه مذهبة، وقيل: إن الكراسي التي فيه مضمنة بمائة ألف فرنك في العام، فإذا لم تقصد هذه الحديقة لتسرح ناظرك في محاسنها، فذلك دليل على فساد مزاجك.

  • الخامس: عمود نابوليون الأول، صنع على مثال عمود تراجان في رومية من ألف ومائتي مدفع من النحاس، كان قد غنمها الإمبراطور المشار إليه من عساكر النمسا والروس، وقد نقش خارجه بصور الوقائع التي انتصر فيها، وصور آلات الحرب، يصعد الناس إلى أعلاه لرؤية المدينة في مائة وست وسبعين درجة، وفي قنته تمثال نابوليون، طوله إحدى عشر قدمًا وارتفاع العمود مائة وخمس وثلاثون، وزنته ٣٦٠٠٠٠ ليرة، ويقال لهذه الساحة «بلاس فندوم» باسم دوك فندوم ابن الملك هنري الرابع لزنية، بدئ بها في أيام لويس الرابع عشر، وفي يوم ميلاد نابوليون الواقع في الخامس عشر من آب تأتي الناس بأكاليل من زهر، ويضعونها على الدرابزين المطيف بالعمود تذكارًا لمآثره، ولما دخلت عساكر الدول الأجنبية مدينة باريس كان من همهم بادئ ذي بدء أن يزيحوه فلم يقدروا، وكان من قبله تمثال من نحاس للويس الرابع عشر فأزيح في سنة ١٧٩٢، قيل: وكان أعظم تمثال صنع؛ فإن زنته بلغت ٦٠٠٠٠ ليرة.
  • السادس: السقائف أو المعابر المسماة «بالباساج» وهي أسواق مسقفة بالزجاج ومبلطة بالرخام وعلى كلا الجانبين دكاكين بهية متناسقة الوضع، يوجد فيها للبيع أغرب التحف وأعجب الطرف، والغالب أن ما يباع فيها يكون أغلى مما يباع في غيرها، ومنها ما حيطانه مرصعة بالمرايا، فيرى المار فيها شخصه ذات اليمين وذات الشمال، وفي زمن الشتاء تغص بالرجال والنساء، فهي ملطأ لهم من المطر والبرد.
  • السابع: الغيضة المسماة «بوا دو بولون» وهي عبارة عن نُدحة من الأرض واسعة ممتدة، كلها شجر وحياض، وفيها طرق رحيبة للعواجل، يخرج إليها أهل الثروة والجمال في عواجلهم الفاخرة ولا سيما في الآحاد والأعياد والأيام الثلاثة التي مر ذكرها في جمعة الآلام، وفي هذه الغيضة حلت عساكر الإنكليز عند فشل نابوليون، واعلم أن الغيضة في مفهوم الفرنساوية هي الأرض التي تكون أشجارها متماسة الرءوس، بحيث إنك إذا جلست تحتها وَقَتْكَ من المطر والشمس، فأما عند الإنكليز فهي قطعة من الأرض يكون فيها شجرات معدودات ومرج وتمرح فيه الماشية.

(٢٣) الصروح الفاخرة في باريس

فأما ما في باريس من الصروح الفاخرة والمباني السنية فمما لا يعد ولا يحصى، ولكني أذكر منها أشهرها، فمن ذلك القصر المسمى «باللوفر» وهو منقسم إلى عدة أقسام؛ الأول: للتصاوير وهو يشتمل على ألف وأربعمائة وست صور من صنع أهل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، وهناك محل آخر يحوي أربعمائة وستًّا وأربعين تصويرة من صنع مصوري إسبانيا خاصة، ومن تلك التصاوير ما يبلغ طوله أكثر من عشر أذرع، ومنه ما هو بديع الصنعة حتى لا يمكن للنظر أن يكف عن الرنو إليه، وجميع سقوف هذه المحال مزخرفة منقوشة، وترى هناك كثيرًا من الرجال والنساء يصورون عن بعض الصور المشهورة، وقسته بخطواتي فكان طوله نحو سبعمائة وثمانين خطوة معتدلة، وقست ما يشبهه بلندرة، فلم يزد على مائتي خطوة، ولم أرَ هناك إلا مصورة واحدة.

القسم الثاني: للرسم، وهو يشتمل على ألف ومائتين وثمانية وتسعين رسمًا. الثالث: للأشياء العادية، وهو يشتمل على ألف ومائة تمثال وصنم. الرابع: للتماثيل الحديثة. الخامس: للمنقوشات. السادس: للأدوات البحرية كالسفن والمدافع، وترى كل سفينة موضوعة في بيت من زجاج على مائدة من خشب نفيس، وهناك صور مدن وقلاع بارزة مجسمة. السابع: للدراهم. الثامن: متحف لبدائع مصر. التاسع: متحف الأثوريين. العاشر: متحف لبدائع أميريكا. الحادي عشر: متحف لبدائع الجزائر.

ورأيت من جملة تلك الغرائب ملابس الملوك وسلاحهم، من جملتها عدة أردية مطرزة وغير مطرزة كان يلبسها نابوليون الأكبر، وسروج خيله منها سرجان عربيان كان يركب عليهما بمصر، ومن ذلك كتاب في الهندسة كان يطالع فيه دائمًا وهو بلا جلد، وأدوات كان يستصحبها في أسفاره، ومن جملة هذه الغرائب أيضًا سيف كان لشارلمان، وطست غريب الصنعة جيء به من بلاد المسلمين، وكان هذا الموضع في الزمن السابق مقرًّا لهنري الرابع المشهور بحسن السياسة والتدبير.

وقيل: إن ولي الملك كان على دين البروتستانت، فلما رآه أهل باريس أنه يصلح للملك لمآثره الجليلة، وأنه لا يقوم بأعباء الملك غيره، اختاروا توليته بشرط أن يدين بدين الكنيسة الرومانية، فأجابهم إلى ذلك، وقال: «لعمري إن باريس تساوي قداسًا.» ومع كونه كان بمنزلة والد لأهل فرنسا أجمعين، وفي أيامه نسم الناس الراحة وبلهنية العيش، لم يعدم من تصدى لقتله.

وكانت ولادة هنري الرابع في سنة ١٥٥٣ ووفاته في سنة ١٦١٠، وخلفه في الملك ابنه لويس الثالث عشر، وهذا القصر كان دائمًا منفردًا عن قصر الملك المسمى بقصر التولري، وكان في عزم الملك لويس فيليب أن يصله به، فلم يتهيأ له إلى أن قام نابوليون الثالث فجعلهما متصلين، قال في معجم الأوقات: هذا الصرح الشهير كان مقرًّا للملك داغوبرت في سنة ٦٢٨، وفي عهد فرنسيس الأول وضع أساس المحل الذي يقال له الآن: اللوفر القديم، وذلك في سنة ١٥٢٢، وفيه وضع أحسن ما أمكن جمعه من الصور والتماثيل وتحف الصنائع المعروفة في الدنيا وجلها جلب من إيطاليا حين كان نابوليون مستوليًا عليها، ولكن رُدَّ منها كثير على أهله.

ومن ذلك قصر التولري، وتفصيل ما فيه يغني عنه قولنا: إنه مقر لملوك فرنسا، وإنه فيه فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (الغاشية: ١٣−١٦) ومبلطه كله من خشب الجوز المحكم الصنعة والإلصاق، بَنَتْهُ كاترين دمديسي، وأتمه لويس الرابع عشر، ثم سكنه لويس السادس عشر في سنة ١٧٨٧، وفي سنة ١٧٩٢ اقتحمه الناس والسلاح بأيديهم ليقدموا عرضًا للملك، وهم على أهبة الفتنة، فأفضى الأمر أخيرًا إلى أن قضوا عليه بالقتل كما مر.

ثم تبوأه نابوليون قبل أن يلقب إمبراطورًا، وبعده أيضًا، ثم عائلة البربون، ولما كان لويس العاشر قارًّا فيه هجم الناس عليه، وغلبوا على عساكره، وألجئوه إلى النفي وذلك في سنة ١٨٣٠، وفي سنة ١٨٤٠ هجموا فيه على لويس فيليب وألجئوه إلى الفرار فلحق بأسلافه، وهو آخر من ملك من البربون، ودام ملكه ثماني عشرة سنة، وقرأت في بعض الأخبار أنه لما هجم الناس عليه وجدوا في نفق دهليز القصر المذكور خمسة وثمانين ألف زجاجة مملوءة من الخمر الفاخر.

ومن ذلك قصر «لوكزمبور» بني في سنة ١٥٩٤، وهو وإن لم يكن بناؤه بديع الصنعة إلا أنه متين مهندم، وكان مقرًّا للويس الثامن عشر، ثم جعل في زمن الفتنة سجنًا ثم جعله نابوليون مجلسًا خاصًّا، وهو الآن كذلك، ويحضره الملك بنفسه، وعنده حديقة عظيمة ينتابها أهل تلك الناحية، وهي أكبر من حديقة الملك، وفي طرفه رصد الكواكب، بني في سنة ١٦٦٧، وحديقة صغيرة تجتمع فيها الرجال والنساء في الصيف للرقص، وهذا الموضع وإن يكن عامًّا إلا أنه يعرف بمحل طلبة العلم، ولأجلهم يباح فيه للنساء أن يتخلعن ويتفككن في الرقص، وفي غيره يحظرهن الشرطة.

ومن ذلك «هوتل دوفيل» أنشئ في سنة ١٦٠٥ على عهد هنري الرابع، ولكن لم تكمل محاسنه كما هو الآن إلا في سنة ١٨٣٦، ومن ذلك قصر «كاي درصي» كان لويس العاشر يريد أن يجعله معرضًا لبدائع الصنائع وكان نابوليون يريد أن يجعله مقرًّا لسفراء الدول، وهو الآن ديوان الحسابات، ولم يتم بناؤه قبل سنة ١٨٣٥، وبلغت نفقته أكثر من ١٢٠٠٠٠٠٠ فرنك، وبجنبه قصر آخر بني في عهد لويس الخامس عشر، وهو من أبهج قصور باريس.

ومن ذلك مجلس المشورة العام ابتدئ به سنة ١٧٢٢، وكان أول ما نهب في دولة البوربون، ثم جعل مجلسًا لنواب الأقاليم وعدتهم خمسمائة، وفي سنة ١٨٢٩ عرض لأن يباع بخمسة ملايين ونصف، وجملة ما صرف عليه إلى غاية سنة ١٨٤٠ بلغت ٢٤٢٤٣٣٩٣.

ومن ذلك القصر المعروف بقصر الصنائع الظريفة، والمحكمة الكبرى، بني منها قسم من عهد صان لويس ثم زيد فيها مبانٍ كثيرة حتى صارت من أحسن ما يُرنى إليه، طولها ٢١٦ قدمًا وعرضها ٢٨، ودار مجتمع العلماء ويقال له: «الإنستتيو» أسسه الكردينال مازارين، ووقف عليه مكتبة عظيمة ورزقًا يبلغ في كل عام ٤٥٠٠٠، وهؤلاء العلماء هم الذين ينقحون كتب اللغة والنحو وينكرون المرذول من الكلام ويثبتون الفصيح، فإن للفرنساوية اعتناء عظيمًا بفن الأدب بخلاف الإنكليز.

ومن ذلك دار السكة، أُتم إنشاؤها في سنة ١٧٧١ وهي تحوي اثني عشر دولابًا زنة كل منها ثمانون ألف رطل، وتضرب في كل دقيقة ستين دينارًا وثمانين ريالًا، فيها دنانير من عهد جميع ملوك فرنسا، وفيها أيضًا يطبع على المصوغات من الفضة والذهب، ومن ذلك قصر في «شانزلزي» بني في سنة ١٧١٨، وكان مقرًّا لأميرة من عائلة البوربون، ثم سكنه نابوليون.

ومن ذلك المصر، أي مجتمع التجار، طوله ٧١ ذراعًا في عرض ٤٩، أو ٢١٢ قدمًا في عرض ١٢٦، يحيط به ٦٦ عمودًا ونصف، سقفه من بلور، وهو مقبب، وصحنه كله مبلط بالرخام، يسع ألفي رجل، بدئ به سنة ١٨٠٨، وبلغت نفقته ٨١٤٩٠٠٠ فرنك، وهو من المباني البديعة، قال مؤلف فرنساوي: وله من داخله روشن ينتابه الناس ليشاهدوا منه التجار الذين يجتمعون في الساعة الثانية بعد الظهر للتعاقد والتبايع، فإذا سمعهم أحد ظن أنه بين نمور تُهَمْهِم.

ومن ذلك المصرف أي البنك، وأنشئ في سنة ١٨٠٣ قيمة ما فيه من الكواغد التي بألف فرنك وبخمسمائة ٢٣٤ مليونًا، والحاصل في خزينته ٢٢٨ مليونًا، وكان رأس المال الذي وضع فيه أول إنشائه خمسة وأربعين مليونًا، قلت: لم تتداول الكواغد التي قيمتها أقل من ذلك القدر إلا بعد الفتنة، وقرأت في بعض الأخبار في هذه السنة أن المخزون في البنك بلغ ١٢٩٨٠٧٥٠ فرنكًا، والكواغد المتداولة ٥٣٥٦٩٣٦٠٠.

ومن الأزاج العظيمة الأزج الذي يقال له: «أرك دوطريونف» أي قنطرة النصر أو الظفر صور عليه الوقائع التي انتصر فيها نابوليون، وبلغت نفقته ٩٧٢٣٤٠٢، وآخر أمام قصر الملك من جهة اللوفر بلغت نفقته ١٤٠٠٠٠٠، وفي البلفار وغيره أزاج كثيرة أضربنا عن ذكرها.

(٢٣-١) كنائس باريس العظيمة

ومن الكنائس العظيمة كنيسة «نوطردام»، وقد مر ذكرها، طولها ٣٩٠ قدمًا، وعرضها ١٤٤، وارتفاعها ١٠٢، وعلو صومعتها ٢٠٤، فيها أرغن ارتفاعه ٤٥ قدمًا، وعرضه ٣٦، يشتمل على ٣٤٨٤ قصبة، وهي أم كنائس باريس، وفيها تتوج الملوك، وأول حجر جعل في أساسها وضعه البابا إسكندر الثالث في سنة ١١٦٣، ولم يتم إنشاؤها إلا بعد ثلاثة قرون.

ومن ذلك كنيسة «لا مدلين» أي المجدلانية، وهي كنيسة ذات بهجة ورونق وصنع بديع، داخلها مزخرف بالنقش، والعمد من المرمر النفيس، ومبلطها من الرخام، وسطحها من حديد ونحاس، طولها مائة ذراع، وعرضها اثنتان وأربعون، ويحيط بها اثنان وخمسون عمودًا، ويصعد إلى بابها في ثلاثين درجة، وكان في عزم نابوليون أن يسميها هيكل الفخر تذكارًا لفخر فرنسا، وأن يصور على أعمدتها جميع الذين حاربوا معه من الأبطال المظفرين؛ ولذلك بنيت على شبه هياكل اليونانيين، ولم يبقَ نقَّاش ولا مصور في المدينة إلا واشتغل بها، وقال آخر: أول حجر وضع في أساسها وضعه لويس الخامس عشر، وكان في قصد نابوليون أن يخصصها للعسكر، ولم تتم إلا في أيام لويس فيليب، وهو الذي خصها بمريم المجدلانية بعد أن كان الناس يظنون أنها تخصص لجوبيتر.

ومن ذلك الكنيسة التي يقال لها: «البنثيون» بنيت في سنة ١٧٦٤ على اسم مار جينيفيف، ثم جعلت مدفنًا لمشاهير الفرنساوية في العلم أو الحرب، وفيها دفن فلتير وجان جاك روسو وغيرهما، ثم حولت كنيسة في داخلها مائة وثلاثون عمودًا وبخارجها نحو من ذلك، وبلغت مصاريف نقش قبتها مائة ألف فرنك، ورقي ناقشها إلى مرتبة بارون، ودورتها ٦٢ قدمًا، ودورة الكنيسة كلها ٣٢٥٦ قدمًا مربعًا، وطولها ٢٨٨ قدمًا.

ومن ذلك كنيسة «صان صلبيس»، وهي في حارة النبلاء، يقال: إن كراسيها مضمنة بستين ألف فرنك في العام، بنيت في سنة ١٦٤٦ ولها صومعة عالية جدًّا.

ومن ذلك كنيسة «نوطر دام دلورت»، بلغت نفقتها ٢٠٥٠٠٠٠، ووظيفة قسيسها في السنة ٣٠٠٠٠ فرنك، وقس الباقي على ما ذكرناه، وأهل باريس يذهبون إلى الكنائس صباحًا، وفي المساء إلى الملاهي وهو عند الإنكليز من أعجب العجب.

(٢٣-٢) مارستان السقط

ومن المواضع المشهورة المقصودة مارستان السقط بني في أيام لويس الرابع عشر، وهو يحوي ٦٠٠٠ نفر ما بين مرضى وخدمة، وتخدم فيه خمس وعشرون راهبة، ويسع ١٠٠٠٠ نفس، وهو مخصوص بالعساكر، وكل من قضى في الخدمة العسكرية ٣٠ سنة فله حق أن يدخله، ومرتب مديره ٤٠٠٠٠ فرنك، ويعين لمن فيه كل يوم رطل من اللحم، وليتر من الخمر، طول حديقته ١٤٤٠ قدمًا وعرضها ٧٨٠، وعنده مدافع غنمها الفرنساوية من بروسية والجزائر وعنابة، وطول المارستان ٦١٢ قدمًا، وفيه مكتبة نفيسة، وكنيسة طويلة نصب على مشرفتها جميع الرايات التي أخذها نابوليون من جيوش الدول التي انتصر عليها، أحسبها تبلغ ٢٠٠، ومن جملتها عدة رايات من عساكر المسلمين، قال: وكان في الكنيسة ٤٠٠٠ راية وسيف لفريدريك الكبير، فلما دخلت عساكر الدول المتفقة باريس صدر أمر من وزير الحرب عن لسان يوسف بونابرته بأن تحرق الرايات ويكسر السيف، فخشي المأمورون تَبِعَة ذلك؛ ولم يحرقوها إلا بعد أن راجعوه في أمرها ثلاث مرات، قال: وفي هذه الكنيسة دُفن نابوليون وأمراء عسكره، ووضع على قبره تاجه ونيشانه وسيفه، وصرف في القبر مليون ونصف.

(٢٣-٣) قبر نابيليون

قلت لا يخفى أن نابوليون لم يمت في باريس، بل مات في جزيرة صانت هيلان، غير أن دولة فرنسا في أيام لويس فيليب استأذنت دولة إنكلترة في نقل جثته من هناك، فأجابت إلى ذلك فأرسل الملك ابنه في بارجة اسمها «بل بول» ونقلوا جثته إليها، وذلك في السادس عشر من أكطوبر سنة ١٨٤٠، وفي الخامس عشر من ديسمبر دفنوها في كنيسة هذا المارستان بغاية ما يكون من الاحترام والاحتفال مما لم يشاهد مثله في فرنسا قط، وحضر جنازته مليون من الخلق، ومائة وخمسون ألفًا من العسكر، والملك وآله وجميع الأمراء والنبلاء والعظماء، مع أن جميع أقارب نابوليون كانوا غيابًا فمنهم من كان منفيًّا ومنهم من كان مسجونًا، وكانت ولادة نابوليون في الخامس عشر من آب سنة ١٧٦٩، وقد صار هذا اليوم عيدًا تتخذه الدولة في كل سنة، وكانت وفاة نابوليون في الخامس من شهر ماي سنة ١٨٢١ في تلك الجزيرة، ولم يخلف إلا ولدًا، ولد له في سنة ١٨١١، ولقب أولًا «ملك رومية»، وفي سنة ١٨١٥ لقب إمبراطورًا باسم نابوليون الثاني، مع أنه لم يكن وقتئذ في فرنسا؛ لأنه نقل في الحادثة التي وقعت قبلها إلى بلاد أوستريا، وبقي هناك إلى أن مات، وذلك في سنة ١٨٣٢، والفرنساوية يحجون إلى قبر نابوليون كحج المسلمين إلى الكعبة.

ومن ذلك بستان النباتات، تنبت فيه جميع النباتات، وتحفظ فيه سائر الحيوانات، وهو يشتمل على عدة مواضع؛ الأول: للنبات فيه بيوت من زجاج لتنبيت ما لا ينبت في البلاد الباردة، والثاني: مشرفيات فيها أشياء عديدة تعين على علم حياة الحيوان المسمى عند الإفرنج تاريخ الطبيعيات، الثالث: مشرفية للتشريح، الرابع: مربض الحيوانات ومحل مؤنتها، الخامس: مكتبة تشتمل على كتب في تاريخ الطبيعيات، السادس: محل يلقى فيه التدريس في العلوم، يسع ١٢٠٠ شخص، وجملة أنواع النباتات التي في البستان ١٢٠٠٠ نوع، والتي في المشرفية ٥٠٠٠، وعدد الطيور ستة آلاف، وعدد السمك خمسة آلاف، وعدد الأعضاء للتشريح ١٥٠٠٠، وجملة النباتات المجففة المحفوظة ٣٥٠٠٠، ومن الشجر والحب أكثر من أربعة آلاف، ولما دخلت عساكر الدول الأجنبية باريس كان من هم الدولة أن تحميه من غوائلهم، فبقي مصونًا إلا أن كثيرًا مما جلب إليه من البلاد الخارجية رُدَّ على أصحابه، وفيه شجرة من أرز لبنان أهداها طبيب إنكليزي اسمه «غولنصون» إلى الدولة.

وقد رأيت فيه عظام حيوانات عادية طول الواحد منها نحو عشر أذرع، وجثة سمكة — وكأنها هي الذي يقال لها بلغتنا: الجمل — طولها من الرأس إلى الذَّنَب نحو خمس وعشرين ذراعًا وفي ظهرها سبع وأربعون فقرة، كل واحدة كأنها رفش، ولها ثلاث عشرة ضلعًا عند رأسها، كأنها ترائبها، طول كل ضلع نحو أربع أذرع من كل جانب، ورأسها نحو قارب، وفي فكها الأسفل من كلا طرفيه ثلاث وعشرون سنًّا، قدر كل سن كالموزة.

(٢٣-٤) خلاصة في المقارنة بين المدينتين

وغاية الكلام أن باريس تفضل لندرة في المباني والمطاعم والمتنزهات ومحال العلم، فهي مَعْدِنُ العلوم واللذات؛ ولذلك ترى ألوفًا من عيال الإنكليز يأتونها مستوطنين، وما أحد من أغنياء الفرنسيس يذهب إلى لندرة ليتخذها له وطنًا، وإنما يذهب إليها أهل الحرف والصنائع تحصيلًا لمعيشتهم.

(٢٤) مواسم الحظ والفرج

ومن مواسم الحظ والفرج عندهم ثلاثة أيام في المرفع، وهي التي يسمونها الكرنيفال، وقد ذكرناها في الكلام على مالطة، فلا ينبغي إعادتها، وإنما نقول هنا: إنه في هذه الليالي يدومون في المراقص حتى الصباح، وفي يوم خميس السكارى يطوفون بثور مسمن، وأمامه طائفة الجزارين بلباس السخرية، ويغطون الثور بثوب مزركش، وعلى رأسه إكليل من الزهر، وكانت العادة سابقًا أن يقعد على ظهره ولد يسمونه ملك الجزارين، ويمسك بإحدى يديه سيفًا وبالأخرى صولجانًا، فأما الآن فإنه يقعد في نحو مِحَفَّة ويتبع الثور بلا سيف ولا صولجان.

ومن ذلك عيد رأس السنة، وهو ثلاثة أيام، ترى فيها جانبي البلفار مشمولًا بالخيام لبيع التحف والطرف التي يتهادى بها، وترى أيضًا غيضة شانزلزي مشحونة بظلل وقبب وأخبية فيها جميع أنواع الطرب والشعوذة والرقص على الحبال، ثم ترى من بدائع المصنوعات والمخلوقات ما لا تراه في المملكة كلها، وقد رأيت مرة امرأة جميلة ذات لحية وشوارب وعلى قفاها وذراعيها من الشعر ما لم يكن على رجل، وكأنها هي التي ذكرها صاحب المعجم حيث قال: أرسلت امرأة إلى باريس لها لحية كثيفة وجميع بدنها مغشي بالشعر. قال: وقد علم أن نساء كثيرة لهن شوارب ولحى وشعر مسترسل على أكتافهن وسواعدهن من جملتهن امرأة أتي بها إلى حضرة بطرس الأكبر وكانت لحيتها نحو ذراع ونصف. وفي الخامس عشر من أغوسطوس تصنع الدولة عيدًا حافلًا يحشد إليه مئات ألوف لرؤية الأنوار وشهب البارود.

وفي الجملة فإن أيام باريس كلها مواسم وأعياد، وإن ليلها أبهج من نهارها.

(٢٥) ضواحي باريس وقصورها

هذا؛ وعلى قدر ما في باريس من المحاسن الفائقة والأَرْنَاء الشائقة، فإن ضواحيها أبهى وأشهى.

فمن ذلك «صان كلو» وهو على بعد نصف ساعة من باريس، فيه قصر يصيف فيه الملك، وغيضة أنيقة، دورتها أربعة فراسخ، وهذا القصر كان اشتراه لويس الرابع عشر، وسكنه نابوليون الأول وشارلس العاشر، بني في سنة ١٥٧٢، وأثاثه أجد من أثاث قصر «فرصاي»، وفي الغيضة مياه خرارة، ولعلها هي الشلالات.

وبالقرب منه قصر فرصاي الذي كان مقرًّا للويس الرابع عشر، وهو يشتمل على تصاوير بديعة لا نظير لها، من جملتها صور جميع ملوك الإفرنج، من مات منهم ومن هو حي، وصور وقائع نابوليون، وصور سائر الملوك والسلاطين، وفي الشقة التي كان يسكنها الملك تحف غريبة كان يستعملها هو وآله، وسرير فراشه وهو نحو صُفَّة، وفيه ملهى كان إذا أمر الملك بإجراء التمثيل فيه ينور بعشرة آلاف شمعة، ويصرف عليه في تلك الليلة مائة ألف فرنك، وفي القصر ديوان فسيح، كان يجتمع فيه رجال دولته، ولم يكد مع رحبه يسعهم، وبعد أن تنقضي فرجة الناس من القصر — وذلك نحو الساعة الرابعة — تطلق مياه الغيضة صعدًا وتضرب آلات الطرب، فيقعد الناس على الكراسي للسماع والنظر، وهو منظر يسحر، فإن الحديقة ناضرة زاهية والعيون غزيرة، ووسع الغيضة الكبرى عشرون فرسخًا، وقد أنفق على حوض فيها مليون ونصف، فأما جملة ما أنفق في القصر وفرشه، وفي الغيضة، فقد اختلفت فيه الأقوال والذي صح أنه بلغ نحو أربعين مليون ليرة إنكليزية، فأما بلد فرصاي فإنه كان قبل الفتنة عامرًا، فكان أهله مائة ألف نفس، والآن ليس فيه أكثر من ثلاثين ألفًا.

ومن ذلك صان جرمان، وهو على بعد خمسة فراسخ من باريس أو سفر ساعة في سكة الحديد، وهي بلدة مشهورة من القديم، لها غيضة فسيحة ناضرة في ربوة من الأرض، يسرح الناظر منها نظره في مدى مديد، كله خضرة ما بين كروم وبساتين وغياض ورياض وقصور وأعلام، حتى يود لو يرى في جملتها صخرًا من صخور مالطة، وفي هذه البلدة قصر كان في الأصل مقرًّا لفرنسيس الأول، وكان هنري الرابع يستطيب المقام فيه، وكذا لويس الثالث عشر والرابع عشر.

وفيه أقام جامس الثاني ملك الإنكليز ديوانه اثنتي عشرة سنة، ثم صار في زمن الفتنة محلًّا للعساكر، ثم جعل الآن سجنًا لهم.

وهذه المواضع يقصدها أهل باريس في أيام الآحاد والأعياد في أرتال لها مقاعد في سطوحها مكشوفة، فترى وأنت في رتل منها عدة أرتال سابقة ولاحقة، ولا يمكن استيفاء الكلام على هذه المحاسن من دون رؤيتها عيانًا، وكل ما تراه في باريس وضواحيها من المحسنات والمنتزهات فإنما تم بعناية صاحب الملك لا بعناية جماعات على عدتها كما هي العادة في لندرة، فإن الملك هنا لا يغفل شيئًا مما يَئُول إلى أبهة الملك وشرف المدينة ورونقها.

وإذا علم مثلًا أن في بعض الشوارع ديارًا قديمة متهدمة اشتراها من أصحابها من دون غبن وجدد بناءها، وفي أيام ملكها الآن هدمت حارة كبيرة برمتها، ثم بني في مواضعها ديار حسنة شاهقة تضاهي ديار البلفار، فأما في لندرة فإن جميع الإنشاءات والتنظيمات موكولة إلى جماعات من الأهلين، وليس على الدولة إلا ضرب المكس والطسق وتجهيز الجيوش.

(٢٦) ملابس أهل باريس

أما ملابس أهل باريس فإنها في الجملة وضيئة فاخرة، وأكثر أنواع الثياب التي تباع عند البزازين ولا سيما الحرير أحسن مما يوجد بلندرة إلا الكتان، فأما الملابس المخيطة فليس لعمري من مناسبة بين ما يباع هنا وما يباع في لندرة، فإن من يشتري ثوبًا مخيطًا في لندرة يلزمه أن يستأجر معه خياطًا ليصلحه له في كل يوم، ولأهل باريس تَنَطُّس زائد في أشياء كثيرة مما لا يعبأ به الإنكليز، إلا أن نساءها اللواتي يعشن من كد أيديهن يلبسن أحذية كأحذية الرجال — وذلك منكر في لندرة — وإذا خرجن في الأسواق خرجن من دون برنيطة ولا شال.

وللاكتفاء عن البرنيطة سببان؛ الأول: الزهو والعجب، فإنهن يعرضن شعورهن وأعناقهن للرنو والتعجب، والثاني: غلاء سعرها، حيث كانت أجرة اللائي يصنعنها كثيرة، فإن صناع باريس تكسب أكثر من صناع لندرة، وبعكس ذلك الرجال، وهاتان الصفتان من المنكر أيضًا عند نساء لندرة.

(٢٧) نساء الفرنسيس

ولنساء الفرنسيس نظافة زائدة على الملبوس والمفروش، فكل ما كان لونه البياض يبقى كذلك إلى أن يبلى، ولكن ليس لهن من الطهارة نصيب، ولهن أيضًا عناية بليغة بتنضيد أثاث البيت، وبهن تليق جميع الأعمال، وفي الواقع فإنهن أركن وألقن من سائر نساء الإفرنج، وما من امرأة في باريس إلا وتعرف شيئًا من المداواة، ومن طبعهن التبكير في القيام وتنظيف مراقدهن بخلاف نساء لندرة فإن الغالب عليهن الكسل والتواني والإضحاء في النوم، ولهن أيضًا حرص على تربية أولادهن وتنظيفهن، فلا تكاد ترى في أسواق المدينة أطفالًا يمشون وحدهم، أو يطوفون في الليل ويعرضون أنفسهم لخطر العجلات وسائر المراكب كما ترى في لندرة.

وهن اللائي يتولين الدخل والخرج، فلا يمكن لأحد أن يشتري شيئًا من المأكول والمشروب — ما عدا الخمر — إلا من أيديهن، وإن تكن بعولتهن حاضرة، ولهن مزية مشهورة بين الناس في النطق بالمغيبات، كما يزعمون، وإذا استنطقت واحدة منهن لزمك أن تعطيها عشرة فرنكات، ولم أسمع عن نساء لندرة هذه الدعوى الشائعة عن نساء باريس.

وقد اتفق لي مرة أن سرقت لي كراريس من كتاب ألفته، وعزمت عدم إفشائه، فقلقت لذلك كل القلق، ثم رد عليَّ بعضها من لندرة، فأخذني الذهول، فلما أطلعت بعض أصحابي على ذلك، قال لي: عليك «بالسمنمبول» فذهبت معه إلى واحدة ممن أعرفهن، وكان هو أيضًا يريد أن يسألها عن حاجة مهمة له، وتبعنا آخر لم يكن له مأرب سوى الامتحان فقط، فلما سألناها حضرت امرأة أخرى وجلست بين يديها، وأمسكت يدها اليمنى، ثم جعلت فيها كرة صغيرة من بلور، وجعلت تحدق النظر في المرأة.

وبعد عدة دقائق غمضت المسئولة عينيها، ثم تنفست الصعداء وأشارت إلينا بالجلوس وعيناها مطبقتان فناولتها حينئذ قطعة من الورق، وأخبرتها بما جرى من السرقة، فشمتها، وقالت: «هذه القطعة أرسلت إليك من بلاد بعيدة مع أوراق أخرى يخالف لون بعضها بعضًا وأصل شرائها كان من تلك البلاد.» قلت: نعم، ولكن أريد أن أعرف من سرقها؟ قالت: «أين كان مسكنك حين سرقت؟» قلت: في روبلانش، قالت: «نعم في الطبقة الثالثة، وقد سرقها رجل كان كثير الترداد عليك.» قلت: من هو؟ وكيف هو؟ قالت: «ليس هو بفرنساوي، بل غريب مثلك.» قلت: ما زيه؟ قالت: «ليس كزينا ولا كزيك، وإنما يلبس رداء طويلًا.» قلت: ما سنه؟ قالت: «في حد الثلاثين.» قلت: بل أكثر من ذلك بثماني سنين، ففكرت هنيهة، ثم قالت: «لست أراه إلا كما قلت لك.» فكانت صادقة في كل ما قالت إلا في السن، ويمكن أن يقال إن ذلك الشخص لم يكن يظن فيه ناظره أنه جاوز الثلاثين.

ويقال: إن هؤلاء المنبئات إنما ينبئن كما يضمره السائل، فإني كنت أضمرت شخصًا كان على تلك الصفة، وكان يتردد عليَّ كثيرًا وجزمت بأنه هو الذي فعل الفعلة، ثم تنصتت لحس معدتي، فقالت: «إن هذا الشخص الذي سرق الورق صديق لمطران حاول مرة أن يسمك باطلاع ثلاثة رجال معه.» ثم إني وضعت بيدها خصلة شعر من شعر امرأة، وكانت وقتئذ مريضة بداء الخفقان، وقد قاست من الأوجاع والأطباء ما يطول شرحه، فأخذت الشعر وشمته، وقالت: «هذا شعر امرأة مريضة وأصل مرضها في المعدة والقلب، وقد مس هذا الشعر امرأة أخرى.» قلت: صدقت، ولكن لا أعلم أن امرأة أخرى مسته، قالت: «بلى قد لمسته، وإن صاحبته صارت عرضة للإسقاط والولادة تسع مرات، وهي ذات نشاط وحدة، فإذا غضبت تخرج عن المعقول، ويخشى عليها من اللَّمَم، فينبغي أن تداريها وتحوطها، وتستعمل لها العلاج الفلاني.»

ثم سألها صاحبي القلق بعد أن ناولها أثرًا من المسئول عنه فقالت له: «إنك تقيم في باريس سنتين، بعد ثم تسافر إلى بلادك.» وكذا وقع له، أما الثالث فإنه سألها عما في جيبه، فقالت له: ورق، قال: على أي شيء يشتمل؟ قالت: «أنا لا أحسن القراءة حتى أنبئك بما اشتملت عليه.» قال: منذ كم قدمت إلى باريس وما أشبه ذلك؟ قالت: «قد استحوذ عليَّ صداع.» ولم تجاوبه بأكثر من ذلك، وخرجنا من عندها وهي على تلك الحالة، ثم إني لما رجعت أخبرت المريضة بما وقع فقالت: أما الشعر فقد لمسته الخادمة، وأما الإسقاط والولادة فكما قالت.

ويقال: إنه حين تكثر السؤال على المسئولة تضعف قوتها ويخدر إدراكها، ثم إنه لما كانت هذه الحرفة مضادة للديانة وللطب، كان القسيسون والأطباء أشد الناس مقاومة لها، ولقد عجبت كيف أن الدولة تسوغ معاطاتها إن لم تكن حقًّا؟! فإنا إذا اعتقدنا بصدق ما تقوله هؤلاء النساء لم يكن بينهن وبين الأنبياء من فرق، إلا أن نقول: إن إنباءهن غير وارد في الإلهيات، وإن يكن تدجيلًا وتمويهًا فلِمَ لمْ تمنعهن الدولة من غبن الناس، واختلاس أموالهم، ونحكم بخروجهن من الجماعة أخذًا بنص التوراة؟!

على أن بعض المتفلسفين في باريس يدعون أيضًا بأن في الإنسان خاصية أو جاذبية تسري منه حتى إلى الجماد فينفعل بها فضلًا عن تأثيره في إنسان نظيره، وعلى ذلك شاعت الأخبار بأن الموائد تميد بلمس عدة رجال لها، وأن الكراسي تمشي، والسكاكين ترقص إلى غير ذلك.

والذي يخطر لي — على قدر ما أدركه — أنه كان ينبغي امتحان هؤلاء النساء، وبعد ذلك إما أن يحظرن أو يقررن على صنعتهن، وقيل إنهن امتحن فوجدن صادقات في أمور كثيرة، حتى لم يمكن حظرهن، وإنه إنما رخص لهن في الإنباء رجاء أن تظهر وسيلة أخرى لإتقان هذه الحرفة، حيث لم يستبعد ذلك على تمادي الزمن.

أما ما قيل عن بوسكو فلم أرَ من شعوذاته ما يصدق كلام الناس فيه، فإن كل ما صنعه أمام الناس لم يصنعه إلا بأدوات، وقد شاع عن روبرت أودن أنه كان عنده زجاجة، وكان يسأل الناس أي شراب يبغون منها، فكان كل يقترح عليه شيئًا فيسقيهم كلهم منها، ثم رأيت هذه القناني تباع بثمن غالٍ، ولا أدري شأنها والله أعلم.

(٢٨) أخلاق الفرنساوية

أما أخلاق الفرنساوية فالكلام عليها يستغرق زمنًا طويلًا؛ لأن الطبيعة البشرية فيهم لحمتها من نوع وسداها من نوع، أما أولًا: فلأن سحنهم وبنية أجسامهم متفاوتة جدًّا، فأهل جنوب فرنسا سمر كأهل البلاد الحارة، وأهل شماليها بيض شقر، والثاني: إن ما يظهر منهم للغريب أولًا إنما هو الأُنس وحسن المعاشرة، فإذا رأى ذلك منهم أول وهلة ظن أنهم يزدادون من مؤانسته وألفته، وأن هذا الأنس لا بد وأن يتبعه كرم وصداقة، ويزيد تعجبه من ذلك على الخصوص ما إذا واجههم على هذه الصفة المستحبة بعد مفارقته الإنكليز على حالة الانقباض والعبوس، ولكن هيهات فإن أنيسك منهم اليوم إذا رآك غدًا ظننت أن ملاقاتكما إنما كانت حلمًا، وعلى فرض استمرار الألفة بينك وبينه، فلا يدعوك إلى منزله ولا يعرفك بأهله.

ومن ذلك أن أهل البلاد الباردة — كباريس وغيرها — تراهم أخف حركة وأحفد إلى الأشغال من أهل البلاد الحارة أو المعتدلة كمرسيلية ونحوها، فإن الناس هنا لا حركة لهم ولا نبض، فمن قدم إليها من باريس ورأى بلادة أهلها عجب كل العجب، فأين هم من أهل مالطة الذين يبادرون إلى العمل بأدنى إشارة؟

ومن ذلك أن كثيرًا منهم ولا سيما أهل باريس يعيشون مع النساء عيش المتعة، ويأتي لهم بنون وبنات وهم على هذه الحالة، ولا يتزوجونهن زواجًا شرعيًّا، فكيف يحب الرجل امرأة ولا يتزوجها لا سيما وقد ولدت له أولادًا وربتهم؟ وزواجهم الشرعي هو الذي يعقد في الديوان لا في الكنيسة، ومنهم من يعقده في كلا الموضعين وهم المتدينون العابدون.

ومن ذلك أنهم مائلون بالطبع إلى حب النساء ومخالطتهن ومداراتهن، ومع ذلك فإنهم يدعونهن يعملن الأعمال الشاقة ليكسبن بعض شيء، ويمكن هنا أن يقال: إن نساءهم مائلات بالطبع إلى حب الكسب، وليست الراحة عندهن إلا بتحصيل المال.

ومن هذا القبيل أن الرجال من فرط عشقهم يقتلون أنفسهم ويرتكبون أقصى الأخطار لإرضائهن، ومع ذلك فليسوا يقيمون على ودادهن؛ فتبديلهن عندهم أهون من تبديل اللباس، ومع اعتقادهم بأن نساءهم أكيس النساء وأظرفهن وأحذقهن جميعًا فلا يأنفون من زواج الحبشيات وغيرهن.

ومن ذلك أنك ترى أدباءهم وكَيِّسيهم أبدًا يترددون على الملاهي والملاعب ليسمعوا فيها ويروا ما سمعوه ورأوه مرارًا، وأنت خبير بأنه يكرر في هذه المواضع تمثيل الحوادث كثيرًا؛ إذ لا يمكن اختراع شيء حديث في كل ليلة، ومهما يكن الشيء الممثل بديعًا فإذا أعيد زالت طلاوته.

ومن ذلك أنك لا تزال ترى الخاصة منهم والعامة يتمشون في الحدائق والغياض ومواضع الفرج والغناء حتى تظن أن أهل باريس كلهم سباهلة لا شغل لهم ولا عمل، ومع ذلك فهم يتأنقون في المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش، فلا أدري في أي وقت من الأوقات يكسبون المال.

ومن ذلك أن لهم عناية بتربية أولادهم أكثر من الإنكليز؛ إذ لا يغادرونهم وحدهم في الشوارع والطرق عرضة للأخطار أو يهملون تعليمهم حرفة من الحرف تغنيهم عن المكث في المستشفى، أو عن الطَّرِّ والاختلاس في الشوارع كما هي العادة في لندرة غالبًا، ومع هذا فإنهم عقب ولادهم يبعثونهم إلى الريف ليتربوا عند المراضع، والإنكليز على خلاف ذلك.

ومنها أنهم على بلادهم وجنسهم أغير من الرجل على امرأته، فلا يسلمون بأن في الدنيا بلادًا تشبه بلادهم أو جيلًا يضارعهم، ومع ذلك فإنهم يسافرون عنها لغير موجب، وحيثما ساروا بثوا وسائل التمدن والعلوم، وجادوا بما خصهم الله به من البراعة والحكمة على من لبثوا بينهم، وربما كانوا لهم أعداء، لعمري إني أرى طريقة ملك الصين في منعه مخالطة رعيته بغيرهم أولى، أوليس أن الدولة حين تنصب الحرب لدولة أخرى تمنع إخراج كل ما يتعلق بالمهمات الحربية من بلادها إلى بلاد تلك الدولة فأي الخارجين أنفع لها وأفضل الرجل أم الأداة؟

ومن ذلك أنهم حين يكونون متغربين في بلاد الناس يختلطون بهم ويجانسونهم ويخالقونهم حتى يصيروا كأنهم منهم، وإذا تغرب أحد بينهم لم يختلطوا به، فغاية ما يخصونه به من الإكرام إنما هو أن يسألوه من أين قدمت؟ وأين تقصد؟ وكيف أعجبتك باريس؟

ومن ذلك أنهم لا يزالون ينقرون عن الحقائق ويودون لو يعلمون كل أمر من فصه، وقد حَذَقوا كل علم وبرعوا في كل فن، ومع ذلك فقد عزب عنهم أهم الحقائق؛ وهو ضرورة وجود الدين لكل من السائد والمسود والرئيس والمرءوس، ولو سلم لهم بأن الكيسى وأهل المعارف والأدب غنيون عنه بما فطروا عليه من حسن الأخلاق أو حسنوا به إملاءهم من مطالعة الكتب، لم نسلم بأن الرعاع الذين هم الجمهور الأعظم في كل البلاد غير مفتقرين إلى دين يردعهم عن الشرور والمعاصي، ويحثهم على فعل الخيرات، ولولا ذلك لأكل القوي الضعيف.

فإن قلت: كيف يأكله والحاكم من ورائه؟ قلت: ليس في كل الأمور يمكن استحضار الحاكم أو الاستغاثة به، ألا ترى أنه إذا اجتمع مثلًا اثنان في مكان خال وبطش القوي منهما بالضعيف، أفيكون لصاحب الحكم عين باصرة أو أذن سامعة للقصص؟ فكم من قضية جرت بين الناس وفاتت اجتهاد أهل السياسة والإيالة! ولكن إذا كان الناس يستحضرون خالقهم في السر والعلن ويخافون عقابه، ويرجون ثوابه، كان لهم بذلك أعظم رادع ووازع، فاتصاف أمة بعدم الدين من أعظم ما يهين شرفها ويخفض قدرها، ومن ذلك أنه لم يزل دأبهم تغيير الحكومة وتبديل السياسة وأربابها، ولم يخطر ببالهم قط أن يغيروا هذا الأسلوب السمج الشنيع الذي يجري في عبارات أهل السياسة والأحكام منهم، فإن فيه من التكرار والمواربة والحشو ما يشهد عليهم أمام الله والناس بأنهم لا ذوق لهم ولا إلمام بشيء من الأدب.

ومن ذلك أنهم ينكرون على أهل اللغات المشرقية وخصوصًا اللغة العربية كثرة الاستعارات والكنايات، مع أن لغتهم تطفح بهما طفحًا، ولولاهما لضاقت بهم العبارة عن تأدية أكثر المعاني، وسيأتي الكلام على ذلك بالتفصيل، وإنما أقول هنا: إني لما أردت أن أترجم من قصيدتي التي مدحت بها الإمبراطور نابوليون قولي:

ولا تَخَلَّل وقت توأمي عِدة
له وإنجازها بل قَلَّما سُئِلَا

قال المصحح: إن ذلك لا يكون مفهومًا بلغتهم، ولو جاء بهذه الاستعارة أحد مؤلفيهم لحسبت من البلاغة بمكان، ومن طبعهم في التأليف والكلام أن ينتقوا الألفاظ الجزلة الفخمة يكسون بها سخيف المعاني، فتسمع منهم جَعجعة ولا ترى طحنًا، وهذا داء فاشٍ فيهم أجمعين.

ومن ذلك أن نساء عامة الفرنسيس مع زهوهن وإعجابهن — إذ الزهو صفة عامة لجميع إناث هذا الجيل — تراهن يتعاطين من الأعمال الخسيسة ما تأنف منه أخس نساء الإنكليز، كتكنيس الطرق، وحمل الأحمال، وتنظيف الأحذية، وصيد السمك، والمناظرة على المراحيض، ونحو ذلك، لا بد من أن تخاطب كل واحدة من هؤلاء الخسيسات المبتذلات بلفظة «مادام»، فأما الستات المترفات من هذا الجيل فالعزة لله الواحد القهار، فإن ما نقص من مترفية سادة الإنكليز وجلالهم ومجدهم تلقاه فيهن وافيًا، فهن نساء صورة وشكلًا، ورجال أمرًا ونهيًا، وحيث قد استوفيت الكلام عليهن في كتاب الفارياق، فلا حاجة إلى إعادته.

وإنما أقول هنا: إنهن لا يعترفن بفضل الرجل على المرأة، فإنهن يقلن: إن الله تعالى لم يختص الرجل بمزية إلا وعوض المرأة عنها بأخرى، فجعل بين ذلك توازنًا حتى تستتب الألفة والوفاق بينهما، فمما اختص به الرجل القوة والشدة ليمكنه تحمل المشاق في تحصيل أسباب معيشته، فعوض المرأة عنها بالصبر والتجلد لمصالح بيتها وتربية أولادها، واختص الرجل ببسطة الجسم والمهابة، فعوض المرأة عنها بفتنة الحسن والروع، فمهما يكن الرجل متترعًا إلى السوء تردعه عنه من نظرات المرأة روادع، واختص الرجل بطول النظر والفكر في العواقب، فعوض المرأة عنه بالبديهة العتيدة، وسرعة الجواب المقنع، واختص الرجل بالشهامة وعزة النفس، فعوض المرأة عنه بالتصاون والحياء وهكذا.

ويحكى عن إحدى الخواتين أنها استأجرت مقعدًا في بعض الملاهي، حيث أريد إجراء التمثيلية المعروفة «بالبروفت» أي النبي، وكان الناس يتزاحمون إلى رؤيتها؛ لأنها كانت أول ليلة، فاتفق أن مرض زوجها بغتة، فأقبل إليها بعض أصحابها ليبدوا لها التأسف على حرمانها من الذهاب، وهي في خلال ذلك تتأوه وتفرك يديها، ثم قالت: إن هذا المخلوق لم يأتِ في عمره كله إلا ما يغيظني وسترون الآن أنه يموت عمدًا ليحرمني من الخروج إلى الملهى. ا.ﻫ. وفي الجملة فإن كل ما تفعله إحدى هؤلاء الخواتين فإنه يعجبها وأهلها وجيرتها، وأهل المملكة أجمعين.

(٢٩) أمة الفرنسيس

ولا شيء يعجبني من أحوال الفرنسيس أكثر من معرفتهم للناس، فإن هؤلاء الذين يخرقون على الإنكليز لو أقاموا بين الفرنسيس سنين لم تكسبهم مخاريقهم خرقة يسترون بها عورتهم أو رغيفًا يفثأ ضجرهم، واعلم أن أمة الفرنسيس أمة قديمة مشهورة مشهود لها بالفضل والتقدم في المعارف والمساعي العظيمة، حتى إن أهل المشرق أطلقوا اسمهم — أعني الإفرنج — على سائر سكان أوروبا، وكما أن بلادهم — ولا سيما باريس — لم تزل مقصدًا للناس في الكياسة والحضارة، كذلك ما برحت الممالك الشرقية منتابًا لهم، ولم تكن دولة من دول الإفرنج قبل استعمال البواخر تذكر بالنسبة إليهم، نعم إن الإنكليز اشتهروا في الهند منذ أكثر من قرنين، إلا أنهم لم يكونوا يجولون في بلادنا ولم يكن يرد إليها منهم غير القناصل، ولكن لم تكد خاصية البخار تعرف عند الكيماويين حتى ملأت سفائنهم البحار، وأمتعتهم وبضاعتهم جميع الحوانيت والأسواق، وحينئذ عرف أنهم ذووا كد واجتهاد، فأدركوا من تقدمهم في متقادم الزمن.

وقد جرت العادة بأن سكان الجزر أبدًا يكونون ناشطين إلى التجارة والأسفار، ضرورة أنهم لا يستغنون عن البرور الفسيحة، إلا أن الإنكليز لا يتطبعون بطباع أهل البلاد التي ينتابونها، ولا يتساهلون فيما يجدونه هناك من الأحوال المغايرة لأحوالهم والمباينة لطباعهم، بخلاف الفرنسيس؛ فإن بلاد الله كلها لهم بلاد.

والذي زاد هؤلاء أيضًا شهرة ونباهة هو أن نبغ أناس منهم تفردوا في عصرهم بمآثر ومزايا لم يشاركهم فيها جيل آخر: فمنهم شارلمان في العز والسطوة، فإنه دانت لعزه إيطاليا وجرمانيا، وكان فيصلًا عند جميع ملوك أوروبا، قيل إنه كان سعيدًا كأغسطوس، ومقدامًا في الحرب كأدريانوس، وهو أول من أنشأ مشيخة للعلوم في باريس، وكان هو من جملة أعضائها.

ومنهم لويس الرابع عشر في المجد والكرم، كان في شهرته بالغرب نظير هارون الرشيد في الشرق، وفي دولته نبغ كثير من العلماء والأدباء والفضلاء — وذلك كفينيلون مؤلف تليماك — خطب في الكنائس وهو ابن خمس عشرة سنة، ولد في ١٦٥١، وبوسوا الشهير في التاريخ والفصاحة، ولد في سنة ١٦٢٧، وموليير الشاعر البارع، ولد في ١٦٢٢، وبوالو وهو أيضًا من الشعراء المفلقين، ولد في سنة ١٦٣٦، وراسين وهو بمنزلة شكسبير عند الإنكليز، ولد في سنة ١٦٣٩، ولافونتين وهو وإن لم يحظَ عند الملك، إلا أنه كان من الفضل والعلم بالمكان الأعلى، ولد في سنة ١٦٢١، والأمير كوندي جعل قائد الجيش، وهو ابن ٢٢ سنة، وقهر جيوش إسبانيا والنمسا وهولاند، ولد في سنة ١٦٢١ وغيرهم كثيرون.

ونبغ من قبله هنري الرابع الشهير في التدبير والإيالة، وقد مر ذكره، ومنهم فلتير في العلوم ولا سيما في التاريخ والأدب وسعة الاطلاع والعبارة، ولد في سنة ١٦٥٤، وفلني في التاريخ والأدب أيضًا ولد في سنة ١٧٥٧، وبوفون في الطبيعيات ولد في سنة ١٥٩٦، ودكرا في الفلسفة، ولد في سنة ١٧٤٩، ودلامبير في الهندسة، ولد في سنة ١٥٩٦، ومونتيسكيو في الفلسفة والأدب وعموم المعارف، ولد في سنة ١٦٨٩.

ونابوليون الأول، وناهيك باسمه واصفًا على أن الإنكليز الآن يتنافسون في كل شيء يقال فيه إنه فرنساوي، فإذا أرادت التجار منهم ترويج شيء من سلعهم كتبوا عليه فرنساوي، وكذلك أصحاب الملاهي يكتبون في أعلامهم أن مادام كذا تلعب الليلة في الملهى، وموسيو كذا يحكي كذا، وما تكون هذه المادام أو هذا الموسيو إلا منهم وفيهم، ولا تكاد ترى شيئًا في باريس مروجًا باسم الإنكليز.

ويمكن أن يقال: إنه لم تستتب في الدنيا واقعة خطيرة إلا وكان للفرنسيس فيها يد، فإنهم هم كانوا سبب الحرب المعروفة بالصليبية في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وذلك أن بعض ضباط الفرنسيس المسمى ببطرس الأرميت — أي الناسك — كان قد سافر إلى الأرض المقدسة في سنة ١٠٩٣، واجتمع ببطرك أورشليم، فشكا البطرك ما تقاسيه النصارى هناك من جور المسلمين، فلما فصل عن المكان أصحبه بكتاب إلى البابا أوروبان الثاني، فجرده البابا لأن يطوف على ملوك النصارى، ويحرضهم على القتال، فأخذت بقوله، وهاجوا لإرسال الجيوش، ثم قام من بعده راهب بريتاني اسمه أرلوان، ثم صان لويس.

ألا ولولاهم لم تستقل دولة أميريكا بأمورها كما نراها الآن، وتفصيله: أن دولة الإنكليز كانت قد كلفت المستوطنين في أميريكا من المكس والضرائب ما لم يكونوا يعهدونه، وكان الحامل للدولة على ذلك ما ركبها من الدين بسبب الحروب التي تقدمت كما يرد تفصيله، فلما بلغت الأوامر إلى بستان أو بستون تعصب أهلها على أن لا يدفعوا شيئًا مما لم تجرِ به العادة ثم عقدوا مجلسًا عامًّا ورأسوا عليهم جورج واشنطون، وفوضوا إليه التدبير والأمر.

وفي سنة ١٧٧٦ شهروا انفصالهم عن الإنكليز وبعثوا بنيامين فرنكلين إلى ديوان فرنسا ليعرض ما استقر عليه رأي القوم، واستنجدوا بالملك لويس السادس عشر، فأرسل لهم اثنتي عشرة بارجة من طولون، فتوجهت البوارج إلى رود — وهي جزيرة كانت تدخر الإنكليز فيها جهاز الحرب — فما كادت تصل إلى هناك حتى ثارت عليها الرياح العواصف فبادت عن آخرها، ثم ذهب من فرنسا لإعانة الأميريكانيين كثير ممن شهروا بالبسالة والنجدة أشهرهم لافايت، وكان قد بلغ من العمر عشرين سنة لا غير، فلما وصل إلى هناك حظي عند واشنطون حظوة عظيمة، ووقتئذ اتفقت دولة فرنسا مع دولة إسبانيا بعد ما كان بينهما من المنافرة على إعانة الأميريكانيين، ثم أمدهم الجنرال روشامبو بستة آلاف من العسكر لاستخلاص جزيرة رود، ثم استخلصوا أيضًا مدينة يورك، واستأسروا من الإنكليز ثمانية آلاف، وعندها تم انعقاد الهدنة بين الدول، وجرى تحريرها في باريس سنة ١٧٨٣، انتهى ملخصًا من فلتير.

قلت: ثم اضطرمت الحرب بين الإنكليز والفرنسيس، فقام الأميريكانيون مقام من لا ضلع له مع أحد الفريقين، ثم اشتعلت أيضًا بين الإنكليز والأميريكانيين، وذلك في سنة ١٨١٢، فلم تنتهِ إلا بعد ثلاث سنين، قال في معجم الأوقات: أصل حروب فرنسا التي تغلغلت فيها الإنكليز نحو مائتي سنة نشأ عن أمراء نورماندي وهم ملوك الإنكليز، فإنهم كانوا يضبطون هذا الإقليم كأنه وَقْف لتاج فرنسا، حتى فتح وليم الأول إنكلترة فصارت هذه الولاية ملحقة بها، ولكنها انسلخت عنها في عهد الملك يوحنا، وذلك في سنة ١٢٠٤، قال: وقد تعددت حروبنا مع الفرنسيس ونصرنا عليهم نصرات متعددة.

وفي عهد هنري الرابع طُرد الإنكليز من فرنسا، وبعد أن خرجت من يدهم بقيت الحروب تعاقب المهادنة، والمهادنة تعاقب الحروب مددًا طويلة، فجملة ما وقع من الحروب بيننا وبينهم ثماني عشرة حربًا، وقد قضت الإنكليز ستًّا وخمسين سنة في الحرب، واثنتين وستين في السلم، فصرفوا في حرب سنة ١٦٨٨: ٣٦٠٠٠٠٠٠ ليرة، وفي حرب إسبانيا اثنين وستين مليونًا، وفي الحرب الثانية معهم أربعة وخمسين مليونًا، وفي الحرب التي دامت سبع سنين مائة واثني عشر مليونًا، وفي حرب أميريكا مائة وستة وثلاثين مليونًا، وفي حرب فتنة الفرنسيس أربعمائة وأربعة وستين مليونًا، وفي حرب نابوليون ألفًا ومائة وتسعة وخمسين مليونًا؛ فتكون جملة المصاريف في مدة مائة وسبع وعشرين سنة، وذلك من وقت الفتنة التي جرت في سنة ١٦٨٨ إلى آخر مدة نابوليون في سنة ١٨١٥: ٢٠٢٣٠٠٠٠٠٠.

وقد حسب بعضهم عدد القتلى من الفرنسيس في ست وقائع في حرب جرت بينهم وبين عسكر إسبانيا، فكانت ٦٠٠٠، ومثلها من أهل إسبانيا، وممن كان يتحزب لهم، وبقيت أقطار البلاد عرضة للتخريب والمصائب من كل وجه. قلت: وقد بلغت مصاريف حرب الهند في هذه الأيام الأخيرة ٩٥٠٠٠٠٠.

أما نابوليون الأول فإنه دان له أكثر ممالك أوروبا، فقهر بروسية والروسية والسويد حين تواطئوا مع الإنكليز على حربه، ودخل مملكة بروسية منصورًا فاجتمعت عليه دول الروسية وأوستريا وبروسية وغيرهم، ثم عنوا لطاعته في مدينة درسدن، وكانت هذه خامس مرة تواطأت فيها الدول على خلعه، ثم لم تمضِ برهة حتى حشد جيشًا عظيمًا وتوجه بهم إلى الروسية، فلم يجد ممانعًا له حتى مدينة المسكوب، فلما أشرف عليها هو وجنده تعجبوا من كثرة ما فيها من الكنائس والقبب المذهبة؛ إذ كان فيها نحو ٨٠٠ كنيسة، فيها ألوف من الأجراس، فقال عند رؤيته ذلك: «هذه مدينة المسكوب، ثمرة تعبكم وجهادكم من زمن طويل، وهي تكون خاتمة مساعيكم وأتعابكم.»

ثم إنهم دخلوها فوجدوها خالية على عروشها، فإن ملكها كان قد أخلاها خدعة، فظن نابليون أن نصرته تحققت، وأن ملكه قد استتب، فلبث فيها أيامًا ثم لم يشعر ذات يوم إلا والنار تضرم في أطرافها، فلحقه من ذلك الفشل واضطر إلى إخلائها، فلحق به جيش الروس، وما كاد يتخلص منهم إلا بعد أخطار شاقة، فلما رجع إلى باريس رأى أهل الشورى قد تغيرت خواطرهم عليه، فاضطر إلى أن يخلع نفسه وسار إلى جزيرة أدلب، فخلفه في الملك لويس الثامن عشر، لكنه أبدى من سوء التدبير ما أمال خاطر بعض رجال الدولة إلى نابوليون، فجرت بينهم المكاتبة والمراسلة، ثم لم يشعر الناس بعد مدة إلا وهو يجول في البلاد، ويحرض حزبه على قتال العدو، وجعل يعدهم ويمنيهم، فمالت قلوب الناس إليه، فما برح سائرًا حتى دخل باريس، ففرحت به رجال الدولة، وفر منه لويس، ثم إنه جمع جيشًا عظيمًا وتوجه لقتال الإنكليز وبروسية عند فلوروس، فانتصر على جيش بروسية، فقتل منهم ٢٢٠٠٠، إلا أن عساكر أعدائه كانت أكثر عددًا من عساكره بأضعاف.

ثم زحف إلى قتال الإنكليز عند واطرلو، وكاد أن يظفر بهم لولا أن تداركتهم جيوش بروسية، فأحدقوا بعساكره، فلم يطيقوا الثبوت، ويومئذ تقطعت به أسباب الآمال، فجعل يتلقى رصاص البنادق والمدافع، وهو كاشف صدره، ومع ذلك فلم ينله ضير، فرجع منكسر الخاطر مهيض الجناح، فحكم أهل الشورى بخلعه، فعرض عليهم أن يقاتل العدو في رتبة أمير لواء، فأبوا فصمم على أن يسير إلى أميريكا، حتى إذا سار بشِرْذِمة من حزبه إلى روشفورت وكانت سفن الإنكليز تطوف هناك، أمسكوه وتوجهوا به إلى جزيرة صانت هيلان، وهناك قضى نحبه.

أما اتحاد بروسية مع الإنكليز، فكان سببه أن نابوليون كان يريد أن يعطي مملكة هنوفر للإنكليز في مقابلة صقلية، فهاجت حمية ملك بروسية على نابوليون، وبلغ من غيظ زوجته أنها كانت تركب وتدور في شوارع المدينة وتحرض الناس على القتال وهي متردية بلباس الجند، ووقتئذ تواطأت الدولتان ودولتا الروسية وسويد على نابوليون، إلا أنه غلب الجميع، حيث دخل قاعدة مملكة بروسية منصورًا مظفرًا كما تقدم، فأما تواطؤ سائر الدول عليه، فإنما كان خوفًا منه أن يستولي على ممالكهم؛ إذ كان لا يرده شيء عما نواه، ووقتئذ سولت دولة الإنكليز لملك الدانيمرك أن يواطئها عليه، فأبى فأرسلت بوارجها إلى كوبنهاك، فأطلقت النيران عليها فهدمت منها ٣٠٠ بيت، واستولوا على بوارجها، وكانت ٥٣ بارجة، انتهى ملخصًا من فلتير.

ومن أبطال نابوليون المشاهير مورو الذي قهر إمبراطور النمسا وبدد عساكره، حتى اضطر إلى طلب المهادنة، فأجابه بشرط أن تنفصل دولة النمسا عن دولة الإنكليز، فإنهما كانتا متواطئتين على فرنسا، وسيأتي أيضًا ذكر نابوليون عند ذكر الأمير نلسون الإنكليزي وغيره في وصف لندرة.

وممن تفرد في البسالة والحماسة من هذا الجيل — أي الفرنسيس — جان دارك الشهيرة، وكانت في الأصل خادمة في بعض الحانات، وكانت تركب الخيل بلا سرج لجرأتها وقوتها، وتدعي أنها تقدر على استخلاص فرنسا من يد الإنكليز فأحضرت بين يدي دوك دورليان في برج، ثم بعد أن علم أنها بكر، وأنه كان يُوحى إليها، فوض إليها أن تقود جيشًا وتسير بهم لاستخلاص أورليان، وكانت حينئذ تحت حصار الإنكليز، فلما بلغت البلد ألقت خطابًا بليغًا على من معها من الجيش، وحرضتهم على قتال الإنكليز، فأخذتهم الحمية والحماسة، وتقدمتهم إلى القتال وبيدها راية، فلم تمضِ ساعات حتى هزمت جيش الإنكليز، واستنقذت البلدة.

قال في أبجدية الأوقات: لما كانت الإنكليز محاصرين أورليان زعمت جان دارك بأن الله أوحى إليها أن تطردهم منها، فقلدها شارلس الثامن تدبير الجيش، فسارت بهم إلى الموضع المذكور، وذلك في سنة ١٤٢٩ وضايقتهم حتى اضطرتهم إلى ترك الحصار، واستردت منهم عدة مدن كانت تحت يدهم، وهزمتهم في واقعة باتي المشهورة، ولم يكن أحد يجد فيها محلًّا للوم والقذف، فإنها جرحت عدة مرار.

حُكي — والعهدة على الراوي — أنها لما كانت ذات مرة سائرة مع أبيها في بستانه وهي بنت خمس سنين أبصرت حولها نورًا ساطعًا في الهواء فالتفتت فرأت صورة الملك ميخائيل رئيس الملائكة، فأوعز إليها أن تكون مطيعة لما يجب عليها، وأن الله يحميها، فلما سمع أبوها بذلك وكان رجلًا شرسًا عاملها بالعنف والقساوة، حتى اضطرت إلى أن تفارقه وتخدم عند أرملة صاحبة فندق، وهناك أبدت من صدق السعي والإقدام على الأعمال ما فطرت عليه، فكانت تركب الخيل لتسقيها وتسافر في قضاء حاجة سيدتها من دون خوف، وكانت في الصلاح على أعظم من ذلك، قال المعلم سريس: إنه كان على طلعتها سيماء الحياء والبهجة واللين مع العزم والمضاء، وكان كلامها سديدًا والعفة قرينة أعمالها كلها، ثم إنها رجعت إلى بيت أبيها بعد خمس سنين وعادت إلى رعاية ماشيته حتى بلغت ثماني عشرة سنة، وكانت أمور فرنسا إذ ذاك على شفا جرف هار من البوار والخراب، وكان قد بلغ الجارية ما أصاب أهل بلادها من الضيم وملكهم من الهزيمة والفشل.

وفي غضون ذلك رأت ما ألم بمعارفها من البؤس بسبب الحرب التي وقعت في فرنوي، فكانت تبصر رؤى وتسمع أصواتًا سماوية أكثر مما كانت ترى وتسمع من قبل، إلى أن أرجف الناس بسقوط أورليان في يد الإنكليز إذ كانوا وقتئذ محاصرين لها، قال فأبصرت الملك ميخائيل والقديستين كاترينة ومرغاريت يحرضونها على أن تخصص نفسها لإنقاذ بلادها، فقالت: إني فلاحة مسكينة ولا دراية لي بمثل هذه الخطوب، فأكد لها الملك أنها تُعطى مقدرة وحكمة وأن القديستين تصاحبانها، وأن كل شيء يجري على وفق المراد، ثم ظهرتا لها أيضًا في نور عظيم وعلى رءوسهما تيجان بهية مرصعة ولهما صوت رخيم.

وكانت البنت تذكر رواية جرت بين الناس مجرى النبوة، وهي أنه كما أن خراب فرنسا نشأ عن امرأة شريرة — أعني إيزابلا — من بافاريا، كذلك يكون استردادها على يد بنت غير ذات عيب تتجرد لإنقاذ بلادها، وأن هذه المنقذة تأتي من وجه بواشسنو، ثم كثر توارد الأصوات عليها وكثر حثها لها، حيث كادت أمور فرنسا تختل بالكلية وأوشكت أن تكون في البحران وأشارت إليها أنها هي تلك البكر المعنية، فاستحوذ عليها الكرب والكآبة، وكانت كثيرًا ما تُرى باكية عند مفارقة الرؤيا لها، وكان أبواها لا يصدقان بما ترى، فأرادا أن يزوجاها منعًا لها عن الخروج مع الجند، فأعرضت عن عرضهما؛ حيث كانت قد نذرت البتولية، واتفق وقتئذ أن جماعة من حزب الإنكليز مروا بقريتها فنهبوها وأحرقوا الكنيسة، فاضطرت إلى الفرار مع والديها.

فلما رجعوا ورأت ما نزل بالقرية اشتد غيظها وجأشها فأمرتها الأصوات بأن تذهب إلى بعض الحكام في ذلك الجوار وتطلب منه أن يوصلها إلى الملك، وأنها إن لم تفعل ذلك تعدم خلاص نفسها، وأنها حين تمثل في حضرته تخبره بأنها أرسلت لكف حصار أورليان ولتتويجه في رام، فقصدت الحاكم وطلبت مقابلته فأبى أولًا أن يراها فما زالت تلح عليه حتى أذن لها، فلما دخلت نظر إليها نظر المزدري وأمر خالها بأن يردها إلى بيت أبيها وأن تجلد، فقالت له: إن ذلك عمل سيدي ولا بد من إنجازه، قال: ومن سيدك؟ قالت: ملك السماء، فأيقن بأنها مجنونة وصرفها، فلبثت في تلك الجهة وكانت تبتهل في كل يوم وتقول: إن الأصوات تلح عليها بإنجاز العمل؛ فشاع خبرها في البلد فكانوا يهرعون إلى رؤيتها ويعجبون من تقواها وحسن سيرتها، فأرسل إليها أحد الأمراء أن تأتيه وتشفيه من داء به، فأرسلت تقول له: إني لم أبعث إليك، وإن الأصوات لم تذكر لي اسمك.

وفي جميع هذه الحوادث كانت أفعالها وكلامها على حد سوى، وكانت مالكة هوى نفسها فلم تكن تبدي شيئًا من الجفاء أو السرف وكان ذهنها يزيد صفاء وتوقدًا، ولم يكن لها مأرب سوى إغاثة أورليان وتتويج الملك، فعرض عليها أحد الرهبان أن يعضدها بامرأة زعم أن لها قدرة علوية فوق الطبيعة؛ فقالت له: لا حاجة لي بها، ثم قالت: من حيث إن الحاكم لم يكترث بي فأنا أذهب إلى الملك وحدي ماشية؛ إذ ليس أحد من الملوك يغيث فرنسا حتى ولا بنت ملك سكوتلاند فما من إغاثة إلا بي، على أني لو خيرت لاخترت المقام بدار أبي والغزل بإزاء أمي، ثم ألح الناس على الحاكم بأن يجيبها إلى ما طلبت.

قال: وبعد أن رش عليها القسيس الماء المبارك واختبرها وعلم أنها ليست بساحرة، أرسل معها بعضًا من خواصه فسافرت في شهر شباط من سنة ١٤٢٩، وكان الملك بعيدًا عن ذلك الموضع مسافة مائة وخمسين فرسخًا في أقطار مشحونة بالحرس والعسس والمخاوف، فركبت الجواد في زي رجل وتقلدت السيف وطمنت قلوب السائرين معها، فجابوا تلك النواحي من دون أن يصادفوا أحدًا من الأعداء، حتى إذا أشرفت على مقر الملك بعثت من يخبره بقدومها، فلما سمع بذلك اندفع في الضحك، وإن كان وقتئذ في حالة يصدق عليها قول من قال إنه يتعلق بحبال الهواء، فأشار عليه بعض وزرائه أن يقابلها، وسخر منها الآخرون.

وظل رجال الديوان ثلاثة أيام في هذه المذاكرة والملك لا يدري بأيها يجزم إلى أن قر الرأي أخيرًا على أن يؤذن لها في الدخول، ولأجل أن يختبرها تزيا بزي رجل من العامة، وجعل أحد خواصه في زيه، فلما دخلت خرقت صفوف الحشم والتبع حتى وصلت إليه وجثت بين يديه، وقالت: ملَّاك الله بالعمر أيها الملك الحليم، فتعجب وقال لها: لست أنا الملك، وإنما ذاك وأشار إلى الوزير، فقالت: باسم الله ليس الملك إلا أنت أنا جان العذراء أرسلني الله إليك لأغيثك والمملكة، وعن أمره أبين لك أنك تتوج في مدينة رام، فأخذها الملك ناحية وبعد أن ذاكرها هنيهة قال: لقد أطلعتني على أمور لم يكن أحد يعرفها إلا الله تعالى وإلا أنا، وأني أول من صدق بأنها أرسلت لإنقاذ المملكة.

وقال فلتير في كتابه الذي سماه «لابوسل درليان»: إن الملك سألها عما جرى بينه وبين محبوبته في تلك الليلة، ولعل ذلك تهكم منه على عادته. قال الراوي: وفي الغد القابل رآها الناس علانية على جواد تُرَكِّضه وتضبطه أحسن ضبط، وكانت تعتقل الرمح وتبدي من الفروسية ما لم يُعهد لغيرها، وكانت مهفهفة القوام ولها شعر أسود مسترسل على كتفيها، وعمرها في حد سبع عشرة سنة، فعجب الناس لما شاهدوها على هذه الحالة وهتفوا بأصوات عالية تنبئ عن تصديقهم لها.

غير أن الملك لم يستخلص سريرتها فأمر بأن يمتحنها جماعة من الأطباء والمتكلمين، فألقوا عليها مسائل صعبة مدة ثلاثة أسابيع، وحاولوا أن يعرقلوها بالكلام، وكان ذلك عبثًا، فإنها أصرت على قولها الأول وهو أنها إنما أرسلت لكف حصار أورليان وتتويج الملك في رام، وكانت وقتئذ بيد العدو، ولم تزد على هذا شيئًا فاقترحوا عليها آية فقالت: أرسلوني إلى أورليان مع جماعة من العسكر تعلموا حقيقة ما أقول — أعني كف الحصار — وكانت حين تنصرف من عندهم تقضي أوقاتها بالدعاء والخلوة، حتى إذا فرغوا من إلقاء المسائل عليها على أنواعها ونضحت بالماء المبارك عادت متسلحة من الرأس إلى القدم في زي الفرسان الأقدمين، فكانت تركب الجواد ورايتها أمامها والرمح بيدها وتبدي من طرق الفروسية ما يعجب الجيش.

وكان أهل أورليان إذ ذاك في كرب شديد، وكانوا قد سمعوا بخبر الفتاة، فأرسلوا يطلبون مددًا، والتمسوا بأن تكون الجارية على رأس الجيش، فطلبت أن تُعطى سيفًا قديمًا زعمت أنه موضوع في قبر في كنيسة القديسة كاترينة، فبُحث عنه وسلم لها فتقلدته، وسارت مع جماعة من مشاهير ذوي الأمر والنهي بفرنسا، وأول ما بلغت المعسكر طردت منه النساء الدنيئات اللائي كن يصحبنه، وحتمت على كل جندي بأن يعترف ويتناول، ثم سارت بالجيش إلى أورليان، وسار صيتها بين يديها فاستقبلها الإنكليز أولًا بالاستخفاف والاحتقار ثم بالخوف الخفي، وأخيرًا بالرعب الذي تمكن فيهم، فكانت تأمر الجيش بالتقدم على مقتضى تبليغ الأصوات.

واتفق مرة أنها أمرتهم بالزحف على البلد من جهة يمين الشط إلا أن أحد الضباط ممن لم يكن له اعتقاد بها أنزلها في فلك هي والجيش، وأخذ جهة اليسار؛ مخافة أن يقابل المحاصرين من الإنكليز في الجهة التي رسمت بها، فثارت عليهم ريح عاصفة اضطرتهم إلى الرجوع وإلى أن يأخذوا عين الطريق التي أمرتهم بها، أما أهل البلدة فحيث كان قد بلغ الضنك والجوع منهم كل مبلغ استقبلوها بالمشاعل والإكرام، واحتفلوا بها غاية الاحتفال لاعتقادهم أن نجاتهم تكون على يدها، وصنعوا لها وليمة فاخرة لكنها أبت أن تنال منها، وآثرت أن تتعشى في دار خازن مال الملك على الخبز مبلولًا بالخمر، فاستحوذ الرعب على قلوب الإنكليز، وكانوا قد سمعوا مذ شهرين بأنها قادمة لمحاربتهم حيث كانت كتبت إلى رئيسهم تنذره بأن الله أمرها بطردهم من فرنسا، واختلفت فيها الآراء والمذاهب فاعتقد الفرنسيس بأنها رسول من السماء، واعتقدت الإنكليز بأنها رسول الشيطان، ثم قالوا: إن تكن من البشر فنحن لا نخاف بشرًا، وإن تكن من الشيطان فلا قبل لنا بها، فاجتهد رؤساء عسكرهم في إزالة هذا الوهم الذي أثر في الجيش بقولهم: إنها دنيئة الأصل وجاهلة، وإن هي إلا آلة استعملها الفرنسيس ليهولوا بها عليهم، ولكن كان ذلك عبثًا فإنهم اعتقدوا أنها من أعظم السواحر ورسخ تأثير ذلك فيهم، فكانت حيثما تظهر تفر منها عساكرهم، فجعل الفرنساويون يدخلون ويخرجون بلا مانع.

وزحفت مرة على الإنكليز وهي راكبة جوادها الأبيض، وأمامها رايتها البيضاء، ووراءها جوق من القسيسين يرتلون، فغشيهم من الدهشة والرعب ما غشيهم، ثم نصبت سلالم على برج طورنل، وارتقت فيه ودعت من كان فيه من عسكر الإنكليز إلى أن يخلوه أو يحيق بهم شر، فشتمها أحد الأمراء وعيرها رعايتها البقر، فقالت له: بئس الفارس أنت، إنك غير جائز من هنا، إنما أنت مقتول، ثم أمرت جندها بأن يهجموا هجمة واحدة، وكانوا حينئذ قد نشموا في الحسد لها فواعدوها إلى غد ليكون الفخر كله لهم، فانصرفت لتستريح فما هو إلا أن نزعت درعها حتى نهضت ولبسته، وقالت: قد أمرتني الأصوات بالقتال فالبدار البدار، ثم لما أقدمت رأت الفرنسيس مرتدين على أعقابهم؛ إذ كانوا هجموا من دون علمها وقد هلك منهم كثير، فاشتد غيظها وتقدمت الجند بنفسها، وأخذت تحض على صدق الحملة فاستخلصت ثلاث قلاع ثم سارت إلى برج طورنل وتهددت جميع من يخالفها بالعقاب فواطَئُوها حينئذ مواطأة رجل واحد.

وهجمت عليه فمانعها الإنكليز ممانعة قوية فلم ينقص ذلك من عزيمتها شيئًا، وأعلنت أن الله قد سلم الإنكليز ليد الفرنسيس، ثم أخذت سلمًا وركزته عند حضيض البرج والرمي عليه متواصل، وأخذت في الارتقاء فأصابها سهم نفذ في درعها ما بين صدرها وكتفها، فانطرحت في الخندق، فأهل الإنكليز من فرحهم وظنوا أنها ماتت ثم حُملت إلى المقدمة وأخرج منها السهم، فأفاقت وجثت تصلي، ثم عاد إليها نشاطها فنهضت، وقالت: ليس ما قطر مني دمًا وإنما هو ظفر، وإن الأصوات تدعوني إلى إتمامه، ثم استأنفت القتال بأشد صولة وأمنع بأس، فلما بصر بها الإنكليز فشلوا وخاروا، فقتل منهم يومئذ ستة آلاف رجل من جملتهم ذلك الأمير وغيره ممن أنبأت بهلاكهم، فعقد أحد قواد الإنكليز المسمى صفولك مجلس مشورة وفاوض أصحابه في الحرب.

فلما رأوا هلع الجند عزموا على كف الحصار، حتى إذا كان اليوم القابل جمع الجند كلهم وعبأهم للقتال، وأوهم أنه يبدي ممانعة ومغالبة وهو في الواقع منسحب بالجيش، ثم بعث إلى الفرنسيس أن ينازلوه بأنثاهم سواء كانت فاجرة أو نبية أو ساحرة، فرسمت الجارية على العسكر بأن لا يفارقوا البلد لأنه كان يوم الأحد، وأن يقضوا النهار بالعبادة لله الذي نصرهم، فانتظر صفولك ساعات فلما لم يأته أحد أحرق البرج وما حوله، وانسل بعسكره فنهت الجارية جندها عن أن يعقبوهم وعند ذلك أسرعت للقاء الملك في بلوى، وكانت في ممرها تزدحم عليها أهل القرى لمس قدمها أو ثيابها أو في الأقل لمس جوادها فاستقبلها رجال الديوان بغاية الإكرام، وأمر لها الملك بمأدبة فقالت له: ليس الآن وقت القصف والرقص واللذات، فإن عليَّ بعد أن أسعى لفرنسا ومدتي قريبة؛ لأن الأصوات أنذرتني بأني أموت بعد سنتين.

ثم دعته ليتقدم معها إلى رام لتتوجه وتترك الإنكليز في يد الله، فتقدم الملك بمن عنده من الجند حتى وصل إلى لوار، ثم ارتأى أن يخرج الأعداء أولًا من المعاقل والحصون ليأمن السير إلى تلك الطية، فسارت بالجيش إلى جارجو حيث كان صفولك مخيمًا بعسكره، فقاتلتهم عشرة أيام حتى استولت على المحل عنوة، وقبضت على صفولك أسيرًا، وكانت هي أول من ارتقى في السلم، وعند بروز رأسها بادرها أحد الجند من داخل الحصن بضربة جندلتها في الخندق فصرعت حتى لم تقدر على النهوض، وأَلِمَتْ جدًّا لكنها كانت تصرخ وتقول: تقدموا يا رجال ولا تخافوا شيئًا فإن الرب سلمهم ليدنا، فدخلت الحمية في قلوب الجند لبسالتها وثقتهم بكلمتها، فهجموا هجمة شديدة واستولوا على البلد؛ فقتل من الإنكليز يومئذ ثلاثمائة رجل.

فلما بلغ الخبر مسامع الأمير طلبو الإنكليزي أخلى جميع البلدان وانصرف إلى باريس، ثم سارت إلى باتي فتلبث جندها هناك ينتظرون مددًا من الفرسان، فقالت لهم: دعوا التلبث وأقدموا فليس عليكم إلا أن تضربوهم، ثم زحفت عليهم فحاق الفشل بالعدو من كل وجه، مع أن رماتهم كانوا من أحذق الرماة ولطالما أثخنوا الفرنسيس، فقتل منهم في ذلك اليوم ألف ومائتا رجل، وكان حزب كبير من القسيسين ينتظرون الملك والجارية ليوصلوهما إلى البلد.

وفي الخامس عشر من تموز سنة ١٤٢٩ سارا ومعهما رؤساء الضباط والقواد، وبعد يومين توج الملك في الكنيسة ففرح الناس واستبشروا بطيب العيش والراحة، وتمكن اعتقادهم بها فكانوا يرون حول رايتها حيثما سارت أسرابًا كثيرة من الفراش الأبيض البهيج، وبهذه الراية كانت واقفة على رأس الملك عند التتويج، ولما فرغ من تتويجه جثت عند قدميه وعانقتهما وهي باكية، وقالت: الآن تم سعيي وكل ما وعدت به باسم الله فقد أنعم به، فألتمس من الملك أن يُطْلِقني الآن لأذهب إلى بيت أبي وأسير سيرتي الأولى، فأبى الملك ذلك إذ رأى أن خلاص الأمة متوقف عليها، وأنها فعلت في الزمن القصير ما لا يفعله غيرها في الزمن المديد، إلا أنها من تلك الساعة تغيرت أحوالها بالكلية، فإن الروح فارقها وانقطعت عنها الأصوات، وذهب عنها ذلك الرأي الرشيد، واستحوذ عليها الغم والابتئاس؛ فكان إذا طُلب منها أن تقضي أمرًا تضطرب أفكارها فيه، وإذا أمرت بشيء ترتاب وترجع فيه، فأعادت الالتماس من الملك وهي جائشة النفس سكرى العين لأن يأذن لها في الانصراف لأن عملها قد تم.

وكانت قد علقت دروعها في كنيسة رام إشارة إلى أنها قضت ما وجب عليها، فأشار الملك عليها بأن تلبسها فامتثلت أمره، إلا أن ضباط العساكر حينئذ كانوا قد أضمروا لها السوء حسدًا، فصاروا يشنعون عليها ويسيئون معاملتها، وأغروا العساكر بأن تنبذها بالألقاب الذميمة، لا بل حاولوا أن يهتكوا حجابها ليفضحوها بين الناس ويكفوا كلمتها عنهم فردتهم أقبح الرد.

ولم يكن يجالسها سوى النساء العفيفات، ولا تنام إلا ومعها امرأة في الفراش، ثم أشارت على الملك بأن يتوجه إلى باريس فسار، وعنت له بلدان عديدة حتى وصل إليها وأمر بالهجوم على فوبور دو صانت أونري، فجرحت البنت هناك وصرعت مدة ساعات، ثم قامت وعلقت دروعها مرة أخرى، وطلبت من الملك الانصراف فأبى ووعدها بأن يرقيها في رتبة شريفة ويجري عليها وظيفة الأرل، وأن يُعفي قريتها من الخراج أبدًا، فأجابت إلى ذلك، ثم في تلك الأثناء قام راهب اسمه ريشارد ومعه امرأة زعم أنها نبية، وأخذا يحثان الناس على جمع المال إمدادًا للملك، فأبت جان أن تواطئهما، وقالت: إنما النجاح على أسنة الرماح.

وفي سنة ١٤٣٠ سارت بأمر الملك لكف الحصار عن كومبان، وكان عليها دوك برغندي فسارت على عادتها في الإقدام والبسالة، إلا أنها لما أوقعت بالمحاصرين خذلها أتباعها، فلما قاربت باب المدينة رماها أحد الرماة فوقعت على الأرض واستسلمت للأمير فندوم، فذاع خبر أسرها في جميع الأمصار فوردوا ينظرون إليها، وخذلها الملك لؤمًا منه، ولم يسعَ في افتكاكها، ثم باعها فندوم للكسمبوروغ، وباعها هذا للإنكليز بعشرة آلاف فرنك، وتخلى عنها معارفها، وتواطأ الناس على إحراقها كساحرة، وكان أهل باريس يشمئزون من ذكرها؛ حتى إنهم أحرقوا مرة امرأة لقولها: إن جان رسول من السماء. وفي الثالث عشر من شباط سنة ١٤٣١ أقيمت عليها الدعوى، فأحضرت في الديوان ست عشرة مرة، وألقيت عليها المسائل المعرقلة الرابقة من كثير من القسيسين وفقهاء الشرع والأطباء، وكانوا زهاء مائة، وبذلوا كل ما عندهم من الدهاء في أن يتصيدوها بكلمة تدل على أن فعلها الذي فعلته كان بقوة الشيطان، فلم تنطق بشيء كما توقعوا، ولبثت صابرة متجلدة وهي تقول: إن الله هو الذي قيضها لذلك حتى أفحمت قضاتها غير مرة فسألوها عن الكنيسة، فقالت: إني ما زلت مواظبة على العبادة فيها، ولكني كنت أطيع الأصوات حين كانت تأمرني بشيء مخالف لها، فحكم عليها أهل الديوان بأنها مبتدعة، وصوب ذلك أهل مجلس الشورى والمدارس والأساقفة.

فلما صدر الحكم بسجنها أخذ الرهبان يترددون عليها وينذرونها هول يومها، ثم أخرجت يومًا وجعلوا يقبحون عليها فعلها ويشنعون على الملك، فعند ذلك ثارت حميتها إلى تبرئة الملك والمناضلة عنه، فحكم عليها بالسجن المؤبد، وأن تقتات بالخبز والماء فقط، ثم حكم عليها أن لا تتردى بلباس الرجال، وهُددت بأنها إذا خالفت ذلك يوجب عليها القصاص بالموت، ثم كادوا لها مكيدة، وهي أنهم كانوا ينزعون عنها ثيابها عند النوم ويضعون مكانها ثياب الرجال، فكانت إذا رأتها تلبث في الفراش إلى أن تضطر إلى القيام فتلبسها إذ لم يكن عندها شيء غيرها، وبينما هي كذلك ذات يوم إذ هجم عليها الحراس واستاقوها وهي في هذا الزي إلى الضابط، فحكم عليها بأنها حنثت في يمينها، وأنها جديرة بالإحراق، ثم أعيدت إلى السجن فأقرت لله بذنب ضعفها وفشلها في كونها لم تصرح غاية التصريح بأن قدرة الله هي التي ساقتها لعمل إرادته في إنقاذ فرسا، فعاودتها الأصوات فامتلأت عند ذلك شجاعة ورأت رؤى بهية إلا أنها حين أخرجت ورأت ما أعد لها من العذاب المهول خارت قواها، فسيقت إليه وهي تَئن وتتأوَّه.

ثم أضرمت النار وأدخلت فيها فجعلت تدعو إلى الله وتبتهل حتى إن عدوها الكردينال بوفور لما شاهدها على هذه الحالة لم يطق بعد أن ينظر إليها، فقام عجلًا هو ومن كان معه من الأساقفة والدموع منحدرة من مآقيهم، وكان إحراقها في الثلاثين من شهر أيار من السنة المذكورة في موضع يقال له لابلاس دولا بوسل، أي موضع البكر، وذري رمادها في نهر السان، ثم بعد عشرين سنة قام مطران باريس، ومطران رام، فنقضا الحكم الذي جرى عليها وأثبتا براءتها. ا.ﻫ.

قلت: وقد وجدت هذه القصة المحزنة في تاريخ بلاد الإنكليز، فنقلتها بتمامها لغرابتها، ثم وجدتها في كتاب آخر مروية بعبارات مخالفة لما تقدم بعض الخلاف، ولا غرو فإنه لا يكاد راويان يتفقان على رواية واحدة أو على رأي واحد، وكيفما كان فإن ما جرى على هذه الفتاة التي تفردت بهذه المزايا الحسنة يبقى معرة وخزيًا على أسماء جميع الذين تسببوا في إهلاكها، سواء كانوا من الفرنسيس أو الإنكليز، على أن موتها لم يفد الإنكليز فائدة كبيرة؛ لأن أهل فرنسا إذ ذاك كانوا قد تنشطوا إلى مغالبتهم ومقاواتهم بعد أن ذاقوا طعم الفوز والظفر، وسرى فيهم روح الحمية للذب عن أوطانهم، وبما ذكر تعلم أن الناس في ذلك العصر كانوا متسكعين في ظلام الجهل والوسواس، فكانت الأساقفة وأهل المدارس أقل كياسة من عامة هذا العصر.

قلت: ولولا نابوليون هذا العصر لم يبقَ للبابا كرسي برومية، ولم يقف في وجه الروس واقف، وذلك مستغنٍ عن البيان، ولم يقم أحد في بلاد الإفرنج كلها من برع في اللغتين العربية والفارسية مثل البارون دساسي، ولم تقم امرأة تؤلف الكتب النفيسة مثل مادام جورج ساند، وليس الآن من شاعر في أوروبا يقارب طبقة دولامرتين، ولا من مؤلف ينظر بأوجان سو، أو بألكسندر دوماس.

فهذه بعض دراري جيل الفرنسيس الغابرة والحاضرة التي بزغت في أفق المعالي، ولم يكن لها في عصرها ند ولا مثيل، على أنه لا ينكر أيضًا أن قد نبغ من الإنكليز وغيرهم كثير من الفلاسفة والحكماء والعلماء والأدباء ممن أشرق بهم الزمان ولهج بحمدهم اللسان.

(٣٠) ما يميز باريس عن لندرة

ثم أقول أيضًا: إنه قد ظهر لي على قدر ما أدركته أن كثيرًا من المصالح في باريس أحسن استتبابًا وانتظامًا منها في لندرة.

  • أما أولًا: فإني مكثت في هذه نحو ثلاثين شهرًا، ولم أسمع عن بيت فيها أنه احترق إلا مرة فقط، وفي لندرة لا تكاد تخمد عن إحراق دار أو دكان أو معمل ونحو ذلك، ففي سنة ١٨٥٦ وقع فيها وفي ضواحيها ٩٥٧ حريقة، منها ٣٩٣ حريقة كانت متلفة جدًّا، وبلغ عدد الحرائق في فرنسا كلها في مدة ثلاث سنين، وذلك من سنة ١٨٦٤ إلى آخر ١٨٦٦: ٢٢٠٣٨.

    نعم، إن ديار باريس هي من الحجر، وديار لندرة من الآجُرِّ غير أن أثاثهما من جوهر واحد.

  • والثاني: إنه لا يعرف في باريس تداول نقود زائفة، أو كواغد بنك مزورة، وفي لندرة كثيرًا ما يقع ذلك، وإذا دفعت إلى تاجر فيها قطعة من الفضة أو الذهب فلا بد وأن يختبرها.
  • الثالث: إن ارتكاب القتل في باريس بالنسبة إلى لندرة نادر جدًّا، لا سيما الآن؛ حيث أجازت دولة إنكلترة للخلعاء والمنفيين أن يرجعوا إلى بلادهم بعد انقضاء مدتهم.
  • الرابع: ثقب الديار والحوانيت والطر والاختلاس من الديار والمحترفات والدواوين، ولا سيما البوسطة فهو على نسبة القتل.
  • الخامس: العوارض التي تحدث للمسافرين في الأرتال، فإنها في بلاد الإنكليز كثيرة، وألحق بها أيضًا العوارض التي تقع في طرق المدينة بمرور الحوافل والعواجل وسائر أنواع المراكب.
  • السادس: المضار التي تحدث من بيع السم والمسبت والمأكولات المنتنة والمشروبات الكريهة، فإنها في لندرة بلية من بلايا الله، وألحق بذلك رخصة العطارين والصنادلة في بيع الأدوية من دون وصف الطبيب، وبيع المفاتيح لأي ما كان.

    وفي باريس يجب على المحتسبين أن يسعروا الأصناف، ويختبروا الحليب والخمر والدقيق واللحم والسمك وما أشبه ذلك على حين غفلة من الباعة، فإذا وجدوها مغشوشة أو فاسدة غرموهم وشهروهم في صحف الأخبار، ولا يباح أيضًا بيع الفاكهة فجة، وذلك كله في لندرة موكول إلى إدارة الباعة، فلا تكاد تجد شيئًا خالصًا، حتى إن الجنازة في باريس مسعرة من الديوان، فأقلها خمسة فرنكات، وأغلاها ٣٣٦٨ كذا في غالنياني.

  • السابع: تولية المراتب من يستحقها، فإن دولة فرنسا لا تولي جاهلًا مرتبة إلا ما ندر، فأما عند الإنكليز فتولية المراتب إما تكون بالمحاباة والاختصاص أو بتعريضها للبيع، وهذا الأخير مستفيض في مراتب العساكر البرية، وما زال الناس يمنون أنفسهم بإصلاح هذا الخلل، وما برح كتاب الأخبار ينددون به وينصحون أرباب الأمر والنهي بتلافيه.
  • الثامن: ترتيب الشرطة حيث يزدحم الناس كالملاهي والمراقص ومواقف سكة الحديد، فإن أكثر هذه الأماكن في لندرة لا يكون فيها شرطي أو يكون وراء الباب، فترى الناس يضغط بعضهم بعضًا عند دخولهم الملهى، وغير مرة رأيت نساء يغشى عليهن في الزحام، وغير مرة يموت عدة أولاد، ومنهم من يستهزئ، ومنهم من يضحك، وفي داخل الملهى ترى الأوباش يصفرون ويزيطون ولا وازع يردهم، فأما في باريس فلا يخلو مكان من أحد هؤلاء الشرطة، وترى الناس في الملاهي ساكتين منصتين فكأنما هم في الكنيسة، ومع ذلك فإن الإنكليز يفتخرون بقولهم: إن «جون بول» لا حاجة له بالشرطة؛ لأنه مطبوع على الترتيب، وهيهات؛ فإن أوباشهم أرذل خلق الله.
  • التاسع: تعهد ديوان المدينة بما فيه حفظ الصحة وبسط النفس وراحة العباد، فيدخل في ذلك ترتيب المستشفيات، فهي في باريس أحسن وأنظف، والمقابر فهي هناك لا تكون إلا خارج البلد، وفي لندرة كانوا يدفنون الموتى في ساحات الكنائس، ولم تبطل هذه العادة إلا منذ ثلاث سنين فقط، ثم المناصع — وهي المواضع التي يتخلى فيها الإنسان للبول أو لقضاء الحاجة — فالأولى في لندرة قليلة جدًّا على رداءتها، والثانية معدومة رأسًا، ثم تنظيف الطرق، فإن طرق لندرة عند وقوع الأمطار تكون لكثرة المارين وحلة للغاية، وليس من يرى في ذلك مشقة ولا شيئًا، ثم وجود مقاعد يستراح عليها، ففي باريس كلما أعيا الماشي وجد دكة أو مصطبة يجلس عليها، وفي لندرة لا يمكن للإنسان أن يقعد إلا في بيته أو في محل قهوة، وبئس ذلك مقعدًا، ثم التطريب بآلات الموسيقى ففي باريس تضرب العساكر بهذه الآلات في عدة مواضع، وخصوصًا في الآحاد والأعياد، وفي لندرة لا شيء من ذلك، وقد عزف بها بعض أيام في إحدى الغياض المنتابة، فأبطلها رئيس المطارنة بدعوى أنها مناقضة لنص الإنجيل.
  • العاشر: وجود دكاكين في باريس في أي موضع كان، سواء كانت للأكل أو الشرب أو غير ذلك، وفي لندرة جميع الحارات التي يسكنها الكبراء والأغنياء خالية من الدكاكين، فإنهم يرسلون خدمتهم إلى الأسواق ليشتروا منها ما يلزم، أو تأتيهم المؤنة مرتبة من عند أصحاب الدكاكين.
  • الحادي عشر: النظر في أمر المومسات، فإنهن في باريس يمتحن في كل أسبوعين، فإذا رأى الطبيب إحداهن مريضة بالداء المعروف، أرسلها إلى المستشفى لتتداوى هناك؛ فلا تخرج منه إلا بعد أن تشفى، فأما في لندرة فقد تطوف المومسة والداء أفسد آرابها وأحشاءها، فيمكن أنها في ليلة واحدة تعدي جمعًا، ولا جرم أنه حيث كانت هذه المفسدة في المدن الجامعة مما لا يستغنى عنه، وكانت هؤلاء المتهالكات على الدينار وقاية لعرض الحرائر، كان النظر في أحوالهن يعد من المصالح، ولا سيما إذا أبيح لهن التطواف آناء الليل وأطراف النهار كما هو الواقع في لندرة، أما في باريس فلا يباح لهن التطواف في الليل بعد الساعة العاشرة.
  • الثاني عشر: إباحة استعارة الكتب من المكاتب الملكية في باريس، فإن المعروفين عند ناظر المكتبة يمكن لهم أن يستعيروا كتابًا ليطالعوه في بيوتهم ويستفيدوا منه، وفي لندرة لا يباح ذلك.
  • الثالث عشر: سهولة تحصيل العلم والصنائع، أما الأول؛ فلكثرة المدارس وحسن ترتيبها ورخصها بالنسبة إلى غيرها، حتى إن الإنكليز يبعثون أولادهم إلى باريس ليتعملوا فيها ما يعسر عليهم تحصيله في بلادهم، وأما الثاني؛ فلأن الأب إذا شاء أن يعلم ابنه حرفة هنا اتفق مع أحد الصناع على أن يبقيه عنده ثلاث سنين، ففي أول سنة يعطيه شيئًا في مقابلة التعليم، وفي الثانية يكون شغل الولد مقابلًا لتعليمه، وفي الثالثة يبتدئ أن يكسب شيئًا، وفي لندرة يلزم المتعلم أن يبقى عند معلمه سبع سنين ومصروفه في خلال ذلك ثقيل على والده.
  • الرابع عشر: الحماية الجنسية، فقد أسلفت لك أن حماية الإنكليز لا تفيد إلا لشراء الأملاك، وهناك أمور أخر غير هذه تراها في باريس، على أحسن انتظام، وذلك ككيفية تبليغ البريد الرسائل، وكيفية إيقاد الغاز، وتسعير المأكول والمشروب، وترتيب الحمالين مما هو في لندرة مغفل أو مضيع.

قال بعض الفضلاء: الحاكم في فرنسا هو خصم المذنب، فلا يصح للمُفترَى عليه أن يصفح عن المفترِي، وعند الإنكليز يلزم المصروف أو يطلق الجاني، وعلى كل نوع من الضرب قصاص، وعند الإنكليز يغرم من دون قصاص، وكل بلد هناك له صندوق ينفق منه، وآخر للإيراد، وله ديوان مكس على المأكول خاصة، فلا تتكلف السكان بشيء، وفي لندرة يجب على السكان إصلاح الطرق وتجهيز الماء والنور وغير ذلك، وفي فرنسا معاش القسيسين والقيام بمصاريف الكنائس مرتب من خزنة الدولة، وهنا موكول على الرعية.

وهناك ديوان للتجارة، وآخر للجرائر، وآخر لأحوال متنوعة، وهنا ديوان واحد، وهناك طبع التجار مائل إلى المناقشة والنزاع على أشياء لا طائل تحتها، وهنا جل التجار متكبرون شيمتهم الضبط والرشد، وهناك ترى الفقراء أعداء الأغنياء، وهنا يهابونهم ويكرمونهم، وهناك ترى القوانين والأحكام أقوم وأعدل، إلا أن الذين يباشرونها ويجرونها هنا أصلح وأفضل، وهناك تقضي الناس سائر أوقاتهم خارج منازلهم، وهنا بعكس ذلك، وهناك يطمع التاجر الكبير في ربح كثير لقلة تجارته، وهنا يجتزئ بالقليل من الكسب لكثرة تجارته، وهناك تختلط الأكابر بالأصاغر، وهنا كل ينحاز إلى شكله ونده، وهناك تفتخر الشبان بالفجور، وهنا يأتونه اضطرارًا، وفي هذا القدر كفاية.

(٣١) رأي في الإنكليز والفرنسيس

قلت: وهنا يحق لي أن أقول في الإنكليز والفرنسيس ما قاله الآمدي في أبي تمام والبحتري، وهو: إن الجيد من الإنكليز خير من الجيد من الفرنسيس، والرديء من هؤلاء خير من الرديء من أولئك، ومآل الكلام أن عامة الفرنسيس أفضل، وأن خاصة الإنكليز أجل وأمثل.

واعلم أن الفتن والمعامع التي وقعت في فرنسا — ولا سيما فتنة سنة ١٧٩٣ — قد غيرت كثيرًا من أخلاق هذا الجيل، فما يقال عنهم من البشاشة والأنس والاحتفاء بالغريب فليس على إطلاقه، كذلك سمعته منهم، نعم هم أبش من الإنكليز.

(٣٢) التوجه إلى لندرة لمشاهدة معرض التحف

هذا؛ ولما كنت ذات يوم مفكرًا في وحشة الغربة ومقاساة تعلم اللغة بعد أن ولى عني نشاط الشباب والأهلية إلى الاحتكال، إذا بالحوري غبرائيل جبارة دخل عليَّ وفي طلعته من البشر والطلاقة ما يترجم عما انطوى عليه من حسن الأخلاق، فإن الخَلْق كثيرًا ما يدل على الخُلُق، ثم بعد أن دارت بيننا كئوس المنافثة، قال لي: إني أود أن أذهب إلى إنكلترة، فهل لك أن تكون لي رفيقًا؟ فإنني أجهل لغة القوم وأحوالهم، والآن يذهب الناس إليها من جميع الأقطار لمشاهدة معرض التحف بلندرة وهو المسمى عند الفرنسيس أكسبوزسيون، فأجبته إلى ذلك، وسافرنا من باريس إلى كالي وذلك في تاسع شهر جون، ومنها إلى دوفر.

ودوفر هذه أول ما نزل فيها يوليوس قيصر حين غزا بريتانيا، وذلك في سنة ٢٦ قبل الميلاد، وفيها قلعة قيل إنها من بنائه، ومدفع يعرف بداغري — من «داغ» طبنجة — جيب الملكة إليصابت أهدته إليها دولة هولاند، وهو مدفع عظيم من نحاس طوله أربع وعشرون قدمًا، ويومئذ طلب منا إبراز الجواز؛ وذلك لكثرة الذين كانوا يردون إلى بلاد الإنكليز، ثم سرنا إلى لندرة فوجدت أجرة المساكن وثمن المأكول والمشروب على ضعفي ما كنت أعهده، وثاني يوم وصولنا وقع من المطر والبرد ما لا يقع في الشتاء، حتى زعمنا الغزالة من طول المدى خرفت.

ثم توجهنا إلى معرض التحف، وكان سبب إنشائه أن الفرنسيس كانوا عقدوا مجلسًا في باريس لأجل عرض بدائع الصنائع، ثم تكرر ذلك مرارًا حتى أغرى الإنكليز بمحاكاتهم في إنشاء موضع تجلب فيه التحف والغرائب من جميع البلاد، وذلك في سنة ١٨٥١، وكان قد استقر الرأي أولًا على أن يبنوه من الآجُرِّ، ولكن لما كان مقصودهم به إنما هو إلى مدة قصيرة ارتأوا أن يبنوه من الزجاج، فحسبوا أن نفقته تبلغ سبعين ألف ليرة، إذ كان ينقل وينتفع به، وإلا فنحو ١٥٠٠٠٠، فتبرع في العطاء لإنشائه أكثر من ١٠٠٠٠٠ من الإنكليز، بدئ به في جولاي سنة ١٨٥٠، وفتح في أول ماي سنة ٥١، وجعل طوله ١٨٥١ قدمًا على مقدار عدد السنين، وعرضه ٤٠٨ أقدام، وفي أول شهر ماي دخلته الملكة وزوجها، وقد جعل نصفه لبضائع بلاد الإنكليز وإرلاند وسكوتلاند، والنصف الثاني لسائر الدول، وكان يُعطى لكل وكيل دولة موضع.

وهم يعنون بوضع الأَصْوِنَة والمخادع لصون بضائعهم وتحفهم، وإذا اشترى أحد شيئًا منها لم يكن يخرج إلا بعد انقضاء المدة، وكان في بنائه من الحديد ٤٠٠٠ طن، و١٧ من الزجاج في سقفه، ما عدا ١٥٠٠ طاقة، وبعد انقضاء مدته بيع بسبعين ألف ليرة، ونقل إلى سدنام، وجمع لتنظيمه وتركيبه هناك ٥٠٠٠٠٠ ليرة، ثم زادت حتى بلغت ١٠٠٠٠٠٠، وكان يشتغل به من العملة نحو ٦٤٠٠، وكان أحقر موضع فيه الموضع الذي نُضِّدَ فيه ما بعث من أقطار مصر، وسبب ذلك فيما بلغني أن البرنس ألبرت لما أرسل كتبًا إلى جميع الدول يخبرهم بهذا المقصد وطلب إليهم أن يرسلوا من بدائع صنائع بلادهم، ترجمت لخديو مصر لفظة الصنائع بالأرض، إذ كانت صورة الخط فيهما متقاربة تقاربها في النطق، فإن مرادف الصنائع في الإنكليزية «آرتس»، ومرادف الأرض «إرث»، فلذلك لم يبعث من مصر إلا القطاني وبعض أشياء أخرى لا طائل تحتها.

وقد رأيت في هذا المعرض حلي الملكة من جملتها ثلاثة حجارة من الألماس قدر الكبير منها نحو الجوزة، تبلغ قيمته فيما قيل ٣٠٠٠٠٠٠، وكان فيه أيضًا صوان لحلي ملكة إسبانيا وتحف أخرى بديعة لم يُرَ مثلها قط، من جملتها فرو لقيصر الروس قيمته ٣٠٠٠ ليرة، ومرآة لم يصنع أكبر منها في العالم بأسره، وأول من صنع المرآة كما هي الآن أهل فينيسيا، وذلك في سنة ١٣٠٠، وكانت تصنع قبل ذلك من النحاس، ولم تعرف في إنكلترة إلا في سنة ١٦٧٣، فانظر إلى التمدن كيف يفعل؟ وإلى الأيام كيف يداولها الله بين الناس! وكان فيه آلة تصنع ٢٨٠٠ مغلف للكتب، مصمغة مطوية في ساعة واحدة، وآلة تَصُفُّ حروف الطبع بنفسها، ونحو ١٧٠ نوعًا من التوراة والإنجيل.

وكان يجتمع في هذا المحل كل يوم نحو ٦٠٠٠٠ يؤدي كل شلينًا، وكان يوما الجمعة والسبت مختصين بالكبراء والأعيان، ويقال: إن الملكة دخلته يومًا فأعجبها ثوب مزركش في محل البضائع التركية، فسألت قَيِّمَهُ عن ثمنه، فقال: ٢٠ ليرة، فقالت: هذا غالٍ جدًّا، ويقال أيضًا: إن الفرنسيس أحرزوا قصب السبق في كذا وكذا نوعًا من الصنائع، والمشهور عند الناس عمومًا أن الإنكليز في الأعمال القينية أمهر منهم والله أعلم، وغاية ما أقول إن كل ما يصنعه الفرنسيس يظهر عليه الرشاقة والمشق والطلاوة، وما يصنعه الإنكليز يكون جزلًا متينًا حتى إن هؤلاء في تصويرهم السخري يصورون الفرنسيس نحافًا ضعافًا، وأولئك يصورونهم ضخامًا جسامًا، فأما صنعة الطبع فلا شك أنها عند الإنكليز أتم وأحسن، وهم يقولون: إن الاختراع من شأن الفرنسيس، لكن الإتقان والإحكام من شأننا.

ومن الديار العظيمة التي فتحت للمتفرجين أوان المعرض، دار دوق نرثمبلاند، وهي دار عظيمة البناء والفرش والأثاث، فيها تصاوير نفيسة وتحف غريبة، حتى إن أطر مواقدها كانت من فضة بدل الحديد، ثم إن هذا المعرض لم يفد الإنكليز فائدة مال الغرباء فقط، بل أفاد أيضًا أهل الفظاظة منهم حسن المعاشرة والمجاملة نوعًا ما، فإنهم كانوا قبل ذلك على غاية النفور من لحى الغرباء وشواربهم.

(٣٢-١) المنطاد أو البالون

ثم سرت إلى حديقة فكس هال المشهورة، ورأيت المنطاد وهو المعروف باسم البالون، وهو قبة في كبر الخيمة على شكل الإجاصة، يصنع من الحرير المدهن ببعض الأدهان، ويملأ داخله غازًا، وذلك بأن يجعلوا بأسفله قربة من جلد متصلة بأنبوبة من حديد، يدخل فيها الغاز من موضعه، ويجعلون له مثل الشبكة شاملة له، وبها ينوطون أكياسًا ثقيلة، فكلما امتلأ جانب منه من الغاز خفضوا الأكياس حتى يرتفع، فمتى امتلأ كله زموا فمه من أسفل وربطوا به نحو ناووس من خشب أو غيره ليقعد عليه من يتولى أمره ومن شاء أن يسافر معه، ثم يزيحون الأكياس ويطلقونه فيندفع صعدًا ومديره تحته، وربما اقتضى لملئه عدة ساعات، فإذا أراد مديره أن يخفضه أداره بحبلين متصلين به هما كالعنان له، فينزله حيث شاء، اللهم إذا كانت الريح عاصفة تغلبه، فربما ألقته على محل غير مقصود، إلا أنهم لا يصعدونه غالبًا إلا في يوم ذي سكون.

وما يقال من أن الناس يصعدون أو يسافرون في البالون، فليس المراد بذلك أنهم يدخلونه، فإن داخله ملآن من الغاز إذا أَلَمَّ به نور أو نار تميز كله فأحرق ما حوله، وإنما المراد أنهم يقعدون تحته، وربما أخذوا معهم حصانًا ونحوه، وقد رأيت منطادًا آخر انبسط تحته امرأتان، وكان رأس إحداهما تحت قدمي الأخرى، وقبل انبساطهما على هذه الحالة حجبوهما عن أعين الناظرين بنحو خيمة، ثم لم نشعر إلا وهما في الجو تشيران بالمناديل، وقد ظهر في باريس من ادعى بأنه يقدر أن يصنع منطادًا من الخشب على شكل سفينة، ليكون أوعب للناس وأسلم عاقبة، وبعد أن تصدى لذلك وركب الألواح، لم تأذن له الدولة في أن يجري ذلك فعلًا بالقرب من باريس، مخافة أن تقع السفينة على الناس فتعطبهم، وحيث لم يكن غاز إلا فيما وليها حبط عمله، وقد رأيت هذه السفينة، وظهر لي ولغيري عدم إمكان إصعادها بالغاز لطولها وضخامتها، غير أن منشئها كان ذا لسان ذلق، فكان يموه على السامعين احتمال ذلك، وأظن أن ما خسره في صنعها ربحه من المتفرجين.

وأصل إنشاء المنطاد كان في فرنسا سنة ١٧٨٣، وكان الناس قد ذكروا من قبل ذلك شيئًا يشبهه، ولكن هذا أول ما عرف، وفي سنة ١٧٨٥ صعد فيه رجلان على أن يسافرا من بولون إلى إنكلترة فاحترق فهلكا، ومن هذه الأدوات ما يصعد في الجو مسافة ٢٣٠٠٠ قدم، ومنها ما يدوم في الهواء ثماني عشرة ساعة، وأول من صنع المنطاد في إنكلترة السنيور لوناردي، وذلك في سنة ١٧٨٤، وكانت مادام بواتيفان تصعد تارة وهي قاعدة على ثور على مثال أوروبا، وتارة على جواد، فكره بعض الناس منها، ذلك لكونه من ظلم الحيوان وهو ممنوع، فكفت عنه.

فأما كيفية إدخال الغاز في أنبوبة المنطاد، وكذا في الأنابيب التي توصل الأنوار في المدن، فهو أن يوقد الفحم في موقد مخصوص، ويجعل فيه قصب من حديد متصلة بالديار والدكاكين، فينحصر روح الفحم في تلك الأنابيب، فإذا أدنيت نارًا من رأسها اشتعلت وبقيت كذلك إلا أن تطفئها، ونورها أشد سطوعًا من نور الزيت والنفط والشمع، وليس له دخان لكنه قوي مضر بالعين، وقد أرى أن غاز باريس أشد صفاء وبياضًا من غاز لندرة، ويمكن أن يكون ذلك لصفاء جو تلك، وسيأتي الكلام على الغاز ومخترعه وفوائده في وصف لندرة إن شاء الله تعالى.

(٣٢-٢) طلب الحماية الجنسية الإنكليزية

ثم خطر ببالي أن أطلب من وزير الأمور الداخلية بلندرة حماية جنسية، لكوني أقمت في مالطة عدة سنين وفي بلاد الإنكليز بضعها، فكتبت إليه عرضًا فجاء الجواب مؤذنًا بأن أَكِلَ ذلك إلى فقيه من فقهاء الشرع؛ إذ لا يصح معاطاة أمر من الأمور الشرعية إلا بهم، كما أنه لا يصح معاطاة مصلحة كبيرة من المصالح المتجرية إلا بواسطة السماسرة، وكان مما لزمني مباشرته في ذلك أن أخرج للفقيه أربع شهادات ممن لهم بيوت وملك من الإنكليز تؤذن بصحة ما أقول ففعلت.

واعلم أن الحصول على نوع هذه الحماية لا يتوقف عند الإنكليز على عدد سنين يلبثها الغريب في بلادهم، وإنما هي منة من قبل مخولها، ولو أن إنسانًا لبث في بلادهم عشرين سنة ولم يكن حسن التصرف والسيرة لم يستحقها، وجل نفعها إنما هو تأهيل صاحبها لأن يشتري في بلادهم أملاكًا كالدار والعقار والسفينة وما أشبه ذلك، وعليه أن يحلف أن يتخذ دارهم وطنًا له، فإذا استوطن غيرها فللقنصل المقيم هناك أن ينكره، أما حماية فرنسا الجنسية فتتوقف على عشر سنين، ولكنها تكون بعد ذلك حماية ووقاية لصاحبها في كل مكان وزمان.

والتملك في إنكلترة على أربعة أنواع؛ الأول: أن يكون شبيهًا بالإجارة إلى مدة معلومة من السنين، الثاني: أن يكون إلى ٩٩ سنة، الثالث: إلى ٩٩٩ سنة، الرابع: إلى الأبد. والثاني هو الأشهر.

وهذه ترجمة الحماية: إني أشهد أن فلانًا المقيم الآن في طريق كذا، في خط كذا، الكائن في إقليم كذا، في أعمال بريتانيا الكبرى، من حيث إنه عازم على استيطانها، عرض عرضًا لي أنا سر جورج كري بارونت أحد رؤساء كتاب الدولة، مضمونه أنه من بلد كذا، ومن رعية الدولة الفلانية، وله زوجة وأولاد، وحرفته كذا، وأن في عزمه أن يبقى ساكنًا في هذه المملكة، والتمس مني حالة كوني كاتب الدولة هذه الشهادة المذكورة، وحيث إني بحثت عن حقيقة الحال، وأتاني من البينة ما اعتقدته ضروريًّا لإثبات صدق ما أودع في ذلك العرض، فالآن بموجب الأمر الذي فوض إليَّ حالة كوني كاتب الدولة في الحكم الفلاني، أعطي فلانًا المذكور عند إجراء اليمين المذكور في ذلك الحكم جميع الحقوق والأهلية الخاصة بمن يكون مولودًا من أهل بريتانيا، ما عدا أهلية أن يكون عضوًا من مجلس أهل الديوان الخاص، أو عضوًا من أعضاء مجلس المشورة، وما عدا الحقوق والأهلية المختصة بمن يكون مولودًا بالطبع من أهل بريتانيا خارج الممالك المنسوبة إلى التاج البريتاني وما يليها. ا.ﻫ.

فقد علمت أن إعطاء هذه الحماية لم يتوقف على سني الإقامة، وإنما هي لنواله كالوسيلة، ثم إني لما رأيت أن الفقيه لا يقدر على إخراجها إلا بعد مدة ولزمني العود إلى باريس، طلبت منه أنه إذا حان إنجاز هذه الطلبة يعلم بها كاتب الجمعية، ورجوت من هذا أن يبعث بها إليَّ في باريس، وسافرت وبعد أيام ورد خبر بقبول ملتمسي، ولزم حضوري لإجراء اليمين، فسافرت إلى مدينة هافر، فبلغتها بعد نحو سبع ساعات، ومنها إلى سوث امبطون، وكانت ليلة مشئومة، فقد ثار علينا النوء حتى كانت السفينة تتقلب في البحر كالسمكة، مع أن الوقت كان في صميم الحر.

وكان من همي قبل كل شيء إجراء اليمين، وهذه ترجمتها: أنا فلان أعد وأقسم صادقًا بأني أكون أمينًا ومخلصًا الطاعة لسعادة الملكة فكطوريا، وأحامي عنها بغاية جهدي وطاقتي ضد جميع من يتحالف عليها، أو يهم بسوء عليها، سواء كان على شخصها أو تاجها أو شرفها، وأبذل غاية جهدي في أن أكشف لسعادتها ولورثتها ولمن يخلفها جميع الخيانات والخائنين والمتغاوين عليها أو عليهم، وأعد بأمانة أني أبذل غاية استطاعتي في أن أحفظ وأسند وأجير خلافة التاج المعبر عنه في الأحكام بحكم كذا … إلخ.

(٣٣) العودة إلى باريس ومدح الملك

ثم عدت إلى باريس، واتفق حينئذ أن تولى الملك الآني ضبط الأمور السياسية، وهو يومئذ رئيس مجلس الشورى، وقهر مناوئه وحاسده، فأشار عليَّ بعض معارفي أن أمتدحه بقصيدة، فإنه ذو إلمام بالعربية، وله اطلاع على لغات كثيرة فنظمت له هذه القصيدة، وهي:

من شأن أهل الهوى أن يُفْرِطوا الغزلا
قبل المديح وإلا غازلوا الطَّلَلا
أما النسيب فلا حسناءَ تشغلني
إذ قلب ذي الحُسن عن حسن الوفاء خلا
لكن أنا ناسبٌ وَجْدًا بطيف كَرى
ما كنت أعرفه من قبل أن وصلا
أتى على غِرَّة والليل معتكر
من صبغ همي وما جنح له نَصَلا
وَهِمْتُهُ غادةً جاءت تُغَرِّرُني
فحين صحت به مُسْتَنْكِرًا جَفلا
إن لمْ أَنَمْ لم يَزُرْ أيضًا وإن هو لم
يزر فما ناظري بالغُمْض مُكتحِلا
يا حُسنه زائرًا ما شأنه صَلَفٌ
ولا يُرى شانفًا كالخُود أو شكلا
عفٌّ نزيه خفيف اللمس يُبْعِدُه
وكم جميلٌ به خال قد اشتغلا
حُلو الشمائل لا طَرْفًا يملُّ ولا
عتبًا يدل ولا مُستحقِبًا بدلا
لا يَزدهيه رياش حين تَرمُقه
كأنما هو طاووس به رَفَلا
ولا يبوح بسرٍّ إذ يَبينُ ولا
يكون إمَّعة مع كل من بذلا
رقَّت محاسنُه حتى استرَقَّ بها
قلبي وقد جعل التذكار لي شُغْلا
دعني وشأني، فما ذو الجدِّ تَشغلُه
شكوى الهوى إنها شُغْلٌ لمن هَزَلا
من رام مَأْثَرَةً فليمدَحَنَّ رجلًا
بين الرجال يراه وحده الرجلا
لويسُ نابوليونُ الراقِ منزلةً
في المُلك ما إن يرى الرائي لها مَثَلا
من ذا الذي يُثْني في الأنام على
من في المكارم والمجد السَّنِيِّ عَلا؟!
وليت شِعري هل في الكون من لغة
تحوي كلامًا يُوَفِّي حَقَّ ما فعلا؟!
لولاه باتت فرنسا في معامِعَ لا
تكاد تُطفئها حربٌ ونَحْرُ طلى
لما تفرَّقت الآراء واحتدمت
نار الترائي وظُنَّ الخَطْبُ قد عَضلا
تدارَك الأمر لا عِيًّا ولا فشلًا
ومن بالعفو لا عجزًا ولا مللا
وبات بالملك والتدبير مشتغلًا
وبات حاسده باليأس مُشتعلا
حق على الناس أن يَدْعوا له أبدًا
فإن معروفه كُلًّا لقد شَمِلا
وكيف لا وفرنسا دولها سبب
يُديل في غيرها الأملاك والدُّولا
فكان تدبيره للأرض قاطبة
أمنًا وهذا الذي كل الورى أملا
وحرمة الدين لولا عزمه انتهكت
وغرضه صار بعد الصون مبتذلا
فِعَال من تمسَّك الدنيا بساعِده
والدينُ خِيفةَ أن يستقبلا زللا
يرى من الأمر حزمًا في أوائله
ما غيره عنه في صُيوره وهَلا
فما قضى قط إلا وهو ذو ثقة
ولا نوى خطة إلا وقد فصلا
ولا تَخَلَّل وعد توأمي عدة
له وإنجازُها بل قلما سُئلا
فإنما هو يُوَلِّي العُرْفَ مُبتدِرًا
والعفوَ مقتدرًا والمَنَّ مرتجلا
فما أنا قائلٌ ما قال بعضهم
يرتاح عند سؤال المجتدي ثَمِلا
فإن ذي شيمة فيه ملازمة
له وما أحدٌ عن دأبه انتقلا
مِنْ بِشْرِ طَلْعَتِه بُشرى لناظره
ومن تَفَوُّهِه توكيدُها حصلا
تلقاه مبتسمًا والحرب دائرة
ونافلًا وسواه لا يمنُّ بلا
يَزينُ باريسَ مَرْآه وهِمته
حتى ترى لملوك العصر ذا نزلا
وكل أيامها تغدو مواسم إذ
لم يَبْقَ حُسن بها إلا وقد كَمَلا
ما لاح من باعث فيه لها دِعَةٌ
إلا وبادَره من يومه عَجِلا
له الولاية حتمًا لا عَدَالَ بذا
فإن خير ملوك الأرض من عدلا
لئن مضى عمُّه ذاك الهُمام فقد
ظلت معاليه في جِيدِ الزمان حُلَى
أَكْرِمْ بفَرْعٍ زَكَا عن دَوْحة بَسَقَتْ
كلٌّ إلى ظلها الممدود قد وأَلا
لله يومٌ به مَادَت عساكره
من حوله كجبال تُنبِت الأَسَلا
كأنه البدر قد حَفَّت كواكبُه
به وما من سها من بينهم ضَؤلا
قد كاد يذهب بالأبصار لَمْعُ سَنَا
سلاحهم بيد التأييد قد صقلا
ما إن ترى فيهم عيناك إذ برزوا
إلا فتى فارسًا أو راجلًا بطلا
نالوا من الشرف الأوفى بطاعته
ما لم يَذَرْ أحدًا عن أثَرة عَطَلا
ولو خلو عن سمات فاسمه لهم
مُغْنٍ فما أحدٌ إجلالُه جَهِلا
في رأيه النصر لكن فوق موقعه
من السما رأيه المُرْبى على زُحَلا
قد كان في دارَة المريخ حشدُهم
لكن لسلم فكل راح ممتثلا
فكنت تسمع من ضرب الطبول ومن
رعد المدافع ليلًا صاهلًا زَجِلا
وزَهرُ نار من البارود قد طلَعت
في ليلة ذات دَجْنٍ نَجْمُها أفَلا
يرى المجوسي فيها حُجَّةً وهُدى
على السجود لها أنى نوى جدَلا
زادتْ زهورًا بجعل اسم الأمير بها
كأن جُثمانه فيه قد اتصلا
وعاد والخلق قد طابتْ خواطرُهم
وبالدعاء له كلٌّ قد ابتهلا
والسعد يقدمه والعِزُّ يخدِمه
والله يعصمه ما سار أو قفلا
فليأتين كلُّ ذي مُلْكٍ يهنئه
ومن ونَى حسدًا فَلْيَبْعَثَنْ رُسلا
ولْيَعلمِ الناسُ أن ما خاله جَلَلًا
سواه كان عليه هَيِّنًا جللا
كن يا أمير المعالي كيف شئت فمن
يَقصِد رضى الله لم يُحْبط له عملا
ومن تحرَّى سبيلَ الرُّشد فاز ومن
أطاعَ داعيَ الهوى لم يُدرك الأملا
هذي الممالك والأملاك غابطة
هذي التواريخ يَدْريها الذي عقلا
فاقتَدْ شَوَارِدَ أحوالٍ برُمَّتِها
ورِضْ صِعاب أمورٍ تَلْقَها ذَلَلا

وقد يسر الله لي نظم هذه القصيدة في يوم واحد، إلا أنه بقيت الصعوبة في تقديمها لأعتاب الممدوح، حيث لم تجرِ العادة عند ملوك الإفرنج بأن يقرءوا قصائد مدح فيهم ولا غيرها أيضًا مما يخاطبون به، وإنما يقرأ ذلك كله كُتَّاب أسرارهم، وهم يجاوبون عنها المخاطب بحسبما يرونه صوابًا، وفي الجملة فإن نظم القصائد سواء بالعربية أو غيرها أسهل من تقديمها للممدوح من ملوك الإفرنج، وقد كنت مدحت ملكة الإنكليز بقصيدة وقدمتها لضابط البلد، وهو وكَّل بها زوجته لتهديها إلى بعض الخواتين القائمات بخدمتها وترجمتها أيضًا إلى لغتهم، وإلى الآن لم يأتني عنها جواب، ولا أعلم هل وصلت أو لا؟

وكل من تعلم لغات الإفرنج من علية الترك وأشرافهم سلك هذه الطريقة، فإني كنت نظمت قصيدة في و. «ولي» باشا سفير الدولة العلية في باريس وأخرى في ن. «نامق» باشا وأخرى في آخر، ولم تنتج إحداها سلبًا ولا إيجابًا بل ضاعت الأوليان وأضاعا عليَّ كُرَّاسَيْنِ من ديواني، ذهبت كل منهما بالكراس الذي اشتمل عليه، ولم يكن مقصودي بهذا المدح سوى نهمة الشعراء المعدية إلى تحمير دواوينهم بقولهم، وقال يمدح الملك وقال يمدح الأمير، ثم إنه لا شيء أفظع عند الإفرنج من أن يروا في قصائد المدح تغزلًا بامرأة ووصفها بكونها رقيقة الخصر ثقيلة الكَفَل نجلاء العينين سوداء الفرع وما أشبه ذلك، فشعرهم كلهم خصي، وأفظع منه التشبب بغلام، وأقبح من هذا وذاك نسبة شيء من صفات المؤنث إلى المذكر كقول الشاعر: كأن ثدياه حُقَّانِ، فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب ويجعلونه ضربًا من التاريخ فيذكرون فيه مساعي الممدوح ومقاصده وفضله على من تقدمه من الملوك بتعديد أسمائهم.

ولما ترجم موسيو دوكان قصيدتي التي مدحت بها المرحوم أحمد باشا والي تونس وطبعها مع الترجمة، كان بعضهم يسألني هل اسم الباشا سعاد؛ وذلك لقولي في مطلعها:

زارت سعاد وثوب الليل مسدول

فكنت أقول: لا بل هو اسم امرأة، فيقول السائل: وما مدخل المرأة بينك وبين الباشا؟ وهو في الحقيقة أسلوب غريب للعرب، قال العلامة الدسوقي: اعلم أنه قد جرت عادة الشعراء أنهم إذا أرادوا مدح إنسان أن يذكروا قبله الغزل لأجل تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر والمبالغة في الوصف وترويح النفس ورياضتها. ا.ﻫ.

قلت: كما أن الإفرنج ينكرون علينا هذه العادة، كذلك ينكرون المبالغة في وصف الممدوح، وأما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد والطود والبدر والسيف، فذلك عندهم من التشبيه المبتذل، ولا يعرضون له بالكرم، وبأن عطاياه تصل إلى البعيد فضلًا عن القريب، فهم إذا مدحوا ملوكهم فإنما يمدحونهم للناس، لا لأن يصل مدحهم إليهم، ومع علمي بهذه الحال لم يمكني مقاومة نزعة النهمة العربية إلى تقديم القصيدة المذكورة، ولا سيما لما سمعت بأن الممدوح يعرف لغتنا، فاجتمعت بالفاضل اللبيب والصديق الأديب الخواجا روفائيل كحلا وطالعته في ذلك، فقال: أنا أعرف وسيلة لتقديمها، ولكن ينبغي أن نترجمها إلى اللغة الفرنساوية، فإن معانيها لا تضيع بالترجمة؛ إذ هي منسوقة على نسقهم لولا التغزل بالطيف، لكنه شيء عدمي، ولا سيما أنك أشرت في مطلع القصيدة إلى إنكار الغزل قبل المديح، فمن ثم ترجمناها وأطلعنا عليها أحد أدبائهم، فقال: بل الأولى أن ترسلوها غير مترجمة، فإن الملك عنده مترجمون يترجمونها له، فقدمت كما هي، وبعد أيام لم نشعر إلا والبريد يطرق الباب، وإذا بيده رسالة من كاتب الملك باسم الخواجا المذكور وباسمي، مضمونها أن القصيدة بلغت جنابه العالي، وحسن موقعها لديه، وأنه يشكرنا على ذلك شكرًا جزيلًا.

ثم إنه في خلال هذه الأوقات استقل السلطان المشار إليه بولاية الملك، ولقب الإمبراطور فنزغني نازغ آخر — من وقال يمدح الأمير — إلى أن أهنئه بقصيدة، وأقدمها على يد رئيس تراجم بابه الكونت دكرانج الذي مر ذكره، فلما فرغت منها، وقرأتها عليه، قال: ليس من هذه الصفات التي نسبتها إلى الملك ما هو مختص به وحده، فإنه يصلح لأن يخاطب به أي ملك كان، وهي مع ذلك عويصة لا يمكن ترجمتها، ولو قدمتها كما هي لما استحسن منها غير الخط والشكل فقط، فلهذا أضربت عن تقديمها وشكرته على نصحه، ولكني لا أضرب عن قيدها هنا حتى ينتفخ بها بطن هذا الكتاب، وهي هذه:

للويس نابوليون حَقُّ السُّؤْدَد
والمُلك إذ هو في المعالي أَوْحَدُ
فلتُقدم الأملاكُ داعيةً له
بالتهنئات وشأنَه فليحمدوا
بُشرى لذي مُلك يزور نَدِيَّهُ
ولمن يُنبأ عدلُه فيقَلِّدُ
ولمن يُبايعه ويشري نفسه
بولائه فجزاء مَد يدٍ يدُ
نظر الزمان بسعيه إبطاءه
من قبلُ فاستحيا فأقبل يَحفدُ
فجَلا لنا في ظرف عام منه ما
لم يُجْلِه للناس دهرٌ سَرْمَدُ
أَمِنَ الورى في ظله وتنعموا
وإلى التَّرَفُّه والتترف أَخلدوا
حتى خَشُوا أن البلاهة من دوا
عيها بُلَهْنِية وعَيْشٌ أرْغَدُ
يتهجد العافون أمنًا وهو من
شفق على إغفائهم يتهجد
أصحى لهم من بعد أنواء العنا
عيش بطالع سعده لا يجهد
تُنسي الثواكلَ حزنهن فِعالُه
فهي التي ما بينهن تَعَدُّد
ضبط الأمور بحزمه واقْتَدَّها
فبما حبانا اليوم يأتينا غد
قَيد الأوابدِ رأيه ما حادث
عنه يَنِدُّ ولا قديم يَشْرُد
وضجيعُه الفكر المنير يريه إن
أضحى فينهض للأمور يُفَرِّدُ
ما بعد أن ظهرت مكارمه يُرى
أحد يلوم لفائت أو يَكْنُدُ
عن حِلمه تروي الشهود لغائب
وبفضله كل البرية تشهد
هذي المآثر فاهتدوا بمنارها
يا أيها الثَّقَلان ثم به اقتدوا
هذي المفاخر فَأْتِنَا بمثالِها
يا من مديح ملوك عصرك تنشد
يستسهل الراءون مطلع صاعد
شَرَفًا ولكن ما كذا من يصعد
ويَرُوقُ مَخْر المنشآت لناظر
ما خاضَ لُجَّ اليَمِّ وهو يُهَدِّدُ
قل للمشبِّه قد غويت فهاتِنا
بنظيره إن كنت ممن يَرْشُد
لا تدرك الأبصار لولا الشمس ما
جَرَم الهَباء ولا يراها أرْمَد
هَبنا اسمه حتى نُجِلَّ سميَّه
حبًّا به ولنا إليه تَوَدُّدُ
فات الملوكَ فخَارُه فرضوا بأن يدعوا
ببعض صفاته كي يسعدوا
ولربما حاكى السرابُ الماءَ عن
بُعْدٍ وأظمأ من أتاه المَوْرِدُ
يا من تولى عرش عز صانه
ذو العرش وهو بما حَبَاكَ مُؤَيِّدُ
شرَّفْتَ تاجَ المُلك حين رضِيتَه
وازداد وَهْوَ عليك فخرًا يَخْلُد
فَجَلَتْ فرنسا طلعةً كانت لها
أيام عمك عَبْدُه المستَعْبَدُ
ما زال مذ عرف الوَرى أملاكهم
يطأ الممالك من حِماها سيِّد
فاسلم ففي يُمْناك غِبطةُ أهلها
وبعزها الأرضون طُرًّا تُنْجِدُ
دُمْ آفقًا قَدْرًا ورأيُكَ أَرْشَدُ
ومُسابقًا فَخْرًا وجَدُّكَ أَسْعَدُ

(٣٤) الشروع في تأليف كتاب الفارياق

وفي غضون ذلك شرعت في تأليف كتاب الفارياق الذي نشر طبعه الخواجا روفائيل كحلا المُومأ إليه، وبعد أن طبع منه عدة صحائف اقتضى لإنجازه سبك حروف جديدة، فانتظرت مدة حتى إذا قَنَطْتُ أو كدت أقنط من ذلك، وكانت نفسي قد تاقت إلى فقع لندرة وفقاعها، سافرت على نَكْظ، فتعرفت حينئذ بالخواجا مخائيل المخلع، فقد كان قدم لمعاطاة التجارة.

ومما أعجبني منه كرمه وسعة اطلاعه، فقلما يرد ذكر شاعر إلا ويروي عنه، أو نكتة أدبية إلا ويسردها، أقام في لندرة عامًا ونيفًا، وسافر وهو يدري جميع أحوالها.

(٣٥) كتاب كلستان

وقد أهداني نسخة من كتاب كلستان الذي ترجمه أخوه من الفارسية إلى العربية فلما تصفحته وتأملته حق التأمل ظهر لي أن أخبره دون مخبره؛ إذ لم أجد فيه من المعاني المبتكرة ما أوجب احتفال العجم به هذا الاحتفال العظيم، فإنه عندهم بمنزلة مقامات الحريري عندنا، غير أن عربيته فصيحة، فلما قابلته المرة الثانية وجرى ذكر هذا الكتاب، قلت له: لقد طالما سمعت بذكر كلستان غير أني لم أجده يستحق هذه الشهرة، وقد حدثتني نفسي بأن أنشئ كتابًا على نسقه لكن التزم فيه الهزل، قال: فافعل، فأنشأت في اليوم القابل هذه الحكايات الآتية، ولما قرأتها عليه وقت الاجتماع، قال: قد أفرطت في محاكاته وهو فوق ذلك، وأبى إلا التنويه به، هذا؛ ولما كان باب الإنشاء قد أُرْتِجَ عليَّ بلندرة لكثرة قعقعة العواجل والحوافل فيها، بحيث لا يمكن لمستمعها آناء الليل وأطراف النهار أن يجمع أفكاره أو يبتكر معنى حسنًا، حق لي أن أثبت هنا ما كتبت محاكيًا لصاحب كلستان:
  • حكاية: رأيت قومًا يتسابقون حشدًا، ويتزاحمون حفدًا، فمن بين ضاغط جاره، ومُهْطع كأنه يشن الغارة، فقلت تالله ما اجتمعت هذه الجماعة إلا لأمر عظيم، ولا قصدت إلا مقصد خير عميم، ثم قلت في نفسي بعد استصواب حدسي:
    انهض إلى المكرُمات مستبقًا
    ولا يصدَّنك عائق عنها
    وإن تجد عُصبة سَعَتْ جهة
    فاسْعَ إليها ثم استَفِدْ منها

    فجاريتهم وأنا أظن أني أكون أول الفائزين، ومقدام البارزين، فلما بلغت حلقة الرجال، وكانوا ما بين حُزُقَّة وطويل وطِوال، خزقت صفهم، وخرقت مُصْطَفَّهُم، وإذا في وسطهم خطيب، كنت أعرفه مذ عهد غير قريب، فأول ما وقع عليه الطرف، وآنست منه الظرف، قلت له: السلام عليك يا خطيب يا إمام، فأجابني بديهًا: وعليك السلام.

  • حكاية: بينما كنت أطوف في مدينة القاهرة، وأنظر ما فيها من المحاسن الباهرة، وأحدق في وجوه الشوافن، في الرواشن؛ إذ لمحت في روشن غادة فاقت النساء بالظرف والجمال، والصباحة والدلال، فقلت منشدًا وأنا على غير هدى:
    بالله رِقِّي لمُغْرَمٍ دَنِفٍ
    قد أَسلمَتْهُ إلى البِلى عينُه
    تَصَدَّقي بالوِصال عَلَّكِ أن
    تَشفيهِ حَشاه فقد دَنا حِينُهُ

    ثم غشي عليَّ من شدة اللوعة، ثم أفقت طمعًا ولم أبرح أسير الهوى وطوعه، وناديتها بلسان مبين، ألا إني إليك من التائقين العاشقين الخاضعين، فقالت: وإني لك لمن السافقين الصافقين الصافعين.

  • حكاية: كنت أمشي في أسواق الإسكندرية، وعرضي لألسنة الناظرين إليَّ كالدَّرية، إذ كنت لابسًا نعلًا بالية وثوبًا صفيقًا، وقد انحل حزامي فكان يكنس البلد طريقًا فطريقًا، فصادفت عجوزًا تلحظني، فقلت: علام القوم يضحكون؟! وفيم ينهمكون، فقالت وقد قهقهت، وعن أنيابها المتهتمة جلقت: من مكنستك هذه الحرير، وطورك الذي لم يُرَ له نظير، فقلت:
    من أحبَّ المعروفَ فليكرِم الضيفَ
    بإيناسه وإبلاغ سوله
    ليس يبغي قِرًى ولا بَذْلَ مالٍ
    مُنتهى ما يَؤُمُّ في تَأْهيلهِ

    فقالت أما إن شئت أن نقول لك: أهلًا وسهلًا، فأنت لدينا مؤهل ومسهل وإلا فلا، ثم هرولت عني، وعن عيني اختفت، فأتبعتها اللعنة التي بها التحفت.

  • حكاية: قصدت الرشيد لما فيها من الحظ العتيد، والحدائق الناضرة، والمسارح السارة، فلما دخلتها لاح لعيني غلام كالقمر، ينخجل الحور بالحَوَر، فتفاءلت بنضرته، وعجبت من عدم شهرته، فأنشدت بمسمع منه:
    لبعض الناس فعل دون ما اسم
    وبعضهم له اسم دون فعل

    وأردت أن أفتتح معه الكلام، فاستدللت منه على الحمام، فقال لي بلهجة فصيحة، وعبارة صحيحة: أأنت جُنُب منذ خروجك من البيت أو في الحال؟ فقلت:

    إن كان يمكنك اصطناعي عاجلًا
    فافعل ولا تسأل عن الأسباب
    فلربما أخرتَ معروفًا وما
    قدَّمْتَ غير مَساءة الأصحاب

    فدلني عليه، فإذا أبوه قَيِّمٌ فيه، فنوَّه عنده بي، وأثنى على أدبي، فلما خرجت من ذلك النعيم كخروج آدم من الجنة «وهو مليم» بَشَّ بي الرجل، وأدَبَني تلك الليلة إلى طعامه، فلبيت دعوته، وأجزلت له الشكر على إنعامه، وسرت إليه وفي أمعائي وقوب، ولأضراسي رقوب، فلما حظيت بأنسه، وحصلت في مجلسه، وضع الخُوَان، وهو يميد من الطعام بألوان، فأكلنا وشربنا، ولعبنا وطربنا.

  • حكاية: ما زلت مذ عرفت حلو الاستراط، ومر السراط، أتشوف إلى رؤية دمياط، لما بلغني عنها من كثرة سمكها وأطيارها، ورخص أسعارها، وكان بي نَهَمٌ إلى أكل السمك شديد، وقَرَم إلى العصفور ما عليه من مزيد، وقد قال في الأول من أجاد القول جدًّا وهزل:
    ما إن ندمت على شراء الحوت في
    وقت وإن أفرغت فيه الكيسا
    إن كنت أنفق فيه فلسًا واحدًا
    ألقاه فيه قد استحال فلوسا

    فلم أكد أبلغ ساحلها حتى رأيت صيادًا قد ألقى شبكته في البحر، وهو مبتئس وَلِهًا وفي طلعته سمة الضجر، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فقلت: اجذب الشبكة باسم الله على بختي، وإن كنت أعهده يمر دائمًا من تحتي، فإن اشتملت على حيتان صغيرة، أديت إليك قيمتها موفورة، وإن حوت الكبيرة، كان لي أن أنال منها مجانًا حصة وفيرة، فرضي بذلك، وقال حسبي الله الولي المالك، فلما أخرجها إذا بها قد استوعبت من كبار السمك، ما لم يكن عَهِدَ مذ درَج وسلك، فجاد عليَّ بحصة، وقد أجْرَضَه من الشَّرْط غُصَّة، فأوقدت جنبه نارًا، وبعثت إلى السوق من اشترى لي خبزًا وعقارًا، وملحًا وأبزارًا، وما زلت أشوي وألتقم التفافًا، وأشرب اشتفافًا، حتى مُنيت بالهَيْضة والزَّحير، واستحال عليَّ التقدم والتأخر في المآب والمصير.

  • حكاية: وجدت في صدري ضنكًا من مجالسة الرجال، ومطارحتهم الحديث والأمثال، وقد جبل الإنسان على حب التبدل، والتحول والتنقل، فيسأم النعيم إذا طال، ويرى في المثابرة الثبور والوبال، وفي الإدمان الدمن والوبال، فتحريت مجالسة الصبيان، والخوض معهم في صار وكان، فلم أكد أخرج من غرفتي حتى رأيت زمرة منهم يلعبون بالفئال والأوتاد، ويضجون ضجيج الناس في يوم الجراد، فتوهمت أن بي صممًا أو لممًا؛ إذ لم أسمعهم على قربهم من الغرفة، ولو أني سمعتهم لعظم عليَّ لغطهم على هذه الصفة، فدعوت أحدهم فحشد إليَّ حفزًا، وكلمني ركزًا، فسكن روعي عند سماع نغمته الرخيمة، وأيقنت أن حاسة سمعي بقيت فيَّ سليمة، فحمدت الله — تعالى — على لطفه بي، وزاد في عِشْرة الأولاد إربي. انتهى.

(٣٦) إنجاز كتاب الفارياق

ثم ورد إليَّ كتاب من الخواجا روفائيل كحلا، يؤذن بنجز حروف للفارياق، فسافرت إلى باريس، ولما علمت أن طبعه لا يتم في مدة قصيرة، رجعت إلى لندرة، وكانت صحف الطبع ترسل إليَّ هنا لأصلحها ثم أعيدها، وهكذا نجز الكتاب.

(٣٧) أسفار بين لندرة وباريس

ثم لما فتح معرض التحف في باريس، وذلك في ١٥ آيار سنة ١٨٥٥ سافرت أيضًا لأشاهده، وهو بناء جليل من حجر لكنه ليس في كبر معرض تحف لندرة، ولم يكن يحوي بضائع متنوعة ما حوى ذاك، إلا أن من حذق الفرنسيس أنهم ينضدون الأمتعة بنوع تبدو به للعين رائقة فائقة، وفضلًا عن ذلك فإن الناس كان همهم في تلك السنة اتقاء مضار الحرب وغوائلها، وكان الذين عرضوا بضائعهم فيه خمسة وعشرين ألفًا، منهم عشرة آلاف من الغرباء، وقد رأيت فيه حلي الملكة زوجة الملك، وهي ما يفوق الوصف، ثم عدت إلى لندرة ثم سافرت بعدها مرتين إلى باريس، ثم عدت وكانت عودتي هذه المتمة للعشرين مرة من زيارتي لندرة، وحيث وجدت نفسي هذه المرة قارًّا فيها، وجب عليَّ أن أصف ما فيها مما يحمد ويذم وصفًا تامًّا وافيًا، وإنما لم أطل الكلام في وصف باريس لما تقدم آنفًا من أن الشيخ رفاعة بك ألف رحلته فيها؛ ولأن البلدة معروفة عند سكان البلاد الشرقية أكثر من لندرة.

ويجب قبل الشروع في الوصف أن تعلم أن ما قيمته من المأكول والمشروب في باريس فرنك، ففي لندرة شلين غالبًا وأن نفقة السفر من لندرة إلى باريس في المحل الثاني من الرَّتَل لا تزيد على أحد وعشرين شلينًا، سواء كان على طريق هافر أو ديان أو بولون أو كالي، وذلك في ظرف خمس عشرة ساعة، بعضها في سكة الحديد، وبعضها في البواخر.

وهذه الباخرة التي تجري ما بين سواحل إنكلترة وفرنسا، ليست كتلك التي تجري في بحر الروم، فإنها قذرة، وقل أن تجد فيها فراشًا للنوم، فإن قصر المسافة بين الأرضين قصرها على أن تكون للتجارة أولى من أن تكون للركاب، وأقصر المسافات هي التي يسافر فيها من دوفر إلى كالي، والأفق لمن يجهل أحوال لندرة إذا سافر من باريس أن يجعل قدومه إليها في النهار؛ لأنه يصعب عليه في الليل وجدان محل يبيت فيه، لما أن الحوانيت والمبايت كلها تقفل في الساعة الثامنة ليلًا، فأما في باريس فلا يعدم أن يصادف مبيتًا في أي وقت وأي منزل شاء.

١  في سنة ١٨٧٤ بلغ عدد سكان فرنسا ٣٦٣٨٣٤٨١ نفسًا.
٢  منذ التاريخ المذكور اتسعت تجارة فرنسا اتساعًا عظيمًا فإن جملة المجلوب إليها في سنة ١٨٧٩ بلغت ٤٥٩٤٨٣٧٠٠٠ فرنك، وهي عبارة عن ١٨٣٧٩٣٤٨٠ ليرة إنكليزية، وبلغت جملة الخارج منها في السنة المذكورة ٣١٦٣٠٩٠٠٠٠ فرنك أو ١٢٦٥٢٣٦٠٠ ليرة.
٣  ومنذ سنة ١٨٥٠ ازدادت ثروة فرنسا ازديادًا عظيمًا حتى إن إيرادها بلغ في سنة ١٨٨٠: ٣١٣٠٧٢٥٢٨٨ فرنكًا، وهي عبارة عن ١٢٥٢٢٩٠١١ ليرة إنكليزية، أما المصاريف فإنها بلغت ٣١٣٠٤٩٤٢٤٤ فرنكًا أو ١٢٥٢٠٩٧٦٩ ليرة.
٤  في سنة ١٨٨١ بلغ إيراد فرنسا ٢٧٥٢٧٩٤٨٣٠ فرنكًا أو ١١٠١١١٧٩٣ ليرة إنكليزية، والمصروف بلغ ٢٧٥٤٤٣٢٦٠٠ فرنك أو ١١٠١٧٧٣٠٤ ليرات إنكليزية، وأما إيراد إيطاليا فقد بلغ في السنة المذكورة ١٤٢٥٥٨٣٩٦٥ فرنكًا أو ٥٧٠٢٣٣٥٨ ومصروفها مثل ذلك تقريبًا.
٥  في سنة ١٨٧٧ بلغ إيراد المطبعة المذكورة ٦٢٤٥٠٠٠ فرنك ومثل ذلك المصاريف.
٦  قد تقدم ذكر إيراد فرنسا، أما ديونها فإنها بلغت في سنة ١٨٨١: ١٩٨٦٢٠٣٥٩٨٣ فرنكًا وهي عبارة عن ٧٩٤٤٨١٤٣٩ ليرة إنكليزية ومصاريف وزارة الحربية بلغت ٥٣١٠٠٤٦٤٢ فرنكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤