الفصل الرابع عشر

عودة إلى الأساسيات

المنافسة تدخل حجرة الدراسة

لو تُرك للطلاب حرية اختيار الكلية التي يفضلونها أكثر، لربما ساهمت مثل هذه الحرية في إثارة بعض المنافسة بين مختلِف الكليات.

آدم سميث1

إن وجود سوقٍ تعليميةٍ تنافسيةٍ خاصةٍ تخدم الآباء الذين يملكون حرية اختيار المدرسة التي يرَوْنها الأفضل لكل طفلٍ سوف؛ يُظهر كيف يمكنها إحداث ثورةٍ في التعليم.

ميلتون فريدمان2
لطالما كان الدبلوماسي البارع آدم سميث يتحاشى إهانة قرائه، ولكنه شطَّ عن هذه القاعدة في أشهر تعليقٍ ورد في كتابه «ثروة الأمم»؛ ففي إشارةٍ إلى «المحاضرات الوهمية» في مدرسته الأم — جامعة أكسفورد المرموقة — أعلن بازدراءٍ واضحٍ أن: «القطاع الأكبر من الأساتذة في جامعة أكسفورد، على مدار كل هذه السنوات، قد تخلَّوْا كليًّا حتى عن اصطناع التدريس … لا بد أن الأمر يكون بغيضًا للغاية بالنسبة إلى أستاذٍ بجامعة أكسفورد عندما يلاحظ أن الجزء الأكبر من طلابه يهجرون محاضراته؛ أو ربما يحضرونها وعلى وجوههم أمارات واضحة توحي بالتجاهل، والاحتقار، والاستهزاء.»3

لمَ كان آدم سميث غاضبًا كلَّ هذا الغضب؟ في بريطانيا إبَّان القرن الثامن عشر، كان المعلمون في معظم المدارس يحصلون على أجرهم مباشرةً من الطلاب (أو آبائهم)؛ ولذا كانوا يُضطرون للتنافس فيما بينهم للإبقاء على اهتمام تلاميذهم وآبائهم. ولكن أكسفورد كان يُغدَق عليها بالهبات حتى إن الأساتذة كانوا يحصلون على أجرهم من الكلية في الأساس؛ ونتيجةً لذلك، لم يكن مسموحًا لأي طالبٍ اختيار الكلية الأحب إليه، وكانت الفصول الدراسية تُطوَّر لمصلحة المعلمين، وليس الطلاب. وفي غياب الحوافز، تدهورت جودة التعليم في جامعة أكسفورد.

كان آدم سميث معارضًا لكل أشكال الاحتكار؛ حيث كان يرى أن الاحتكار من شأنه إنشاء نظامٍ سياسيٍّ يتَّسم بارتفاع التكلفة، والهدر، والبيروقراطية، والتمييز؛ فاليد الخفية للحرية الطبيعية لا تعمل بنجاحٍ إلا في وجود المنافسة والعدالة. وقد قام بتطبيق نظريته في المشروعات التنافسية على مجموعةٍ كبيرةٍ من الأسواق؛ التجارة، والدين، حتى التعليم. وكان يرى أن الطلاب سيحظَوْن بتعليمٍ أفضل لو استطاعوا الاختيار بين المدارس والمعلمين في كل مستويات التدريب.

رداءة التعليم في المدارس العامة

ما الذي يمكن أن يُعلِّمَه لنا آدم سميث اليوم؟ إننا نحظى بحرية اختيار مستوى الكلية والجامعة، ولكن ماذا عن التعليم الابتدائي والثانوي؟ في معظم الدول، ومنها الولايات المتحدة، يُموَّل التعليم الحكومي المنخفض المستوى باحتكارٍ حكومي؛ فعلى الرغم من أن الإنفاق الحكومي الفعلي لكل تلميذٍ تجاوز الضعف منذ عام ١٩٧٠، لا يزال الطلاب الأمريكيون يتذيلون نتائج الاختبارات الأكاديمية (في القراءة، والرياضيات، والعلوم) لأعضاء دول منظمة التطوير والتعاون الاقتصادي، ومعدلات التسرُّب مرتفعة، وانخفضت النتائج في اختبارات الالتحاق بالكليات ولا تزال منخفضةً نسبيًّا. حتى المعرفة البسيطة بالقراءة والكتابة تدهورت، وحدث انخفاض تدريجي في الاهتمام بالقراءة في الولايات المتحدة مع اتجاه الشباب لقضاء مزيدٍ من الوقت في مشاهدة التلفاز وممارسة ألعاب الفيديو. علاوةً على ذلك، هناك فجوة عرقية مخيفة في التعليم الأمريكي، مع تخلُّف الطلاب السود وذوي الأصول اللاتينية، سواءٌ أكانت عائلاتهم موسرةً أم محدودةَ الدخل، عن البيض والآسيويين.4

فكرة ميلتون فريدمان عن اختيار المدرسة

قام ميلتون فريدمان، الذي يُعَدُّ نسخةً معاصرةً لآدم سميث، لأول مرةٍ بتطبيق المبادئ الاقتصادية الخاصة بالاختيار والمنافسة على المدارس الابتدائية والثانوية في الفصل السادس من كتابه الشهير «الرأسمالية والحرية» (١٩٦٢). وقد انتقد منظومتنا للتعليم الحكومي بوصفها منظومةً شبهَ احتكاريةٍ تتسم بالجمود، والتشابه، والتكلفة الباهظة، والمركزية الشديدة؛ حيث يفيد البرنامج المعلمين والإداريين أكثر مما يفيد الطلاب والآباء. ما الحل الذي قدمه؟ لقد منح الآباء قدرًا ثابتًا من الاعتمادات المالية يُعرف ﺑ «قسائم» قابلة للاسترداد في أي مدرسةٍ خاصةٍ أو حكوميةٍ يقع اختيارهم عليها. «إن جرعة المنافسة من شأنها أن تفعل الكثير لتعزيز إقامة مجموعةٍ صحيةٍ متنوعةٍ من المدارس. ولسوف تفعل الكثير أيضًا لضخ المرونة في النظم المدرسية. ومن فوائدها التي لا تقل أهميةً أنها ستجعل رواتب معلمي المدارس متجاوبةً مع قوى السوق.»5 وبحسب قول هربرت جيه والبرج، وهو اقتصادي تلقَّى تدريبه في جامعة شيكاجو وعمل بالتدريس في هارفارد وستانفورد، فإن «المنافسة غالبًا ما تُخرج أفضل ما في الأفراد والمؤسسات وتوفر معايير لقياس أداء جميع المدارس استنادًا إليها، والقسائم تتيح للآباء مزيدًا من المشاركة الفعالة في تعليم أبنائهم وتحثهم عليها، وهو ما يرتبط بدوره ارتباطًا إيجابيًّا بتعلُّم الطالب.»6

اكتسبت فكرة اختيار المدرسة — سواءٌ من خلال القسائم، أو الاعتمادات الضريبية، أو المدارس المستقلة — زخمًا تدريجيًّا على الرغم من أن المعركة كانت طويلةً وممتدة؛ فالمواطنون والآباء المحبُّون للعمل لأجل المصلحة العامة يطالبون بتغييرات، ومنهم مجموعات الأقلية الذين يشعرون بأن أبناءهم يحصلون على أقلَّ مما يستحقون في المدارس الحكومية. في الوقت ذاته، أصبحت أنظمة المدارس العامة ذاتَ طابعٍ مركزيٍّ ونقابيٍّ أكبر، في ظل معارضة نقابات المعلمين والإدارات التي تحظى بالتنظيم والتمويل الجيد لأي شكلٍ من أشكال التغيير الجذري؛ ففي حين قامت بعض الولايات، من ضمنها فلوريدا، وأوهايو، وويسكونسن، بتجربة شكلٍ من أشكال القسائم المدرسية والمدارس المستقلة، مستفيدةً من حكمٍ صادرٍ من المحكمة العليا في عام ٢٠٠٢ يؤكد على قانونية برنامج كليفلاند للقسائم، منعت بعض أنظمة القسائم المطبَّقة على مستوى الولايات، في ولاياتٍ مثل كاليفورنيا، وميشيجان، وكولورادو بفضل المعارضة الشرسة والفعالة لنقابات المعلمين والإداريين التعليميين.

وقد أُجريَ الكثير من الدراسات من قِبل رجال الاقتصاد لدراسة مزايا المنافسة والاختيار في التعليم. وفي خِضمِّ الجدل الدائر بين المدارس العامة والخاصة، كان الإجماع على أن المدارس الخاصة التي يُدفع لها مباشرةً من قِبل أولياء الأمور تميل إلى أن تكون «أكثر كفاءة، وأكثر فعالية على المستوى الأكاديمي، وأفضل صيانة، وأكثر تجاوبًا مع المطالب الأبوية بشأن المناهج» من المدارس الخاصة الممولة بالقسائم أو المدارس التي تديرها الحكومة.7 وعلى الرغم من أن برامج القسائم العامة في الولايات المتحدة كانت محدودة النطاق نسبيًّا، فإن النتائج الأولية إيجابية بشكلٍ عام، ولا سيما بين الأقليات. وتُظهر الدراسات التي أُجريت على برامج القسائم في واشنطن دي سي، وكليفلاند، وميلوكي أنها قد قللت من الفصل العنصري.8 وتحظى الولايات المتحدة بخبرةٍ أكثر مع المدارس المستقلة، فيقوم أكثر من أربعة آلاف مدرسة مستقلة بتسجيل ما يزيد على مليون طالبٍ بين صفوفها. وعلى الرغم من اللوائح المتشددة والتمويل الهزيل، تتسم المدارس المستقلة بحسن الأداء، خاصةً بين الطلاب الفقراء واللاتينيين، كما تتسم بالإقبال البالغ عليها.
أُجريت دراسات أكثر تكاملًا في السويد، وهولندا، وجمهورية التشيك، وتشيلي؛ حيث أُدخل نظام اختيار المدرسة قبل سنوات. ويُعَدُّ نظام القسائم الهولندي هو الأقدم؛ حيث بدأ في عام ١٩١٧، والقطاع الخاص الآن مسئول عن ٦٧ بالمائة من إجمالي عدد الطلاب. وتشير هولندا إلى ارتفاع معدلات الرضا بين أولياء الأمور وارتفاع الأداء في مقارنات نتائج الاختبارات الدولية. وظهرت نتائج مماثلة في السويد؛ حيث تقوم الحكومة بتمويل ٨٥ بالمائة من المدارس المفضلة (سواءٌ العامة أو الخاصة). وعلى الرغم من اللوائح الحكومية، شهدت السويد تحسنًا في درجات اختبارات الطلاب ورضًا أكبر من جانب أولياء الأمور. كذلك أَدخلت تشيلي برنامجًا شاملًا للقسائم في عام ١٩٨٢، في الوقت نفسه الذي أنشأت فيه نظامًا خاصًّا للتقاعد (انظر الفصل الخامس). بإمكان جميع الطلاب اختيار منشأةٍ دراسيةٍ عامة، أو خاصة، أو دينية، ومن ضمنها المدارس الكاثوليكية. والخلاصة هي أن «الطلاب في المدارس الخاصة المدعمة [أي التي تعمل بنظام القسائم] يتفوقون على الطلاب في المدارس العامة». ماذا عن خطر إغلاق المدارس العامة بسبب النزوح الهائل للطلاب إلى المدارس الخاصة؟ إن الحكومة التشيلية لا تسمح بذلك؛ إذ إنها تتلقَّى تمويلًا إضافيًّا لإبقائها مفتوحة.9 ويخلص والبرج إلى أنه «على الرغم من الاعتراف بوجود بعض الاستثناءات الملحوظة ومناقشتها، تُجمِع الأبحاث الدولية العالية الجودة على تفضيلٍ كاسحٍ للمنافسة والاختيار الأبوي في التعليم على نُظم الاحتكار التي تطغى على الولايات المتحدة والكثير من الدول الصناعية الأخرى.»10
كانت معركة اختيار المدرسة بالنسبة إلى ميلتون فريدمان «مجزية ومحبطة على حدٍّ سواء»، ولكنه لم يستسلم حتى بعد وفاته (حيث تُوفِّي في عام ٢٠٠٦)؛ فقد أسس مع زوجته مؤسسة «ميلتون وروز دي فريدمان»، بهدف إنجاز مهمةٍ وحيدة، وهي تعزيز الدعم لمسألة اختيار المدارس. قم بزيارة موقع www.friedmanfoundation.org، لمزيدٍ من المعلومات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤