الخاتمة: «لا تسألَنَّ عن السبب!»

عندما أستيقظ صباحًا، أقول دعائي اليومي: «امنحني اليومَ وَهْمِي، امنحني وهمي اليومي»؛ لأن الأوهام أصبحت ضرورة لا غنى عنها للعيش في عالم يخلو تمامًا من أي ضمير يوتوبي وحس يوتوبي.

إرنست بلوخ، كتاب «شيءٌ ما مفقود»1

موضوع هذا الكتاب هو الوضوح؛ فهو عما يمكن وما لا يمكن إدراكه وفهمه. أثناء الحرب الباردة، كان المستقبل مليئًا بالاحتمالات، سواء كان هذا هو الوضع حقيقةً أم لا، كان المستقبل يبدو غير مؤكد، مع احتمالية التحرك ليس فقط في اتجاهين (الشيوعية والرأسمالية)، بل في عدة اتجاهات: استمرار الجمود الذي طال أمده، وتسوية الاختلافات عن طريق حل وسط هو الديمقراطية الاجتماعية (يتحول بمقتضاه العالم إلى دول مثل السويد)، وصعود دول أخرى ليتحول العالم ذو القطبين إلى آخر ذي ثلاثة أقطاب، أو أقطاب متعددة، وما إلى ذلك. في بعض الأوقات، عدم اليقين هذا كان خطيرًا، ليس بسبب التهديد الحقيقي بالدمار المتبادل المؤكد فحسب؛ بل لأن المعروف عن الحاضر كان مشكوكًا به تمامًا مثل المستقبل: إن الحاضر الذي كنا نعيشه سوف يبدو مختلفًا من منظورِ ما سيحدث مستقبلًا.

بعد انتهاء الحرب الباردة، كانت العولمة هي الخطاب الذي تم تقديمه ليصبح الحاضر (الزمان) والكوكب (المكان) مفهومَين. إن كلمة «مفهومين» لا تعني واضحَين أو بسيطَين؛ فالعولمة كانت بالتأكيد مُرْبِكة بما فيه الكفاية كَرِواية وكواقع على حدٍّ سواء. إن حل الصراعات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي طال أمدها، والتي تبعت الحرب العالمية الثانية، تم في نفس وقت ظهور تقنيات جديدة ووجود حماس شديد للتكنولوجيا الحديثة، وظهور مخاوف واضحة فيما يتعلق بالحدود البيئية، والمخاوف الديموغرافية (انخفاض التعداد السكاني في أغلب الدول الغربية يقابله انفجار سكانيٌّ هائل في سائر دول العالم)، وظهور ثقافة جماهيرية عالمية وازدهارها؛ مجتمع قوي واسع النطاق من المشاهدين، تَضاعَفَ مرة أخرى في القوة والثقل الاجتماعي منذ أن وصفه جاي ديبورد لأول مرة في ستينيات القرن العشرين.2 إن اتجاهات القوة ومواضع التأثير الممتدة عبر النطاق الذي ما زلنا نرسم من خلاله خريطة وجودنا الاجتماعي، وهي الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع، هي ما تخيلت العولمة ووضعت تصورًا لها. مع ذلك، كانت العولمة، بالرغم من تعقيدها، مفهومة؛ فهي عملية (أو مجموعة من العمليات)، أو حقبة من الزمان، أو حتى رواية أيديولوجية، يمكن فهمها وتحديد تفاصيلها بدقة. وكانت هناك مؤسسات أكاديمية ضخمة مخصصة لخدمة هذا الغرض فقط، مدعومة بأدوات تقنية حديثة سمحت بتوصيل أسرع للنتائج وأساليب جديدة للتحليل.

كانت العولمة اسمًا للحاضر، وكانت مشروعًا أيديولوجيًّا — كما أصررنا على وصفها — وظيفته السيطرة على الحاضر. لقد كتبت العولمة أخيرًا نهاية مشروع التطور الاجتماعي الإنساني، وأعلنت وصول مختلف دول العالم إلى اتفاق حول المبادئ الحاكمة للاقتصاد السياسي. كانت هناك بعض الأطراف الساخطة وغير الراضية (لا يوجد نظام كامل)، ولكن كان هناك أيضًا اتفاق واسع على سبل مواصلة النجاح والتقدم الاجتماعيين (أي الاقتصاديين)، في الوقت الحاضر وإلى الأبد.

خلال عملية تعريف الحاضر والسيطرة عليه، كان للعولمة تأثير ربما لم يكن لأحد أن يتصوره عند استدعاء «النظام العالمي الجديد» إلى حيز الوجود. أصبحت العولمة حاضرًا أبديًّا؛ مشروعًا وحقبة بلا نهاية. يمكن تلخيص أزمة اليسار التي يُشار إليها عادة في عدم القدرة على إبداء أدنى مقاومة ضد إعادة هيكلة الزمن هذه؛ أي إعادة تعريف الزمن التي تترك المستقبل من أجل الحاضر، وتحوِّل ما هو واقعي إلى ما هو أنطولوجي. وتؤكد أزمة عام ٢٠٠٨ الاقتصادية هذا التغير الزمني. في حين كان من الممكن أن نتوقع ردة فعل عالمية على مستوى الثورات الأوروبية عام ١٨٤٨، أو الصراعات على مستوى العالم بين المحتجِّين ورجال الشرطة عام ١٩٦٨، اليوم أصبح لدينا غضب دون أي تحرك كبير. لَم تُستقبل القرارات التي أُعلن عنها مؤخرًا بتبرع مليارديرات الولايات المتحدة بنصف ثرواتهم للأعمال الخيرية في الصحافة بالتحليلات الملائمة لها؛ فارتفعت أصوات الانتقادات؛ على سبيل المثال، شَنَّ سلافوي جيجك حملة انتقادات واسعة على شخصيات مثل رجل الأعمال جورج سوروس الذي ينهب الناس نهارًا فقط ليعيد إليهم نصف ما نهب في المساء،3 ولكن مع الثناء على ما يفعل. لقد أبلى أبطال العصر الرقمي بلاءً حسنًا، مرة أخرى!4 الآن، أصبح مفهومًا بوضوح أن النظام الرأسمالي غير عادل، ولكنْ بدلًا من أن نأمل في وضع نهاية له، أصبح هناك تكيف خانع معه، مع أمل (نظرًا لعدم وجود بدائل) بأنه من الممكن أن نجعله يعمل لصالح معظم الناس؛ أي إننا نُقِرُّ بأنه لا يمكن أن يعمل لصالح الجميع.
ما الذي يجعل هذا الوضع واضحًا ومفهومًا؟ يكتب بول كروجمان في مدونته «ضمير ليبرالي» قائلًا: «لا يمكن أن ينسجم معًا نظامُ هجرةٍ مفتوحٌ وشبكةُ أمانٍ اجتماعيٍّ قويةٌ؛ إذا كنت ستضمن رعاية صحية ودخلًا لائقًا للجميع، فلا يمكنك أن تقدم هذا العرض على مستوى العالم.»5 يمكن لشبكة أمان اجتماعي قوية أن تساعد على التخفيف من حدة المشكلات الناتجة عن أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية. وعلى الرغم من ذلك، يتم الإعلان على الفور عن أن عددًا قليلًا محظوظًا فقط هو من يمكنه أن يتمتع بهذا الأمان؛ أي إنه مستحيل على النطاق العالمي. وإليكم حالة نموذجية لحدود الليبرالية: كما يقول نيكولاس براون، الحاجة إلى «الإيمان بأمرين متناقضين في آنٍ واحد: ضرورة حماية غير المحظوظين، وضرورة عدم حمايتهم.»6 وقد أعرب كروجمان عن عدم سعادته إزاء هذا الوضع؛ تحرك ضميره الليبرالي مرة أخرى، وسمح له بحل مسألة تناقضات النظام عن طريق اللجوء إلى استبداد القومية ونزعة أخلاقية تتسم بالافتقار إلى الأخلاق. إن هذا المزيج من النزعة الأخلاقية والقومية، الذي يسمح بالتنصل من مشكلات وحدود الرأسمالية العالمية، هو المنطق الذي رأيناه فاعلًا في أعمال الكُتاب الآخرين الذين عرضنا مِن قَبل لأفكارهم عن العولمة: إنها بصيرة ناتجة عن العمى، بالرغم من الدفاع عنها وكأن العالم نُظر إليه من خلال معالجة بالأشعة السينية للقوى الخفية التي اتضحت فقط أمام عيون كروجمان.

كانت الكتب موضع البحث في الفصل الثاني دائمًا موجهةً لجمهور الولايات المتحدة، حتى وهي تتحدث عن العالم كله. هذه ليست مجرد إشارة شكلية أو بلاغية؛ أي ليست شيئًا مطلوبًا لأغراض خاصة بالحصة السوقية وضمان عمل تقييمات لها في المؤسسات الإخبارية المناسبة الخاصة بتيار الوسط الليبرالي. بل إنها بالأحرى تُعَد اعترافًا بالفجوة بين الولايات المتحدة وسائر بلاد العالم؛ إدراكًا لعدم حقيقة الخطاب السياسي القائل بأن العولمة مفيدة للجميع، والحاجة إلى زيادة الفرص والموارد المحدودة لكل أمة. من هذا المنطلق، يصبح عالمُ ما بعد أمريكا بالنسبة إلى زكريا أمريكيًّا تمامًا، وتظهر رغبة فلوريدا في وجود يوتوبيا رأسمالية تقوم على الإبداع في إطار المنافسة بين الأمم (وبالتأكيد بين مدنها)، ويجوب فريدمان العالم ليحصل على الحكايات التي قد تساعده على فهم أسرار العالم الجديد الذي تواجهه أمريكا حتى تستطيع أمريكا أن تستفيد منها. حتى دارسةُ العولمةِ الكنديةُ كلاين على استعداد لقبول عالم تسوده المنافسة القومية، وتظل الرأسمالية قائمة فيه، حتى لو كان ذلك في شكل أسواق مختلطة. لا تحل وجهة النظر تلك مشكلة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، ولكنها تكرر منطق كروجمان المتناقض، حتى لو بدت أفكارها السياسية يسارية.

إن التقنيةَ والخبرةَ والكفاءةَ — وَهْمَ التحكم المعرفي الذي نراه واضحًا في فيلم «مايكل كلايتون» — هي جزء مكوِّن من ممارسة محاولة فك تعقيدات العالم لخدمة الأهداف القومية. وعلى الرغم من ذلك، أصبح ضروريًّا للحفاظ على تماسك هذا الوهم الجمعُ بين هذه الخبرة التقنية مع نزعة أخلاقية تحكم الاستخدام السليم للمعرفة الخاصة بالعالم وإنهاء التناقضات التي قد تنشأ عند تطبيق النظرة التقنية للمضي قدمًا على حساب الآخرين. إن التراجع عن الروايات الهيكلية أو المنهجية لصالح استدعاء منطق الرجل الشرير على نفس مقدار أهمية هذا الإصرار على الأمة. يأخذ هذا في أحد أشكاله المتطرفة شكل نظريات المؤامرة العالمية، بدءًا من أن هذا الكوكب تديره مجموعة بيلدربرج أو عائلة روتشيلد، إلى الاعتقاد بأنه يتم تبادل الخطط بين النخبة في دافوس. إلا أن النهج الأخلاقي لا يحتاج إلى مثل هذه الأشكال المتطرفة؛ فقد أصبح المعيار الأخلاقي في الحكم على الشركات والمنتجات والمُلاك والساسة والرياضيين، وما إلى ذلك، منتشرًا على نطاق واسع. وهناك مغزًى لكون واحدة من أكبر الشركات على الكوكب، الشركة التي تجسد توجهات اللحظة العالمية أكثر من غيرها، ترفع شعارًا يدعو إلى الالتزام بالأخلاق. وكما هو الحال مع ضمير كروجمان، لا يمنع شعارُ جوجل «لا تفعل الشر» الشركةَ من اتخاذ قرارات مشبوهة فيما يتعلق بالخصوصية أو السيطرة والإدارة غير الديمقراطية للمعلومات، ما دام يساعدها على الاستمرار في أن تصور نفسها أنها ليست شركة تجارية في الواقع (فدوافعها مختلفة!) حتى مع نمو قيمتها السوقية (التي وصلت إلى ١٨٥ مليار دولار في يناير عام ٢٠١٠).7 في اللحظة الراهنة، لم تَعُد السياسة تتعلق بالسياسات والتغييرات في الأنظمة بقدر تعلقها بالسلوكيات والمعتقدات الفردية الخاصة بمن هم في موقع المسئولية. وفي اللحظة التي لا يسع المرء فيها إلا أن يهتم بالأنظمة العالمية المترابطة؛ من الأنظمة الاقتصادية إلى البيئية؛ تعود نظرية الرجل العظيم التاريخية، مع التركيز على النزعة الأخلاقية للزعيم. لم ينشأ الشعور بخيبة الأمل خلال السنوات الأولى من إدارة أوباما من النتائج السياسية بقدرِ ما نشأت من صدمة أن العالم لم يتغير نتيجة خلافة زعيم «جيد» لزعيم «سيئ».
موضوع هذا الكتاب هو الوضوح. وما خلصنا إليه هو أن ما يعتبر مفهومًا وواضحًا اليوم، لا ينتج تبصرًا في حاضرنا ومستقبلنا، بل يعمل بنشاط من أجل ترسيخ إحساسنا بالحدود التي نواجهها والاحتمالات المتاحة أمامنا. ولا يخفى على أحد أن الرأسمالية هي نظام تشغيل هذا الكوكب. لكن هذه المعرفة بالرأسمالية ليست مثل فهمها وفهم تأثيرها على عاداتنا، وفهمنا، وتوقعاتنا، ووجهات نظرنا للماضي والحاضر، وما قد يأتي بعد ذلك. إن ما نطلق عليه الوضوح هنا — وهي كلمة تبدو تعسفية، وتفتقر إلى الجاذبية التي يتمتع بها العديد من المفاهيم أو الأرقام — يُطلَق عليه في سياقات أخرى اليوتوبيا. لقد صارت اليوتوبيا تعني نوعًا معينًا من التفكير الخيالي أو التوَّاق إلى المستحيلات. إلا أن هذا يُعد سوء فهم لأهمية اليوتوبيا لكلٍّ من السياسة وتوليد المفاهيم. إذا كانت اليوتوبيا ترتبط بالمستحيل، فهي تفعل ذلك بأقصى رغبة في تغيير نطاق الممكن؛ لذلك، فاليوتوبيا تتعلق في نهاية المطاف بالإمكانية، وبنحو خاص، تتعلق بإمكانية أن تصبح الأشياء على غير ما هي عليه؛ على سبيل المثال، أن نستطيع أن نصنع عالمًا يستطيع الجميعُ فيه الحصولَ على كميات كافية من الغذاء، أو المياه النظيفة، أو حتى مجرد فرصة العمل.8 إنها الرغبة في هذه الإمكانية، حقيقية وغير منقوصة، التي نشعر أنها مفقودة. ويدرك الطلاب الذي أجرينا معهم مقابلاتٍ غيابَ هذه الإمكانية المستقبلية من الحاضر، إلا أنهم غير راغبين أو غير قادرين على معالجة هذا الأمر. ماذا عن الليبراليين؟ إنهم يهدرون طاقتهم على وضع استراتيجية للهروب تقع مباشرة في إطار علاقات قائمة، ثم يعبِّرون عن رضائهم، بل ودهشتهم، عندما يجدون ما كانوا يعرفون دومًا أنه موجود. وكما يذكِّرنا نيتشه: «إذا أخفى أحدٌ شيئًا وراء شجيرة، ثم بحث عنه ووجده هناك، فإن هذا البحث والوجود ليسا جديرين بالثناء.»9
هناك شيءٌ ما مفقود عندما نجد دائمًا وفي كل مكان نفس الأفكار حول كيفية المضي قدمًا، بدلًا من إمكانية الاختلاف الجذري. بالطبع، هناك شيءٌ ما مفقود منذ فترة طويلة، حتى إذا قدَّمَت العولمة سياقًا مختلفًا (ومن ثَمَّ، تحديات متمايزة للنقد) تسير فيه الأمور على هذا النحو. تأتي هذه العبارة من مناقشة حول الإمكانية السياسية أُجريت منذ ما يقرب من نصف قرن. «شيءٌ ما مفقود» (١٩٦٤)10 هو عنوان المناقشة التي تَمَّتْ بين إرنست بلوخ وَتيودور أدورنو حول اليوتوبيا ومصيرها. يرى المفكران أن فكرة اليوتوبيا أصبحت شائعة في العالم المعاصر من خلال ظهور جميع أنواع الاختراعات التكنولوجية ذات الطابع اليوتوبي (التليفزيون، والسفر جوًّا) وأصبحت واسعة الانتشار بعد أن صارت مرتبطة حتى بعملية شراء أي شيء (الخيال الذي قد يتحول إلى حقيقة، الأمنية التي يمكن أن تتحقق، على الرغم من أن أدورنو قد أشار إلى أن ذلك يؤدي إلى أن «يرى المرء نفسه مخدوعًا دائمًا تقريبًا»).11 يركز جوهر مناقشة بلوخ وَأدورنو على أهمية النظر لليوتوبيا على نحو «سلبي»؛ ليس بوصفها هذا أو ذاك النوع من المجتمع، كما تشكله شخصيات مثل توماس مور أو توماسو كامبانيلا، ولكن بوصفها «القدرة على تخيل المشهد الكلي باعتباره شيئًا يمكن أن يكون مختلفًا تمامًا.»12 إن التعامل مع اليوتوبيا سلبيًّا يكون بمنزلة وقاية من «اليوتوبيا الرخيصة، اليوتوبيا الزائفة، اليوتوبيا التي يمكن شراؤها.»13 وبوصف اليوتوبيا نفيًا لما عليه الأمور في الواقع، فإنها بمنزلة نقدٍ للحاضر، وإشارةٍ إلى ما يجب أن يكون عليه. محتوى اليوتوبيات أقل أهمية من التعبير عن الرغبة في أن يكون الحاضر مختلفًا. عندما يقال إن أحد الأهداف أو الغايات اليوتوبية «لا يمكن أن يتحقق»، يكون ما يقال حقًّا هو أننا «لا نريد له أن يتحقق.»14 يشير بلوخ إلى أن تلك النزعة اليوتوبية قد ظهرت في عبارة «شيءٌ ما مفقود» — «واحدة من أكثر العبارات التي كتبها بريخت عمقًا على الإطلاق»15 — التي أخذها بلوخ من أوبرا «صعود وسقوط مدينة مهاجوني» لِبرتولت بريخت وَكورت فايل التي ظهرت عام ١٩٣٠. إن التضاؤل أو الغياب التام لهذه النزعة بحلول ستينيات القرن العشرين ليس من قبيل المصادفة. يشير بلوخ إلى أن «هناك سعيًا واضحًا جدًّا لمنع العالم من أن يتحول إلى ما هو ممكن.»16
ويستحق الأمر أن نعود بهذه العبارة إلى أصولها. في حين أن «صعود وسقوط مدينة مهاجوني» أوبرا تنتقد الأوبرا البرجوازية من حيث الشكل والمضمون، وتُعَد رمزية وحشية للحياة في ظل الرأسمالية، فيُنظر لنصها الذي كتبه بريخت بوصفه نصًّا تعليميًّا وفجًّا على نحو متعمَّد. وقد أظهر هذا النص، الذي تقع أحداثه في الغرب الأمريكي المتوحش — تلك المساحة من الرأسمالية غير المقيدة التي يحكم فيها المال وتقلُّ القوانين وتتباعد — ما يبدو عليه العالم تحت القشرة الخارجية للثقافة البرجوازية الأوروبية. يصل جيمي وطاقمه من الحطَّابين إلى مهاجوني وهُم على استعداد لإنفاق النقود التي جمعوها بعد سبع سنوات من العمل في البرية؛ فبعد عملهم الشاق لفترة طويلة، توقعوا أن يستخدموا هذه الأموال في إشباع كل رغباتهم؛ السعادة وحرية الاستهلاك التي يتخيل المرء أنها مكافأة المشاركة في الإنتاج. لكن الأمور تسوء على الفور. يقرر جيمي، الذي ملَّ من الويسكي والجين الرخيص، ومن صيد الأسماك والتدخين، وتَعِبَ من القواعد التي بدأ لوكادجا بيجبيك يضعها في تلك البلدة التي كانت مهجورة؛ أن يغادر مهاجوني، ويفرَّ إلى الشاطئ ليلحق بقارب ويخرج من البلدة. يحاول أصدقاؤه أن يُثْنوه عن الرحيل، واصفين له كل ما يزال في وسعه القيام به في المدينة: النوم، والسباحة، وإمتاع نفسه بطرق لا تُعد ولا تحصى. وأمام كل توسلاتهم، ظل يكرر: «شيءٌ ما مفقود!»17 لقد كان جيمي يعاني يأسًا وجوديًّا: «ولماذا لا يوجد شيء مفهوم على الإطلاق/أخبرني أنت، من فضلك، لماذا لا يوجد شيء مفهوم على الإطلاق … أخبرني! لماذا خُلق الإنسان؟»18
ويؤكد ما يلي من أحداثٍ صحةَ ما يراه الكثيرون من أن الأوبرا نقدٌ حادٌّ لمظالم الرأسمالية؛ فبعد سلسلة من المصائب، التي بدأت بالإعصار الذي كاد يصيب المدينة وسمح لِجيمي بسحب السلطة من بيجبيك، انتهت الأوبرا بمثول جيمي أمام المحكمة لمسئوليته عن مشكلات المدينة. حُكم على جيمي بالإعدام، ليس بسبب جرائمه المتعلقة بالشراهة، أو السُّكْر، أو الشجار، أو الدعارة؛ ولكن لعدم امتلاكه المال لدفع ديونه (جولتين من الويسكي وقضيب سكك حديدية مكسور). على أحد المستويات، كان الدرس صريحًا. كما كتب أدورنو في استعراضه للأوبرا، «انكشفت فوضوية النظام الحالي، بقوانينه وحقوقه وما إلى ذلك؛ نحن أنفسنا نعيش في مهاجوني؛ حيث كل شيء مسموح إلا شيء واحد: عدم امتلاك المال.»19
لكن الأوبرا أكثر تعقيدًا من ذلك. فلو كانت مجرد نقد للرأسمالية وعدم قدرتها على إنتاج السعادة البشرية، فإنها ستفشل في استكشاف المغزى الكامل لمشاعر جيمي بأن هناك شيئًا ما مفقودًا. أولًا، هذه الأوبرا استكشاف لحدود اليوتوبيا السيئة؛ بمعنى، اليوتوبيا التي تتخيل أنها يمكن أن تتحقق في صورة مجموعة من القواعد والإجراءات، أو حتى في الحرية المفترضة التي تأتي عندما يتم تعليق العمل بهذه القواعد والإجراءات. إن استجابة جيمي لشعوره بأن هناك شيئًا ما مفقودًا (بعد التهديد بأكل قبعته؛ «جيمي! أكل القبعات ليس هو الشيء الذي خُلق الإنسان من أجله»)20 كانت، وسط اضطراب الذعر من الإعصار، هي السيطرةَ على مهاجوني، والقضاءَ على قرارات بيجبيك، والمحظوراتِ التي أقرَّها، وإعادةَ تقديمه للفوضوية التي كانت سائدة من قبل. وقد سمحت الأزمة للمدينة بالتحول من الركود إلى الازدهار، لكنها لم تستطع أن تنهي حالة الفقد التي يعانيها جيمي. بدلًا من ذلك، كانت النتيجة هي النقيض المأساوي للحرية الخالصة التي كان يأمل فيها. وعلى الرغم من أنه قد يبدو أن نسخة جيمي من مهاجوني قد ألغت حدود نسخة بيجبيك، فإن النظام الأكبر الذي تكونت داخله النسختان ظل باقيًا في مكانه. إنها نقطة لم يستطع بريخت أن يقاوم إبرازها في خاتمة الأوبرا، في العبارات المكتوبة على لافتات المتظاهرين:
«المجموعة الأولى». بيجبيك، فاتي ماسك الدفاتر، ترينتي موزيز وأنصارهم، تقول العبارات المكتوبة على لافتات المجموعة الأولى الآتي:
«من أجل التضخم»
«من أجل صراع الجميع بعضهم مع بعض»
«من أجل الفوضى في مدننا»
«من أجل إطالة أمد العصر الذهبي»
«المجموعة الأولى»:

«من أجل مهاجوني الرائعة هذه

التي تستطيع أن تمتلك كل شيء فيها، إن كنت تمتلك المال.»

«سيكون حينئذٍ كل شيء متاحًا لك

لأن كل شيء للبيع

وليس هناك ما لا يمكن شراؤه.»

«وتقول العبارات المكتوبة على لافتات المجموعة الثانية»:
«من أجل التملك»
«من أجل استغلال الآخرين»
«من أجل التقسيم العادل للسلع الروحية»
«من أجل التقسيم غير العادل للسلع الدنيوية»
«من أجل الحب»
«من أجل شراء الحب وبيعه»
«من أجل الفوضى الطبيعية للأشياء»
«من أجل إطالة أمد العصر الذهبي»21
ليس من المفاجئ أن يتصور جيمي أنه سيجد اليوتوبيا في الرفض البسيط والمباشر للحظر وإطلاق العنان للرغبات الفردية، تلك الرغبات التي كانت بالضرورة نتاجًا لتلك الحدود ذاتها؛ ومن ثَمَّ لا تزال مرتبطة بها. وكما تذكِّرنا ليديا جور: «عكست أوبرا «مهاجوني» عالمًا مغلقًا لا توجد به «مساحة غير رأسمالية».»22 على الرغم من كل عبارات الظلم والاستغلال والفوضى التي كتبت على لافتات المحتجين، فإن كلًّا منها كان ينتهي بأمل: «من أجل إطالة أمد العصر الذهبي.» ما تم تقديمه في تلك الأوبرا هو «العالم المغلق للوعي البرجوازي الذي يَعتبر الواقع الاجتماعي البرجوازي أمرًا غير قابل للتغيير.»23 الشيء المفقود ليس ببساطة عالمًا خارجيًّا يجعل في الإمكان رؤية قوانين السعادة البشرية تشكِّل الحياة في مهاجوني باعتبارها منتجة اجتماعيًّا وليست طبيعية بأي حال، ولكنه نوع من التبدل أو التغير الذي قد يفتح المجال أمام إمكانية رؤية أن العصر الذهبي هو أي شيء غير ذلك. قدمت الأوبرا نقدًا مباشرًا للرأسمالية، لكنها فعلت ذلك بأسلوب من شأنه أن يلفت انتباهنا إلى الحواجز السياسية أو المفاهيمية التي يجب التعامل معها إذا ما كان المرء سيقوم بما هو أكثر من تأكيدها حتى عبر إنكارها، كما فعل جيمي للأسف.

ولكن كيف نفعل ذلك من دون أن نحاول الوصول إلى العالم الخارجي غير الموجود في عالم مهاجوني أو استدعاءه؟ هذه هي مشكلتنا أكثر مما كانت مشكلة بريخت؛ بالنسبة إليه لم يكن أمامه الدرس المباشر من الثورة السوفيتية فقط، ولكن أيضًا جميع أنواع الاضطراب السياسي داخل ألمانيا، وحتى داخل الولايات المتحدة، التي سبقت وتَلَتْ ذلك الفشل الأول للنظام العظيم المتمثل في الكساد الكبير لعام ١٩٢٩. وفي أعقاب انهيارنا، كانت لدينا مجموعة قليلة من الأنظمة المعارضة الجاهزة التي يمكننا اللجوء إليها من أجل الحصول على الأفكار، وبالتأكيد لم تكن هناك مساحة غير رأسمالية لرسمها أو استكشافها: لقد جعلت العولمة ذلك أمرًا يقينيًّا، حتى لو كانت هناك بعض المناطق الصغيرة التي تُختبر فيها أنماط أخرى من الحياة. في السنوات المتخللة، كان عرض بريخت المسرحي لمهاجوني على أنها تمثل المساحة المفقودة من الغرب الأمريكي قد تحقق بالفعل. لقد غيَّر عرضُ الأوبرا في أوبرا لوس أنجلوس عام ٢٠٠٧ إدراكَنا للمدينة وجَعَلَها لاس فيجاس، وهو المكان الذي يذهب المرء إليه بعد فترة طويلة من العمل من أجل الراحة الخالصة والانغماس سرًّا في رغباته («ما يحدث في فيجاس يبقى في فيجاس»). وفي عصر التحرر من القيود والحريات الزائفة باعتبارها نتيجة لتراجع الدولة، لم تَعُدْ مهاجوني رمزية لاحتمالٍ ما يزال في الأفق بقدرِ ما أصبحت هي الواقع الذي يتعين علينا قبوله.

يقدم لنا بريخت نظرة ثاقبة حول كيفية إظهار طابع عصرنا الذهبي؛ أي أن نجعله واضحًا ومفهومًا، وهو ما يعني أنْ نحوِّله لنظام له تاريخ، غير قابل للتغيير، ولا يحاصرنا مثل القدر. وقد لفت أدورنو الانتباه، في استعراضه للأوبرا، إلى تغير رئيسي كان من الممكن إسقاطه أو إغفاله. في المشهد الأول، يقول رفيقَا بيجبيك، فاتي وَموزيز، إن «مدينة مهاجوني بأكملها موجودة فقط لأن كل شيء سيئ للغاية، لأنه لا يوجد سلام ولا وئام، ولأنه لا يوجد ما يمكن للمرء أن يؤمن به.»24 لقد جاء رد جيمي بوصفه نفيًا ﻟ «متعة السلام والوئام»25 هذه: «آه، لا يمكن لأحد مطلقًا أن يكون سعيدًا في مدينتكم لأن هناك سلامًا ووئامًا أكثر من اللازم، ولأن هناك أشياء أكثر من اللازم يمكن للمرء أن يؤمن بها.»26 إن هذا الكم الكبير من المعتقدات هو ما يجب أن يواجهه التفكير النقدي؛ هذا الكم الكبير من الأشياء الفعلية والبراجماتية، من أوامر الحس العام، هو ما يقف في طريقِ ما هو ممكن. ما أساء جيمي فهمه هو أنَّ رَفْضه لنظام بيجبيك كان يجب أن يكون «جذريًّا» أكثر، طريقة تفكير لا ترضى فقط بإثارة التساؤلات حول ممارسات العصر الذهبي، بل حول وجوده ذاته. والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو تحرير الفكر في نفس الوقت الذي نحرر فيه أنفسنا من الخضوع للحكم المهيمن للنظام الاجتماعي؛ بحيث يمكننا أن نتجاوز الحد الذي وضع حول ما هو ممكن.
لقد كُتبت أطروحاتنا السبع بصيغة النفي، ليس من أجل إغلاق الباب أمام الاحتمالات، بل للتأكد من أنها صارت في الإمكان بأقوى صورة ممكنة. بخلاف ذلك، وكما ناقشنا وأوضحنا، فإن أي تأكيد على «حلول» لمشاكلنا ومآزقنا الحالية يكون بالتفكير من خلال إطار يرى فكرةَ أن كل شخص يستطيع — بل وجب — أن يكون مُتَضمنًا في النظام الاجتماعي على أكمل وجه ممكن؛ غيرُ عملية. يُنتج النفي وعيًا بالنظام، وحدوده، بأسلوب قل أن يفعله أي أسلوب آخر. يقول أدورنو في نقاشه مع بلوخ في إحدى النقاط:
بالأمس استشهدت بسبينوزا في نقاشنا حول العبارة التي تقول: «تشير الحقيقة إلى نفسها وكذا إلى ما يقابلها من زيف.» لقد غيرت ذلك قليلًا فيما يتعلق بالمبدأ الجدلي الخاص بالنفي المتعمد، وقلت: «يشير الزيف إلى نفسه وكذا إلى ما يقابله من حقيقة.» ويعني هذا أن الشيء الحقيقي أو الصحيح هو ما يعرِّف الشيء غير الحقيقي أو الخاطئ، أو عن طريق الشيء الذي يشير إلى نفسه بوصفه زائفًا. وبقدرِ ما هو غير مسموح لنا أن نطرح صورة اليوتوبيا، وبقدرِ عدم علمنا بما قد يكون حقيقيًّا، فإننا نعلم تمامًا، بالتأكيد، ما هو الشيء الزائف.27
لا تشير حقيقة أننا نبدو قد تخلينا عن الاحتمالات الثورية، وأننا نخشى تصور المستقبل اليوتوبي؛ إلى فشل اليوتوبيا، بل إلى خطأ الطرق التي نعيش بها حياتنا ونفكر بها في كوكبنا في الوقت الحاضر. إن صحة الطريقة التي يجب أن يكون عليها العالم تُظهر لنا خطأ الحال التي هو عليها الآن.

هناك شيءٌ ما مفقود، ليس هذا الشيء أو ذلك، الذي يمكن تحديده ببساطة ومن ثَمَّ تقديمه بطريقة تحل مشكلة البحث عنه للأبد. هناك شيءٌ ما مفقود؛ وهو قدرتنا على التفريق بين الحقيقة والزيف، ورؤية أفق يختلف عن الحاضر الذي نعرفه ونرى أنه مضطرب ومنتقص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤