الفصل الحادي والعشرون

حلٌّ من القطاع الخاص للفقر المدقع

إن الفقراء الصحيحي البنية لا يريدون ولا يحتاجون إلى مساعدة … كل ما يحتاجون إليه هو رأس المال.

محمد يونس
قبل اتجاهه إلى التدريس في جامعة نيويورك، قضى الاقتصادي ويليام إيسترلي الجزءَ الأكبرَ من حياته في العمل لدى البنك الدولي والعيش في العالم الثالث ومساعدة الدول الفقيرة على التحوُّل إلى دولٍ غنية. وفي كتابه الذي قوبل بكثيرٍ من الإشادة «البحث المراوغ عن النمو»، يُحذِّر من مدى صعوبة خلق المناخ الملائم للنمو المستدام والهروب من دائرة الفقر الخبيثة. ولكن الأهم من ذلك هو المحاضرة التي يلقيها على جهة عمله السابقة، البنك الدولي، بشأن استحالة المعونات الخارجية ومعظم سياسات التنمية الأخرى المتَّبعة من قِبل الحكومة لمساعدة الدول الفقيرة. وبينما يعترف بأنه «لا يوجد إكسير سحري»، يبدو واضحًا أن «الحوافز مهمة» وأن «الحكومة يمكن أن تقوِّض النمو».1
ظل رجال الاقتصاد لسنواتٍ يحتجُّون على إهدار برامج المعونات الخارجية وسوء استغلالها، وقروض صندوق النقد الدولي، ومشروعات البنك الدولي.2 وكان اللورد بيتر باور في الطليعة كأحد المعارضين لبرامج التنمية الحكومية؛ فخلال النصف الثاني من القرن العشرين، ذهب بقوةٍ إلى أن المساعدة الحكومية في تنمية الأمم إنما تعمل فقط على تأخير النمو الاقتصادي.3 وفي كتابٍ لاحق، يُطلِق إيسترلي على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي «بيروقراطيات المعونات المتضخمة التي لا تحاسَب أمام أحد.» وفي النهاية يعلن أنه «بعد خمسين عامًا وأكثر من ٢٫٣ تريليون دولار مساعدات من الغرب، لم يتحقق مكسب كبير على نحوٍ يُشعر بالصدمة.»4

ولكن إذا تم إلغاء قروض صندوق النقد الدولي، والمعونات الخارجية، والبنك الدولي، فما الذي ينبغي فعله للتخفيف من الفقر، خاصةً بين المليار شخصٍ الذين يعيشون بدولارين يوميًّا أو أقل؟ يؤيد باور والتحرريون الكلاسيكيون الآخرون تأسيس حقوق الملكية، وسيادة القانون، وإرساء سياسةٍ نقديةٍ مستقرة، وتخفيف العراقيل أمام التجارة، وزيادة الاستثمار الأجنبي، وتشجيع الأسواق الحرة وتحجيم دور الحكومة داخليًّا. ولكن هل يكفي هذا؟

الإقراض المتناهي الصغر من القطاع الخاص

مما لا يمكن تجاهله قصة النجاح المتسارع للقطاع الخاص المعروفة ﺑ «الإقراض المتناهي الصغر»؛ أي إقراض مبالغَ ماليةٍ بالغةِ الصغر لأصحاب المشروعات الحرة في العالم الثالث من قِبل بنوكٍ ومؤسساتٍ مستقلة. ولعل أشهر مؤسسات الإقراض المتناهي الصغر بنك جرامين، الذي أُسِّس عام ١٩٨٣ على يد محمد يونس في بنجلاديش، أفقر دول العالم. وفي أقل من ثلاثة عقود، فعل محمد يونس وبنك جرامين في سبيل التخفيف من الفقر المدقع أكثر مما فعلته اﻟ ٢٫٣ تريليون دولار كاملةً في برامج المعونات الخارجية المهدرة.

كما ذكرنا في مستهل هذا الكتاب، كان يونس اقتصاديًّا محترفًا قام بالتدريس لسنواتٍ في جامعة تشيتاجونج ببنجلاديش. وبعد سنواتٍ من التدريس عن الفقر والنمو الاقتصادي، قرر أخيرًا أن يفعل شيئًا حياله. وفي عام ١٩٧٦، وخلال زياراتٍ له لأفقر البيوت في قرية جوبرا الواقعة بالقرب من الجامعة، اكتشف يونس أن قروضًا صغيرة للغاية يمكن أن تُحدِث فارقًا كبيرًا لشخصٍ فقير؛ فقد كانت أولئك السيدات الغارقات في الفقر يصنعن أثاثًا من الخيزران، وكنَّ يُضطرَرْن إلى الحصول على قروضٍ ربويةٍ من أجل شراء الخيزران، بعد ذلك يَبِعنَه للمقرضين سدادًا لتلك القروض. وفي ظل ربحٍ لا يتجاوز ٠٫٥٠ تاكا بنجلاديشية (٠٫٠٢ دولار)، كانت النساء يعجزن عن إعالة أسرهن. فكان أول قرضٍ يقدمه يونس يعادل ٢٧ دولارًا لكل امرأة، دفعها من ماله الخاص ﻟ ٤٢ سيدةً في قرية جوبرا. وكانت هذه بدايةَ انطلاقةٍ عالمية.

إن مثل هذه الخطة للمساعدة في الحد من الفقر ما كان ليبتكرها سوى رجل اقتصاد؛ فعلى مدى قرونٍ تبرَّع المصلحون والقائمون على الأنشطة الاجتماعية بملياراتٍ وأقاموا مؤسساتٍ معفاةً من الضرائب لمساعدة الفقراء، إلا أن أشخاصًا مثل البروفيسور يونس، مدربين على مبادئ المحاسبة، والحوافز، والربح والخسارة، والادخار، والتعليم، يعلمون أن برنامجًا حقيقيًّا للقروض من بنكٍ ربحيٍّ يمكن أن يُجديَ حقًّا.

وحين أقول «قروض صغيرة»، إنما أقصد صغيرة إلى حدٍّ يثير الاستغراب الشديد؛ فبنك جرامين يُقرض ما بين ٣٠ دولارًا إلى مائتي دولارٍ فقط للمقترض الواحد. وليس لزامًا على المتقدمين إجادة القراءة أو الكتابة لكي يكونوا أهلًا للقرض. وليس مطلوبًا أي ضماناتٍ إضافيةٍ أو تقرير ائتمان. والمدهش أن بنك جرامين قد منح هذه القروض المتناهية الصغر لملايين الأشخاص المعدِمين في بنجلاديش، وبلغ مجموعها حتى الآن ٣ مليارات دولار. وهذه القروض ليست منحةً بلا فوائد؛ فبنك جرامين هو بنك ربحي قطاع خاص يعمل بالجهود الذاتية يفرض فوائد بنسبة ١٨ بالمائة. وهل هناك فوائد تأخيرٍ تعويضية؟ أقل من ٢ بالمائة. ويرجع هذا الرقم اللافت للنظر إلى الاشتراط المفوِّض بوجوب الْتحاق المقترضين بمجموعات دعمٍ صغيرة، وإذا تخلَّف أي عضوٍ في المجموعة، فلا يمكن لأي عضوٍ آخر اقتراض المزيد. وهكذا يكون الضغط الاجتماعي، وليس هيئة التحصيل، هو ما يجعل القروض تستمر.

يقوم بنك جرامين بإقراض أصحاب المشروعات، والنساء بشكلٍ كبير، الذين لا يحتاجون إلا بضعة دولاراتٍ قليلةٍ لشراء اللوازم والأدوات؛ فقد يرغب المقترضون في صنع كَرَاسيَّ من الخيزران، أو بيع لبن الماعز، أو قيادة العربات ذات العجلتين. ومن خلال تجنُّب معدلات الفائدة الخيالية التي تفرضها جهات الإقراض الأخرى (التي غالبًا ما تصل إلى ٢٠ بالمائة شهريًّا)، يتمكَّن هؤلاء الأشخاص أخيرًا من كسر دائرة الفقر. فتنمو مشروعاتهم الصغيرة، والبعض منهم يستغل أرباحها في بناء بيوتٍ جديدةٍ أو ترميم بيوتٍ قائمة (غالبًا باستخدام قرض المنزل من بنك جرامين الذي يبلغ ٣٠٠ دولار). وقد صار الآلاف ممن اقترضوا من جرامين الآن يملكون أراضيَ، وبيوتًا، بل وهواتف خلوية، ويُرسلون أبناءهم إلى المدارس، ولم يعودوا يتضوَّرون جوعًا. ويملك يونس خططًا لإصدار أسهمٍ خاصةٍ وطرح برنامجه المناهض للفقر للاكتتاب العام في النهاية.

وقد حقَّق بَنْكُه نجاحًا كبيرًا، حتى إن مؤسساتٍ أخرى للإقراض المتناهي الصغر قد ظهرت حول العالم. واكتسب المفهوم قبولًا في كل مكان، إلى حد أن البنك الدولي، وهيئات حكومية أخرى، وحتى البنوك الغربية الساعية إلى الربح دخلت في مشروعات القروض المتناهية الصغر برءوس أموالٍ تصل إلى مليون دولار.

قول لا للبنك الدولي

لكن يونس لن يتعامل مطلقًا مع البنك الدولي؛ ففي كتابه الذي يتناول سيرته الذاتية «مصرفي من أجل الفقراء» (الذي أنصح بقراءته بشدة)، يُندِّد يونس بالبنك الدولي قائلًا: «نحن في بنك جرامين لم نكن نريد أو نقبل مطلقًا تمويلَ البنك الدولي؛ لأننا لا نحب طريقة إدارة البنك للعمل.» ولا يحب المعونات الخارجية كثيرًا: «معظم الدول الغنية تستخدم ميزانياتها للمعونات الخارجية في الأساس لتوظيف مواطنيها وبيع سلعها، في حين يأتي التفكير في الحد من الفقر لاحقًا … إن المشروعات المموَّلة من المساعدات تصنع بيروقراطياتٍ ضخمة، سرعان ما تصبح فاسدة وغير فعالة؛ مما يخلف خسائر ضخمة … فلا تزال أموال المساعدات تذهب لتوسيع حجم الإنفاق الحكومي، بما يتعارض في الغالب مع مصالح الاقتصاد السوقي … فتصبح المعونات الخارجية نوعًا من الإحسان للأقوياء وذوي النفوذ، في حين تزيد الفقراءَ فقرًا.»5 وما كان لبيتر باور أن يُعبِّر عن الأمر بأفضل من ذلك.

من الماركسية إلى السوق

تتسم عبارات يونس بكونها أكثر من مذهلةٍ بالنظر إلى نشأته تحت تأثير الاقتصاد الماركسي. ولكن بعد أن حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة فاندربيلت، ورأى بشكلٍ مباشرٍ وعمليٍّ «كيف تُحرِّر السوق [في الولايات المتحدة] الفرد»، رفض الاشتراكية. «إنني أُومِن بالفعل بقوة اقتصاد السوق الحرة العالمية وباستغلال الأدوات الرأسمالية … وأُومِن أيضًا بأن تقديم إعاناتٍ للبطالة ليس الطريقة المثلى لمواجهة الفقر.» ولإيمانه بأن «جميع البشر هم روَّاد أعمالٍ محتملون»، فإن يونس على قناعةٍ بأن الفقر يمكن استئصاله جذريًّا بإقراض الفقراء رأس المال الذي يحتاجون إليه للدخول في مشروعاتٍ مربحة، وليس بإعطائهم منحةً حكوميةً أو فرض التحكم في الزيادة السكانية.

ويطلق زملاؤه الماركسيون على ذلك مؤامرة رأسمالية؛ فقد أخبره بروفيسور شيوعي قائلًا: «إن ما تفعله في الواقع بمنزلة إعطاء قطعٍ صغيرةٍ من الأفيون للفقراء … فتهدأ حماستهم الثورية؛ لذلك فإن جرامين هو عدو الثورة.»6

هذا هو الأمر بالضبط؛ إنه عدو للإطاحة العنيفة بالمجتمع الرأسمالي. وما من مثالٍ على ذلك أفضل من برنامجٍ يشجع على «السلام من خلال التجارة»، وهو ما يجعل محمد يونس جديرًا بجائزة نوبل للسلام التي فاز بها في عام ٢٠٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤