الفصل العشرون

القنبلة السكانية

الاقتصاديون يدخلون الجدل المالتوسي

الزيادة السكانية هي أخطر تهديدٍ لسعادة الإنسان وتقدُّمه في هذه الفترة الحرجة للغاية من تاريخ العالم.

جوليان هكسلي (١٩٦٢)1
في عام ١٩٦٨، نشرت منظمة سييرا كلوب كتابًا دق ناقوس الخطر بعنوان «القنبلة السكانية»، لعالمٍ بيولوجيٍّ شابٍّ بجامعة ستانفورد، هو بول إرليتش. وصف إرليتش سيناريو مخيفًا، محذرًّا من أنه «في هذا الوقت المتأخر، لا يمكن لشيءٍ أن يمنع حدوث زيادةٍ كبيرةٍ في معدل الوفيات العالمي … ففي سبعينيات هذا القرن [القرن العشرين] سوف يتعرض العالم لمجاعات؛ ومئات الملايين من العائلات سوف تتضوَّر جوعًا حتى الموت.» ما الذي يمكن أن يجلب هذه الكارثة؟ لقد كان إيرليتش يتحدث بالنبرة المالتوسية: «لا بد أن نتخذ إجراءً من أجل إدراك التدهور الذي لحق ببيئتنا قبل أن يُلحِق الضغطُ السكاني بكوكبنا دمارًا لا يمكن مواجهته. لا بد من إحداث توازنٍ بين معدل المواليد ومعدل الوفيات وإلا فسيذهب الجنس البشري في طي النسيان.»2
لقد أثار إرليتش وسييرا كلوب الوعيَ بقضيةٍ جذبت انتباه الحكومات، والمؤسسات، والراغبين في إصلاح الكون من الأثرياء في كلِّ مكان، ألا وهي قضية الحد من الزيادة السكانية، ولا سيما في الدول ذات معدلات المواليد المرتفعة. وذهب إرليتش ورفاقه إلى أن الكثافة السكانية الخارجة عن السيطرة تُشكِّل تهديدًا؛ إذ تستهلك قدرًا هائلًا من الموارد الثمينة، وتُدمِّر البرِّية، وتقطع قدرًا بالغًا من الأشجار، وتُلوث البيئة. وفي الدول النامية، حذا إرليتش حذو الاقتصادي السياسي في القرن التاسع عشر توماس روبرت مالتوس — أول اقتصاديٍّ سياسيٍّ يثير قضية الزيادة السكانية — حين عرَّف «أزمة الغذاء-السكان» حيث «يتخلف إنتاج الغذاء في الدول الفقيرة بدرجةٍ ما عن النمو السكاني المتسارع، ويخلد الناس إلى النوم وهم أكثر جوعًا بدرجةٍ ما … لقد أصبحت المجاعة الجماعية تبدو أمرًا حتميًّا.»3

أول من نبَّه للخطر السكاني: الأب مالتوس

كان توماس روبرت مالتوس (١٧٦٦–١٨٣٤) قَسًّا بريطانيًّا قام في عام ١٧٩٨، في سن الثانية والثلاثين، بنشر عملٍ بعنوان «مقال عن السكان» دون ذكر اسم المؤلف، وفيه زعم أن موارد الأرض لا يمكن أن تواكب متطلبات كثافةٍ سكانيةٍ دائمة النمو. وقد ساهم عمله الذي يبعث على التشاؤم في تغيير المشهد على ساحة الاقتصاد والسياسة للأبد، وسرعان ما أجهض نظرة آدم سميث، وجيه بي ساي، وبنجامين فرانكلين، وغيرهم من مفكري عصر التنوير؛ فقد أكد مالتوس أن الضغوط على الموارد المحدودة دائمًا ما يجعل الأغلبية الكاسحة من البشر على مقربةٍ من حافة الكفاف.

كان لمالتوس تأثير قوي على الفكر الحديث؛ فهو يعتبر مؤسس علم السكان والدراسات السكانية، ومعترَف به باعتباره مرشدًا ومعلمًا للمهندسين الاجتماعيين المؤيدين للتحكم الصارم في الزيادة السكانية ووضع حدودٍ للنمو الاقتصادي. ويبرز مقاله عن السكان النظرة الكئيبة والقدرية للعديد من العلماء والمصلحين الاجتماعيين الذين يتنبئون بالفقر، والجريمة، والمجاعات، والحروب، والتدهور البيئي نتيجةً للضغوط السكانية على الموارد. بل إنه كان مصدر إلهامٍ لنظرية تشارلز دارون للتطور العضوي، التي تُبيِّن كيف أن الموارد المحدودة التي تواجه مطالب غير محدودةٍ من شأنها أن تخلق قوة الانتقاء الطبيعي وبقاء الأقوى. وفي النهاية منح التشاؤم القدري لمالتوس (وصديقه ديفيد ريكاردو) الاقتصادَ سمعتَه بوصفه «علم كئيب».

تتمثَّل أطروحة مالتوس التشاؤمية في أن «قدرة السكان أعظم بشكلٍ لا متناهٍ من قدرة الأرض على خلق الكفاف للإنسان»؛ ومن ثم قُدِّر لغالبية البشر أن يحيَوْا وجودًا هوبزيًّا.4 وقد حدَّد كتابُه قانونين أساسيين من «قوانين الطبيعة»: «الأول أن السكان ينزعون إلى الزيادة وفق متواليةٍ هندسية (١، ٢، ٤، ٨، ١٦، ٣٢ …) والثاني أن إنتاج الطعام (الموارد) يميل إلى الزيادة بمتواليةٍ حسابية (١، ٢، ٣، ٤، ٥ …) لقد كانت وسائل دعم الحياة البشرية «محدودة بندرة الأرض» و«النزعة المستمرة لتقليص» توافر الموارد، فيما يُعَدُّ إشارةً إلى قانون تقليص العائدات. وسوف تكون النتيجة أزمةً حتميةً من «البؤس والرذيلة» لن تفيَ موارد الأرض، على أثرها، بمتطلبات سكانٍ يتنامَوْن.5

هل مالتوس محقٌّ بشأن «قانون الطبيعة» الأول، أن السكان يتزايدون بمتواليةٍ هندسية؟ في الواقع، منذ أن كتب مالتوس مقاله، ازداد سكان العالم بشكلٍ رهيبٍ من أقل من مليار نسمةٍ إلى أكثر من ٦ مليارات. غير أنه بإلقاء نظرةٍ أعمق على الزيادة الحادة في عدد سكان العالم منذ عام ١٨٠٠، يتبين لنا أن السبب ليس مالتوسيًّا في جوهره؛ فقد كانت الزيادة راجعةً إلى عاملَيْن لم يتنبأ بهما مالتوس؛ الأول هو الانخفاض الحاد في معدل وفيات الأطفال بفضل القضاء على العديد من الأمراض التي تُشكِّل تهديدًا للحياة من خلال التقنيات الطبية، والعامل الثاني هو الزيادة المطردة في متوسط فترة حياة الأفراد بفضل التحسينات التي طرأت على الصحة الوقائية، والرعاية الصحية، والتغذية، وارتفاع المستويات المعيشية، والإنجازات الطبية المبهرة، والانخفاض في معدل الحوادث؛ ونتيجةً لذلك، صار مزيد من الناس يصلون إلى مرحلة البلوغ والرشد، وصار مزيد من الناس يعيشون لفتراتٍ أطول.

علاوةً على ذلك، هناك احتمال لا بأس به أن يتوقَّف سكان العالم عن التزايد قريبًا، ولا سيما بفضل التباطؤ الحاد في معدل المواليد خلال الخمسين عامًا الماضية في الدول الصناعية والنامية على حدٍّ سواء. ويُعزى هذا بشكلٍ كبيرٍ إلى تأثير الثراء؛ فالأشخاص الأكثر ثراءً يميلون إلى إنجاب عددٍ أقل من الأطفال (على عكس ما تنبأ به مالتوس). وعلى مدى الخمسين عامًا الماضية، انخفض معدل المواليد في الدول المتقدمة من ٢٫٨ إلى ١٫٩ وانخفض في الدول النامية من ٦٫٢ إلى ٣٫٩. والاتجاه واضح لا لبس فيه؛ فالنساء يُنجبن عددًا أقل من الأطفال، وفي بعض الدول الأكثر تقدمًا، لا سيما أوروبا، يقل معدل المواليد كثيرًا عن مستوى الإحلال. ولا يوجد اليوم أي قلقٍ في أوروبا بشأن الزيادة السكانية المالتوسية. بل على العكس؛ هم أكثر قلقًا بشأن انخفاض عدد سكان أوروبا واعتمادهم المتزايد على الهجرة.

خطايا السهو لدى مالتوس

ماذا عن «قانون الطبيعة» الثاني لمالتوس، الذي يفيد بأن الموارد محدودة ومقيدة بقانون تقليص العائدات؟ مرةً أخرى لم يَلْقَ مالتوس دعمًا من التاريخ هنا؛ فقانون تقليص العائدات يسري فقط إذا افترضنا «مع تساوي جميع الأمور الأخرى»، أن التكنولوجيا وكمَّ الموارد الأخرى ثابتان. ولكن ما من موردٍ يظل ثابتًا على المدى الطويل؛ لا الأرض، ولا العمالة، ولا رأس المال. في الواقع، تضاءلت الأهمية الاقتصادية للأرض في العالم الحديث بفضل تكنولوجيا الزراعة الكثيفة والثورة الخضراء. لقد تجاهل مالتوس التطورات التكنولوجية في الزراعة، والاكتشاف المتواصل للمعادن الجديدة والموارد الأخرى في الأرض، ودور الأسعار في تحديد مدى سرعة أو بطء استهلاك الموارد. باختصار، فشل مالتوس في إدراك البراعة البشرية.6

لقد ثبت على نحوٍ لافتٍ خطأ مالتوس بشأن إنتاج الغذاء، وظهور تكنولوجيا الزراعة، واستخدام الأسمدة، والتوسُّع الشاسع للري؛ فقد زادت مساحة الأراضي المستزرعة وإنتاج الغذاء بشكلٍ مثير. ومعظم المجاعات يمكن إلقاء اللوم فيها على السياسات الحكومية غير الرشيدة، وليس الطبيعة.

إن قصة توماس مالتوس لها تأثير توجيهي في تنمية فهم آليات أي اقتصادٍ متنامٍ وكثافةٍ سكانيةٍ متصاعدة؛ فمن المسلَّم به أن مالتوس أدرك أن التدخل الحكومي عادةً ما يأتي بنتائجَ عكسيةٍ في التخفيف من وطأة الفقر والتحكم في نمو السكان؛ ومن ثَمَّ انضم إلى آدم سميث في تبنِّي سياسةٍ غير قائمةٍ على التدخل الحكومي (وقد شُهِّرَ به من جانب النقاد لمعارضته برامج الفقر، وتحديد النسل، وحتى اللقاحات). ولكنه في النهاية تخلَّى عن معلِّمه بالتنصل من الإيمان بالطبيعة الأم، وقدرة السوق الحرة على مواءمة المعروض من الموارد مع المتطلبات المتزايدة لسكانٍ آخذين في التزايد. وقد فشل، بشكلٍ أساسي، في فهم دور الأسعار وحقوق الملكية كحافزٍ لترشيد استهلاك الموارد النادرة، وكآليةٍ لحل المشكلات. والأسوأ أنه قد أساء فهم آليات أي اقتصادٍ تجاريٍّ متنامٍ؛ كيف لقطاعٍ سكانيٍّ كبيرٍ أن يصنع بذور رخائه من خلال تشكيل أفكارٍ جديدةٍ وابتكار تقنيةٍ جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤