الفصل السادس والثلاثون

الاقتصادي الأكثر تأثيرًا اليوم

ولكن بعد نصف قرن، كان كينز هو من أُطيح به، و… المؤيد الشرس للأسواق الحرة، هو البارز على القمة.

دانيال يرجين وجوزيف ستانيسلو1

املأ الفراغ! من هو الاقتصادي المجهول الذي ذُكر اسمه بالأعلى؟ ذكر معظم زملائي اسم ميلتون فريدمان، ولكن في الكتاب الأكثر بيعًا لدانيال يرجين وجوزيف ستانيسلو وسلسلة شبكة بي بي إس، حل عالم الاقتصاد بجامعة شيكاجو ثانيًا بعد … إف إيه هايك، الاقتصادي النمساوي!

لماذا هايك؟ لأن هايك، وفقًا ليرجين وستانيسلو، قد فعل أكثر مما فعله أي اقتصاديٍّ آخر لدحض الاشتراكية في أشكالها المتعددة — الماركسية، والشيوعية، والتخطيط الصناعي — وللترويج للأسواق الحرة كنظامٍ بديل. ويُعَدُّ تأثير هايك تفسيرًا تامًّا لملاحظة جون مينارد كينز بأن السياسيين، بوصفهم «مجانين في كرسي السلطة» هم «عبيد لاقتصاديٍّ راحلٍ ما.»2
في الواقع، كان تأثير هايك واسع الانتشار؛ فكما يشير يرجين وستانيسلو، فقد أثَّر كتاب «الطريق إلى العبودية» تأثيرًا كبيرًا على مارجريت تاتشر في إصلاح بريطانيا العظمى وأثار شكوكًا حول التخطيط الصناعي. وأدَّت انتقاداته للكينزية (في كتاب «ترويض اقتصاد مشاكس») للتشكيك في إنفاق العجز وقدرة الدولة على ضبط الاقتصاد. وكان لنظريته عن المعرفة والمنافسة اللامركزية كعملية اكتشافٍ تأثيرٌ على النظرية الاقتصادية الجزئية وعلم الاقتصاد التجريبي. وكان لعمله عن دورة التجارة ورفع التأميم عن العملات تأثير على السياسة النقدية. وساهمت مشاركته في تأسيس جمعية «مون بيلرين» في نشر عقيدة الأسواق الحرة، وحقوق الملكية، والفكر التحرري عبر الكرة الأرضية. وقد تُرجمت كتبه إلى لغاتٍ عدة، منها اللغة الصينية.3

ويُعَدُّ الكشف الذي جاء به يرجين وستانيسلو في كتاب «القوى الحاكمة: المعركة بين الحكومة والسوق التي تعيد صنع العالم» بمنزلة انتصارٍ ضخمٍ لعلم الاقتصاد القائم على السوق. ويُعَدُّ هذا أمرًا لافتًا للغاية، بالنظر إلى خلفية يرجين باعتباره صحفيًّا مؤيدًا للحكومة ومؤلِّف كتاب «الجائزة»، وهو كتاب حاصل على جائزة بوليتزر عن الشركات العالمية الكبرى العاملة في مجال النفط.

أبطال نمساويون آخرون: دراكر وشومبيتر

في مطلع تسعينيات القرن العشرين، ذهبتُ في كتاب «علم الاقتصاد في قفص المحاكمة» إلى أن «علم الاقتصاد القادم» سوف يكون هو النموذجَ النمساوي، بتركيزه على ريادة الأعمال، والاقتصاد الجزئي، وانعدام التوازن، وتخفيف اللوائح، والمدخرات، والاقتصاد الحر، والمال المستقر. ولكن أيَّ اقتصاديٍّ نختار؟ لعل أشهر النمساويين في دوائر التجارة والأعمال هو الراحل بيتر دراكر، المعروف بتركيزه على ريادة الأعمال، والتجديد، ورأس المال الاستثماري، وأيضًا بانتقاداته للحكومة الضخمة، والمبالغة في فرض الضرائب، والاقتصاد الكينزي. يرى دراكر أن الشركة الضخمة هي المؤسسة الاجتماعية المثالية، وأنها تمثل «الطريقة الحديثة المجانية غير الثورية»، وتتفوق على الحكومة الضخمة باعتبارها مؤسسةً اجتماعيةً مثاليةً للمواطنين. ويتسم أسلوب دراكر في الإدارة بأنه نمساوي صرف؛ فالزمن، والتوقعات، والمعلومات الجديدة، والتغيير المحتمل في عمليات الإنتاج — أي جميع نقاط التركيز النمساوية — دائمًا ما يتم التأكيد عليها في كتاباته واستشاراته. فلا بد أن يكون المدير رائد أعمال، وليس مجرد إداري؛ فالتجديد ضروري.

أما الاقتصادي الأول في الأوساط المالية، فهو جوزيف شومبيتر الذي وُلد في النمسا وقام بالتدريس في جامعة هارفارد حتى وفاته عام ١٩٥٠. وكان يؤكد على ريادة الأعمال، وآليات الأسواق التنافسية، ودورة «التدمير الخلاق». بل إن بيتر دراكر تنبأ في مقالٍ بعنوان: «الرسل الجدد: شومبيتر أم كينز؟» بأن «شومبيتر هو مَن سيشكل بقية هذا القرن، إن لم يكن للأعوام الثلاثين أو الخمسين القادمة.»4

حكاية مدينتين

يشير يرجين وستانيسلو، وهما محقَّان، إلى مدرستين لاقتصاد السوق الحرة مسئولتين عن التحوُّل من الاقتصاد الحكومي إلى الاقتصاد الخاص كحلٍّ للمشكلات الاقتصادية العالمية. «وقد كان الانتصار النهائي لوجهة النظر هذه حقًّا حكاية مدينتين، هما فيينا وشيكاجو» حسبما يعلن المؤلفان.5

في تقدير العديد من الاقتصاديين، كان لميلتون فريدمان ومدرسة شيكاجو تأثير أكبر من هايك والنمساويين. ويعترف يرجين بفريدمان بوصفه «أشهر اقتصاديٍّ في العالم»، مشيرًا إلى أن «مدرسة شيكاجو تبدو بارزةً للغاية» في هيمنتها وتأثيرها على السياسة النقدية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي والسياسة الاقتصادية (في عهد ريجان). وبالطبع تتضمن أفضلُ عشرة كتبٍ دراسيةٍ في علم الاقتصاد أقسامًا كبيرةً عن فريدمان ونظرياته (الاقتصاد النقدي، والمعدل الطبيعي للبطالة، وإصلاح منظومة الرعاية الاجتماعية، والخصخصة). لقد شن فريدمان ومدرسة شيكاجو ثورة مضادة فعالة ضد الكينزية.

المنحنى الكبير

ولكن هايك كان المنافس الأول والرئيسي لكينز في ثلاثينيات القرن العشرين. كان هايك يُدرِّس في مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية، وكان مدافعًا عن النموذج الكلاسيكي القائم على الادخار، والموازنات المتوازنة، وقاعدة الذهب، والأسواق الحرة، في حين كان كينز (بجامعة كامبريدج) يؤيد «علم الاقتصاد الجديد» القائم على الاستهلاك، وإنفاق العجز، والاقتراض الميسَّر، والحكومة الضخمة. وفاز كينز بالمعركة الأولى التي نافس فيها على نَيل تأييد الاقتصاديين، واجتاحت فكرته الخاصة ﺑ «الاقتصاد المختلط» المجالَ. وفقد هايك حظوته ومضى يكتب عن القانون والعلوم السياسية. وانتقلت مهمة الإطاحة بكينز إلى فريدمان؛ وقد أنجزها بحرفيةٍ وإتقان.

بعد فوزه بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية في عام ١٩٧٤، كُتب لهايك وأتباع المدرسة النمساوية ميلاد جديد. وعلى نحوٍ مماثل، خرج فريدمان ومدرسة شيكاجو من عالم المجهول إلى الظهور والوجاهة. منذ خمسين عامًا، كان الإجماع الكينزي يُعبِّر عن الاتجاه القائل بأن «الدولة حكيمة، والسوق غبية». أما اليوم، فصار الإجماع المتنامي يعبر عن اتجاهٍ مضادٍّ تمامًا: «السوق حكيمة، والدولة غبية.»

ولكن قد يكون من السابق لأوانه الاحتفال بانتصار رأسمالية السوق الحرة. لقد فازت بمعارك، ولكن الحرب لا تنتهي أبدًا. وكما يقول ميلتون فريدمان: «الحرية زهرة نادرة ورقيقة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤