مقدمة

عصر ذهبي للاكتشاف

يشهد علم الاقتصاد حاليًّا عصرًا ذهبيًّا للاكتشاف. هذه ليست مبالغة؛ فالاقتصاديون التجريبيون يُقدِّمون كمًّا وفيرًا من النتائج التطبيقية المفصَّلة عن الاقتصاد والمجتمع تُشبِه النتائج العظيمة التي شهدتْها حقبٌ أخرى في علومٍ أخرى.

ديان كويل
«العلم المفعم بالعاطفة»1

في عام ٢٠٠٦، ذهبت جائزة نوبل للسلام لأول مرةٍ لعالِم اقتصاد؛ فمنذ ستينيات القرن العشرين، منحت لجنةُ نوبل عشراتٍ من جوائز نوبل في الاقتصاد، ولكن جائزة واحدة فقط من جوائز نوبل «للسلام» ذهبت لعالِمٍ في الاقتصاد؛ وهو حادث فريد من نوعه يرمز إلى البراعة الجديدة التي اكتسبتْها المهنة. لقد تم تكريم محمد يونس، وهو رئيس سابق لقسم الاقتصاد بجامعة شيتاجونج ببنجلاديش، لشروعه في تأسيس بنكٍ تجاريٍّ خاصٍّ (بنك جرامين) ساعد ما يزيد على مليونَيْ شخصٍ على الخروج من هوة الفقر في بنجلاديش. إن إرساء السلام من خلال التجارة والائتمان البالغ الصغر يُعَدُّ حلًّا جديدًا للقضاء على الفقر الحاد؛ أحد أكثر التحديات التي تواجه العالمَ إلحاحًا، وقد أدركتْ لجنة نوبل الصلة بين التجارة والسلام. (انظر الفصل الحادي والعشرون للتعرُّف على قصة محمد يونس الرائعة ودوره في الحدِّ من الفقر المدقع في العالم.)

حين كتب الاقتصاديُّ البريطانيُّ جون مينارد كينز مقاله المتفائل «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» في عام ١٩٣٠، في بداية فترة الكساد العظيم، كان يتمنى لو نزل علماء الاقتصاد من أبراجهم العاجية وأصبحوا أشخاصًا نافعين وأكفَاءً «على قَدم المساواة مع أطباء الأسنان». لقد أصبح العديد من الاقتصاديين ممارسين نافعين بالفعل، ولكن كينز لم يدرك مدى ما سيصل إليه رواد الاقتصاد الجدد من تأثيرٍ ونفوذ؛ فلم يكن لديه أدنى فكرة، على سبيل المثال، عن أن الاقتصاديين، بعد انقضاء زمانه، سيُخبرون المستثمرين بأن يعملوا على تقليل مخاطرتهم وتعظيم عائداتهم عن طريق تنويع استثماراتهم في مجموعةٍ متنوعةٍ من صناديقِ مؤشراتِ الأسهم، أو أن المسئولين الحكوميين يستطيعون توفير الملايين بتغيير طريقة بيع الديون في المزايدات، أو أن التعصُّب الدينيَّ والصراعَ يمكن الحد منهما من خلال المنافسة الحرة بين عددٍ كبيرٍ من المعتقدات المتصارعة، أو أن المشرِّعين يستطيعون الحدَّ من الجريمة عن طريقِ تفويضِ سلطةِ إصدارِ تراخيصِ حملِ السلاح، أو أن بإمكانهم تطهيرَ البيئة من خلال طرح تراخيص التلوث في المزاد العلني، أو أن مؤلِّفي الروايات البوليسية يمكنهم حلُّ ألغاز جرائمهم باستخدام مبادئَ اقتصاديةٍ أولية.

من علمٍ كئيب …

مرحبًا بكم في عالم الإمبريالية الاقتصادية الجديد. خلال القرن العشرين شاع وَصْفُ عِلم الاقتصاد ﺑ «العلم الكئيب»، وهو مصطلح ساخر صاغه الناقد الإنجليزي توماس كارلايل في خمسينيات القرن التاسع عشر. كان كارلايل يهاجم بعنفٍ علماءَ الاقتصاد التقليديين الذين تنبَّئُوا بالفقر والأزمات وقانون الأجور الحديدي. وكذلك بعد مرور قرنٍ كامل، في سبعينيات القرن العشرين، حين عانت الاقتصادات العالمية من موجةٍ مزدوجةٍ من ارتفاع التضخُّم وارتفاع معدل البطالة، تعرَّض علماء الاقتصاد للنقد لما يملكونه من سجلٍّ بشعٍ في التنبؤ بمعدلات الفائدة، أو التضخُّم، أو موجة الركود التالية. وعند حصول فردريك هايك على جائزة نوبل في الاقتصاد في عام ١٩٧٤، أظهر لنا المزاجَ الكئيبَ لدى أغلب الاقتصاديين حين اعترف قائلًا: «في الواقع ليس لدينا في الوقت الحالي ما يدعو إلى الفخر كثيرًا؛ فنحن كأبناءِ مهنةٍ أفسدنا الأمور.»2
خلال مطلع تسعينيات القرن العشرين، مرَّ علماء الاقتصاد بفترةٍ من تجريم الذات النرجسي. على سبيل المثال، خلال ركود ١٩٩١-١٩٩٢، أدلى البروفيسور روبرت جيه بارو، الأستاذ بجامعة هارفارد، بما يلي عن الاقتصاد: «ما السبب وراء ضعف الاقتصاد عن المتوقَّع؟ كيف سيكون أداء الاقتصاد خلال العام القادم؟ ما الذي ينبغي على الحكومة القيام به للمساعدة؟ إن الإجابات الصحيحة لمثل هذه الأسئلة، كمقاربةٍ أولى، هي: «لا أعرف»، و«لا أعرف»، و«لا شيء».3 ورغبةً من هربرت شتاين، رئيس مجلس الإدارة الأسبق لمجلس المستشارين الاقتصاديين، في عدم تفوُّق أحدٍ عليه، اعترف قائلًا: «إنني أزداد انبهارًا أكثر وأكثر بجهلي … فلا أعرف إن كانت زيادة عجز الموازنة تُحفز الدخل القومي أم تُضعفه. ولا أعرف إن كان مؤشر M1 أم M2 للإصدار النقدي هو الذي يتحكم في مستوى الإنفاق. ولا أعرف كمَّ الزيادة في العائد التي ستنتج عن زيادة قيمتها ١٠ بالمائة في المعدل الأعلى لضريبة الدخل الفردي … ولا أعرف كيف أتخير الأسهم الرابحة!»4 وبعد عام، جاء الأستاذ بجامعة برينستون، بول كروجمان، الفائزُ بوسام جون بيتس كلارك الذي يسعى وراءه الجميع (وهي جائزة تُمنح مرتين سنويًّا لأبرز الاقتصاديين وأبرعهم تحت سن الأربعين)، ليؤكد أن الاقتصاديين «لا يعرفون كيف يُحوِّلون دولةً فقيرةً إلى دولةٍ غنية، أو يعيدون سحر النمو الاقتصادي حين يبدو أنه قد ذهب بلا عودة … لا أحد يعرف حقًّا لماذا استطاع الاقتصاد الأمريكي أن يحقق ٣ بالمائة نموًّا سنويًّا في الإنتاجية قبل عام ١٩٧٣ و١ بالمائة فقط بعد ذلك. لا أحد يعرف حقًّا لماذا انطلقت اليابان من الهزيمة لتصبح قوةً اقتصاديةً عالميةً بعد الحرب العالمية الثانية، بينما انزلقت بريطانيا ببطءٍ لتصبح اقتصادًا من الدرجة الثالثة!»5 وهذه المقولة قادمة من رجلٍ أطلقتْ عليه «الإيكونوميست» «أشهر اقتصاديِّي جيله».

… إلى علم إمبريالي جديد

لحسن الحظ، تَغيَّرتْ هذه الانهزامية الذاتية الاحترافية في العقد الماضي؛ فقد أفسح القرن الحادي والعشرون الطريقَ لتوجُّهٍ أكثر تفاؤلًا نحو القدرة على الإنجاز. وقطعَ علمُ الاقتصاد، الذي لم يَعُدْ كئيبًا، شوطًا طويلًا نحو إعادة اكتشاف نفسه والانفتاح على مجالاتٍ جديدةٍ بسرعةٍ فائقةٍ لدرجةٍ تتطلب عبارةً أخرى لوصف عصر الاكتشاف الذهبي الجديد هذا. فمثل جيشٍ مُغير، يجتاح عِلمُ آدم سميث العلومَ الاجتماعية ككلٍّ: القانون، والماليات، والسياسة، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والدفاع عن البيئة، والدين، وحتى الرياضة؛ لذلك قد يكون من الملائم أن نلقِّب اقتصاد القرن الحادي والعشرين ﺑ «العلم الإمبريالي».

مَن الذي بدأ هذا الاتجاه؟ يشير بعض المؤرخين إلى كينيث إي بولدنج، الأستاذ المخضرم بجامعة كولورادو ببولدر، الذي تُوفِّي في عام ١٩٩٣، باعتباره رائد علم التخصصات المتعددة؛ فقد نشر بولدنج ما يزيد على ١٠٠٠ مقالٍ عن أكثرَ من أربعةٍ وعشرين موضوعًا منتقًى، تراوحتْ بين نظرية رأس المال والكويكرية. ولكن رؤية بولدنج للاعتماد المتبادل بين فروع المعرفة ليست هي ما حدث بالضبط؛ فقد بدأ الاقتصادُ، عوضًا عن ذلك، في الهيمنة على المِهن الأخرى. وفي تقديري، قدرٌ كبيرٌ من الفضل في هذه الإمبريالية الجديدة ينبغي أن يذهب إلى جاري بيكر، عالم الاقتصاد بجامعة شيكاجو الذي تقلَّد مناصب — عن جدارة — في أقسام علم الاجتماع، وإدارة الأعمال، والاقتصاد. كان بيكر، الحائز على جائزة نوبل عام ١٩٩٢، واحدًا من أوائل الاقتصاديين الفائزين بجائزة نوبل الذين اتجهوا إلى موضوعاتٍ كانت عادةً ما يُنظر إليها باعتبارها موضوعاتٍ تنتمي إلى علم الاجتماع، ومن بينها التمييز العنصري، والجريمة، وبنية الأسرة، وإدمان المخدرات. ويستشهد به مرارًا في هذا الكتاب.

سوف تُقدِّم لك هذه المقدمة لمحةً عما كان الاقتصاديون يفعلونه لحل مشكلات العالم الضخمة، والارتقاء بمستويات المعيشة في كلِّ مكان. ولحسن الحظ، سوف ترى أن إنجازات الاقتصاديين في هذا العصر الجديد محايدة نسبيًّا؛ فالحلول الخاصة بالقضايا والمشكلات الحقيقية قادمة من كلا طرفَيِ الطيف السياسي، ومن الكلاسيكيين الجدد، وعلماء اقتصاد السوق بمدرسة شيكاجو، وأتباع المدرسة الكينزية على حدٍّ سواء. وفي انعكاسٍ لهذا الحياد، أهدى جيرمي سيجل، أحدُ الاقتصاديين الماليين الذين يُسلِّط هذا الكتابُ الضوءَ عليهم، كتابَه الذي حقَّق أفضل مبيعات «أسهم على المدى الطويل» كلًّا من ميلتون فريدمان وبول صامويلسون، الاقتصاديَّيْن اللذين يمثلان طرفَيِ الطيف السياسي. وينمُّ منهج سيجل عن التطورات المتضافرة السليمة التي يُحقِّقها الاقتصاديون اليوم.

في القسم التالي، أحدد الأدوات الأساسية التي يستعين بها الاقتصاديون لتغيير أسلوب حياتنا. ويمكن استخدام هذه الأدوات التحليلية لتفسير ظواهر الحياة التجارية العادية، مثل لماذا تضع المطاعم سعرًا أعلى في العشاء لنفس الوجبة في الغداء. ولكن ليس هذا هو هدفَ الكتاب؛ فالعديد من الكتب، مثل كتاب ستيفن ليفيت «الاقتصاد العجيب»، أُلِّف بالفعل لتفسير الظواهر الاقتصادية غير التقليدية واليومية. ولكن هذا الكتاب مختلف؛ فهو مُوجَّه خِصِّيصَى لتقديم الطرق التي يحل بها الاقتصاديون المشكلات التي يواجهها العالم، سواءٌ بشكلٍ فرديٍّ أم كأمة؛ في النقل، والنمو الاقتصادي، والبيئة، والجريمة، والرعاية الصحية، وخطط التقاعد، والإرهاب، حتى كيفية تحقيق السعادة. في العديد من الحالات، ذهب هؤلاء الاقتصاديون إلى أبعد من تأليف أوراقٍ بحثيةٍ أكاديميةٍ وكُتُبٍ نظريةٍ تجريدية؛ إذ نجدهم يُطبِّقون نظرياتهم في الواقع من خلال إدارة مشروعاتٍ تجارية، وتقديم الاستشارات لشركات، وتَقلُّد مناصبَ في الحكومة.

ليس كل الاقتصاديين منخرطين في مجال المشورة العملية، بل إنني أعتقد أن أقليةً فقط من الاقتصاديين هم من ينجذبون إلى الاقتصاد التطبيقي؛ فالأغلبية العظمى من الأكاديميين، خاصةً في مدارس الدراسات العليا وبرامج الحصول على الدكتوراه في الجامعات الكبرى، تَصُبُّ تركيزَها بشكلٍ كبيرٍ على النمذجة الرياضية النظرية إلى حدٍّ كبير، المنفصلة عن مشكلات العالم الواقعي. ويشير الاقتصاديون إلى هذا التفكير النظري بالرذيلة الريكاردية، نسبةً إلى الاقتصادي ديفيد ريكاردو الذي عاش في القرن التاسع عشر، وقام بتطوير نماذجَ غيرِ واقعيةٍ وبالغةِ التبسيط دون اختبارها استنادًا إلى أدلةٍ واقعية. وفي تقديري، ساق هذا الأمرُ الاقتصادَ إلى الطريق الخطأ. وقد أشار الاقتصادي الفرنسي جان بابتست ساي إلى ريكاردو وغيره من المفكرين التجريديين بأنهم «حالمون متبطلون، لا تُشبِع نظرياتُهم، على أفضل تقدير، سوى فضولٍ أدبيٍّ، وهي غير قابلةٍ للتطبيق تمامًا على أرض الواقع.»6 وبعد دراسة برامج الدراسات العليا في ستٍّ من مدارس آيفي ليج، خلص أرجو كلامر وديفيد كولاندر إلى أن «الأبحاث الاقتصادية كانت في طريقها إلى الانفصال عن العالم الواقعي.»7 ولحسن الحظ، يتلاشى هذا الانفصال تدريجيًّا، كما سنرى في هذا الكتاب. والعديد من الأقسام في كليات الاقتصاد وإدارة الأعمال بصدد تأسيس مراكز لأبحاث حل المشكلات، مثل «ورشة عمل الاقتصاد التطبيقي» الجديدة بمدرسة شيكاجو للدراسات العليا في إدارة الأعمال؛ فالاقتصاديون في طريقهم لأنْ يصيروا أكثر ميلًا إلى التجريب من أي وقتٍ مضى.

أدوات القوة السبع للاقتصاد

خلال كتابتي عن الاقتصاد على مدار العقود الماضية، اندهشت من الطرق الفعالة والمتنوعة التي يستطيع من خلالها التحليلُ الاقتصاديُّ التأثيرَ على عوالم الماليات، وإدارة الأعمال، والقانون، والدين، والسياسة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية الأخرى؛ فبإمكان الاقتصاد أن يُغيِّر حياةَ الأفراد والدول إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، اعتمادًا على مدى الْتزامه الدقيق بالمبادئ الأساسية أو انتهاكه لها؛ فمن الممكن أن تُغيِّر السياسةُ الاقتصادية مسارَ التاريخ.

ما هذه المفاهيم الأساسية؟ فيما يلي سبعة مبادئ أساسية يمكنها أن تُغيِّر العالمَ حالَ تطبيقها على مجموعةٍ متنوعةٍ من المشكلات:
  • (١)
    المُساءلة: تُعَدُّ المُساءلة جوهرَ الاقتصاد. ففي أي اقتصادِ سوقٍ، ينبغي أن يدفع المستفيدون من ثمار العمل مُقابلها؛ ففكرة تحمُّل المستخدِم التكلفةَ تُشجِّع الانضباطَ والصناعةَ والتوفيرَ وغيرها من الفضائل الأخرى. أما إذا دفع شخصٌ آخر، فإن المستخدِم لا يُعير التكلفةَ انتباهًا. وحين لا يدفع المستهلِكون مقابلَ المنتجات التي يستخدمونها، تكون النتائجُ تكاليفَ مرتفعة، وإهدارًا، واحتيالًا؛ لذلك تُعتبر حقوق الملكية أساسيةً للمُساءلة؛ فليس هناك أحد يُنفق أموالَ غيره بحرصٍ مثلما يُنفق أمواله؛ فأنت تميل إلى الحرص على ما يخصك، أما ما يخص شخصًا آخر، أو لا يخص أحدًا، فقد يصاحبه إهمال أو إتلاف أو فرط استعمال. وكما يقول ويليام جراهام سمنر: «الأحمق أكثر حكمةً في منزله من الحكيم في منزل رجلٍ آخر.» وينطبق هذا المبدأ على المنزل، والعمل، وقاعات الحكومة.
  • (٢)
    الاقتصاد وتحليل التكلفة-الفائدة: في عالمٍ من الندرة والاختيار، لا بد للمرء أن يكون مقتصدًا. وأنجح البيوت والشركات والحكومات هي تلك التي تستثمر من أجل غدٍ أفضل، وتعيش في حدود مواردها، وتتجنَّب الديونَ المفرطة؛ فالاقتصاد فضيلة، والمنافسة ودافع الربح هما أفضل النُّظُم التي ابتُكِرَت على الإطلاق لخفض التكاليف وتجنُّب الخسائر؛ فقياس التكاليف والفوائد يساعد على تحديد الاستخدام الأمثل والأكثر كفاءةً للموارد.
  • (٣)
    الادِّخار والاستثمار: يُعَدُّ الادخار والاستثمار عنصرين بالغَيِ الأهمية في تحقيق النجاح على المدى الطويل في العمل والحياة بشكلٍ عام. وكما تقول لافتة معلَّقة على باب إحدى الشركات: «لا يمكنك أن تعمل اليومَ بآلات الأمس إذا كنت تريد أن تستمر في عالم الأعمال غدًا.» لقد حان الوقت لتثبيط عقلية الديون المفرطة، والإنفاق الزائد، والإهدار لدى المستهلك-المجتمع، وتشجيع الاقتصاد، والاستخدام المثمر للموارد الاستثمارية.
  • (٤)
    الحوافز: للحوافز أهميتها. ويُبيِّن قانون مُنحنى الطلب المنحدر لأسفل أنك إذا شجَّعتَ شيئًا، تحصل على المزيد منه، وإذا عزفت عن تشجيع شيء، تحصل على قَدْرٍ أقل منه. إن دافع الربح يُعزِّز النموَّ الاقتصاديَّ عن طريق إيجاد منتجاتٍ أفضل بأسعارٍ أرخص. كذلك تُعتبر المنظومةُ السعريةُ التنافسيةُ بشكلٍ حُرٍّ هي الحلَّ الأمثلَ لأي أزمةٍ اقتصادية؛ فأزمات النقص والعجز يتم القضاء عليها بسرعةٍ أكبر؛ لأن ارتفاع الأسعار يُثبِّط الاستهلاكَ ويُشجِّع نَشْرَ مواردَ وإمداداتٍ جديدةٍ بشكلٍ تلقائيٍّ دون تدخُّل الحكومة. يمكن أيضًا أن يكون للضرائب تأثير ملحوظ على الحوافز. وكما قال كالفن كوليدج: «لا يمكن أن تَزيد الرخاءَ عن طريق النجاح ضريبيًّا.»
  • (٥)
    المنافسة والاختيار: تؤدي الحرية الاقتصادية إلى الاختيار والفرص؛ حرية التحرك، والحصول على تعليمٍ أفضل، والمنافسة في مشروعٍ تجاريٍّ جديد، وإيجاد وظيفةٍ جديدة، والتعيين والفصل، والشراء والبيع. وأفضل وسيلةٍ لتحقيق الرخاء هي إنتاج ما يحتاج إليه الناس. والعبارة المعبِّرة عن ذلك في اللاتينية هي do ut des، بمعنى «أنا أُعطي لكي يتعين عليك أن تُعطي». وأسرع طريقةٍ لمزيد من الربح هي إنتاج المزيد مما يحتاج إليه الناس، سواءٌ كعاملٍ أم كرائد أعمال.

    أما الاحتكار، فيؤدي إلى أسعارٍ أعلى وخدمةٍ أقل؛ فالمنافسة تخلق بيئةً من تكافؤ الفرص؛ إذ تؤدي إلى انخفاض الأسعار، بل ونشر مبدأ «سعر واحد»، أي أن يدفع الجميع نفس السعر المنخفض مقابل منتجٍ ما، مهما كان وضعك المالي أو الاجتماعي (وهو المبدأ المعروف بمبدأ عدم التمييز). إن السر في إنهاء الفقر والقضاء عليه هو تكافؤ الفرص، وليس تكافؤ الثروة أو الدخل المفروض من قِبل الدولة؛ فالأحرار ليسوا متكافئين في الثروة أو الدخل، والمتكافئون ليسوا أحرارًا. وكما قال ونستون تشرشل ذات مرة: «إن النقيصة الملازمة للرأسمالية هي المشاركة غير المتكافئة في النِّعَم؛ والفضيلة الملازمة للاشتراكية هي المشاركة المتكافئة في المآسي.»

  • (٦)
    ريادة الأعمال والتجديد: يعتمد النجاح بالنسبة إلى الأفراد وكذلك الدول على المهارات والاستراتيجيات التجارية التي عادةً ما تتعارض مع الحكمة السائدة. من أين ستنشأ التطوُّرات التكنولوجية؟ يدَّعي جوزيف شومبيتر عن حكمةٍ أنَّ «التقدُّم الاقتصادي، في مجتمعٍ اشتراكي، يعني الاضطراب»؛ أي «التدمير الخلَّاق» للسوق؛ ورائد الأعمال هو مَن يؤدي هذه الوظيفة الأساسية بحثًا عن المزيد من الأرباح. لا بد أن يتقبَّل المجتمعُ التغيير، الذي أحيانًا ما يكون تغييرًا جوهريًّا يأتي مع مهارات التجديد وريادة الأعمال.
  • (٧)
    الرعاية الاجتماعية: ينصُّ مبدأ المنفعة العامة على ضرورة أن تحاول مساعدة هؤلاء الذين هم بحاجةٍ إلى المساعدة. وهذا هو المبدأ القويم لجميع الأديان الجيدة، والاقتصاديين الجيدين. وقد طبَّق محمد يونس الحائز جائزةَ نوبل هذا المبدأ بشكلٍ عمليٍّ من خلال قروض بنك جرامين الخاص به. ولكنها لم تكن صدقات؛ فلا بد ألا ننسى الجانب الآخر لمبدأ المنفعة العامة؛ ألا وهو: إن على المسئولين التزامًا ﺑ «عدم» مساعدة هؤلاء الذين لا يحتاجون إلى المساعدة. فمساعدة المستقلين تعني تدمير روح المبادرة لديهم. وتسري هذه السياسة على المنازل، والكنائس، والبرامج الحكومية؛ فإذا أنشأتْ حكومةٌ ما برنامجًا للرعاية الاجتماعية للجميع، بصرف النظر عن حالتهم المادية، فإن ذلك يفتح الطريقَ أمام المجتمع لسلوكٍ يتَّسم بالخمول، ولإجراءاتٍ مكلفةٍ وغيرِ فعالةٍ على نطاقٍ هائل. تخيَّل لو أن كلَّ شخصٍ في إحدى الأبرشيات، غنيًّا كان أو فقيرًا، كان مستحقًّا لمساعدات الكنيسة! إن أي برنامجٍ حكوميٍّ يُركِّز على مساعدة المحتاجين يُظهر مجتمعًا عطوفًا، ولكن البرنامج الذي يُقدِّم فوائد للجميع مجانًا أو بتكلفةٍ منخفضةٍ للغاية إنما يُخمد روحَ الانضباط ويفاقم الأمور.

إن مبادئ المُساءلة، والاقتصاد، والمنافسة، والحوافز، والاستثمار، والفرصة، والرعاية الاجتماعية؛ تسري على جميع الشعوب وعلى جميع الدول. وكما قال ليونارد إي ريد، مؤسس مؤسسة التعليم الاقتصادي: «دَعْ كلَّ فردٍ يفعل ما يشاء طالما كان ما يفعله آمنًا.» إن دَور الحكومة في كل دولةٍ هو حفظ السلام والدفاع عن حق كل فردٍ في الحياة، والحرية، والملكية. والحكومة الجيدة تُنفِّذ العقود، وتمنع الظلم، وتوفِّر منظومةً نقديةً وماليةً مستقرَّة، وتُشجع إقامة علاقاتٍ جيدةٍ مع جيرانها. وقد علَّق بنجامين فرانكلين، وهو تعليق صائب في محله، قائلًا: «لا توجد دولة على الإطلاق دمَّرتْها التجارة.» علاوةً على ذلك، لا يمكن إقامة اقتصادٍ سليمٍ على منظومةٍ نقديةٍ غير سليمة. وفي ذلك قال كينز عن حقٍّ: «لا توجد طريقةٌ أدقُّ ولا أضمنُ لهدم أساسٍ قائمٍ من أُسُسِ المجتمع من إغراق العملة.» تتطلَّب السياسة الرشيدة أيضًا قيامَ المسئولين الحكوميين بدراسة اقتصاديات التشريع على جميع الناس على المدى الطويل، وليس على المدى القصير فقط. وقد لاحظ فريدريك باستيا قائلًا: «إن الدول التي تتمتَّع بأرقى مستويات السِّلْم والسعادة والرخاء هي تلك التي يتعارض فيها القانون مع الشئون الخاصة بأقل قدرٍ ممكن.» وأشار الفيلسوف الصيني العظيم لاو تزو بحكمةٍ قائلًا: «حكم دولةٍ كبيرةٍ كَقَلْي سمكةٍ صغيرة؛ إنك تُفسدها بكثرة النخس.» وفي الفصول التالية، أوضِّح مرارًا ميزةَ هذه المبادئ السبعة الرائعة؛ فهي تشكِّل قوةَ التفكير الاقتصادي. والمستقبل ينتمي إلى علم اقتصادٍ سليم.

الطرق الفعالة للاقتصاديين

طوَّر الاقتصاديون أدواتٍ فعالةً للاستقصاء أدَّتْ إلى العديد من الاكتشافات. ويضم صندوق أدواتهم النشاطَ التجريبيَّ، والتنقيبَ عن البيانات، وأساليبَ المحاكاة، والتجارب، والحوافزَ المؤسسية، واستخدامَ الوسائل الإحصائية لاختبار صلاحية النظريات وصحتها. ويُعَدُّ المذهب التجريبي ونشاط الاقتصاد القياسي من الظواهر الحديثة نسبيًّا التي غيَّرت المهنة تدريجيًّا، خاصةً مع توافر القدرة الحاسوبية الزهيدة التكلفة لإجراء عملياتٍ حسابيةٍ للنماذج الرياضية المعقَّدة. وقد كان هناك دومًا جدال قوي ونَشِط حول أفضل الأدوات لتحقيق معرفةٍ جديدةٍ وبناء سياساتٍ أفضل؛ هل ينبغي أن ينخرط الاقتصاديون في الطرق النظرية التجريدية للمنطق الاستدلالي البحت والنظريات البعيدة كلَّ البُعد عن الجانب العملي، أم ينبغي أن يشاركوا في الاختبار العملي للفرضيات والتنقيب عن البيانات؟ إن هؤلاء الذين اختاروا الخيارَ الأخير قد صنعوا، في تقديري، أهمَّ الإنجازات.

أنتج مجال الاقتصاد السلوكي الجديد أيضًا أدواتٍ قَيِّمةً، مستمدَّةً بشكلٍ كبيرٍ من مبادئ علم النفس، لتحقيق أهداف الأفراد والمجتمع. ويُعدُّ هذا واحدًا من الأمثلة القليلة التي استفاد فيها علم الاقتصاد من علمٍ اجتماعيٍّ آخر، وليس العكس. وكما سنرى في الجزء الأول، كانت النتائج مبهرة.

ومن خلال التركيز على حلِّ العديد من مشكلات العالم، صار الاقتصاديون التطبيقيون مُعترَفًا بهم أكثر من أي وقتٍ مضى. لنستعرضْ بعض الأمثلة التاريخية لانتصار علم الاقتصاد.

هل يستطيع المستثمرون التغلُّب على السوق؟

تَحقَّق أحدُ أوائل الإنجازات المبهرة في الاقتصاد التطبيقي في نظرية التمويل. وقد كتب هاري ماركويتز، وكان من خريجي الاقتصاد بجامعة شيكاجو، مقالًا عن نظرية المحفظة الاستثمارية في عدد مارس ١٩٥٢ من صحيفة «ذي جورنال أوف فينانس». كانت تلك أولَ محاولةٍ لقياس المفهوم الاقتصادي للمُخاطرة في اختيار الأسهم والمَحافظ الاستثمارية. ومِن رَحِم هذا العمل خرجتْ نظرية المحفظة الاستثمارية الحديثة، التي تطرح ثلاثة مبادئ، هي: (١) ليس بمقدور المستثمرين توقُّع تحقيق أرباحٍ تفوق المتوسط دون الإقدام على مخاطرَ أعلى. (٢) تنويع الأسهم سوف يزيد من العائدات ويُقلِّل من المخاطرة. (٣) الأسواق لها كفاءة نسبية، بمعنى أنه لا يمكن فعليًّا التنبؤ بحدوث تغيراتٍ على المدى القصير في أسعار الأسهم، ومن الصعب للغاية إن لم يكن مستحيلًا التغلُّب على متوسطات السوق على المدى الطويل. كانت هذه الرؤية، المعروفة بنظرية كفاءة السوق، عقيدةً ثورية، ولكنها تحظى الآن بقَبولٍ بين الأكاديميين، على الرغم من أن علماء الاقتصاد السلوكي، كما سنرى في الجزء الأول من هذا الكتاب، بصدد إيجاد طرقٍ لإدخال تحسيناتٍ على هذه النتائج الأولية، وقد اكتشفوا بعض الطرق للتغلُّب على السوق؛ مؤقتًا على أي حال.

قُوبلت هذه الأفكار القادمة من الأبراج العاجية بازدراءٍ وسخريةٍ من قِبل مديري وول ستريت المتخصصين، ولكن ثَمَّةَ دراسات أجراها اقتصاديون ماليون منذ ظهور ورقة ماركويتز البحثية الأوَّلية أكَّدت نظريةَ المحفظة الاستثمارية الحديثة. والآن تُعَدُّ صناديق مؤشرات سوق الأوراق المالية — وهي الطريقة المفضلة لدى الاقتصاديين للاستفادة من نظرية كفاءة السوق — النوعَ الأكبر من الصناديق الاستثمارية المشترَكة التي تُباع في وول ستريت.

نظرية الاختيار العام: حكومة جديدة ومطوَّرة

نشر جيمس بيوكانان وجوردون تولوك، وكلاهما من جامعة فيرجينيا، كتابَ «حساب معدَّل الرضا» في عام ١٩٦٢، وأدَّى إلى تغييرٍ جذريٍّ في رؤية علماء السياسة للمال العام والديمقراطية. واليوم أُضيفتْ نظرية الاختيار العام لمنهج كل دورةٍ دراسيةٍ في الاقتصاد.

زعم بيوكانان وآخرون من واضعي نظرية الاختيار العام أن الساسة، مثل رجال الأعمال، تدفعهم المصلحة الشخصية؛ فهم يسعَوْن إلى تعظيم نفوذهم ووضع السياسات من أجل إعادة انتخابهم. ولسوء الحظ، غالبًا ما تكون حوافز السوق ونظامه غائبَين في الحكومة. فالناخبون ليس لديهم حافز كبير للسيطرة على تجاوزات المشرِّعين، الذين بِدَورهم يستجيبون أكثر لجماعات المصالح ذات النفوذ؛ ونتيجةً لذلك تَدعم الحكومةُ المصالحَ التجاريةَ الثابتةَ، في حين تَفرض لوائحَ وضرائبَ مكلِّفةً على عامة الشعب.

حوَّلتْ مدرسة الاختيار العام محورَ النقاش من «إخفاق السوق» إلى «إخفاق الحكومة». وأوصى بيوكانان وآخرون بمجموعةٍ من القواعد لإلزام القطاع العام المضلِّل بالتصرُّف بشكلٍ أكثر مسئوليةً من خلال حماية حقوق الأقلية، وإعادة النفوذ إلى الحكومات المحلية، وفرض حدودٍ لمدة الوظيفة الحكومية، وإلزام الأغلبيات الساحقة برفع الضرائب.

محاكمة علم الاقتصاد

في عام ١٩٧٢، قام ريتشارد إيه بوسنر، وهو عالِم اقتصادٍ يقوم بالتدريس بكلية الحقوق بجامعة شيكاجو، ويعمل قاضيًا بالدائرة السابعة لدعاوى الاستئناف بالقضاء الأمريكي (حيث شغل منصبَ رئيسِ محكمةٍ ما بين عامَي ١٩٩٣–٢٠٠٠)؛ بتأليف كتاب «التحليل الاقتصادي للقانون»، الذي جمع فيه أفكار رونالد كوس، وجاري بيكر، وإف إيه هايك، وغيرهم من الاقتصاديين العظام بجامعة شيكاجو. ومراكز «القانون والاقتصاد» القائمة حاليًّا توجد في كثيرٍ من أحرام الجامعات. يقول القاضي بوسنر: «كل مجالٍ للقانون، وكل مؤسسة، وكل ممارسةٍ أو تقليدٍ للمحامين والقضاة والمُشرِّعين، في الماضي أو الحاضر — حتى في الزمن البعيد — له حاجة لدى المحلل الاقتصادي.»8

يُطبِّق الاقتصاديون مبادئَ تحليل التكلفة-الفائدة والرعاية الاجتماعية على شتى أنواع القضايا والمسائل القانونية؛ محاربة الاحتكار، والعمل، والتمييز، والبيئة، واللوائح التجارية، والعقوبات، والجوائز. وفي الفصل الخامس عشر، أُناقش أعمالَ الكثير من الاقتصاديين في العلاقة بين الجريمة والعقاب، ومدى فاعلية عقوبة الإعدام، وهل كانت قوانين تراخيص حمل السلاح وملكية السلاح تردع الجريمة. وكثيرًا ما يُستدعى الاقتصاديون للشهادة في الدعاوى القضائية؛ وهو ما يُعَدُّ مصدرًا جديدًا مُجزيًا للدخل.

كان جاري بيكر بجامعة شيكاجو في طليعة من قاموا بتطبيق نظرية الأسعار على المشكلات الاجتماعية المعاصرة، مثل: التعليم، والزواج والطلاق، والتمييز العنصري، والعمل الخيري، وإدمان المخدرات. ولا غرابة في أن يُسمِّيَ كتابه الموجَّه إلى عامة الناس باسم «اقتصاد الحياة». ولكنَّ بيكر حذَّر من أن «هذا العمل لم يَلقَ استقبالًا جيدًا من جانب معظم الاقتصاديين.» وأن الهجمات التي شنَّها عليه منتقدوه كانت «في بعض الأحيان غايةً في البذاءة.»9 والآن، وبعد عقود، صار عمل بيكر يُحاكَى في كل مكانٍ من قِبل الباحثين عن طرقٍ لحلِّ المشكلات الاجتماعية.

خطة الكتاب

أدخل الاقتصاديون تحسيناتٍ مهمةً على مجالاتٍ معرفيةٍ أخرى؛ في المحاسبة، والتاريخ، والدين، والإدارة، والبنية التحتية العامة، وعلم الاجتماع، حتى تصميم المزادات. ويقدِّم هذا الكتاب عشرات الأمثلة لكيفية تطبيق هذه الأدوات لحلِّ المشكلات بالنسبة إلى الأفراد، والمجتمعات، والدولة.

يتعامل الجزء الأول مع الأمور المالية الخاصة، التي ربما تُعَدُّ أكثر المعلومات نفعًا على المستوى الشخصي. وأستهل هذا الجزء بإلقاء الضوء على الإنجازات الباهرة للاقتصاد السلوكي (ريتشارد تالر، وروبرت شيلر، وجيرمي سيجل، وديفيد سوينسن، وبريجيت مادريان) لتحسين الأمور المالية للأفراد؛ من زيادة المدخرات، وتقليل الديون، والحصول على عائدٍ أفضلَ على الاستثمارات. كذلك أروي قصةَ خصخصة شيلي لمنظومة المعاشات الحكومية، وهل كان ينبغي على الولايات المتحدة ودولٍ أخرى تَبَنِّي عملية إصلاحٍ جذريٍّ لبرامج الضمان الاجتماعي. يضم هذا القسم أيضًا معالجةً لاقتصاد «السعادة»؛ وهو مجال جديد مُبهر للأبحاث الاقتصادية.

يتحدث الجزء الثاني عن تأثير الاقتصاديين على إدارة الأعمال ومهنة المحاسبة، خاصةً دخول «القيمة الاقتصادية المضافة»، التي تُعَدُّ الأداةَ الجديدةَ للاقتصاديين لقياس قيمة الاستثمار وأداء الشركات. كذلك أسرد قصة شركة «كوك للصناعات»، كبرى الشركات الخاصة في العالم، وكيف تأثرت العبقرية الخلاقة لتشارلز كوك وغيره من المديرين التنفيذيين التحرُّريين تأثرًا عميقًا بالاقتصاديين «النمساويين» أمثال لودفيج فون ميزس، وفريدريك هايك، وجوزيف شومبيتر.

يُبيِّن الجزءُ الثالثُ اكتشافاتٍ مثيرةً قام بها اقتصاديون من أجل حل مشكلاتٍ محلية، مثل الاختناق المروري، والرعاية الصحية، والتعليم العام، والجريمة، وقضايا أخرى تتصدَّر قائمة القضايا العامة. كذلك أكشف عن الطرق الرائعة التي صمَّم بها اقتصاديون مزاداتٍ لجوجل، وإي باي، ووكالات حكومية أفادت كلًّا من المشترين والبائعين. وفي جانبٍ أكثر إمتاعًا وتشويقًا، أناقش ثلاث رواياتٍ بوليسيةٍ ساعد فيها اقتصاديون على حلِّ لغز الجريمة.

يفتقد الجزءُ الثالثُ فصلًا عن حرب المخدرات. لقد كنت أعتزم الكتابة عن هذا الموضوع المثير للجدل، الذي جذب أنظار الاقتصاديين لعقودٍ عدة، على الأخص ميلتون فريدمان، وجاري بيكر، وستيف ليفيت، وآخرين من أعضاء مدرسة شيكاجو. إن معظم الاقتصاديين العاكفين على دراسة هذا الجدل يُركِّزون على الجانب الخاص بإنهاء التجريم. والحق أنه كان هناك بعض التقدُّم في سياسة المخدرات، شمل إباحة الماريجوانا الطبية في بعض الولايات، وخفضًا في معدلات احتجاز المراهقين بسبب تعاطي المواد المخدرة المحظورة، ومزيدًا من المرونة في الأحكام الإلزامية في جرائم المخدرات. ولكن فيما يبدو أن الاقتصاديين لم تكن لهم علاقة كبيرة بهذه التغيرات؛ فقد سألتُ جيفري إيه ميرون، أستاذَ الاقتصاد بجامعة هارفارد، المتخصصَ في قضايا المخدرات وصاحبَ كتاب «جرائم حرب المخدرات» (إندبندنت إنستيتيوت، ٢٠٠٤)، إن كان للاقتصاديين أيُّ تأثيرٍ في حرب المخدرات، وكانت إجابته: «ليس إلى الآن.» ربما تضم طبعةٌ مستقبلية للكتاب فصلًا عن سياسة المخدرات.

يتناول الجزء الرابع كيف يعمل الاقتصاديون بنجاحٍ على حلِّ المشكلات الدولية؛ مثل الفقر المدقع، وعدم المساواة، والتلوث، والاحتباس الحراري، والزيادة السكانية، والعولمة، والصراع العسكري، والحروب الدينية. كذلك أُزوِّدك بأحدث المعلومات عن ثورة الضريبة الثابتة الجديدة الآخذة في الانتشار في أوروبا وأماكنَ أخرى. ولعلَّ من أكثر مجالات الدراسة الجديدة إثارةً للاهتمام مؤشراتِ الحرية الاقتصادية التي تُطوَّر وتُصقَل على يد العديد من المراكز البحثية، وكيفية ارتباطها بالنموِّ الاقتصادي، والمؤسسات القانونية، والتجارة والسياسة الضريبية، وجهود تحقيق السلام في المناطق غير المستقرة سياسيًّا. وأخيرًا، أُلقي نظرةً على مجال الدين والاقتصاد الحديث نسبيًّا، مع بيان بعض النتائج المفاجئة بشأن الدين والمنافسة.

يُلقي الجزء الخامس الضوءَ على طرقٍ جديدةٍ للتنبؤ بالمستقبل. من المعروف عن الاقتصاديين وضعُهم تكهناتٍ سيئةً، ولكن هذا في سبيله إلى التغير كما يتبيَّن من التكهنات الدقيقة الحديثة لعلماء الاقتصاد السلوكي جيرمي سيجل بكلية وارتون وروبرت شيلر بجامعة ييل عن سوق الأسهم والعقارات. كذلك أُدرِج فصولًا عن الأهمية المتزايدة للذهب كمؤشرٍ وحيدٍ لعدم الاستقرار والتضخُّم على المستوى العالمي، وإن كان من الممكن تكرار الكساد العظيم مرةً أخرى، وإن كان معدل إنفاق المستهلك يُعَدُّ حقًّا مؤشرًا جوهريًّا جيدًا (وهذا إنجاز خاص بي). يتَّجه الفصل الأخير نحو المستقبل وأي نوعٍ من الفلسفة الاقتصادية الديناميكية الجديدة سوف يهيمن على الألفية الجديدة. وإذا كانت فصول هذا الكتاب مؤشرًا على أيِّ شيء، فهي مؤشر على أن المستقبل بالنسبة إلى الاقتصاد والاقتصاديين يبدو مشرقًا.

سوف يلاحظ القرَّاء أنني لم أُنفق الكثيرَ من الوقت في هذا الكتاب على المجالات والنواحي التقليدية التي كان للاقتصاديين تأثير فيها على السياسة العامة، مثل اتفاقيات التجارة الدولية، ومؤشرات الأسعار، والسياسة النقدية والمالية، ومناهضة الاحتكار؛ بل حاولت، بدلًا من ذلك، أن أُركِّز على المجالات والميادين الجديدة والمدهشة التي أَحدث فيها الاقتصاديون فارقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤