الفصل الثالث والعشرون

إلى أيِّ مدًى المعجزةُ الاقتصادية الآسيوية حقيقية؟

لقد نمت سنغافورة من خلال تعبئةٍ للموارد كانت ستجعل ستالين يفخر بها.

بول كروجمان،
«خرافة المعجزة الآسيوية»، مجلة فورين أفيرز
نوفمبر/ديسمبر، ١٩٩٤

إذا وُجدِت وصفةٌ ما لنجاحنا، فهي أننا كنا دائمًا ندرس كيف نجعل الأشياء مجدية، أو كيف نجعلها أكثر جدوى.

لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة الأسبق1

جاءت المعجزة الاقتصادية الآسيوية في فترة ما بعد الحرب بمنزلة صدمةٍ كبرى للعديد من الخبراء السياسيين. وفي النصوص الدراسية الحديثة، لم يذكر سوى قليلٍ من المؤرخين معجزات الرخاء الياباني وأسرار النمور الأربعة (هونج كونج، وسنغافورة، وكوريا، وتايوان)، أو الاقتصادات الصناعية الحديثة (إندونيسيا، وماليزيا، وتايلاند). حتى المعجزة الاقتصادية الصينية لم يسلط عليها الضوء إلا مؤخرًا.

كانت اليابان عام ١٩٤٥ محطمةً وغارقةً ما بين اليأس والجوع، وكانت تُعَدُّ واحدةً من أفقر الدول على وجه الأرض. لم يكن هناك ناطحات سحاب، ولا بنوك غنية، ولا صناعة سيارات وإلكترونيات. ولكن في غضون ما يعادل فترة حياة إنسانٍ واحد، أصبحت اليابان قوة اقتصادية عظمى؛ إذ تُصنَّف الثانية بعد الولايات المتحدة بين أغنى دول العالم.

كانت هونج كونج تواجه مشكلاتٍ ضخمة: ٦ ملايين شخص مكتظون داخل ٤٠٠ ميل مربع، دون نفطٍ أو مواردَ طبيعيةٍ أخرى، ومعظم مياهها وغذائها مستورد، وشركاؤها التجاريون على بُعد آلاف الأميال. غير أن هذه المستعمرة البريطانية الصغيرة كسرت دائرة الفقر لتصبح ثانيَ أكثر الدول رخاءً في حوض المحيط الهادي.

ومنذ عام ١٩٦٥، كان نمو اﻟ ٢٣ اقتصادًا في منطقة شرق آسيا أسرع من جميع مناطق العالم الأخرى؛ فقد شهدتْ الاقتصادات الآسيوية العالية الأداء نموًّا بالغ السرعة وارتفاعًا في الدخول، إلى جانب الانخفاض الحاد في نسبة الآسيويين الذين يعيشون في حالة فقرٍ مدقع. وزاد متوسط العمر من ٦٥ عامًا في عام ١٩٦٠ إلى ٧١ عامًا في عام ١٩٩٠.2

السبب وراء المعجزة

لماذا تجاهل المؤرخون الأمريكيون حتى عهدٍ قريبٍ قصص النجاح هذه؟ ربما لأن نموذج التنمية الآسيوي لا يتلاءم مع الإطار الكينزي والوصفات السياسية التي تُحبِّذ المستويات المرتفعة من الاستهلاك، والدَّين، والإنفاق الحكومي؛ ففي معظم اقتصادات شرق آسيا السريعة النمو، كانت درجة فرض الضريبة الحكومية والتخطيط المركزي منخفضة نسبيًّا، وكانت معدلات الادخار مرتفعة بشكلٍ بالغٍ بالمعايير الكينزية، وكانت الموازنات الحكومية تُحقق فائضًا بطبيعة الحال، وكانت حالة الرفاهية الاجتماعية صغيرةً نسبيًّا. وكما استنتج البنك الدولي في دراسته لعام ١٩٩٣: «كان النمو السريع في كل اقتصادٍ يُعزى في الأساس إلى تطبيق مجموعةٍ من السياسات الاقتصادية الشائعة الصديقة للسوق؛ ما أدى إلى تراكمٍ أعلى للموارد وتوزيعٍ أفضل لها على حدٍّ سواء.»3

تحدِّي كروجمان

الآن يأتي البروفيسور بول كروجمان ليشكك في فكرة المعجزة الآسيوية بِرُمَّتها. يُعَدُّ كروجمان، الذي يعمل بالتدريس بجامعة برينستون، الأثير لدى الإعلام، ويشار إليه مرارًا بأنه «معجزة» عبقرية، وفائز المستقبل بجائزة نوبل، ووفقًا لمجلة «إيكونوميست»، «أشهر اقتصاديي جيله». بحسب كروجمان، لا يوجد شيء إعجازي بشأن النمو الاقتصادي الآسيوي؛ فهو ليس بجديد؛ إذ يُعَدُّ تكرارًا لمعدلات النمو المذهلة التي حققها الاتحاد السوفييتي في حقبةٍ سالفة (١٩٢٠–١٩٩٠). ويرى كروجمان «تشابهات مدهشة» بين شرق آسيا والاتحاد السوفييتي السابق؛ فكلاهما انخرط في «تعبئة استثنائية للموارد». وبالنسبة إلى الاتحاد السوفييتي، يشير كروجمان إلى أن «المخططين الستالينيين قد نقلوا ملايين العمال من الحقول إلى المدن، ودفعوا بملايين النساء لِيَكُنَّ ضمنَ قوة العمل وملايين الرجال للعمل لساعاتٍ أطول، وقاموا بتطبيق برامج ضخمة للتعليم، وفوق كل ذلك أعادوا استثمار عائدات نسبة دائمة النمو من الناتج الاقتصادي للبلاد في بناء مصانع جديدة.»4

ووفقًا لكروجمان، فقد كان قادة شرق آسيا بنفس القدر من الاستبداد؛ إذ يدفعون بالسكان إلى العمل، ويطوِّرون معايير تعليمية، ويستثمرون بقدرٍ مذهل في رأس المال المادي؛ فشرق آسيا، باختصار، مثل الاتحاد السوفييتي؛ إذ «يحقق النمو فقط من خلال تعبئة الموارد.»

علاوةً على ذلك، هناك احتمال لتضاؤل النمو في شرق آسيا، شأنه في ذلك شأن الاتحاد السوفييتي، بسبب القيود المفروضة على العمالة ورأس المال. يقول كروجمان: «من المحتمل أن يستمر تفوُّق النمو في شرق آسيا على النمو في الغرب للعقد القادم وما بعده. ولكنه لن يحقق ذلك بنفس إيقاع السنوات الأخيرة.»5 بعبارةٍ أخرى، تخضع آسيا لقانون تقليص العائدات.

استبداد الأرقام

لديَّ تحفظات مهمة بشأن تحليل كروجمان البعيد عن الواقع للمعجزة الآسيوية. أولًا، إن مقارنة آسيا بالاتحاد السوفييتي مقارنة جديرة بالاهتمام، ولكنها معيبة بشكلٍ جوهري؛ فقد كان الاتحاد السوفييتي بالأساس اقتصادًا موجَّهًا؛ بينما الدول الآسيوية (باستثناء الصين) اقتصادات حرة نسبيًّا؛ فقد انخرط الستالينيون في التصنيع والعسكرة على حساب مستوى المعيشة السوفييتي. وفي هذا الإطار، كانت إحصائيات النمو السوفييتية ملفَّقةً إلى حدٍّ كبير؛ فكما قال الخبير السوفييتي مارشال جولدمان في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي: «إن هذا النظام آخذ في إنتاج الصُّلب والآلات، بينما المطلوب هو الغذاء، والسلع الاستهلاكية، والتكنولوجيا الأكثر حداثة.»6

على الجانب الآخر، كان الآسيويون يقومون بتعبئة الموارد عن طريق إنتاج مجموعةٍ متطورةٍ بشكلٍ متزايدٍ من المنتجات المطلوبة في الأسواق العالمية؛ ومن ثَمَّ زادوا بشكلٍ كبيرٍ من مستواهم المعيشي.

معجزة سنغافورة الاقتصادية

دعنا ننظر عن كَثَبٍ إلى سنغافورة مثلًا؛ هل كانت اقتصادًا موجَّهًا على الطراز السوفييتي، كما يزعم بول كروجمان؟ تُعَدُّ رواية لي كوان يو عن سنغافورة التي أوردها في سيرته الذاتية كاشفةً في هذا الصدد. لقد تولى لي رئاسة المستعمرة البريطانية الصغيرة المعدمة بعد الاستقلال في عام ١٩٦٥. وخلال جيلٍ واحد، أشرف على تحوُّلها إلى عملاقٍ آسيويٍّ يحوي الخطوط الجوية رقم واحد في العالم، وأفضل مطار، وأكثر المرافئ التجارية ازدحامًا، ورابع أكبر دخلٍ حقيقيٍّ للفرد على مستوى العالم.

كيف تحققت هذه المعجزة الاقتصادية؟

أولًا، قَدَّمَ لي نموذجًا للقيادة الحقيقية؛ فقد كان شخصية مبدعة في آسيا استطاع تحقيق أشياء غير عادية؛ فقد بنى مصنعًا للأسلحة من الصفر، واستمال النقابات، ودمَّر الشيوعيين بعد أن ترك البريطانيون فراغًا. وعلى الرغم من المعارضة القوية، أصرَّ على جعْل اللغة الإنجليزية واحدةً من أربع لغاتٍ رسميةٍ منطوقة؛ لعلمه أنها تتجه بشكلٍ سريعٍ إلى أن تصبح لغة التعاملات التجارية العالمية. كانت سنغافورة، شأنها شأن دول جنوب شرق آسيا الأخرى، معروفة بالمحسوبية، والتمييز، والفساد المستتر؛ فقام لي بتطهير المحاكم، والشرطة، ومكاتب الهجرة والجمارك. واليوم تُصنَّف سنغافورة كأقل دول آسيا فسادًا. كذلك كانت سنغافورة تعجُّ بالقاذورات؛ فبدأ لي حملةَ «نظافة وتشجير». وتم تطهير الأنهار والقنوات والمصارف، وزراعة ملايين الأشجار والنخيل والشجيرات.

قامت حكومة لي بهدم الأكواخ البالية القديمة واستعاضت عنها بشققٍ في بناياتٍ شاهقة. وفرض لي القانون والنظام عن طريق المطالبة بعقوباتٍ مغلَّظةٍ لجرائم القتل وجرائم أخرى. واليوم تُصنَّف سنغافورة رقم واحد في العالم من حيث الأمن. وللحدِّ من الاختناق المروري، الذي يعدُّ مشكلةً ضخمة في المدن الآسيوية، قامت سنغافورة بإنشاء منظومةٍ لمترو الأنفاق، وفرضت برنامجًا إلكترونيًّا لتسعير الطرق، فتحمل كل سيارةٍ «بطاقة ذكية» على زجاجها الأمامي. ويتباين مبلغ الرسم باختلاف الطريق المستخدَم والوقت من اليوم؛ ففي ساعات الذروة يرتفع السعر، «لما كان المبلغ الذي يدفعه الناس الآن يعتمد على قَدْر استخدامهم للطرق، صار من الممكن امتلاك العدد المثالي من السيارات بأقل قدرٍ من الازدحام المروري.»7 وقد سبق لنا أن ناقشنا هذا النظام السليم للنقل في الفصل الثاني عشر.

رفض لي التخطيط المركزي السوفييتي الطراز والصناعة الثقيلة المحلية، وإن كان قد استهدف بعض الصناعات لتنميتها. فركَّز على خطةٍ من محورين لوضع سنغافورة على طريق التقدُّم؛ أولًا: قامت حكومته بتشجيع الصناعة المحلية على التفوق على جيرانها القريبين، وإقامة روابط مع العالم المتقدِّم في كلٍّ من أمريكا وأوروبا واليابان، من خلال جذب المصنِّعين للإنتاج في سنغافورة. أما المحور الثاني فتمثل في قيام لي بإنشاء واحةٍ من العالم الأول في العالم الثالث من خلال إرساء أعلى المعايير في الأمن، والصحة، والتعليم، والاتصالات، والنقل، وحكومة توفر عملة مستقرة، وضرائب منخفضة، وتجارة حرة. ولسوف تصبح سنغافورة قاعدة انطلاقٍ للشركات المتعددة الجنسيات من مختلِف أنحاء العالم. وبعد سنواتٍ من الجهد، آتى ذلك ثمارَه.

تقدَّمت سنغافورة بشكلٍ تجاوز أحلامَ أي شخصٍ تحت قيادة لي الذكية. غير أننا لا نستطيع تجاهل أخطائه؛ من تكتيكاته التي تقوم على الإجبار، واستهدافه للصناعات القائم على التدخُّل، وبرامج الادخار الإجبارية، إلى رفضه لوجود صحافةٍ حرة، وعقوباته المبالغ فيها لجرائم معينة. تنحَّى لي عن منصبه كرئيسٍ للوزراء في عام ١٩٩٠، ولكنه استمرَّ في العمل ﮐ «وزير معلم» تحت قيادة نجله هِسين لونج، الذي أصبح ثالث رئيس وزراء للبلاد في عام ٢٠٠٤. ولا تزال سنغافورة أسرع دول آسيا نموًّا.

دروس آسيا

منذ كتابة تقييمه السلبي لآسيا في عام ١٩٩٤، ثبت خطأ كروجمان؛ فحتى الآن لا يوجد أي دليلٍ على تعرُّض آسيا لتقلُّصٍ في العائدات. فإن كنا قد شهدنا أي شيء، في ظل نمو الصين، فقد شهدنا زيادةً في العائدات. وبشكلٍ أساسي، يُغفل كروجمان الصورة الكبرى. والسؤال الحقيقي هو: لماذا لم يستطع غيرُ عددٍ محدودٍ للغاية من الدول النامية خارج المنطقة الآسيوية صنعَ معجزاتها بأنفسها؟ وما الذي يمكن للدول الصناعية مثل الولايات المتحدة وأوروبا تعلُّمه من المعجزة الآسيوية؟

الإجابة واضحة. لقد نَمَت الاقتصادات الآسيوية بشكلٍ سريعٍ لعددٍ من الأسباب؛ أولًا: لأنها صديقة للسوق إلى حدٍّ كبير؛ إذ تتجنب ضوابط الأجور والأسعار والتنظيم المفرط للنشاط التجاري. ثانيًا: تشجع استقرار الاقتصاد الكلي عن طريق تجنُّب مستويات التضخم العالية وعجز الموازنة، وتحجِّم نشاط الحكومة، وتمنع برامج الرعاية الاجتماعية. ثالثًا: توفر نظمًا ماليةً وقانونيةً مستقرةً وآمنة (وتُعَدُّ أزمة العملة الآسيوية التي وقعت عام ١٩٩٧ استثناءً). رابعًا: تدعم المستويات العالية من الادخار واستثمار رأس المال وليس الإنفاق الاستهلاكي المرتفع. خامسًا: يُقدِّم العديد من الدول الآسيوية إعفاءاتٍ ضريبيةً مؤقتةً للشركات المعنية بالتصدير، فيما يفرض ضرائب ضئيلة (إنْ فرض ضرائب من الأساس) على الاستثمارات. سادسًا: لأنها منفتحة على التكنولوجيا العالمية ورأس المال الأجنبي.

من المسلَّم به أن العديد من الدول الآسيوية يُقيِّد الحريات المدنية، ويشارك في التخطيط الصناعي، ويضع قيودًا على الواردات، ويخفض قيمة عملاته صوريًّا، ولكن بوجهٍ عام تُعتبر درجة التدخل الحكومي محدودة نسبيًّا، أو تم تقليلها بشكلٍ حادٍّ كما حدث في الصين.

يعمل الكثير من الدول النامية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا على تبنِّي إصلاحات السوق الحرة وصنع معجزاتها الخاصة. وبإمكان الدول الصناعية استعادة معدلات نموها التقليدية عن طريق تبنِّي جرعةٍ كبيرةٍ من اقتصاديات جانب العرض، وخفض الضرائب على النشاط التجاري والاستثمار، وخصخصة الضمان الاجتماعي، ودعم تطوير التعليم والتدريب، وتنظيم وتيسير اللوائح والقوانين المفروضة على النشاط التجاري والتوظيف، والقضاء على عجز الموازنة الفيدرالي. وكما يستنتج لودفيج فون ميزس: «إن من أهم مهام الحكومة الجيدة وأولاها إزالة جميع العقبات التي تعوق تجميع رأس مالٍ جديدٍ واستثماره.»8

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤