الفصل الثالث والثلاثون

ما الذي يحرك الاقتصاد والأسهم

إنفاق المستهلك أم الاستثمار التجاري؟

قلة قليلة من الناس هم من يدركون الحقيقة التالية: التجارة هي قلب الاقتصاد، وليس المستهلكون؛ فحين تنتج الشركات بشكلٍ مربح، فإنها تخلق وظائف مدرَّة للدخل؛ ومن ثَمَّ ينفق المستهلكون. والشركات المربحة أيضًا تشتري معدَّاتٍ جديدة؛ لأنها تحتاج إلى تحديث وتجديد جميع أدواتها، ونظمها، وبرمجياتها.

لاري كودلو، «كودلو آند كومباني»،
قناة سي إن بي سي التليفزيونية
نحن نسمع ما يلي طوال الوقت في الأخبار:
  • «ما يفعله المستهلكون هو الشيء الأهم.»

  • «إذا توقف المستهلك عن الإنفاق، فنحن في أزمةٍ كبيرة.»

  • «إذا لم ينفق المستهلك قيمة الخفض الضريبي، فلن يساعد ذلك في عملية الانتعاش.»

  • «مؤشر توقعات المستهلك منخفض هذا الشهر … وهذا خبر سيئ على صعيد الاقتصاد وسوق الأسهم.»

خلال آخر أزمات الركود العالمي التي وقعت ما بين عامي ٢٠٠١–٢٠٠٣، ركَّز معظم المراسلين الصحفيين على مستوى إنفاق المستهلك؛ ففي عام ٢٠٠١، قامت الحكومة الفرنسية، بدافع الخوف من عدم إقبال مواطنيها على الشراء بمعدلٍ كافٍ، بزيادة الإنفاق الحكومي بنسبة ٦ بالمائة. وحذَّرت مجلة «ذي إيكونوميست» من أن تباطؤ مبيعات التجزئة في أوروبا «سوف يفسد النجاح». وفي اليابان زعم المحللون الاقتصاديون أن المستهلكين اليابانيين يدخرون أكثر من اللازم، والوسيلة الوحيدة لإطلاق الاقتصاد الآسيوي العملاق هي دفع اليابانيين للكف عن الادخار والبدء في الإنفاق.

وقد قال إدوارد ماكيلفي، كبير خبراء الاقتصاد ببنك جولدمان ساكس: «إن ما يفعله المستهلك هو القضية رقم ١ بالنسبة إلى المشهد الاقتصادي.» وفي الولايات المتحدة، حذر الخبراء على سي إن إن وسي إن بي سي مرارًا في عام ٢٠٠١ من أنه «إذا تم ادخار التخفيضات الضريبية التي أقرها بوش، ولم يتم إنفاقها، فلن تسهم بشيءٍ في الانتعاش الاقتصادي.»

غير أن الواقع هو أن إنفاق المستهلك هو النتيجة، وليس السبب، لأي اقتصادٍ مثمرٍ وصحي. فإنفاق الشركات الساعية إلى التجديد على السلع الرأسمالية، والتخفيضات الضريبية، وخفض معدلات الفائدة، والإنتاجية أهم بكثيرٍ من أي طفرةٍ في إنفاق المستهلك. وفي أي دورة تعديل مسارٍ تجارية، يأتي الإنتاج والاستثمار أولًا، يتبعهما الإنفاق على سلع التجزئة.

أهمية قانون ساي

هذه الحقيقة سائدة في السوق: العرض — وليس الطلب — هو الذي يحرك الاقتصاد؛ فالإنتاجية والادخار هما مفاتيح النمو الاقتصادي. وقد اكتُشف هذا المبدأ وطُوِّر على يد الاقتصادي الفرنسي العبقري جان باتيست ساي في مطلع القرن العشرين، ويُعرف باسم «قانون ساي».1

استخدم ساي مثالًا زراعيًّا في كتابه الدراسي لإثبات قانون ساي. افترض أن مجتمعًا زراعيًّا لديه محصول جيد، «كلما كان المحصول أكبر، كانت مشتريات الزارعين أعلى.» على الجانب الآخر، ما الذي يحدث إذا كان هناك نقص أو مجاعة؟ «المحصول السيئ، في المقابل، يضر بمبيعات السلع ككلٍّ.»

وللاستعانة بمثالٍ حديث، انظر إلى سياتل. حين قام بيل جيتس بإنشاء مايكروسوفت، أصبح العديد من الموظفين من أصحاب الثروات، بل ومليونيرات، وانتعش اقتصاد سياتل، وارتفع إنفاق المستهلك بمعدلٍ سريع. ولكن ماذا حدث عندما قامت الحكومة الفيدرالية بمقاضاة مايكروسوفت في أواخر تسعينيات القرن الماضي فهبطت أسهم مايكروسوفت؟ انتهت موجة الانتعاش في سياتل لفترة، وتباطأ إنفاق المستهلك. من الواضح في الدورة التجارية أن إنفاق الشركات يدفع الاقتصاد، يليه إنفاق المستهلك.

ما تخبرنا به المؤشرات الاقتصادية الرئيسية

لنستطلعْ معًا مدى أهمية إنفاق المستهلك وقطاع الاستثمار حين يتعلَّق الأمر بالمؤشرات الاقتصادية الرئيسية. نرى هنا أن كِلا القطاعين يؤثر على الأداء الاقتصادي، ولكن يبدو أن قطاع الأعمال يلعب دورًا أقوى. فإذا نظرنا إلى «مؤشر المؤشرات الاقتصادية الرئيسية» في تسع دولٍ كبرى، وهو الذي يُنشر شهريًّا من خلال «كونفرانس بورد» (www.conferenceboard.org)، نجد هذه النتائج:
  • من بين المؤشرات الرئيسية التسعة في ألمانيا التي تم تجميعها من قِبل «كونفرانس بورد»، يتصل اثنان بإنفاق المستهلك: مؤشر ثقة المستهلك ومؤشر أسعار المستهلك للخدمات. أما بقية المؤشرات، فتتصل بالإنتاج في المراحل الأولى، مثل التغيرات في المخزون، والمشتريات الجديدة للمعدَّات الإنتاجية، وطلبيات الإنشاء الجديدة.

  • من بين مؤشرات فرنسا الرئيسية العشرة، يتصل اثنان بالمستهلك، فيما ترتبط بَقِيَّتُها بالمعايير التجارية، مثل أسعار الأسهم، والإنتاجية، وتراخيص البناء، وفارق عائد السند وعائد السهم، والطلبيات الصناعية الجديدة.

  • تتصل مؤشرات المملكة المتحدة الرئيسية بحجم الصادرات، والطلبيات الجديدة في الصناعات الهندسية، والمخزونات، والمنازل المبدوءة الإنشاء، والإصدار النقدي. ويُعَدُّ «مؤشر ثقة المستهلك» هو المؤشرَ الوحيدَ الخاصَّ بالمستهلك.

  • لا يرتبط أيٌّ من مؤشرات اليابان الرئيسية بالمستهلك: الوقت الإضافي للعمل في التصنيع، واستطلاع الظروف التجارية، وإنتاجية العمال، وأرباح التشغيل الحقيقية، والطلبيات الجديدة على الماكينات والإنشاء.

  • تضم مؤشرات المكسيك الستة مسحًا شهريًّا للمخزون، والإنشاء الصناعي، وأسعار الأسهم، ومعدلات الفائدة، وتكاليف النفط الخام. وتُعَدُّ مبيعات التجزئة مؤشرًا تزامنيًّا في المكسيك.

  • في الولايات المتحدة، يسلط «كونفرانس بورد» الضوء على «مؤشر ثقة المستهلك»، فيما تتصل المؤشرات التسعة الأخرى من بعيدٍ فقط بالاستخدام النهائي، مثل طلبيات المصنِّعين الجديدة على المواد والسلع الاستهلاكية، وتراخيص البناء، ومتوسط ساعات التصنيع الأسبوعية، وأسعار الأسهم، والطلبيات الجديدة على السلع الإنتاجية غير الدفاعية.

ماذا عن مؤشر ثقة المستهلك؟

ولكن ماذا عن «مؤشر ثقة المستهلك» الذي تبرزه وسائل الإعلام كل شهر؟ ألا يُعَدُّ مؤشرًا رئيسيًّا؟ هو كذلك بالطبع، ولكن من المدهش أن «مؤشر ثقة المستهلك» يبدو متصلًا أكثر بالظروف التجارية من اتصاله بتوجُّهات المستهلكين. فيما يلي الأسئلة التي تُطرح على المستهلكين لتحديد «توقعاتهم»:
  • (١)

    هل الظروف التجارية الحالية جيدة، أم سيئة، أم عادية؟

  • (٢)

    هل تتوقع أن تكون الظروف التجارية جيدة، أم سيئة، أم عادية على مدار الأشهر الستة القادمة؟

  • (٣)

    هل تتوافر الوظائف حاليًّا بكثرة، أم هي غير متوافرةٍ بدرجةٍ كبيرة، أم يصعب الحصول عليها؟

  • (٤)

    هل تتوقع أن تكون الوظائف أكثر وفرة، أم غير متوافرةٍ بدرجةٍ كبيرة، أم يصعب الحصول عليها على مدار الأشهر الستة القادمة؟

  • (٥)

    هل تخطط لشراء سيارة جديدة/مستعملة، منزل جديد/مستعمل، جهاز منزلي كبير جديد/مستعمل (ملحوظة: كل هذه سلع استهلاكية معمرة، على عكس السلع الإنتاجية المعمرة) خلال الأشهر الستة القادمة؟

  • (٦)

    هل تخطط لقضاء إجازةٍ داخل الولايات المتحدة أو بالخارج خلال الأشهر الستة القادمة؟

بعبارةٍ أخرى، يُعَدُّ مؤشر ثقة المستهلك الذي يروَّج له كثيرًا أقرب إلى مؤشرٍ للتنبؤ بالتوقعات بالنسبة إلى التجارة والتوظيف والسلع المعمرة منه إلى التنبؤ بمبيعات التجزئة وإنفاق المستهلك؛ فهو لا يطرح أي أسئلةٍ عن أنماط الاستهلاك الحالية بخلاف السلع المعمرة، ولا يسأل عن أي شيءٍ عن الغذاء أو الملبس أو الترفيه، والمشتريات الأخرى القصيرة المدى؛ لأن هذه المصروفات نادرًا ما تتغير من شهرٍ لآخر.

لماذا لا يضم «كونفرانس بورد» أرباحَ الشركات كمؤشرٍ رئيسي؟

ينبغي أيضًا الإشارة إلى أن أرباح الشركات كانت واحدةً من أفضل وسائل التنبؤ بالركود. بل إن أرباح الشركات عادةً ما تكون المؤشرَ الأولَ على أي صعودٍ أو كسادٍ قادم. فهي تميل إلى الوصول إلى أَوْجِ ارتفاعها قبل عامٍ من بَدء أي ركودٍ بشكلٍ رسمي. ولكن من الغريب أن «مؤشر المؤشرات الاقتصادية الأساسية» الذي وضعه «كونفرانس بورد» لا يضم أرباح الشركات في قائمة مؤشراته العشرة! لماذا؟ لأن أرباح الشركات تعلن كلَّ ثلاثة أشهر، أما «مؤشر المؤشرات الاقتصادية الأساسية» فيصدر شهريًّا؛ ومن ثَمَّ فهم لا يستخدمون أرباح الشركات كمؤشر، على الرغم من أنه أفضل من معظم إحصائيات الدورة التجارية الأخرى! وهذا مجرد مثالٍ واحدٍ فقط للمشكلات المنهجية العديدة التي تواجه مؤشر «كونفرانس بورد للمؤشرات الاقتصادية الرئيسية».

والحقيقة هي أن التجارة والإنفاق الاستثماري يمثلان المؤشرات الرئيسية الحقيقية للاقتصاد وسوق الأسهم. فإذا أردت أن تعلم إلى أين تتجه سوق الأسهم، فعليك أن تنسى أمر إنفاق المستهلك وأرقام مبيعات التجزئة، وانظر إلى التصنيع والإنفاق الرأسمالي وأرباح الإنتاجية.

احذر قانون كينز

إن السبب وراء كثرة سماعنا عن المستهلك هو أننا لا نزال تحت تأثير الاقتصاد الكينزي؛ حيث يعلمنا «قانون كينز» الذي ينص على أن الطلب يخلق العرض … فقانون كينز هو النقيض المباشر لقانون ساي، الذي ينص على أن العرض يُوجِد الطلب. وفقًا لكينز، يُمثِّل إنفاق المستهلك القوة الدافعة للاقتصاد، والادخار أمر سيئ حين يكون الاقتصاد في حالةٍ من الانكماش القصير الأجل.

ولعل أحد الأسباب وراء أكذوبة «إنفاق المستهلك» هذه هو كيفية تقديرنا ﻟ «إجمالي الناتج المحلي». فيشير الاقتصاديون إلى أن تكاليف الاستهلاك الشخصي هي القطاع الأكبر من إجمالي الناتج المحلي؛ إذ تُمثِّل نحو ٧٠ بالمائة منه. وقد قادت هذه الإحصائية الصحافة إلى إطلاق تصريحاتٍ مثل هذا التصريح من أسوشيتد برس: «المحللون يراقبون إنفاق المستهلك عن كثب؛ لأنه يمثل نحو ثلثي إجمالي النشاط الاقتصادي.»

ولكن هل الاستهلاك هو الجزء الأكبر والأهم من الاقتصاد؟ في الواقع، هو ليس كذلك. وينبغي أن يعلم الصحفيون أن إجمالي الناتج المحلي ليس مقصودًا به أن يكون مقياسًا كاملًا للنشاط أو الإنفاق في الاقتصاد؛ فإجمالي الناتج المحلي لا يقيس سوى الإنتاج «النهائي» للسلع والخدمات، فيما يُغفل، عن عمد، عملية الإنتاج الوسيطة بِرُمَّتها، أو البضائع قيد التصنيع؛ أي كل مبيعات المنتجات في المراحل الأولى للإنتاج، مثل الصلب في إنتاج السيارات. لماذا؟ لأن إجمالي الناتج المحلي مَعْنِيٌّ به قياس السلع والخدمات التامة الصنع فقط؛ أي المنتجات القابلة للاستخدام في المنازل، والشركات، والحكومة. وإدراج الإنفاق في كل مرحلةٍ من مراحل الإنتاج من شأنه أن يضاعف الحساب مرتين وثلاثًا. على سبيل المثال، في صناعة الخبز، سوف يحسب كلٌّ من القمح والدقيق ضمن قيمة الخبز. غير أن إجمالي الناتج المحلي لا يعبأ إلا بالمنتجات النهائية القابلة للاستهلاك؛ أي الخبز الذي يستهلكه الناس في البيت.

إجمالي المصروفات المحلية: مقياس جديد لإجمالي النشاط الاقتصادي

يهتم الاقتصاديون أيضًا بعمليات الإنتاج الوسيطة؛ أي مراحل الإنتاج التي تؤدي إلى المنتج النهائي. تبدأ هذه العملية في أولى مراحل تطوير موارد إنتاج السلعة، مثل البحث والتطوير، ثم تقود إلى الإنتاج التصنيعي وشبه التصنيعي، ثم قنوات البيع بالجملة والتوزيع، وأخيرًا الوصول إلى المبيعات النهائية على مستوى التجزئة.

ولقياس كل المعاملات في الاقتصاد، لا بدَّ أن نقوم بجمع كل مبيعات السلع والخدمات في كل مرحلةٍ من مراحل الإنتاج، وليس فقط في المرحلة النهائية؛ فهناك ملايين المعاملات الوسيطة بمعنى الكلمة تحدث قبل بيع السلع والخدمات المنجزة للمستهلكين النهائيين. وقد قمت في كتابي «بنية الإنتاج» بتطوير إحصائيةٍ قوميةٍ جديدةٍ لقياس الإنفاق الإجمالي في الاقتصاد تُسمَّى «إجمالي المصروفات المحلية».2

على سبيل المثال، وَفق تقديري، فإن إجمالي المصروفات المحلية — أي إجمالي الإنفاق في الاقتصاد — لعام ٢٠٠٥ قد بلغ نحو ٢٧ تريليون دولار، مقارنةً بالناتج النهائي (إجمالي الناتج المحلي) الذي بلغ ١٢٫٥ تريليون دولارٍ لعام ٢٠٠٥. وكنسبةٍ مئويةٍ من إجمالي المصروفات المحلية، وصلت مصروفات المستهلك الشخصية إلى ٨٫٧٥ تريليونات دولار، أو ٣٢ بالمائة فقط من إجمالي الإنفاق في الاقتصاد، وليس ٧٠ بالمائة كما نُشر من قبل. على الجانب الآخر، وصل إجمالي المصروفات التجارية — أي حاصل جمع الاستثمار الخاص والإنفاق التجاري الوسيط معًا — إلى ١٤٫٦ تريليون دولار، أو نحو ٥٤ بالمائة من إجمالي المصروفات المحلية. وهكذا نرى أن الاستثمار التجاري أكبر بكثيرٍ من إنفاق المستهلك في الاقتصاد.

وزارة التجارة الأمريكية تُقدِّم إحصائية كلية جديدة

في السنوات الماضية، حدَّد الاقتصاديون قيمة الإنتاج الوسيط من خلال إحصائيات المدخلات-المخرجات التي يتم تجميعها كل خمس سنواتٍ من الإحصاء الرسمي للسكان وبيانات مصلحة الضرائب. غير أنه في السنوات الأخيرة، لمس «مكتب التحليل الاقتصادي التابع لوزارة التجارة الأمريكية» الحاجةَ إلى مقياسٍ سنويٍّ للإنفاق الإجمالي في الاقتصاد، وقدَّم إحصائية جديدة للدخل القومي تُسمَّى «إجمالي الإنتاج». تسعى الإحصائية إلى تحديد قيمة المنتج في جميع مراحل الإنتاج، وفي ذلك الخدمات. غير أنه بينما يُعَدُّ «إجمالي الإنتاج» خطوةً في الاتجاه الصحيح، فإنه ليس مقياسًا كاملًا للإنفاق الكلي في الاقتصاد؛ فهو يُغفِل بعض مصروفات الجملة والتجزئة. غير أن «إجمالي الإنتاج» يقيس نحو ضعف حجم «إجمالي الناتج المحلي».3
بإيجاز، إن تحفيز إنفاق المستهلك على المدى القصير سوف يشجع بلا شكٍّ بعض خطوط النشاط التجاري. فإذا انخرط الناس في فورة شراءٍ في متجر بقالةٍ محليٍّ أو مركزٍ تجاري، فسوف يشهد التجار ومُورِّدوهم ارتفاعًا في المبيعات والإنتاج. ولكن فورة إنفاق المستهلك لا يمكن أن تستمر حين تصبح فواتير بطاقة الائتمان مستحقة، والمزيد من الإنفاق من جانب المستهلكين لا يحتمل أن يساعد في إنشاء جسر، أو بناء مستشفًى، أو الدفع من أجل برنامج أبحاثٍ لعلاج السرطان، أو توفير الأموال من أجل اختراعٍ جديدٍ أو عمليةٍ إنتاجيةٍ جديدة. لن يؤديَ هذا الغرض إلا إلى وجود مستوًى أعلى من الادخار. وهكذا، فليس مستغربًا أن ترى في الدول التي تتبع السياسات الكينزية المؤيدة للإنفاق متاجرَ تجزئةٍ ومراكزَ تجاريةً فخمةً على طول الطرق المحطمة والبنية التحتية المتهدمة؛ إذ إن نسبة استهلاكها إلى استثماراتها غير متوازنةٍ على نحوٍ ممنهج. قبل وفاته، وجَّه خبير الإدارة بيتر دراكر انتقادًا حادًّا للولايات المتحدة بسبب «أزمة في الإنتاجية وتكوين رأس المال» و«انخفاض الاستثمار على نطاقٍ هائل.»4

إن الادخار، والاستثمار، وتكوين رأس المال هي المكونات الأساسية للنمو الاقتصادي. والدول التي تحظى بأعلى معدلاتٍ للنمو هي تلك التي تُشجِّع الادخار والاستثمار، وتستثمر في عمليات الإنتاج الجديدة، والتعليم، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، والآلات الموفرة للجهد البشري. ومثل هذا الاستثمار يُسفِر بدوره عن منتجاتٍ استهلاكيةٍ أفضل بأسعارٍ أقل. مثل هذه الدول لا تسعى إلى تعزيز الاستهلاك بشكلٍ مصطنعٍ على حساب الادخار. ربما يعمل تحفيز الاقتصاد من خلال الاستهلاك المفرط أو البرامج الحكومية المسرفة على توفير حافزٍ زائفٍ على المدى القصير، ولكنه لا يمكن أن يؤديَ إلى رخاءٍ حقيقيٍّ على المدى البعيد.

بالاستعانة بإحصائيتنا الجديدة؛ إجمالي المصروفات المحلية، نرى الآن أن خفض الضرائب على الشركات والاستثمارات سوف يكون له تأثير إيجابي إلى حدٍّ كبير، أكثر بكثيرٍ مما كان يُعتقد في السابق؛ فحين يُمثِّل الاستثمار التجاري أكثر من ٥٠ بالمائة من الاقتصاد، وليس ١٥ بالمائة، يمكن لخفض ضرائب الاستثمار على الفائدة، وحصص الأرباح، وأرباح رأس المال أن يكون له أثر تضاعُفي على اقتصاد الدولة على نحوٍ واضح.

بإيجاز، استثمار رأس المال، وليس إنفاق المستهلك، هو ما يحرِّك أيَّ اقتصاد. وكما أعلن لودفيج فون ميزس قبل سنوات: «المراكمة التدريجية لرأس المال تؤدي إلى تحسنٍ اقتصاديٍّ دائم.»5

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤