الفصل الأول

نهاية العولمة

(١) لا شيء يمكن أن ينقذنا

لا شيء يمكن أن ينقذنا؛ لا مخططات لجان التخطيط الحكومي، ولا الانتشار المظفر للديمقراطية الليبرالية في أركان العالم الأربعة، ولا الاكتشافات العلمية المفاجئة، ولا أعاجيب التكنولوجيا، ولا الحلول السريعة، ولا الحلول الناجعة للمشكلات؛ لا تحول اليمين إلى يسار، ولا اليسار إلى يمين، ولا أن يثوب الجميع إلى رشدهم ويَصِلوا إلى حل وسط يحظى بقبول الجميع؛ ولا الحراس ولا الطلائع، ولا الأمة، ولا المنظمات غير الحكومية، ولا الحس العام، ولا الرأسمالية، ولا المستقبل؛ وبالتأكيد ليس سياسيٌّ شابٌّ ذكيٌّ ولبقٌ، قادرًا على إشعال آمال الواقعيين والمثاليين على حد سواء.

إذا لم يكن يوجد ما يمكنه إنقاذنا، فلِمَ نتكبد عناء الاستيقاظ صباحًا والقيام من أسِرَّتنا؟

إنَّ فَهْمنا لحقيقة أنه ليس ثمة ما يمكنه أن يساعدنا لا يعني على الإطلاق أن نكفَّ أيدينا ونتوقف عن العمل. على النقيض من ذلك، هذه هي الخطوة الأولى لاستيعاب الحدود الحقيقية لما نحن فيه، وما يقتضيه الأمر لتخطي تلك الحدود. في الوقت الراهن، نحن نعمل في إطار هذه الحدود، ونتقبلها بوصفها أمرًا واقعًا وما يجب أن تكون عليه الأمور، ونترك للحكومات تحديد الأسس المنطقية لتخطيط مجتمعاتنا وتنظيمها، ونبقى في انتظار هذا الكيان المجرد الذي يُدعى «العِلم» (أو السوق، أو الإله، أو التراحم)، لينقذنا في اللحظة الأخيرة من جميع أنواع الأزمات الوشيكة؛ مثل استنفاد أنواع الوقود الحفري، وانتشار الأمراض، وارتفاع درجة حرارة الأرض. كما نتصور أن السياسة هي ساحة نصل فيها إلى أرضية مشتركة (مهما كان الوصول إليها صعبًا وعويصًا) تسعد الجميع من خلال النقاش الذكي فيما بين الأطراف المتنافسة، أو أنها، على الأقل، تجعلنا نصل إلى موقف مشترك بما يكفي للسماح للأمور بالتحسن التدريجي. وحتى مع استمرارنا في الإدلاء بأصواتنا بوداعة في الانتخابات، فقد أصبحت الديمقراطية مرتبطة بالممارسة الغريبة للتصويت لساسة من أحزاب مختلفة، ولكنهم يعتنقون نفس النظرة تجاه العالم. نحن نفضل القبض على اللصوص متلبسين بجرائمهم، ونرضى باكتشاف متعة الاستثناءات بدلًا من الاضطرار إلى مواجهة الحقائق القاسية للقواعد، حتى نتمكن من مواصلة الاستثمار في السوق، والإيمان بقدسية نظمنا الاجتماعية. نحن نتصور أن عائلاتنا واقتصاداتنا تنهار، ليس بسبب طريقة بنائها، ولكن بسبب الأشخاص الطماعين، أو الجشعين، أو ضعيفي الإرادة الذين يتسببون في انحرافها، ونستمر في إظهار مشاعر التشكك والصدمة في مواجهة الأزمات والفضائح، مهما كانت هذه الأحداث متضمنة على نحو جدلي في طريقة عمل الأشياء.

تقع جميع هذه المعالم — هذه الحدود — في قلب تصوراتنا الاجتماعية، وخاصة عندما تعمل على نحو غير واعٍ. ولكنها تقع كذلك في قلب السياسة مباشرة. ومع كل مظاهر الاحتفال بالنظام العالمي الجديد، نرجع باستمرار لمفهوم الأمة، هذا الشكل السياسي القديم البديل الذي ظننا يومًا أننا نجحنا في تجاوزه (أو كنا على مشارف ذلك)، والذي لا يزال حتى الآن لغزًا معقدًا وغريبًا للفضاء الجيوسياسي الذي يرضى معظمنا بالعيش فيه. نحن نعلم أن الأمة هي الخيال الذي يجمع بنحو اعتباطي بين المكان والانتماء. ومع ذلك، لا تزال الأمة تضع الهياكل لكل شيء؛ بدءًا من رغباتنا الأكثر عمقًا، وحتى الجيوش التي تدافع عنها. وحتى الأحلام الأكثر تفاؤلًا لعالمِ ما بعد القومية، سواء كان هذا العالم في تصورنا يأخذ شكل السكان المحليين للبلاد أو المرتحلين الذين لا بلد لهم، تتكسر صورتها عبر عدسة الأمة. كان من المفترض أن تتسبب العولمة في اختفاء مفهوم الأمة؛ ولكن عوضًا عن ذلك، نشهد في القرن الحادي والعشرين تأكيد الدول على هوياتها وقتالها المستعِر من أجل الحصول على الفتات المتبقي من موارد الأرض. لقد عرقلَت المصالحُ القوميةُ التي كان من المفترض أن نكون قد تجاوزناها النضالَ من أجل مواجهة مشكلة تغير المناخ مرارًا وتكرارًا، وهي أكثر مشكلة تستحق أن نصفها بالعالمية. في الحقبة التي خُيِّلَ لنا أنها ستكون حقبة ما بعد القومية، أصبح مفهوم الأمة أقوى من أي وقت مضى.

إن ما ينطبق على الأمة ينطبق أكثر على الرأسمالية. أصبحت الرأسمالية الآن في كل مكان، وهو ما يبدو تأكيدًا ليس على استدامتها وفاعليتها فحسب، بل وعلى شرعيتها أيضًا. وبسبب عدم وجود أي نظام منافس للرأسمالية يمكن مقارنته بها الآن، فهي لم تَعُد محلًّا للنقاش. لا يعني هذا أن الجميع راضون عنها، أو أننا لا نستطيع أن نحلل المشاكل والإخفاقات المقترنة بها، بل يعني أن حقيقتها كنظام قد اختفت في خلفية الحياة اليومية. إن المشكلات التي من المتوقع أن تهدد وجود الرأسمالية تؤكد ببساطة على أهميتها وقوتها باعتبارها نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا (وليس اقتصاديًّا فحسب)؛ ومن ثم، تشكل الرأسماليةُ نفسها الآن «حدًّا حقيقيًّا للفكر». عندما تُنتِج الأزمة الاقتصادية بطالةً، على سبيل المثال، لا تتبدى الحاجة إلى نظام جديد؛ بدلًا من ذلك، يحدونا الأمل في أن تبدأ الرأسمالية من جديد «بأسلوب سليم» حتى يعود الجميع إلى العمل؛ أي أن يعودوا إلى ما أصبحنا نراه حياة عادية. ربما من السمات الفريدة للرأسمالية، والتي تُعد أعظم سماتها، أنها نظام يسمح بأي شيء، إلا التدقيق الشديد في منطقها. لقد أصبح من المستحيل التفكير خارج إطار الرأسمالية، على الرغم من أننا نعلم أنه كان ثمة زمن يسبق الرأسمالية، ومن المؤكد أنه سيكون ثمة زمن بعدها، إلا إذا كنا نشهد نهاية التاريخ البشري في واقع الأمر.

الأزمة، والأمة، والرأسمالية؛ كلها أمور منطقية ندركها من خلال «الحسِّ العام»، نفس الحس العام الذي ذكرنا آنفًا أنه لا يمكن أن ينقذنا. ما الذي نعنيه باستدعاء الحس العام هنا، هذا المفهوم الذي يتناول الحكمة المسلَّم بها (من النوع الذي يزعج الشباب) والبراجماتية التي ترى نفسها تحتل الفضاء الواقع خارج الأيديولوجية؟ المقصود بالحس العام هو مجموعة المفردات الجاهزة، المتاحة في متناول الجميع، التي تصف ما تبدو عليه الأمور، وما يجب أن تكون عليه، والروايات التي قَبِلنا بها لتفسير طبيعة الأشياء. إنه مجموعة متنوعة من الأمور النظرية والعملية التي تتألف من معتقدات موروثة عن الهياكل السياسية، والأفكار المتعلقة بكيفية قضاء الشخص ليومه، والأشياء التي ينبغي على المرء أن يسعى إليها ويناضل من أجلها، وذلك من بين جملة أمور أخرى. في كثير من الأحيان، لا تتعارض رغباتنا الأكثر عمقًا وغير الواعية مع الحس العام، ولكنها تتسق معه أيما اتساق. يحدد الحس العام القرارات والأفعال العقلانية والطبيعية، كما يحدد ما يناقض ذلك. وهو لا يمثل الاعتقاد فحسب، كما أنه ليس بنتاج للطبيعة الإنسانية (أيًّا ما كان هذا، فهو في كثير من الأحيان وعاء فارغ يمكن ملؤه بجميع أنواع الأيديولوجيات)، بل هو نتاج النظم الاجتماعية والسياسية التي نعيش في ظلها. ومن خلال سبيل تبادلي لا يجب أن يفاجئ أحدًا، يضع الحس العام الحدود الخيالية لهذه النظم، ويحمي هياكلها بطريقة شبه إقليمية بُغية استمرار المنطق المحكم الخاص به، ومنع الأفكار الخارجية من تحدي بديهياته أو مبادئه. الحس العام هو الصوت الأبوي الذي يوقفنا، ويذكِّرنا بأننا قد ضللنا طريقنا وتجاوزنا المعقول، وأننا قريبًا سنجعل من أنفسنا أضحوكة إذا لم نتخلَّ عن مسلكنا الصبياني. إن هذا هو ما نعنيه عندما نقول: «هكذا حال البشر» أو «هكذا تسير الأمور»، وعندما نصرُّ على أن الأمور ستكون دائمًا على ما هي عليه الآن (ربما فقط تسرع من وتيرتها) لأنها كانت دائمًا على هذا النحو.

التناقض الأكثر إذهالًا فيما يتعلق بالحس العام لا يكمن في أنه بلا معنًى؛ ففي الواقع، يبدو الحس العام معقولًا، وعقلانيًّا، ومنطقيًّا للغاية؛ ولهذا السبب يحرز نجاحًا كبيرًا في الحد في خيالنا. بالأحرى، يبدو التناقض الأنيق والقاسي في الوقت ذاته لِلْحِس العام في أنه لا يبالي بعموم الناس على الإطلاق؛ فهو يدَّعي وجود عمومية معتادة وتجريبية ونفعية، ولكنه يعطي مزايا ﻟ «أقلية» على حساب «الأغلبية»، على الرغم من أن الأغلبية هم الأكثر اعتناقًا وترديدًا لادعاءاته. نحن نريد أن ندافع عن الجانب الآخر للحس العام، الذي لا يفتقر إلى العقلانية (كما يمكن للمرء أن يفترض من وجهة نظر الحس العام)، ولكنه يبدو عقلانيًّا في إطار مختلف؛ فوفقًا للحس العام، تبدو التكوينات السياسية والاجتماعية التي نعيش فيها حاليًّا جيدة بشكلٍ ما؛ حيث إنها كافية لتلبية احتياجات ورغبات عموم الناس. أما حينما أو حيثما تبدو غير مناسبة، فكل ما يقتضيه الأمر هو صقل تروس الآلة القديمة أو إصلاح المكسور منها، أو على أقصى تقدير، عندما ينشأ تحدٍّ كبير وغير متوقع، يمكن إضافة بعض الآليات الجديدة لها. ولكننا لا نرى الأمور على هذا النحو. إن سبب مواجهتنا للعديد من المشكلات والتحديات ليس أننا لم نُولِ التروس والروافع العالقة القائمة بالفعل بأفضل طريقة ممكنة الاهتمامَ الكافي، ولا لأن الكثير من الشخصيات السيئة والشريرة استغلت الآلة (بحيث لو أنهم اختفوا ببساطة، أو أُجبروا على الاختفاء، لعاد كل شيء للعمل كما ينبغي!) وفي كلتا الحالتين، ستستمر الآلة بأكملها، التي أنشئت تدريجيًّا على مدى قرون، في التعثر طول الطريق. ولكن القَدَرَ فرض على ما توجده وتنتجه — أي إنتاجها — أن يظل غير عادل كما كان في القرون الماضية. ومع هذا، يخبرنا الحس العام بأن الزمن يأتي بتحسينات اجتماعية مستمرة؛ فنحن الآن أفضل مما كنا عليه في الماضي، وسنكون أفضل من ذلك غدًّا.

هل يمكن أن تتمثل حلول مشاكلنا في إدخال إصلاحات بسيطة في نظام غير عادل؟ لنكن واضحين، لا أعتقد أن النظام معيب أو معطوب؛ فهو يعمل بنجاح كبير، تمامًا مثل القواعد والبديهيات التي أبدعت في تصميمه. والمشكلة تحديدًا هي أنه يعمل، ويستمر في العمل؛ فلم تفشل كل فضائح الفساد وحالات التعطل المؤقت للنظام في إبطال النظام فحسب، بل ساعدت على دعم استقراره وسلامته. لا شيء يمكنه أن ينقذنا سوى مواصلة تمسكنا بنظام الحس العام الذي أوصَلَنا إلى ما نحن عليه الآن.

(٢) من العولمة إلى معاداة أمريكا

بدأ هذا الكتاب بوصفه مشروعًا لدراسة التعبيرات المعاصرة لمعاداة أمريكا في جميع أنحاء العالم. في صيف عام ٢٠٠٤، كنا ندرِّس مقررًا دراسيًّا في ساو باولو يتناول طرق فهم الحضارة، والتنظير لها، وصناعتها في سياق العولمة. بالنسبة إلينا، من المهم أن نصرَّ على أن العولمة ليست مجرد قوة ساعدت على نشر أشكال وممارسات ثقافية في جميع أنحاء العالم؛ فالطريقة الأكثر شيوعًا للتفكير في الثقافة فيما يتعلق بالعولمة، حتى اليوم، هي من خلال علاقتها بأشكال هجينة جديدة من التعبير الثقافي تنشأ من مزج الأشكال المحلية الموجودة (التي عادةً ما تكون قومية) ومواءمتها. وقد بدا أن الأعمال الأكاديمية وغير الأكاديمية التي تتناول الثقافة المعاصرة ترى مؤخرًا أن الأشكال والممارسات والتعبيرات الثقافية تتلامس بعضها مع بعض، ويُعاد تشكيلها أثناء هذه العملية؛ ومن ثم فليس ثمة معنًى لتصور وجود نقاء ثقافي أو ما شابه. ولا نحتاج للتفكير مليًّا لندرك أن التبادل الثقافي سمة من سمات الثقافة في حد ذاتها؛ فقد كان جوته متأخرًا بالفعل في الكتابة عن الآداب العالمية في عشرينيات القرن التاسع عشر.1 هناك أمر مشكوك فيه على نحو متساوٍ وهو الافتراض المبدئي الخاص بالثبات المكاني للأشكال والممارسات الثقافية (مرة أخرى، هي عادةً ما ترتبط بالثقافات القومية)، والتي تقتلع من جذورها وتتحول إلى شيء آخر فيما تتحرك؛ إنها أسطورة الأصول إذا كان ثمة ما يسمى بذلك. أردنا أن ندفع طلابنا إلى التفكير بنحو أعمق في العلاقة بين العولمة والثقافة، ولكن بطرق تتجاوز الروايات القياسية التي كانت تكتفي في أكثر الأحيان بدراسة عولمة الثقافة أو ثقافة العولمة. بعبارة أخرى، كنا نريد منهم أن يفكروا بجدية في معنى وأهمية الأمرين السابقين، وفحص كيفية ارتباطهما؛ حيث إن الأول يشير إلى نتيجة عملية (أي إن الثقافة قد تعرضت للعولمة)، في حين أن الثاني يصف شكلًا من أشكال الانتماء لِلَحظة من الزمان تم تحديد طابعها مسبقًا.

وفي خضم التحضير لانتخابات الرئاسة الأمريكية في وقت لاحق من ذلك العام، لم يَسَعنا الهروب من إدراك أن الموضوع الذي كنا نُدرِّسه يبدو متأخرًا. بالنسبة إلينا، لم تكن العولمة قَط مجرد وسيلة لتسمية تلك التطورات الموضوعية في ظاهرها التي يربطها الجميع الآن بها من دون تفكير؛ وهي في الأساس تشابك الاقتصادات القومية بعضها مع بعض من خلال التجارة والتمويل؛ بل كانت «رؤية» جديدة لكيفية سير الأمور في العالم، رؤية تحتاج هي نفسها للتحليل والتقييم والانتقاد. لقد كانت العولمة مسمًّى لتأكيد جديد على قوة اقتصادية وثقافية وسياسية تحتاج إلى التواري خلف حجاب مزاعمها بأنها قد عرَّفت، بطريقة شبه علمية، ظاهرةً موجودةً في الواقع. وفي جوهرها، كانت امتدادًا وتوسيعًا لقوة أمريكا، واستحضارًا ﻟ «النظام العالمي الجديد» الذي أعلن عنه الرئيس جورج بوش الأب، ونفذه على نحو أكثر فاعلية الرئيس بيل كلينتون، بغية تأمين موقف الهيمنة العالمية التي كانت تتآكل بسرعة بسبب النهضة الاقتصادية والسياسية التي شهدتها دول مثل الصين والهند والبرازيل. في ساو باولو في ذلك الصيف، بدا أن الجميع قد أدركوا بالفعل أكذوبة العولمة، وفهموا أنها كانت مشروعًا أيديولوجيًّا أكثر منه اسمًا لعملية تاريخية موضوعية، مثل الزمن نفسه، لا يمكن للمرء أن يفعل شيئًا إزاءها. لقد جئنا معنا بمخططات معقدة، وعرضنا أُطُرًا تنظيرية بديلة لتوضيح المساحات والأماكن التي كانت العولمة تربك فيها الأمور وتعقدها، خاصةً فيما يتعلق بالثقافة، إلى جانب أمور أخرى. كان لدى الطلاب والأصدقاء البرازيليين طريقة أسهل كثيرًا لتأطير الأمور؛ فقد نَحَّوْا العولمة جانبًا، وكانوا يَتَحَدَّوْن قوة الولايات المتحدة والوضع العالمي القائم بنحو أعم من خلال معاداتهم لأمريكا بأكثر الطرق المباشرة الممكنة.

في الواقع، يبدو أنه إذا لم يكن الجميع قد أصبحوا معادين لأمريكا بالكامل بالفعل، فهم في طريقهم لذلك سريعًا. كانت الحرب ضد العراق تسير على قدم وساق (وكان صدام حسين يحاكَم بتهمة ارتكاب جرائم حرب)، وكان جورج دبليو بوش يواجه صعوبة في تكوين تحالف الراغبين. وأصبحت الحقيقة الواضحة هي أن الولايات المتحدة ستكمل وحدها إذا ما اقتضى الأمر ذلك. لقد كان من الصعب أن تجادل مع بلد يمتلك أكبر جيش في العالم، ليس هذا فحسب، بل وينفق على الدفاع أكثر من نصف إنفاق دول العالم مجتمعة.2 كان فيلم مايكل مور «فهرنهايت ١١ / ٩» قد صدر للتوِّ، وسرعان ما أصبح أكبر فيلم وثائقي في التاريخ على الإطلاق من حيث الإيرادات.3 ورغم الاهتمام الهائل الذي حظي به الفيلم في أمريكا، فإن حجم الجمهور الكبير الذي شاهد الفيلم خارج أمريكا كان له دلالات واضحة في واقع الأمر؛ ففي أقل من عام، تحول التعاطف الذي شعر به العالم بأسره إزاء الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث ١١ / ٩ إلى شك واسع النطاق، مدفوع بالحقيقة المحبطة بأن العديد من الأمريكيين (بما في ذلك الرئيس بوش) واجهوا صعوبة في التمييز بين صدام حسين وأسامة بن لادن. كان العداء لأمريكا حينها على أتم استعداد للبدء، ولا يمكن مقاومته، مثل الفاكهة المعلقة على الأشجار في متناول اليد. وتتمثل ألمعية بوش في أنه كان لا يعير هذا الأمر اهتمامًا. لقد كان مؤمنًا حقيقيًّا، وكان يَذْكر لكلِّ مَن يصغي إليه بأنَّ تولي رئاسة البلاد ليس مسابقة شعبية، على الرغم من أن الهيكل السياسي في الولايات المتحدة (مع الإعلانات العاطفية للمرشحين وتنظيمهم لتجمعات سياسية جيدة التنظيم) قائم على نظام المسابقة الشعبية. لقد كانت شعبية بوش داخل الولايات المتحدة الأمريكية هي نفسها ما ألهب مشاعر العداء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية في الخارج. لقد بدا وكأن العالم يتساءل: «كيف يمكن لمواطني الولايات المتحدة أن يكونوا على استعداد لانتخابه رئيسًا «مرة أخرى»؟»
وبينما كنا في البرازيل، لم نستطع تجنُّب فيلم «فهرنهايت ١١ / ٩»؛ كانت كل محادثة يتخللها دائمًا تعليق حول الفيلم، وبدا أن كل محادثة تفضي إلى التساؤل حول الآثار السياسية التي ستَنتج والتي يمكن أن تَنتج عنه. هل يمكن أن تكون ثمة حركة عالمية منظمة تسعى لتوجيه الانتقادات للولايات المتحدة الأمريكية؟ هل ستعيد تلك الحركة شحن الطاقات الكامنة لمواجهة التمدد المتجبر للقوة العالمية، وهي الطاقة التي شهدتها الاحتجاجات العالمية ضد الحرب على العراق عام ٢٠٠٣؟ هل سيغير الفيلم مسار الحرب؟ وهل سيكون له تأثير على الانتخابات الأمريكية؟ هل ستكون التيارات الغاضبة المعادية لأمريكا، التي تتسم بالتقدمية، أكثرَ فاعليةً في إحداث تغيير في العالم من العدد الكبير من الدعوات اليوتوبية التي ترنو لمستقبل ديمقراطي جديد؟ بالطبع، لم يحدث أيٌّ من هذا. وعلى الرغم من الْتقاط فيلم مور للأجواء السائدة في ذلك الوقت، وتوليده نقدًا من المستحيل تجنُّبه لطبيعة السياسة المعاصرة، لم يكن الفيلم بالقوة التي كان يأمل بها الكثيرون، بما في ذلك المخرج نفسه.4 ولم يكن هذا مفاجئًا لنا، وكذا زيادة المشاعر المعادية لأمريكا في جميع أنحاء العالم في أعقاب التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق. ولكن بوصفنا باحثين مهتمين بالعولمة، كنا مفتونين بطبيعة وطابع هذه المشاعر، وكيفية تعلقها بخطابات وروايات العولمة، والتي شكلت، على مدى العقد السابق عليها، حجر الأساس لكيفية تصور الناس للعالم.
أما ما بدا واضحًا لنا آنذاك فهو أن العداء للولايات المتحدة كان عَرَضًا لشيء آخر؛ فالقضية ليست في كونه لا يتعلق بالولايات المتحدة أو حتى جورج بوش فحسب، بل أنه لم يكن يُشْبه أشكال معاداة أمريكا في الماضي، مثل تلك التي ظهرت إبان الحرب المكسيكية الأمريكية (١٨٤٦–١٨٤٨)، أو تلك التي نتجت عن حرب فيتنام. وفي تلك الحالات، كان الأمريكيون على قناعة مخيفة بتفوقهم واستقامتهم الأخلاقية، وتسببوا، من خلال استخدام قوتهم العسكرية، في ظهور مشاعر مماثلة من الخوف، وخيبة الأمل، والكراهية، والقلق إزاء الحكومة الأمريكية والأيديولوجيات التي تضع هيكل الحياة اليومية في الولايات المتحدة، وكذا تجاه الثقافة الجماهيرية الأمريكية (كما ظهر من خلال الربط بين كوكاكولا وماركس في فيلم «مذكر ومؤنث» [١٩٦٦] لجان لوك جودار). لا نحتاج إلى وقت طويل لندرك أنه على الرغم من تشابه المشاعر، فقد كانت السياقات التي تم التعبير فيها عن معاداة أمريكا مختلفة نوعيًّا؛ ومن ثَمَّ يجب الاهتمام بمحتواها والظروف التي تمت فيها بدقة. وقد انتبه بعض النقاد لهذا الاختلاف.5 وعلى الرغم من ذلك، فقد تعامَلَت معظم الدراسات مع معاداة أمريكا باعتبارها ظاهرة يسهل التعرف عليها ويسهل شرحها. ومن هنا بدأت الأبحاث والدراسات ومقالات الرأي في التدفق، لتربط بين التعبيرات الحالية والسابقة الخاصة بمعاداة أمريكا، وتهتم بالأشكال المتميزة التي ظهرت من خلالها هذه الموجة الأخيرة من معاداة أمريكا في دول مختلفة (وذلك في تناغم مع الحاجة للنظر في الإطار العالمي). دائمًا ما كانت كل هذه المنشورات تتمحور حول سؤال واحد: لماذا يكرهوننا؟6
وهنا تعود العولمة للظهور. قبل ١١ / ٩، كان الإدراك المتزايد للعولمة والحركات المناهضة للعولمة تميل إلى عدم اعتبار الولايات المتحدة القوة الجيوسياسية الرئيسية. كانت الولايات المتحدة لاعبًا مهمًّا ومعترَفًا به باعتبارها الفاعل الأوحد الأكثر نفوذًا في العالم؛ ومع ذلك، كان التركيز بنحو مباشر على الولايات المتحدة الأمريكية على حساب الشبكات وأنظمةِ السلطة وصنع القرار الجديدةِ يعامَل كخطأ في التصنيف. وقد بدا أن المؤسسات فوق القومية (بدءًا من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحتى الشركات المتعددة الجنسيات) هي المواد الرئيسية للدراسة وللمقاومة بالنسبة إلى الحركات الاجتماعية. في الكتاب المؤثر «الإمبراطورية» (٢٠٠٠) لمايكل هارت وَأنطونيو نيجري، على سبيل المثال، كان أي تفضيل للولايات المتحدة يبدو أنه يغيب عنه الحقيقة التي تقول بأنه لم تَعُد توجد مراكز إقليمية للسلطة وحدود ثابتة؛7 ولهذا السبب، استبدل العديد من الباحثين من مختلف التخصصات بصفة «الدولي» صفة «العابر للحدود»، وهو مصطلح أكثر ملاءمة للعولمة، ويلفت الانتباه إلى ضيق الأفق والأبوية المتسم بهما عصر الدول القومية، وظهور جهات فاعلة جديدة غير الدول تتمتع بسلطة كبيرة ونفوذ واسع.
وبعد أحداث ١١ / ٩ وما تلاها من حروب على أفغانستان والعراق، عادت الولايات المتحدة مجددًا لتكون الجهة الفاعلة الأكثر نفوذًا في العالم. كانت القوةَ العظمى الوحيدةَ، إلا أنها كانت قوة عظمى في أفول! وقد نتج عن هذا الأفول تحركاتها وأثرها على العالم في الوقت الحاضر. وجادلت أعمال كلٍّ مِن ديفيد هارفي، وَجيوفاني أريجي، وَنيل سميث، وغيرهم، بأن التغيرات في القوة الجيوسياسية بعيدًا عن الولايات المتحدة تتضح من خلال تأكيد إدارة بوش على الحلول السياسية والعسكرية لمعالجة مشكلات كانت في الأساس اقتصادية تتعلق بالرأسمالية العالمية.8 بالنسبة إلى هؤلاء المفكرين، إن تمويل قوة عظمى لحلول مشكلاتها السياسية من خلال الإنفاق غير المسبوق بما يتجاوز الميزانية والإكراه الدبلوماسي يمثل تحولًا رئيسيًّا في تاريخ القوى المهيمنة. وقد كانوا يرون أنه مثلما أفسحت لحظة الهيمنة البريطانية الطريق أمام هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، كانت المشكلات الناجمة عن تجاوز القوة العظمى لحدودها ووصولها إلى أفغانستان والعراق من علامات النهاية الوشيكة للهيمنة الأمريكية وصعود قوة مهيمنة أخرى (من المرجح أن تكون الصين). وقد اختلف الكُتاب الذين يقفون على جانب اليمين في الطيف السياسي (بما في ذلك نيل فيرجسون) في تحليلهم لوضع الولايات المتحدة الحالي فقط في رؤيتهم للرغبة العامة في تراجع القوة المهيمنة العالمية الحالية.9 ومع ذلك، حتى بالنسبة إلى هؤلاء النقاد، عند دراسة بعض الأرقام مثل حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لا يسعنا إلا أن نرى تحولًا كبيرًا في القوة والتأثير.10

منذ حرب فيتنام، كانت الأعمال البحثية التي تُنتَج داخل وخارج أمريكا وتَتناول معاداة أمريكا، تتزامن عادة مع لحظات التدخل العسكري الفاضح الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية. ليس ثمة شك في أن الزيادة الهائلة الحالية في عدد الكتب التي تتناول معاداة أمريكا (والتي تشارك في تكوين الخطابات المعادية لأمريكا بطرق مثيرة للاهتمام) ترتبط بالفشل الواضح لأمريكا في الاستجابة «المناسبة» لتحديات مرحلةِ ما بعد الاتحاد السوفييتي، وعصرِ ما بعد ١١ / ٩. ولكنْ بدلًا من تفسير معاداة أمريكا فقط من خلال تحديد أسبابها الجذرية المتمثلة في مشاعر العداء الموجهة للقوة المهيمنة، سواء أكانت هذه القوة في أوج عنفوانها، أم كانت لا تزال قوية ولكنها في طريقها للأفول، يمكن للبحث المتعمق في هذا الخطاب الحالي السياسي والثقافي شبه العالمي أن يسمح لنا باكتشاف سمات غير متوقعة للطابع الحالي للقوة العالمية.

تنبثق الأعمال الحالية المتعلقة بمعاداة أمريكا عادةً من إطارِ دراسات المناطق الذي يتعقب أحدث موجات معاداة أمريكا في دولة أو منطقة معينة، ثم يتحرك إلى الخلف بغية تحليل الجذور التاريخية لهذه الموجة.11 غني عن القول أن ثمة اختلافات ثقافية عميقة بين ردِّ فعل كلٍّ من كوريا الجنوبية أو تركيا من جهة، وردِّ فعل كلٍّ من البرازيل أو كندا من جهة أخرى؛ إزاء السياسة الخارجية الأمريكية. لا بد من إجراء أبحاث لتحديد هذه الاختلافات، غير أن ثمة خطرًا ماثلًا على الدوام من أن تعمل هذه الأبحاث على فصل كل ثقافة وتمييزها، مما سيؤدي إلى إخفاء الروابط التي نعتزم استكشافها. وبدلًا من التحرك رأسيًّا ووضع معادة أمريكا في سياق قومي، سوف نتحرك أفقيًّا لوضع معادة أمريكا في سياق عالمي يركز على أوجه التشابه بين مواقف الدول، بدلًا من أوجه الخلاف فيما بينها.
علاوة على ذلك، بما أن معاداة أمريكا ليست هي الهدف الأساسي من دراستنا هنا (ولكنها وسيلة لدراسة كيف حَدَّت الخطابات المهيمنة للعولمة من الخيال العالمي المعاصر)، فنحن نعتزم دراسة معاداة أمريكا «تحليليًّا» بدلًا من تقييمها معياريًّا. في الواقع، نرى أن هذا التحيز العام المعياري في الأعمال الأخيرة التي تتناول معاداة أمريكا — الذي إما أن يُدين معاداة أمريكا لسذاجتها وآثارها السلبية12 وإما أن يحتفي بها لأصالتها وشجاعتها13 — عيب قاتل فيها. وحتى في أفضل الكتب التي قُدمت مؤخرًا حول معاداة أمريكا، كان الهدف من تقديم نظرة عامة على الخطابات المعادية لأمريكا هو تقديم تفسير لجمهور القراء في الولايات المتحدة الأمريكية للأصول التاريخية لمعاداة أمريكا من خلال جميع النكبات الحربية والسياسية حول العالم؛ أي إنها تقلل من أهميتها من خلال تفسيرها، وهكذا من جديد تُتناول هذه الخطابات كما لو كانت تعبر بالضرورة عن شيء آخر. لكن ما نرغب به هو تقييم لطبيعة هذا الخطاب «العالمي» الطابع وفهمها، وأن نأخذ معاداة أمريكا على محمل الجد بدلًا من محاولة الوصول إلى نتيجة تشير إلى كونها صحيحة أو خاطئة. كما نرغب في وضع الحالة المعاصرة لمعاداة أمريكا في سياق أو فيما يتعلق بذلك الخطاب الآخر الذي يفترض به أن يفسر لنا العالم اليوم؛ ألا وهو: العولمة. لقد أشرنا قبل ذلك إلى أننا كنا نظن أن هذا العداء للولايات المتحدة كان عَرَضًا لشيء آخر؛ فقد كان علامة على التباسات العولمة، من أيديولوجية، وسرد، وخطابٍ ما بعد قوميٍّ، وغيرها؛ حيث بدأت تصل إلى نهايتها دون أن تشير إلى ما بعدها.

(٣) العودة من معاداة أمريكا إلى العولمة

من المفاجئ أن خطابات معاداة أمريكا عاودت الظهور خلال النصف الثاني من العقد الماضي. وما يثير الدهشة ليس أسباب مثل هذه التعبيرات، أو الأساس المنطقي الذي تقوم عليه؛ فمن الواضح أن المشاعر الأخيرة المعادية للولايات المتحدة كانت بسبب الأعمال العدائية التي قامت بها الحكومة الأمريكية في أعقاب ١١ / ٩. لقد تنحَّت مشاعر التعاطف والاهتمام بالمتضررين بنحو مباشر من الهجوم على برجَي مركز التجارة العالمي، وبالشعب الأمريكي بنحو عام، وتحولت لمشاعر قلق وخوف وغضب؛ عندما أصبح واضحًا أن رد الحكومة الأمريكية سيكون إعلان الحرب أولًا على أفغانستان ثم على العراق. لقد تسببت قدرة الولايات المتحدة على المضي قدمًا في شن هذه الهجمات (وخاصة غزو العراق) من دون تفويض من المجتمع الدولي، ودون خوف من الإخلال بالتوازن الجيوسياسي الهش (لو كان هذا قد حدث خلال الحرب الباردة)؛ في إظهار الطبيعة الحقيقية للقوة المعاصرة أمام الجميع. لقد تسبب انهيار الكتلة السوفيتية في تحوُّل الولايات المتحدة إلى القوة العظمى الوحيدة في عام ١٩٨٩؛ وكان هذا واضحًا للجميع. ولكن، حتى في أعقاب العمليات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة خلال فترة تولِّي إدارة كلينتون سدة الحكم (فَرْض منطقة حظر طيران على العراق، والصومال، والبوسنة والهرسك، وهايتي، وليبيريا، وسيراليون، وما إلى ذلك، ولكن ليس رواندا)؛ لم تصبح النتائج الحقيقية لهذا التحول المهم في ديناميكيات القوة واضحة وتدعو للقلق إلا مع شن حرب على نطاق واسع، والتوسع الهائل في إجراءات الأمن القومي من خلال إنشاء وزارة الأمن الداخلي.14
فما الذي جعل معاداة أمريكا الآن أمرًا يدعو للتعجب؟ بالنسبة إلينا لا تتمثل المفاجأة فيما يتعلق بالمشاعر الأخيرة المناهضة لأمريكا، التي عبَّر عنها الناس في جميع أنحاء العالم، في «المعاداة» — سواء كانت خاصة بالحرب، وقتل المدنيين، والظلم المستمر من خلال التدابير الأمنية الجديدة، وما إلى ذلك — بقدرِ ما تتعلق بوجود «أمريكا» المقترِنة بها هذه المعاداة. ويعود ذلك إلى أن أمريكا، على الأقل من الجانب النظري، لم يَعُد من المفترض أن يكون لها وجود في القرن الجديد. كلما وحيثما ظهرت مشاعر معادية لأمريكا كان ذلك بمنزلة وضع خريطة للقوة العالمية؛ حيث تُعد هذه المشاعر صورة مختصرة لطريقة سير الأمور وكيفية تنظيم العالم. لكن، وكما قلنا فيما سبق، يُعد السياق التاريخي غاية في الأهمية لتقييم طرق وأسباب معاداة أمريكا. لقد ظهرت مشاعر معاداة أمريكا الخاصة بالقرن الحادي والعشرين، مثل تلك التي شهدناها في البرازيل وسمعناها في المقابلات التي أجريناها في جميع أنحاء العالم (سنتناول هذه المقابلات في الفصل الثالث)، في أعقاب الصورة المختصرة الأخرى التي سيطرت على الخيال العام حول طبيعة القوة المعاصرة والاتجاه المرجح أن تسلكه في المستقبل؛ وهي العولمة. إن أحد المبادئ الرئيسية للعولمة — وهو شيء أساسي جدًّا في رؤيتها للأمور، ومزعوم كفرضية، حتى وإن لم يُعبَّر عنه بنحو مباشر — هو أن الأمة (إن لم تكن الدولة، على الرغم من أنها قد تكون مقصودة هنا أيضًا) كانت تقترب من نهايتها. شهدت ثمانينيات القرن العشرين نقدًا مركَّزًا (وإن كان متأخرًا) لفكرة الأمة في الأوساط الأكاديمية ومن قِبل العلماء في مختلف المجالات مثل النقد الأدبي والعلوم السياسية.15 وبدا أن نهاية الحرب الباردة قد وفَّرَت الظروف التاريخية المناسبة، أخيرًا، للمساعدة على إنهاء عملية تقسيم العالم إلى دول يتم ترسيم حدود لها، وهي العملية التي اقتادونا فيها مثل الماشية المرسلة لمواجهة مصيرها في التنقل من حياة إلى أخرى، وجعلتنا نتنقل عبر الحدود التي تقيدنا (أو لا تقيدنا). كانت تلك الحقبة الجديدة هي العولمة، وكان من المفترض أن نجد في نهايتها أي شيء إلا التأكيد والدفاع الوقح عن الأوطان. إلا أن هذا الدفاع عن الأمم، الذي ينطوي على مفارقة تاريخية، يصير واضحًا، ليس فقط عندما يتم تأييد أمريكا باعتبارها القوة المهيمنة العالمية، ولكن أيضًا عندما تنتقد الدولُ الأخرى أمريكا لتعريض مصالحها القومية للخطر. وبسبب هذا الأمر (الذي يُحتمل أن يوقع النقاد من جميع الجوانب الأيديولوجية في شَرَكه)، يجب أن تبدأ جميع الدراسات التي تتناول معاداة أمريكا في إجراء تحليل دقيق للعولمة نفسها.

كانت العولمة، ولا تزال، مفهومًا غير واضح المعالم. وعلى الرغم من أنه يُستخدم الآن من دون تعليق في الصحافة والأعمال الأكاديمية — كما لو كان هذا يشير إلى أنه مصطلح حَصَلَ على تعريف ثابت هناك اتفاق عام حوله — فمن الأفضل أن ننظر إليه بوصفه مفهومًا يستحضر مجموعة من الارتباطات؛ فلا تقتصر الموضوعات والقضايا والعناوين المرتبطة بالعولمة على التطورات والأنظمة والعمليات العالمية «الفعلية» فحسب، ولكنها تشمل أيضًا الرغبات والآمال والمعتقدات. ما الأشياء التي أصبحنا نربطها بالعولمة؟ تُعد النهاية المحتملة للدولة القومية إحدى المفاهيم الأساسية المرتبطة بالعولمة. إن الظروف الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية الجديدة للقرن الحادي والعشرين، التي بدأت في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن التاسع عشر، وأشاعت دمارًا شديدًا في القرن العشرين، قد كشفت الشقوق الخطيرة (المؤسسية والمفاهيمية) في الأسس التي بُنيت عليها الدول، وأشارت إلى أن ثمة أشكالًا جديدة للتنظيم السياسي قد تظهر إلى حيز الوجود.

كانت التحولات التي حدثت في النظم الاقتصادية والابتكارات التكنولوجية في العقود الأخيرة تعني أن العمليات والقوى التي شكَّلَت الحياة والتجارب في أي دولة بعينها قد تمددت الآن لتصل إلى ما وراء حدودها، وأصبحت على نحو متزايد خارج سيطرتها. تحتاج كل دولة إلى المشاركة بفاعلية في التجارة الدولية لتزويد نفسها بالسلع والخدمات التي لا تُنتج داخل حدودها، وكذا للحصول على دخل من خلال تزويد الآخرين بالشيء نفسه، وهو ما لا يخفى على أحد. ما أراد مصطلح «العولمة» لفت الانتباه إليه هو التغيير الواسع في هذه العملية، هذا النموذج الجيوسياسي الجديد، الذي حوَّل الحكم الذاتي وسيادة الدول القومية الحالية على نحو متزايد إلى بناءٍ هشٍّ.

كان يُعتقد أن الدافع الأساسي لهذا التغيير هو الأشكال التكنولوجية الجديدة التي جعلت العالم أسرع وأصغر. لقد اضطلعت التقنيات المختلفة بدور مهم في إحداث هذه النقلة النوعية، بما في ذلك النقل الجوي (فيما يتعلق بالتوسع والدَّقْرَطَة)، وتقنيات الكمبيوتر، وأشكال وسائل الإعلام الجديدة مثل الإنترنت والهواتف المحمولة. تجاوزت هذه التقنيات الحواجز القومية، كما أنها لعبت دورًا مهمًّا في إحداث تغييرات في الممارسات الاقتصادية. وقائمة التطورات التالية مألوفة لكلِّ مَن يتابع المستجدات السياسية والاقتصادية على مدى العقود القليلة الماضية: التصنيع حسب الحاجة، وسلاسل الإنتاج العالمية، والاستعانة بعمالة خارجية على نطاق دولي. ولم تقدِّم التقنياتُ الجديدة الدعمَ المادي للنظام الاقتصادي الجديد فحسب، ولكنها لعبت دورًا مباشرًا في الاقتصاد نفسه: الإنتاج، والتوزيع، والتسويق، والتمويل. باختصار، تشير العولمة إلى التغيرات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية التي تعمل معًا لإحداث تغيير مرحلي تاريخي، خاصةً فيما يتعلق بوضع الأمة في النظام الجيوسياسي.

وفي حين كان ثمة بعض مظاهر القلق حول آثار هذا التغيير على مكانة وقوة الدول القومية، وتأثيرها على السكان على الصعيد القومي، فإن مما يدعو للدهشة بالنسبة إلى العولمة أن هذا التطور — في المجمل — كان مُرحَّبًا به. لقد أشار تغيير الشكل الأممي إلى إمكانيات جديدة للمجتمعات البشرية، ولم يكن نظام الدولة القومية يستحق الاحتفاء والتشبث به؛ فسجله يحتوي على حروب لا تنتهي، ومعاناة وإقصاءات. ولا تكمن الخلافات والقلق حول العولمة في النهاية المرتقبة للأمم بقدرِ ما تتعلق بالطابع الدقيق لما كان سيحلُّ محل نظام الدولة القومية. لم يلجأ القوميون إلى معارضة العولمة بسبب الحب العميق والثابت للشكل السياسي القومي، ولكن لأنهم كانوا يخشون أن بعض البرامج والسياسات التي تدعمها مجتمعات قومية معينة — مثل الرعاية الصحية الشاملة، وحماية البيئة، والتعليم العام، وما إلى ذلك — سوف تتعرض للخطر أو تختفي تمامًا. وحتى الحركات المناهضة للعولمة عرضت بسرعة تصحيح الاسم الذي أطلقه عليها الصحفيون بعد الاحتجاجات ضد المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سياتل عام ١٩٩٩. لقد أرادوا أن يعلنوا أنهم لم يكونوا ضد العولمة أو كانوا يعملون لصالح الأمة، بل هم يريدون مواجهة النظام السياسي والاقتصادي القادم ليحل محل نظام الدولة القومية (ومن ثم فإن الوصف الأفضل للحركات المناهضة للعولمة هو المقدمة لعولمة بديلة؛ حيث إن القضية هنا هي تقديم عولمة بديلة، وليس القضاء على العولمة). وقد كان هذا بمنزلة نظام يتكون من هيئات صنع قرار ومنظمات دولية غير تمثيلية وغير منتخبة، تسيطر عليها — إلى حدٍّ كبير — الدولُ الغربية الغنية، التي بدت على استعداد لتولِّي دور حكومة الأمر الواقع بالنيابة عن الكوكب بأسره.16 لقد كانت العولمة قادمة لا محالة، وكانت في طريقها للظهور بالفعل، مهما حدث؛ فقد كانت أمرًا لا مفر منه. أما كيف كان لها أن تَحْدث، وما الذي سينطوي عليه هذا، فهذا ما كان محلًّا للنقاش العلمي وموضوعًا للصراع السياسي؛ أما حقيقة ما يسمى ﺑ «العولمة»، فلم يكن كذلك في حد ذاته.
وينبثق جزء من الافتقار إلى الدقة الذي صاحَبَ مفهومَ العولمة من العدد الكبير من المحاولات المتعارضة لتعريف «كيفية» حدوثه.17 لقد كانت الرغبة في تسمية وتعريف هذا الشيء الجديد لا تُقاوم؛ وتجاوزت هذه المحاولات الاقتصاد والسياسة، وَوَصلت إلى عالم الثقافة والهوية. يبدو هذا معقولًا؛ نظرًا لأهمية الثقافة والهوية بالنسبة إلى منهاج سير الأمم. لقد أنتجت الدولة القومية مواطنًا قوميًّا؛ فنتج عن الهشاشة المتزايدة لسيادتها، بالإضافة إلى الحدود المادية والثقافية، إمكانيةُ ظهور هويات هجينة أو ما بعد قومية، على نطاقٍ يتجاوز كثيرًا التجاربَ السابقة للهجرة أو السفر (على الرغم من أن هذه الحالات أصبحت موضوعات مثيرة للاهتمام في التحليلات التي يقوم بها مَن أرادوا فحص حركة التنقل في القرون السابقة من خلال عدسة العولمة). وتقوم تحليلات عدم اليقين والضَّعف — اللذين يُعتقد أن الأفراد المعاصرين سيعانون منهما في مواجهة الحياة — في ظل العولمة حول فرضية وجود المواطن القومي الذي كان مستقرًّا، الذي تؤدي قدرته على الاستماع الآن إلى مغنية الراب مايا أو موسيقى الريجيه تون، وقراءة أعمال أورهان باموق أو روبرتو بولانيو، إلى ظهور فرص جديدة وغير متوقعة للفرد والمجتمع. إن إمكانية التحرك عبر الحدود أو استحالته، سواء كانت حقيقية أو متصورة أو متوهمة، هي ما تعرِّف طريقة المرور بتجربة العولمة. وقد سعى عدد كبير من الكتب والمقالات الأكاديمية لتقديم تحليلات معقدة لهذه التصورات، مع وضع كلمات جديدة وابتكارات مفاهيمية خاصة بها (على سبيل المثال، استخدام رولاند روبرتسون لمصطلح «العولمة المحلية» أو أبعاد الثقافة العالمية التي ينادي بها أرجون أبادوراي)،18 يحاول كلٌّ منها أن يصل إلى «الجديد» في العولمة و«كيفية» عملها بصورة سليمة، حتى نتمكن من العيش في حياة أصبحت فجأة شديدة التعقيد.

وعلى خلفية عالَمٍ دَخَلَ إلى مرحلة العولمة، يمكن أن نرى أن معاداة أمريكا تنطوي على مفارقة تاريخية؛ ففي أحسن الأحوال، تمثل معاداة أمريكا التعبير المجرد عن عدم الرضا السياسي؛ وفي أسوأ الأحوال، تعبر عن خطأ في التصنيف يعجز عن فهم أننا نحيا الآن في زمن مختلف تمامًا. ولكن من الخطأ أن نرى الحركات الجديدة لمعاداة أمريكا مثلَ ما شهدناه في البرازيل على هذا النحو؛ كخطوة للعودة إلى نعيم سياسة كانت حتى في وقت مبكر سهلة للغاية. إن معاداة أمريكا ليست ردَّ فعلٍ على تعقيد العولمة للعالم، ونكوصًا إلى وجهة نظر أكثر شفافية لطريقة تنظيم العالم. ولكن بدلًا من ذلك، ينبغي أن يذكرنا إعادة الظهور المفاجئ للأمة في الخطاب المناهض للولايات المتحدة الأمريكية بحقيقة أساسية؛ مفادها أنه على الرغم من أن عمليات وآثار العولمة موجودة بالفعل، فإن «العولمة نفسها غير موجودة».

بطبيعة الحال، العديد من الأشياء — أو بالأحرى معظم الأشياء — التي ارتبطت بالعولمة موجودة بالفعل، بدءًا من مجتمعات الفضاء الإلكتروني، وصولًا إلى معاهدات التجارة العابرة للحدود القومية، إلا أن العولمة، كنظام، لا وجود لها بالطريقة التي يتصورها البعض عادةً. في الواقع، ظهرت العولمة إلى الوجود وتستمر في عملها اليوم تحديدًا بوصفها خطابًا يبتغي التعتيم على نظام موجود بالفعل؛ ألا وهو الرأسمالية. فثمة خفة يد مفاهيمية تعمل كلما استُدعيت العولمة. ومثل أي اسم يهدف إلى تحديد وتوضيح شيء معقد مثل فترةٍ تاريخيةٍ ما (على سبيل المثال، الحداثة)، أو الإشارة باختصار في كلمة واحدة إلى طابع «روح العصر»، فإن العولمة هي مجموعة من الإجراءات والعمليات والآثار والنتائج المنفصلة والمتميزة، المجمعة معًا بهدف إنتاج مصطلح مفهوم وواضح. ولكن، في الواقع، ليس هذا ما تفعله العولمة؛ فبدلًا من إنتاج الوضوح، تُنتج العولمةُ الغموضَ؛ فغالبًا ما تُمثَّل بوصفها نظامًا متماسكًا، بينما هي في الواقع مجموعة من العمليات والآثار عبر المجالات المختلفة على نطاق واسع من الحياة الاجتماعية، وتتجمع معًا من أجل الوصول إلى غاية ونتيجة محددة.

داخل العالم الأكاديمي، ليس من الصعب تتبُّع وشرح خطأ التصنيف هذا. قبل منتصف تسعينيات القرن العشرين، لم تَرِدِ العولمة بنحو واسع في البحوث الأكاديمية. بالطبع كانت العمليات والخصائص التي ارتبطت فيما بعدُ بالعولمة (مثل ضغط الوقت والمكان، والاتصالات الجديدة، والأشكال الجديدة من المضاربات المالية، وغيرها) كثيرًا ما تَرِدُ، ولكنها دائمًا ما كانت تأتي تحت مسمًّى آخر؛ مثل رأسماليةِ ما بعد الصناعة، وما بعد القومية، والرأسمالية المتأخرة، وما بعد الفوردية، والرأسمالية المعلوماتية، وما بعد الحداثة، والتراكم المرن، والرأسمالية العالمية، وما إلى ذلك. ولم يكن استبدال لفظ «العولمة» بهذه الأسماء فحسب مسألة دلالية؛ أي حلًّا لغويًّا لتبسيط مجموعة من المفاهيم المختلطة، وإنما بالأحرى، كانت الهيمنة الجديدة للعولمة، في جوهرها، بمنزلة وسيلة لتجنب التفكير في الرأسمالية والحديث عنها، وأهمُّ من ذلك، لتجنُّب قضية النظام تمامًا، وهي القضية الكبرى.

كانت آثار العولمة شاملة للغاية، وغير متبلورة، ومتغيرة الشكل، وفوضويةً لدرجةِ أن مجرد التفكير في تحديد منطقها أو اتجاهاتها (كما هو الحال مع أي نظام آخر) أصبح مصدرًا للإحباط. وفي هذه المرحلة، اقتحم الأكاديميون من جميع المجالات البحث في هذا الشأن. فعمد الباحثون في الأدب الإنجليزي إلى الكتابة عن عولمة شكسبير (ليس فقط عن عولمة دراسات شكسبير اليوم، ولكن العولمة خلال عصر شكسبير)؛ وتتبع علماء الأنثروبولوجيا تقاطُع تدفقات الشتات؛ حيث اكتشفوا أننا نتعرض للعولمة طوال تاريخنا كجنس بشري، أما علماء الأوبئة فدرسوا الانتشار العالمي للأمراض، إلى آخره، وصولًا إلى مديري الجامعات الذين سعدوا لتصنيف جامعاتهم بوصفها «عالمية»؛ اللفظ الذي سيستخدم في وقت لاحق بوصفه صفة لأي اسم (الجامعات العالمية، والخبرة الجامعية العالمية، والمناهج العالمية، والجهات المانحة العالمية، وما إلى ذلك).

ولكن كما هو معتاد، كان المؤرخون هم أقل الأشخاص اقتناعًا؛ فعندما يتحدث شخصٌ ما بحماس عن حداثة العولمة — مدى اختلاف كل شيء وكيف يمكن لأي شخص لا يقدِّر هذه التغييرات أن يكون متأخرًا — دائمًا ما يظهر مؤرخ ليذكِّر الجميع بأن كل الخصائص الجديدة المنسوبة إلى العولمة كانت في واقع الأمر موجودة بالفعل منذ فترة. وإذا ما جادل شخص بأن العولمة بدأت في سبعينيات القرن العشرين مع أزمات النفط وظهور الحاجة الجديدة لتقنيات معلوماتية لتوفير مرونة أكبر في الاستفادة من رءوس الأموال، فسيظهر مؤرخ ليشير إلى أن العديد من هذه الروابط والشبكات نفسها كانت تعمل بالفعل في بداية القرن.19 أو إذا ما جادل أحد علماء العلوم السياسية بشأن سبل تقويض استقلال الأوطان في إطار العولمة، فسيصحِّح مؤرخٌ الصورةَ لدى الجميع من خلال توضيح كيفية تقويض طرق التجارة في العصر الحجري القديم بدورها للاستقلال المحلي. إلا أن هؤلاء الرافضين لم يستهدفوا متخصصي العلوم الاجتماعية فحسب؛ فإذا ناقش باحث أدبي كيف ترتبط المرونة الجديدة للعولمة بالابتكارات الشكلية للرواية المعاصرة (مثل النظر للعالم من منظور شخص آخر، أو استخدام أسلوب الصور المجزأة، أو الافتقار إلى الصوت السردي الثابت)، يتقدم أحد مؤرخي الكلاسيكيات ليوضح للجميع أن كل تلك التقنيات موجودة بالفعل منذ عصر هوميروس.

ومن ثم، تَحوَّل الجدل الدائر في الجامعة حول العولمة، إلى نقاش حول كيفية تحديد إطار زمني لهذا الشيء الجديد. متى «بدأت»؟ وكيف «تتصل» بما كان قبلها؟ وردًّا على المؤرخين التقليديين، هل يمكن أن تعمل الظاهرة نفسها بنحو مختلف في لحظات تاريخية مختلفة؟ من الضروري أن تشمل مثل هذه الأسئلة السؤالَ الخاص بكيفية تناول العولمة؛ أي كيفية سرد قصة العولمة. المهم هنا هو أن لحظة هيمنة العولمة (اغتصاب الرأسمالية ومشكلة النظام نفسه) كانت هي نفسها لحظة التخلي عن كل محاولات «تفسيرها». كان كل ما تبقى في هذه المرحلة هو «وصف» العولمة — التي أصبحت حينها اسمًا لمرحلة زمنية وقوة تاريخية عالمية فعلية لا تقاوم — بكل مجدها اليوتوبي أو تهديدها الديستوبي. إن الصراع حول كون العولمة شيئًا جديدًا نوعيًّا، أم استمرارًا لما هو معتاد — وهو الصراع الذي كان يقع دائمًا على مستوى الوصف — قد تمخض عن هذا السؤال المهم: متى يمكن أن «تنتهي» العولمة؟

من المستحيل أن نسأل هذا السؤال ضمن الخطاب السائد للعولمة، وتحديدًا بسبب أن فهم العولمة على المستوى الوصفي فقط (على سبيل المثال، بوصفها فئة أسلوبية: أنها أسرع، وأكثر مرونة، وأقل مركزية) يجعل المرء لا يستطيع أن يتخيل دخول نظام مختلف إلى حيز الوجود؛ فالعولمة هي اسم واقعنا وحاضرنا، والمستقبل بقدرِ ما نستطيع أن نرى. أما عند النظر إليها بوصفها فئة زمنية، فقد كانت لها طابع مختلف تمامًا عن أوصاف سائر فترات التاريخ البشري. فحتى إبان ذروة الحرب الباردة، لم يكن من المتخيل قط أن تستمر هذه الحرب إلى الأبد. كان لا بد من أن نشهد نهاية لهذه الحرب؛ سواء من خلال انتصار أحد الجانبين في الحرب، أو التوصل إلى حل وسط أيديولوجي معين، أو تدمير للجنس البشري من خلال الصراع النووي.

إن ظهور نظام تجعله عناصرُه الأساسية من النوع الذي لا يمكن أن ينتهي كان مفتاحًا لإحاطة العولمة بهالة حتمية. ويتضح هذا بدرجة أكبر من خلال الخلط المتعمَّد الناتج عن المصطلح؛ هذا المزيج السلس من عناصره التجريبية والأيديولوجية. إن العولمة هي التقدم التكنولوجي. بالتأكيد، سيتزايد صِغر حجم تقنيات الكمبيوتر وسرعتها، وستلعب دورًا أكبر من أي وقت مضى في الحياة اليومية! تشير العولمة إلى الإنتاج في مواقع متفرقة في جميع أنحاء العالم؛ من ثَمَّ، هل يمكن أن يكون ثمة معنًى لصنع شيءٍ ما في منطقة قومية واحدة مرة أخرى؟ لماذا سيرغب المرء في أن يصبح أقل إنتاجية وكفاءة؟ ألمْ تكن هذه، على أي حال، وسيلةً لزيادة الناتج المحلي الإجمالي للجميع، مما يساعدهم على الوصول لنفس المستوى من النجاح الاقتصادي؟ وربما كانت إزالة كل الحدود والحواجز الاقتصادية بين دول العالم هي الشيء الوحيد الذي من المتوقع أن يتطلب قدرًا كبيرًا من الوقت، فهي بطيئة في عالمٍ يتَّسم بسرعة ونطاق كبيرين في كافة عملياته الأخرى على نحو مثير للدهشة. لا يمكن للعولمة أن تنتهي، ومجرد الإشارة إلى هذا قد يعني الرغبة في حدوث سيناريوهات كارثية، أو يعني استحضار سيناريوهات مثيرة للضحك من اللاضية الزمانية (أي محاولة إيجاد سبل للحياة دون تدخل من التكنولوجيا، مثل الزراعة العضوية وما إلى ذلك)؛ ومن ثم، فإن التحول التصنيفي من بنية الرأسمالية إلى آثار العولمة، ومن التفسير إلى الوصف، من شأنه أن يقضي على إمكانية التفكير في بديل للعولمة. وحتى لو تزايدت صعوبة تخيُّل مثل هذه السيناريوهات، فقد كان يمكن للرأسمالية أن تفشل أو أن يحل محلها نظام اقتصادي آخر. ولكن ماذا عن العولمة؟ إن الديمقراطيات الاجتماعية مثل النرويج والسويد، أو الدول صاحبة المبادئ الاقتصادية الأبعد عن الرأسمالية، مثل بوليفيا أو كوبا أو فنزويلا، يمكن أن يُنظر إليها بوصفها كيانات بعيدة عن الرأسمالية إلى حدٍّ ما؛ إلا أنها قد اشتركت جميعًا في العولمة. وكيف يمكن ألا تشترك؟ فالعولمة بلا حدود أو نهاية؛ فهي يمكنها فقط أن تسرع من وتيرتها، وأن تصبح أكثر تكاملًا أو انقسامًا، وأكثر عمقًا وانغماسًا في الحياة اليومية لكل شخص، في كل مكان.

لكن مع حدوث الانهيار المالي في نهاية عام ٢٠٠٨، بدأت العولمة تفقد قوتها؛ فبالرغم من كل شيء، جاءت نهايتها على نحو غير متوقع. كانت معاداة أمريكا التي نشأت خلال سنوات حكم بوش أُولى بوادر ظهور بعض الصعوبات التي واجهتها العولمة في أَسْر خيال الناس بوصفها الحسَّ العام الجديد لطريقة سير الأمور. إن العناصر الأساسية المكونة للعولمة — على سبيل المثال: تأثير التكنولوجيا على التجربة الحياتية، أو حركة الشعوب عبر الحدود، أو الآثار الواقعية لمستويات التجارة الدولية المرتفعة تاريخيًّا — لم تتوقف على حين غرة. لكن لم يستطع العمل الأيديولوجي للعولمة أن يقاوم الاضطراب؛ إذ انكشف أمره أخيرًا وتمامًا من خلال انهيار النظام. فبدلًا من العولمة، التي يجب أن نتذكر أنها كان يفترض أن تسمى كذلك في الوقت الراهن، أصبح من الممكن الآن أن نتحدث مباشرة عن الرأسمالية، التي حجب وأخفى وجودَها وقوَّتَها وشراستَها فكرةُ العولمة التي ظهرت بعد الحرب الباردة. ويتجلى ظهور الرأسمالية من جديد في الإشارات العديدة إلى «النظام» التي ظهرت اليوم في محاولات لوصف الظروف التي نواجهها الآن: «لم ينجح النظام»، «النظام يواجه أزمة»، «يجب إصلاح النظام إصلاحًا جوهريًّا». أما من يقول مثل هذه الأشياء، فهذا أمر يجب أن يحظى باهتمامنا. بالنسبة إلى بعض اليساريين، فإن إمكانية تسمية النظام — الرأسمالية — مباشرةً خارج مزيج التعتيم الذي تقوم به المفاهيم والقوى والعمليات المرتبطة بالعولمة، تمثِّل لحظة تسمح بوجود احتمالية سياسية حقيقية. وبالنسبة إلى المعنيين بصياغة فكر العولمة من البداية، فإن الاعتراف بالأخطاء، الذي من المتوقع أن يَرِدَ في المناقشات التي تتناول الحاجة إلى إصلاح النظام، لم يظهر في أي مكان تقريبًا. وعندما يظهر مثل هذا الاعتراف، كما هو الحال في اعتراف آلان جرينسبان بالخطأ في أكتوبر عام ٢٠٠٨ (عندما بدأت حالات الإفلاس وعمليات الإنقاذ في التزايد)، فإنه يشير إلى أن السبب في هذه المشاكل هو قِصَر نظرهم (بطريقة نرجسية نموذجية) وليس منطق النظام نفسه.

إن أحد أقدم توصيفات العولمة، وأكثرها دقة وانتقادًا (وهو ما يجب أن نشير إليه)، هو ما زعمه فرانسيس فوكوياما من أن نهاية الحرب الباردة في العالم ستكون «نهاية التاريخ». لا يهتم هذا الزعم في الواقع بالزمن أو التاريخ، على الرغم من أن استحضاره لنهاية العالم يشير إلى مفهوم اللازمنية الذي سيصبح ضروريًّا للحتمية الواضحة للعولمة وعدم إمكانية تجنبها. إنه، بالأحرى، زَعْم بخصوص الأيديولوجية والتغيير، وتحديدًا فيما يتعلق بالهياكل السياسية والاقتصادية. يشير فوكوياما للوضع العالمي بعد سقوط جدار برلين قائلًا:
إن ما نشهده قد لا يشير إلى نهاية الحرب الباردة فحسب، أو إلى مرور فترة معينة من تاريخِ ما بعد الحرب، ولكنه يشير إلى نهاية التاريخ كما نعرفه … أيْ نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للجنس البشري وعولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي لحكم البشرية.20
لا يُعد هذا وصفًا لإمكانية تجريبية موجودة بالفعل، بل ولا يمكن أن يكون كذلك؛ وحتى إذا ما صدقنا فكرة فوكوياما حول التطور التاريخي بأقوى ما يمكن، فإن مثل هذا الزعم لا يزال في حاجة إلى إثبات صحته واستمراره بمرور الوقت. ولكن على أي حال، فإن هذا ليس وصفًا ولا فلسفة، ولكنه دعوة لتبنِّي مشروع سياسي؛ مشروع يهدف إلى تحقيق شروط «نهاية التاريخ» التي تم الإعلان عنها هنا. وكان اسم هذا المشروع، بطبيعة الحال، هو العولمة.
يمكن للمرء أن يتوقع أن انهيار النظام الذي نعيش في ظله قد وضع نهاية لمثل هذا الحديث الواثق عن «نهاية التاريخ»، وقد حدث هذا بالفعل. يتضح هذا في عنوان كتاب روبرت كاجان الذي يتحدث عن نهاية العولمة «عودة التاريخ ونهاية الأحلام».21 ولكن الاعتراف بعودة التاريخ — وليس أنه كان موجودًا طوال الوقت؛ مخفيًّا أو محجوبًا؛ بل لم يكن موجودًا (لعقدين من العولمة) ثم عاد (في اللحظة الراهنة) — لا يعني الاعتراف بأن أي شيء ذي أهمية كبيرة قد تغير فيما يتعلق بزخم التاريخ أو حركته. ولكي نكون واضحين، تعني نهاية التاريخ بالنسبة إلى فوكوياما أن الإنسانية قد نضجت لتصل إلى النقطة التي أصبحت فيها الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الخيار الوحيد المناسب، وبالنسبة إلى كاجان، تُعد الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الشكل السياسي الشرعي الناضج الوحيد. والفارق هنا هو أنه، بالنسبة إلى كاجان، لا تمنح حركة التاريخ الذاتية الشرعية التي تنتج عن النضج السياسي والأيديولوجي. إذا كان من الممكن تصور أن التاريخ قد انتهى مع تأسيس «شكل جديد من النظام الدولي، مع اندماج الدول القومية معًا أو اختفائها، واختفاء الصراعات الأيديولوجية، واختلاط الثقافات، وزيادة الاتصالات والتجارة الحرة»،22 فقد عاد التاريخ الآن في صورة منافسة دولية بين دول قومية. لقد عدنا إلى المستقبل، إلى نهاية الحرب الباردة، إلى صورة قديمة من الصور الجيوسياسية، وإن كان ذلك في سياق جديد. لقد أثبتت التطورات التي حدثت في السنوات العشرين الماضية خطأ فرضية أن التحرر الاقتصادي يؤدي إلى التحرر السياسي، فضلًا عن «الاعتقاد الراسخ بحتمية التقدم الإنساني، الاعتقاد بأن التاريخ يتحرك في اتجاه واحد فقط.»23 وعلى الرغم من عولمة التجارة بالكامل، يشهد العالم عودة المنافسة بين الأنظمة الديمقراطية ونظيراتها الاستبدادية (روسيا والصين وإيران)، وإنشاء «خطوط صدع جيوسياسية؛ حيث تتداخل طموحات القوى العظمى وتتصارع.»24 ما الدرس المستفاد من كل هذا؟ الدرس المستفاد هو أنه «يجب أن تبدأ ديمقراطيات العالم في التفكير في كيفية حماية مصالحها والدفاع عن مبادئها في عالمٍ تواجِه فيه تلك المبادئُ تحدياتٍ قوية مرة أخرى.»25 تبقى المبادئ كما هي، برغم كل شيء. أما الذي يتغير، فهو ببساطةٍ طبيعة المشروع السياسي الذي يمكن تحقيق هذه المبادئ من خلاله.

بدأ مدح المعلقين السياسيين ومؤلفي الكتب التي تتناول الأحداث الجارية للتقدم الذي تحرزه العولمة وفاعليتها السياسية والاقتصادية في الاختفاء. وظهر شعور بأن العالم يواجه كل أنواع التحديات التي تتطلب كلًّا من التفكير والعمل الجادَّين، بالإضافة إلى إحداث تغيير كبير في طريقة إدارة الأمور. وحتى مع ذلك، وكما يظهر من خلال كتاب كاجان، ثمة اختلافات بسيطة على نحو ملحوظ بين الأفكار والقيم — في واقع الأمر، طبيعة النظام نفسه — التي من المتوقع أن نستخدمها لمواجهة هذه المشكلات؛ بل إنه يبدو أن هناك إدراكًا أقل بأن هذه المشكلات قد تكون نتاج النظام الذي نتصور الآن أنه السبيل الوحيد لحلها. إن الفكرة السياسية الأساسية للعولمة كانت أن نرى الديمقراطية الانتخابية والرأسمالية متلازمتين في جميع أنحاء العالم. ثمة مبدآن يقودان المشروع السياسي للعولمة؛ أولًا، ودون أن يتم الإعلان عن ذلك صراحةً: كانت العولمة وسيلة للحفاظ على الوضع المهيمن للولايات المتحدة في العالم والتحكم به، وقد قامت بذلك بالفعل من خلال التعبير المتواصل عن حتمية جميع العمليات والقوى المرتبطة بالعولمة وجدواها؛ أي إنتاج ونشر قيم الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية، لا بوصفها أيديولوجية يمكن لأي شخص أن يبدي رأيه بشأنها أو قد يختلف معها، ولكن باعتبارها شكلًا من أشكال الحسِّ العام، بل وأكثر من هذا، فهي حس عام لا يرتبط بالولايات المتحدة الأمريكية ارتباطًا مباشرًا. ثانيًا: كان هذا التطور، بأي حال من الأحوال، حتميًّا تاريخيًّا؛ إذ كانت الأمم والأفراد سيجدون أنفسهم في هذا الوضع في مرحلةٍ ما؛ أي إن المقاومة غير مجدية، ليس فقط بسبب قوة المؤسسات القائمة، ولكن نظرًا لحركة الزمن نفسه.

وماذا عما بعد العولمة، عندما عاد التاريخ؟ من المدهش أن الانتشار العالمي للديمقراطية الليبرالية والرأسمالية يُنظر إليه بوصفه أمرًا لا مفرَّ منه، ولكن ظهرت الآن مرة أخرى الحاجة إلى النضال من أجل تحقيق هذا الوضع على أرض الواقع؛ وهو نضال ينطوي على الدول القومية. قد توحي معاودة الأمة للظهور في السياسة بأن ثمة لاعبًا جديدًا تمامًا على الساحة السياسية العالمية، استيقظ فجأة من سُباته. في الحقيقة، لطالما كانت العولمة تشمل الدول القومية، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية. (ويمكننا أن نفكر في الصين كذلك، ذلك البلد الذي تَطلَّب اندماجه الناجح في الاقتصاد العالمي وجود دولة قومية قوية، أو اشتراك حكومات روسيا والبرازيل والهند وغيرها، في الواقع، اشتراك كل الدول القومية في حدوث العولمة.) كانت العولمة أحد الأشكال التي استطاعت أمريكا من خلاله أن توضح العقلانية والحس العام للقيم والأفكار التي تدَّعيها نيابةً عن الرأسمالية والديمقراطية. وبعد العولمة، كانت ثمة حاجة لتغيير «شكل» التعبير عن هذا الحس العام؛ فمع انهيار النظام عام ٢٠٠٨، انتهى التسليم المطلق بحتمية العولمة، وثباتها وديمومتها. ومن الأشكال الجديدة التي اتخذها هذا الحس العام كان تقديم فكرة «لحظة ما بعد أمريكا»، وهو تعبير عن الاستسلام إزاء مشاعر معاداة أمريكا السائدة في السنوات القليلة الماضية، على الرغم من أن هذا الشكل، كما سنرى، يهدف إلى الحفاظ على وضع الهيمنة الأمريكية، مثله في ذلك مثل العولمة. ولم يشهد «محتوى» هذا الحس العام سوى تغير ضئيل؛ فتَحْتَ ستار نقلة نوعية أخرى (في البداية كانت العولمة، ثم نهايتها) تتطلب تحليلًا متماسكًا، ظهر الحسُّ العام المحرك لخطاب العولمة، وربما جاء ملتحفًا بثوب جديد.

ومن ثم، يوحي كل ما كُتب تقريبًا حتى الآن عن العولمة وما بعدها بأنها كانت مجرد ستار أيديولوجي، أو وعد كاذب؛ في أحسن الأحوال، هي فكرة اجتماعية وعلمية اتضح (في نهاية الأمر) أن قيمتها التفسيرية كانت أقل من المأمول منها، وفي أسوأ الأحوال، هي شكل يُستخدم للحصول على الموافقة على الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية بطريقة من الصعب مواجهتها أو مقاومتها. ومع ذلك، فإن هذا من شأنه أن يفضي إلى توصيف غير صحيح لطرق فهم العولمة واختبارها. لقد كانت العولمة كيانًا/مفهومًا فعالًا على نحو خاص في توسيع هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب الباردة، وهي اللحظة التي كانت ربما تشهد قلقًا ومقاومة من سائر الدول لأفكارِ ومُثلِ القوة العظمى الوحيدة في العالم. ومن المهم أن نتذكر أن العولمة كانت أيضًا لحظة تطرح احتمالات ووعودًا: نهاية الدول القومية ووعد الكونية، انفتاح الحدود وفرص السفر، أشكال جديدة من الاتصال والترابط البشري، ارتفاع مستويات المعيشة على مستوى الكوكب، ظهور تقنيات مبتكرة وما يصاحب استخدامها من خبرات جديدة؛ تلك كانت التطورات المرتبطة بالعولمة التي وسعت آفاق التجربة الاجتماعية والثقافية والسياسية. لا يعني هذا أن تلك الاحتمالات قد تحققت بالكامل، دون أن يكون لها جانب مظلم، أو أنها كانت جديدة كليًّا؛ فلم تختفِ عمليات إقصاء الدول القومية وعنفها، وظلت الحدود باقية وحرية التنقل محدودة وتقتصر على أقلية صغيرة، وساعدت الأشكال الجديدة من الاتصالات والتكنولوجيا على توسيع أشكال المراقبة، واستغلال العمالة، وما إلى ذلك؛ ولكل فرد جديد يضاف لسكان الصين والهند، يضاف ساكن جديد للأحياء الفقيرة المحرومة في العالم. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يقلل من شأن مساهمة رؤية العولمة القائمة على «عالم واحد» في توليد طاقات للاقتصاد والسياسة بخلاف الوضع الراهن للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية الذي نشهده الآن. ومع نهاية العولمة لا يأتي فقط انهيار المشروع الأيديولوجي، وإنما أيضًا انهيار الآمال في تأسيس نوع مختلف من السياسة على نطاق عالمي.

مع حدوث الأزمة المالية في عام ٢٠٠٨، انتهت العولمة. قد نجد من يهتف: فلتذهب إلى غير رجعة! ففي تلك اللحظة ذاتها، رأى الكثيرون أن الوعود الكثيرة المؤجلة للعولمة قد تحررت. وجاء انتخاب باراك أوباما في أعقاب الانهيار المالي ليحل في لحظة معاداة أمريكا التي تأججت في جميع أنحاء العالم خلال ولاية جورج دبليو بوش الثانية. ويشير انتخاب أوباما إلى آفاق سياسية جديدة، كما يوحي بأن النضال السياسي الذي أعلن عنه كاجان سوف يتخذ شكلًا مختلفًا عما كان يتوقعه، أو هكذا يبدو الأمر.

(٤) أوباما: «أواجه العالم كما هو»

التفكير في معاداة أمريكا يعيدنا إلى العولمة، ولكنها تلك العولمة التي تعمل على نطاق مختلف عن ذي قبل؛ عولمة ضعيفة في حقائقها الذاتية ونقاط القوة في قصصها. ويبدو أن معادة أمريكا قد محيت كذلك في لحظة مع فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية. وحتى بالنسبة إلى من يشككون في مزاعم حدوث تحولات جيوسياسية مفاجئة بسبب أحداث فردية، بدا فوز أوباما بشيرًا بأمر جديد على الصعيد السياسي والاجتماعي.

لم تكن حملة أوباما مجرد حدث سياسي قومي على الإطلاق، كما أن فوزه على جون ماكين لم يكن مجرد انتصار قومي. لم تكن ثمة لحظة في التاريخ الحديث كانت فيها الشعوب من غير المواطنين الأمريكيين مهتمة لهذه الدرجة بسباقٍ انتخابيٍّ قوميٍّ ومؤثرة فيه بشدة. كان الجميع حول العالم يعرفون جيدًا أن ما حدث في الانتخابات الأمريكية سيؤثر بنحو عميق في حياتهم اليومية، بل ربما يكون هذا الأثر أكثر عمقًا من انتخاباتهم المحلية والقومية الخاصة بهم. في الواقع، لم يجتمع أكبر حشد لدعم حملة أوباما للترشح للرئاسة الأمريكية في شيكاجو أو كاليفورنيا، ولكن في ألمانيا؛ حيث احتشد ما يربو على ٢٠٠ ألف شخص حول عمود النصر في برلين للاستماع إلى أوباما في ٢٤ يوليو عام ٢٠٠٨. بدأ أوباما خطابه، الذي كان بعنوان «عالَم واحد»، بتوضيح أنه لا يتحدث بوصفه مرشحًا رئاسيًّا، ولكن باعتباره مواطنًا أمريكيًّا، ومواطنًا عالميًّا.26

يعود جزء من جاذبية أوباما إلى خلفيته وصعوده غير المتوقع إلى أعلى البناء السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن ما أثار إعجاب الجميع، وخاصة من يعيشون خارج الولايات المتحدة الأمريكية، هو ذكاؤه واحترامه للتناول العادل والنقدي للتاريخ والفروق الثقافية على وجه الخصوص. وبطبيعة الحال، كان الإعجاب بأوباما رد فعل للكراهية المتزايدة لجورج دبليو بوش، القائد الذي سَخِرَ من المفكرين بسرعة لا يضاهيها سوى سرعة رفضه للعمل التحليلي. كان من الممكن أن ينجح تفضيل بوش لاتِّباع الحدس الداخلي واعتماده الصريح على العقيدة الدينية لتوجيه عملية صنع القرار السياسي في أمريكا، إلا أنه نادرًا ما كان يروق لمن هم خارج أمريكا ممن يستقبلون ما يقدمه من تشبيهات كرتونية وعمليات تبسيط. وفي حين أن معاداة الفكر التي يحركها الحس العام تتسم بالفاعلية الشديدة تقريبًا في أي سياق قومي، فإنها لا تعمل جيدًا في الخارج؛ لأن الحس العام يرفض بالضرورة التحليل الذي يعمل على حشد الرموز القومية استراتيجيًّا. إن التعبير الأكثر أهمية عن ذكاء أوباما في الخارج (في مقابل استراتيجية معاداة الفكر التي اتبعها بوش)، لم يكن متعلقًا بسياسة معينة أو وعدٍ انتخابيٍّ ما، ولكنه جاء من خلال تحليله لعبارة واحدة: «الحرب على الإرهاب».

لقد تساءل أوباما، وكأنه أستاذ لغة إنجليزية كفء، كيف يمكن أن توجد حرب على اسم؟! يمكن أن تكون هناك حرب على دولةٍ ما تشجع الأعمال الإرهابية (مثل أفغانستان) أو حتى على إرهابي معين (مثل أسامة بن لادن؛ في الواقع، أطلق بيل كلينتون أكثر من ٧٠ صاروخ توماهوك لاستهداف بن لادن في عام ١٩٩٨)، إلا أن الإرهاب في حد ذاته ليس عدوًّا. وخلافًا لتحليل بيل كلينتون لعبارة أخرى («لم تكن لي أي علاقة جنسية مع هذه المرأة» التي كان المراد منها التهرب والتحايل باستخدام ذكائه لحجب الحقيقة والدفاع عن نفسه إزاء الفعلة التي كانت واضحة وضوح الشمس)، استخدم أوباما تحليله للألفاظ في محاولة للعودة إلى ما كان على المحك بعد أحداث ١١ / ٩. في الواقع، إذا كان كلينتون قد استغل قدراته القانونية والبلاغية والفلسفية للمجادلة بأن علاقته بمونيكا لوينسكي لم تكن أسوأ جريمة في العالم (وأن الهوس بهذه القضية عَرَضٌ من أعراض الثقافة الأمريكية المشبعة ليس فقط بوسائل الإعلام المعتمدة على الإثارة، وإنما أيضًا بحالات النفاق الأخلاقي)، فإن المرء يتساءل إن كانت معاداة الفكر (وربما حتى معاداة أمريكا) التي انتشرت في عهد بوش كان يمكن أن تكون قوية للغاية. على أي حال، كانت قراءة أوباما الجيدة لسياسة بوش وتشيني الخاصة ﺑ «الحرب على الإرهاب» هي ما نال إعجاب من يراقبون السباق الرئاسي من خارج البلاد، أكثر من أي رأي من آرائه الجيوسياسية أو الخاصة بالسياسة العسكرية.

إنَّ سعي أوباما هذا إلى إعادة العناية والتدبر لعملية صنع القرار أدى إلى زيادة شعبيته بنحو كبير، لدرجة أنِ انعقدت ألسنة الكثيرين عندما أتى أوباما في إدارته بشخصيات كانت مفضلة في عهد كلينتون، مثل لورانس سامرز الذي أصبح كبير المستشارين الاقتصاديين (فضلًا عن هيلاري كلينتون التي أتى بها كوزيرة الخارجية)، واحتفظ بإحدى الشخصيات الرئيسية التي عيَّنها بوش، وهو روبرت جيتس كوزير للدفاع. وحتى الأيام العصيبة التي شهدتها السنة الرئاسية الأولى له في أعقاب الأزمة المالية (ودعم عمليات الإنقاذ المالية) لم تقوِّض شعبيته في الداخل أو الخارج على نحو كبير. واقتضى الأمر مرور أكثر من سنة، مع عودة المؤسسات الكبرى في وول ستريت لتحقيق أرباح كبيرة — تسجيل جولدمان ساكس أرباحًا قياسية وإدارة مكافآت ضخمة على الرغم من تلقيها مساعدات مالية من برنامج إغاثة الأصول المتعثرة — وقرار أوباما بدعم العمليات العسكرية في أفغانستان، لقتل خيالات الأمل المتعلقة بأوباما.

يعمل الخيال عن طريق تحويل الخسارة إلى شيء مفقود، بغية إضفاء صبغة إيجابية على شيء مهم وملهم هيكليًّا ولكن لا وجود له بأي وسيلة ملموسة (مثل الوجود الغائب للخسارة). بهذا المعنى، تمثِّل الخسارة شيئًا يستحيل امتلاكه (مثل وجود أشخاص فاحِشِي الثراء دون وجود أغلبية فقيرة داخل المجتمع الرأسمالي)، في حين يمثل الشيء المفقود الشيء، أو الشخص، الذي يمكنه حل هذا التناقض غير القابل للحل بأعجوبة. في الواقع، لقد كانت أحلام الخيال المتوقعة من أوباما هي الحلم بأن يهتم زعيم قومي بأشياء تتجاوز مصالح بلاده الخاصة. وقد تناثر هذا الخيال أشلاءً في أوسلو في ١٠ ديسمبر عام ٢٠٠٩، عندما قبل أوباما الحصول على جائزة نوبل للسلام.27
قبل هذا التاريخ بتسعة أيام فحسب، ألقى أوباما خطابًا في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في وست بوينت معلنًا عن سياسته الجديدة في أفغانستان.28 كانت دعوته لنشر أكثر من ٣٠ ألف جندي إضافي في أفغانستان (بتكلفة إضافية تزيد عن ٣٠ مليار دولار في عام ٢٠١٠ وحده)، تشير لإعادة ترتيب أمريكا لأولوياتها العسكرية. سيضمد أوباما جرح الحرب على العراق (وهو بمنزلة لطمة لسياسة بوش الفاشلة وعدم ترتيبه للأولويات)، في حين يكثف التركيز على الحرب في أفغانستان. ويجب أن يكون هذا القرار — الذي جاء بعد شهور من التفكير والمناقشات، مع موافقة كبار قادة الجيش الأمريكي عليه [الجنرالين ماكيرنان وَبتريوس]، ومعارضة سفير الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان، الجنرال المتقاعد كارل إيكنبيري، إلى جانب كلٍّ من كولن باول وَبايدن، نائب الرئيس — على رأس الموضوعات التي سيتناولها في الخطاب الذي سيلقيه أوباما في حفل نوبل. والآن أصبح على أوباما أن يتعامل مع معضلتين؛ أولًا: كيفية احترام روح جائزة نوبل للسلام، مع التزامه بشن هجوم عسكري كبير جديد (وهو قرار محل نزاع حتى داخل إدارته الخاصة). وثانيًا: كيفية قبول هذه الجائزة التي تمثل آمال وتطلعات الكثير من المواطنين حول العالم فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، مع عدم المساس بمسئوليته إزاء تحقيق مصالح بلده.

بعد إعلان أوباما عن تقديره لملك السويد ولجنة نوبل، وقبل أن يشير مباشرة إلى المواطنين الأمريكيين (مدركًا كيف سيكون صدى ما سيقوله كبيرًا في أمريكا)، ذَكَرَ أفغانستان مباشرة. كان أوباما يعلم جيدًا أن المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج (وهما اثنان من الحائزين على جائزة نوبل للسلام كان أوباما يذكرهما كثيرًا في الخطاب) سيخالِفَانِه في قراره بتصعيد الحرب في أفغانستان. لكنه جادل ضد آراء غاندي وكينج المعارِضة لآرائه قائلًا: «ولكن بوصفي رئيس دولة أَقْسمتُ على حماية أمتي والدفاع عنها، لا أستطيع أن أتخذ قدوتي منهما وحدهما. فأنا أواجه العالم كما هو، ولا يَسَعُني أن أقف بلا حراك في مواجهة الأخطار التي تهدد الشعب الأمريكي.» لقد كانت المقولة السابقة هي أكثر ما يلفت الانتباه. يشير أوباما إلى أنه لو لم يكن رئيسًا للبلاد، لكان من الممكن أن يسترشد بنماذج غاندي وكينج. بعبارة أخرى، كان غاندي وكينج قائدَين عالميَّين (و/أو قائدَين محليَّين)، في حين أن أوباما قائد قومي، وهذان النوعان المختلفان من القيادة لا يمكن التوفيق بينهما.

كان التعبير عن عدم إمكانية التوفيق بين القيادة القومية والعالمية أكثر عمقًا فيما يتعلق بالبيئة. في الخطاب الذي ألقاه أوباما في حفل نوبل واستغرق ٣٧ دقيقة، ذكر أوباما تغيُّر المناخ مرة واحدة فقط، وحتى في هذه المرة الوحيدة، ارتبطت مخاوفه البيئية ارتباطًا وثيقًا بالمصالح العسكرية. قال أوباما: «لهذا السبب، فإن العلماء والنشطاء في مجال البيئة ليسوا وحدهم مَن يدْعون إلى اتخاذ إجراءات سريعة وقوية، بل إن القادة العسكريين في بلادي وغيرها من البلاد يفهمون أن أمننا المشترك في وضع حرج.» إن الخلط بين الاهتمامات البيئية والعسكرية يكتسب أهمية خاصة بالنظر إلى أنه حين كان أوباما يتحدث في أوسلو، كانت أهم قمة معنية بتغير المناخ (مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ، أو مؤتمر الأطراف الخامس عشر، بحضور ١٩٢ دولة، والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، ومحاضرون من كل أنحاء العالم اجتمعوا بهدف التوصل إلى معاهدة أو اتفاق جديد، أو حتى توافق في الآراء بشأن كيفية إدارة ظاهرة الاحترار العالمي) قد بدأت في كوبنهاجن، وكان من المقرر أن يلقي أوباما كلمة مهمة خلالها.

كانت محادثات كوبنهاجن آخذة في التراجع بسرعة منذ البداية. كانت التعبيرات الرنانة — مثل الأهداف والإنفاذ والشفافية — تتردد، فيما كان مختلف اللاعبين غير قادرين على الاتفاق على أهداف محددة وكيفية إمكانية تحقيق عنصرَي الإنفاذ والشفافية على نطاق عالمي؛ على سبيل المثال، ترددت الولايات المتحدة بشأن الأهداف، فأعلنت واشنطن أنها ستخفض انبعاثات غازات الدفيئة ١٧ في المائة عن مستوياتها في عام ٢٠٠٥ بحلول عام ٢٠٢٠؛ لكن هذا كان يعد تخفيضًا بنسبة ٤ في المائة فقط وفقًا لمؤشر عام ١٩٩٠ الذي تستخدمه معظم الدول الأخرى. وأشارت الصين لبعض المخاوف المتعلقة بالسيادة؛ إذ ترددت بشأن الإنفاذ، في حين تساءلت الهند والبرازيل حول سبب التزامهما بنفس الأهداف التي تلتزم بها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، رغم التاريخ غير المتكافئ للتنمية الصناعية العالمية؛ وجادلت مجموعة اﻟ ٧٧ (وهي منظمة تتألف من ١٣٠ دولة نامية) بأن خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لا يجب أن يتم على حساب تنميتها؛ وطالب الاتحاد الأفريقي (وهي كتلة تتكون من ٥٠ عضوًا أغلبها من الدول الفقيرة) بتخفيضات أكثر وضوحًا في الانبعاثات، وكذا فَعَلَ تحالف الدول الجزرية الصغيرة (وهي مجموعة من ٣٩ عضوًا، يمثلها رئيس وزراء جزر المالديف صاحب الشخصية الجذابة محمد نشيد)، التي من دونها ستصبح تلك الدول غير صالحة للسكنى بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. ثم جاءت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك، التي طلبت بدفع تعويض مالي عن أي انخفاض في أسعار النفط ناتج عن مفاوضات المناخ)، وائتلافات دول الغابات المطيرة، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، والدول الهادئة على نحو مثير للشك التي توافق دائمًا على أي قرار، مثل كندا واليابان.

ومع وصول أوباما في اليوم قبل الأخير، كان كل اللاعبين الأضعف قد أصبحوا على الهامش. وكان الصراع قد أصبح بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، إلى جانب البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. في الواقع، كان ما أصبح يعرف باسم «اتفاق كوبنهاجن» قد أُبرم بين هذه الدول الخمس (وكان التزامًا باتخاذ تغير المناخ على محمل الجد أكثر منه تحديدًا لإجراءات ملموسة يجب تفعيلها)، ودعمته بامتعاض سائر الدول الأعضاء الأخرى التي كانت تخشى عدم التمكن من الحصول على التمويل اللازم من الدول الغنية للمساعدة على التكيف مع تغير المناخ. وفي وسائل الإعلام الأمريكية المؤيدة للنظام الأمريكي، أُظهر أوباما على أنه كان حازمًا مع الصين، وأنه الشخصية الرئيسية التي أنقذت المحادثات. ولكن بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الدول المشاركة وقادة مختلف المنظمات غير الحكومية والنشطاء المراقبين للمحادثات، جاءت تحركات أوباما مخيبة للآمال، وكان الحدث بأسره يقترب من كونه خدعة.

أخذت الآمال والرغبات الدولية التي سبق أن ارتبطت بأوباما تذوي سريعًا، ولكن بدا أن ثمة شيئًا مختلفًا؛ فبدلًا من إلقاء اللوم على لعبة السلطة في إنتاج زعيم عديم الرحمة، وقصير النظر — كما كان الحال مع جورج دبليو بوش، على سبيل المثال — بدأ الكثيرون يُلقون باللائمة على النظام الأكبر لصنع القرار. ووُضعت العملية نفسها موضع المساءلة؛ عملية إشراك القادة القوميين في القضايا فوق القومية. وقال المدير التنفيذي لمنظمة السلام الأخضر: «إن مدينة كوبنهاجن الليلة هي ساحة جريمة … لقد أصبح جليًّا الآن أن التغلب على ظاهرة الاحترار العالمي يتطلب نموذجًا سياسيًّا يختلف اختلافًا جذريًّا عن النموذج الذي ظهر هنا في كوبنهاجن.» وحتى المنتمون لتيار الوسط بدءوا بوصف القمة بأنها فشلت «فشلًا ذريعًا»، واصفين الشكل الدبلوماسي كله للمؤتمر بالمهزلة، ومعتبرين التنمرَ الذي مارسه أوباما العاملَ الذي يتحمل المسئولية الكبرى في إجبار باقي الدول الأعضاء على التوقيع على «قرار بالإعدام».

أما ما أصبح واضحًا في كوبنهاجن، وما كان جليًّا بالفعل في خطاب أوباما في حفل نوبل في أوسلو، هو أنه لا يمكن أن تكون ثمة جدية بالالتزام بإدارة تغير المناخ فيما تواصل الولايات المتحدة الأمريكية شن حربيها على العراق وأفغانستان. إن تكلفة حربَي الولايات المتحدة الأمريكية التي تزيد عن ٣ تريليونات دولار وفق الحسابات المتحفظة التي أجراها جوزيف ستيجليتز وليندا بيلمز لا يمكن التوفيق بينها وبين ما هو مطلوب على صعيد المناخ.29 ومن بين جميع تلميحات أوباما المتعمقة التي تتناول النظرية السياسية بغية إضفاء الشرعية على شن «حرب عادلة»، كانت الحجة الاقتصادية هي أقلها نجاحًا. في شوارع كوبنهاجن وفي جميع أنحاء العالم، كان الحديث عن التناقض الأساسي قد بدأ أخيرًا؛ فمن أجل تمويل الحروب، على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحافظ على إنتاج الثروة (مدفوعة في ذلك بالتوسع والاستهلاك السلعي اللامحدودَين، وخاصة فيما يتعلق بالأسلحة) بمعدلٍ مِن شأنه أن يدمر الأنواع الموجودة على كوكب الأرض، وربما الكوكب نفسه. وقد وجد أوباما أنه وُضع في موقف صعب؛ ولهذا لجأ إلى الوهم الأخير في خطابه في حفل نوبل قائلًا، وهو يبدو أقرب إلى بوش وبن لادن منه إلى كينج أو غاندي: «لا شك أن الشر موجود في العالم.» تتعدد أشكال الشر ويبقى الشر واحدًا.

(٥) العولمة وما بعدها: روايتان للعالمية

ما نسعى إليه في هذا الكتاب هو أن نوضح معنَى ما اصطلحنا على تسميته «الحس العام». والحس العام الذي سنتناوله وندرسه هنا ما تم تطويره والإعلان عنه بقوة من نهاية الحرب الباردة وحتى نهاية العولمة؛ من حماسة فوكوياما إلى إحباطات أوباما. ونحن نهتم بالحس العام للعولمة بقدرِ ما نهتم بالشكل الذي يتخذه فيما بعد العولمة. وبطبيعة الحال، لم تُنتَج البديهيات، والاستعارات، والأرقام التي تشكل الحس العام من العدم على مدى السنوات العشرين الماضية؛ إذ اعتَمَدَت على مجموعة كاملة من المعتقدات والممارسات والعلاقات التي تم تطويرها على مدى القرن الماضي، بل ولفترة أطول؛ على سبيل المثال، إن الاعتقاد السائد على نطاق واسع بأن التاريخ يتكون من خلال تقدم قابل للقياس له جذور تمتد إلى عصر التنوير؛ فالاعتقاد بأن هذا التقدم يظهر بأوضح صُوَره من خلال نوع معين من التطور التكنولوجي (على سبيل المثال، تصغير تقنيات الكمبيوتر) والآثار الاجتماعية التي يرتبط بها (على سبيل المثال، التقريب بين الناس من خلال تقليص المساحة) له أصل أكثر حداثة. ونود أن نشير إلى أن العالم اليوم يمتلك من الحس العام العالمي المشترك ما يشكِّل الإطار الذي نعمل فيه؛ وينتج هذا الإطار حدًّا مهمًّا يقيد قدرتنا على معالجة المشاكل جديدها وقديمها؛ بدايةً من تأثيرنا على البيئة، إلى آثار نظمنا الاقتصادية ونتائجها. وقد لا يبدو هذا الحد جديدًا في حد ذاته، إلا أن خطورة نتائجه تزداد يومًا بعد يوم.

لماذا لا نستخدم مصطلحًا مختلفًا؟ لماذا نقول الحس العام؟ لماذا لا نستخدم لفظة أيديولوجية، أو هيمنة؟ يرتبط الحس العام، بالمعني الذي نستخدمه، بالتأكيد بهذه المفردات. وعلى الرغم من أن مفهوم الهيمنة لم يَعُد يروق للنقاد كما كان في وقت سابق، حيث تحولوا إلى استخدام مفاهيم أخرى، تبدو عصرية أكثر في سوق الأفكار، يبقى هذا المفهوم مهمًّا لاستيعاب كيفية عمل المجتمعات المعاصرة؛ فالهيمنة اسم لطريقة الحصول على الموافقة وإدارتها وإعادة إنتاجها. والموافقة المذكورة هنا هي الموافقة على أن تصبح محكومًا، وأن تشارك في نظام ظالم، وأن تندمج في نظام حياة يبدو بالنسبة إلى الغالبية العظمى أقل بكثير مما يمكن أن يكون عليه، وهي نقطة تجريبية وليست محض تخيُّلٍ يوتوبيٍّ. تُحدِّد الهيمنة طريقة تشكيل كل جانب تقريبًا من جوانب الحياة الاجتماعية بغية إضفاء الشرعية على نظام اجتماعي يفضل بعض المصالح الاجتماعية على غيرها. وتشمل مكونات الهيمنة كل شيء، من «المعطيات» الاجتماعية والسياسية التي يتعلمها المرء خلال التعليم إلى قواعد السلوك اليومية؛ من صفات وطبائع العلاقات الاجتماعية وحتى هيكل إضفاء الشرعية الخاص بالنظم السياسية؛ ومن العناصر المكونة للأسرة وحتى السرد المتوقع لمسار حياة الفرد. إن الهيمنة ليست كذبة النظام، ليست خدعة صنعها أولئك الذين يسمح لهم ثراؤهم بتجاوز الحدود المعرفية للأعراف الاجتماعية على نحو بارع؛ ومن ثم يتحكمون بسير الأمور من الخارج (وهي الطريقة الأساسية لفهم الأيديولوجية)، بل هي حقيقة النظام، ومن ناحية أكثر جوهرية، إنها تمثل «ماهية» النظام.

يرتبط الحس العام بالهيمنة؛ فهو يشير إلى نفس الافتراضات الاجتماعية العميقة التي تضع هيكل الامتيازات وتنتج المساوئ. وعندما نستحضر الهيمنة، نرى أنها تؤدي عملًا مختلفًا. إن سهولة فهم الحس العام؛ «المحتوى» الاجتماعي المشوش الذي يبدو وكأنه «شكل» أو «نظام»، يقع في صميم عمليات الهيمنة؛ إنه يتمثل حين تتفوق السلطة على براءة التقليد أو اليقين العلمي الواضح الذي يكمن في البيولوجيا الاجتماعية؛ «لقد كانت الأمور دائمًا على هذا المنوال.» وإذ ننتقل من أعماق الهيمنة إلى سطحها، يظهر الحس العام كشخصية عندما تكون عمليات الهيمنة في موضع شك، في أضعف صُوَرها، عندما تكون قلقة بشأن استخدام قدرتها الرائعة على إعادة إنتاج الحاضر في المستقبل، مع فارق ضئيل ضروري للتغلب على الجمود القاتل للركود الاجتماعي. إن الحس العام الذي ندرسه أمر معروف؛ فهو مجموعة من الافتراضات والحقائق والمنطق المفترض. وفي ظل هذه الظروف التي نعمل على استكشافها، يتخلى الحس العام عن أصوله بوصفه ابتكارًا اجتماعيًّا لأنه يحتاج إلى الإصرار عليه، وتكراره، والإعلان عنه (بدرجات متفاوتة من الثقة والالتزام) باعتباره حلًّا للأزمات الوشيكة. ولا يستطيع أن يفعل ما يحلو له: أن يستلقي في سُبات عميق، مثل دب في كهفه الشتوي، ويكون على قدر كبير من الخطورة إذا ما أقدم شخص على إزعاجه.

وكما أشرنا من قبل، في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة (تلك الفترة الحالمة من الحس العام المتحجر!) وحتى نهاية العولمة، ثمة سياقان يضطر الحس العام فيهما إلى أن «يحاجج عن شرعيته عن طريق شرعية حججه». ينشأ السياق الأول من خلال توسع هيمنةٍ ما (هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية) من أمة إلى كوكب بأكمله، وهي عملية مليئة بالأخطار؛ نظرًا للسياقات والتواريخ والسلطات الزمنية المختلفة على نحو كبير التي سيتعين عليها مواجهتها بالضرورة. ويتطلب هذا التوسع أيضًا وصولها إلى سطح سياقها الأصلي، بوصفها أكثر من مجرد وضع وجود متميز (هذا الفرق الذي ما زلنا نَصِفه بسذاجة بمصطلح «ثقافي»)، ولكن بوصفها شكلًا من أشكال الموافقة الاجتماعية والسياسية التي تحاول إعادة إنتاجها في كل مكان. والتحدي الذي يَمثل أمام الحس العام في هذا السياق الأول هو تكوين مفردات يمكن أن نضعها موضع التنفيذ في كل مكان من حيث المبدأ. وقدمت روح العالم الواحد التي أضفتها العولمة، وهو نظام كان يعتبر غير مرتبط بزمان (متى بدأ، لا يمكن أن ينتهي أبدًا) وحتميًّا (هنا، وهناك، وفي كل مكان) الحل الأمثل. بالطبع، هناك شعور ضروري بحتمية وجود أي شكل من أشكال الهيمنة. في حالة العولمة، لم تكن هذه الحتمية تغمر الحس العام عن طريق التقليد، ولكن من خلال فهم التاريخ بأقوى معنًى ممكن؛ هذا التاريخ الشامل الذي يرى أن البشرية جمعاء تتحرك نحو غاية مشتركة. كان حدس فوكوياما بأن العولمة ستكتب نهاية التاريخ صائبًا تمامًا، ولكن فقط بقدرِ ما كان من خلال ميل قوي لهذه الرؤية للتاريخ، يمكن للحس العام العالمي أن يُنتج مصحوبًا بنسبة ضئيلة نسبيًّا من الصراع معه أو مقاومته.

أما السياق الثاني الذي يكشف الحس العام، فهو الخوف من الحدود. يفشل الحس العام على الدوام في العمل. وعندما يصبح من الممكن أن نتحدث عن «فشل النظام» أو نؤكد على أن كل شيء يجب أن يتغير لأن «النظام لم يَعُد فعالًا»، فهذه طريقة أخرى لأنْ نقول إننا لا نؤمن بالحس العام. ولكن هذا لا يفضي إلى نهاية الحس العام؛ بل إلى انتعاشه: ذلك لأن الحس العام هو تحديدًا ما نلجأ إليه بعد ذلك ونحتفل به بغية إدانة نفس الحس العام الذي تَسبَّب في فشل النظام في المقام الأول. ومجددًا، يتم حشد الحس العام للدفاع عن مدى ملاءمته للجميع، فيما يتراجع إلى مقرِّ راحته في الفضاء القومي الذي يُعد أكثر مكان يَشعر فيه بالألفة. وفي كل الأحوال، سواء في العولمة أو فيما يعقبها، يُفترض بالحس العام أن يتحدث نيابة عن الناس، أن يوضح أن ما يمثله هو الأكثر معقولية بالنسبة إلى الناس. وفي هذه اللحظة، تتأكد شرعية الحس العام بأكبر قدر ممكن من الصخب بحيث يمكن التساؤل بشأن ادعاءاته وعملياته، والغوص عميقًا في العالم الذي نتج عنه، ويقترح الاستمرار فيه.

ويتمثل فحصنا للحس العام اليوم في جانبين؛ في البداية سنبحث بعمق في الحجج التي تتناول شكل الحاضر وطبيعته في عدد من الأعمال المكتوبة، سواء أثناء العولمة وفيما بعدها؛ أي عندما تأكَّد للجميع أن العولمة هي القوة المطلقة، ثم عندما تأكدت أفكارها الإرشادية بقوة أكبر لمعالجة أزمة نهايتها. إننا نبحث ما نعتبره جوانب ذات أهمية خاصة؛ حيث ينشأ الحس العام الذي نقصده ويعاد إنشاؤه، وينتج ويعاد إنتاجه؛ فتركيزنا سيكون، أولًا، على ما أَطلق عليه ريتشارد فلوريدا «قيادة الفكر للمجتمع الحديث: كُتاب الأعمال الأدبية غير القصصية، والمحررون، والشخصيات الثقافية، والباحثون المفكرون، والمحللون، وغيرهم من صناع الرأي.»30 وليس الهدف من النظر في طريقة ظهور الحس العام في أعمال بعض «قادة الفكر» العالمي اليوم المبالغة في إظهار تأثير هؤلاء المؤلفين بعينهم. إن اختيار كُتاب أصحاب وجهات نظر متميزة، ممن لهم تأثير في ميادين مختلفة من المعرفة (العلاقات الدولية، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، والنشاط الاجتماعي، والترفيه)، يهدف إلى الوصول إلى مختلف صيغ الحس العام بغية إنشاء خريطة تحتوي على الرؤى العالمية المتعلقة به، وإلى فهم حدوده. ومن أجل فهم عمل الهيمنة، من المهم أن نتذكر أنه على الرغم من عملها لصالح النخب، فإنها ليست ناتجة عنهم بنحو مباشر ومتعمد، بل هي منتِجة لهم أيضًا. وتلك الأعمال التي سنعرض لها مهمة ليس لأنها تحتوي على معتقدات بعض المفكرين الأكثر شعبية اليوم ومن يتحدثون نيابةً عنهم، ولكن لأن مؤلفي هذه الأعمال يفترضون أنهم يتكلمون فيها نيابةً عن الناس (أحيانًا أمة ما، وفي أحيان أخرى العالم). ويحدث هذا أولًا من خلال شرح العناصر المكونة للنظم الاجتماعية والسياسية القائمة والدوافع التي تحركها، وثانيًا من خلال تقديم التوجيهات والنصائح حول ما سيلي ذلك. ويسعى كل مؤلِّف ممن سنراهم إلى تفسير النقلة النوعية الاجتماعية والتاريخية التي تتطلب منا وضعًا وجوديًّا مختلفًا، وتظهر الحدود التي يفرضها الحس العام في طريقة تميز تلك النقلة، وشكل تقييماتها وحججها، وطبيعة الفارق الذي تتحدث عنه.

في الفصل الثاني، سندرس هيكل الحس العام للعولمة من خلال دراسة الأعمال التي كتبها ريتشارد فلوريدا، وَتوماس فريدمان، وَبول كروجمان، وَناعومي كلاين، بالإضافة إلى النظر في تقديم العولمة في فيلم، من خلال تقييم فيلم واحد، وهو «مايكل كلايتون»، من بطولة الممثل جورج كلوني. وتشمل الأعمال التي سنقيمها بعض الحجج الأساسية المتعلقة بكيف يجب علينا أن نفهم النظام الجيوسياسي الجديد؛ العولمة (فريدمان)، وما بعدها؛ وأوصاف الطابع الجديد للعمل والمدن (فلوريدا)؛ وكذلك اقتصاديات الحقبة العالمية (فلوريدا، وَكروجمان، وَكلاين)؛ والتقييمات النقدية للسياسة والثقافة في ظل العولمة (كلوني، وَكلاين)؛ وإعادة سرد حادة لقصة العولمة حتى نراها بعيون جديدة (كلاين). ولا نهدف من خلال تناول هذه الأعمال إلى استغلالها لإلقاء اللوم على مؤلفيها لسير الأمور على نحو سيئ، ولا لتحديد المخطئ والمصيب من بينهم، بحيث ندعو لتبنِّي وجهات نظر ورؤى المصيبين منهم أو نبذ تلك الخاصة بالمخطئين منهم. أكرر: إن الهدف هو وضع خريطةٍ لما اصطلح على تسميته بالحس العام وعملياته، وخاصة فيما يتعلق بكيفية فهمه للمستقبل. ثمة شيء مفقود في عمل كل مؤلف من هؤلاء المؤلفين؛ أيضًا ثمة شيء مفقود، حتى إذا ما جمعنا هذه الأعمال معًا على أمل أن يتم سد الفجوات ومعالجة الأخطاء الموجودة لدى كلٍّ منهم من خلال ذكاء ورؤى الآخرين.

فلوريدا، وَفريدمان، وَكروجمان، وَكلاين: قد نبدو كما لو أننا نولي اهتمامًا خاصًّا للصحافة باعتبارها شكلًا لتقديم المعرفة الخاصة بالعالم (وإذا أضفنا كلوني إلى هذا المزيج، فيمكن القول بأن وسائل الإعلام بوجه عام هي ما يهمنا). هناك أسباب تدفعنا لذلك. ليس المقصود من هذا الكتاب في المقام الأول أن يبحث في حدود الصحافة مقارنةً بالطرق الأخرى التي نروي العالم من خلالها لأنفسنا. ومع ذلك، تلعب الصحافة دورًا لا يمكن إنكاره في تشكيل إحساسنا بالأحداث المهمة للناس، بالإضافة إلى كيف يفترض بنا أن نفهم المغزى الأكبر من هذه الأحداث. في الواقع، نجد الوظيفة الأخيرة للصحافة متضمنة بالفعل عند إجراء التحقيقات الصحفية. إن الأحداث التي تسترعي انتباه الصحفيين لا تشكل — كما هو ما زال مفترضًا في العادة — وقائعَ موجودةً بالفعل ويتم إعداد تقارير عنها، بل بالأحرى ينتقي الصحفيون هذه الأحداث من عمليات المد والجزر في الحياة الاجتماعية عن طريق منطق متضمن في الصحافة بشأن أهمية هذا الحدث أو ذاك؛ ومن ثم، نرى أن للصحافة تأثيرًا على المستوى الوجودي؛ حيث تقدم بعض العناصر المكونة للواقع، وتؤكد أن بعض عناصر أو جوانب الواقع الأخرى غير موجودة من خلال عدم تناولها. وفي نهاية المطاف، عادة يكون ما نراه معروضًا في الصحف أو في نشرات الأخبار التليفزيونية هو العالم في شكل «عرض منوع … سلسلة من الأحداث التي بلا بداية أو نهاية حقيقية، جُمِعت معًا فقط لأنها وقعت في نفس اليوم.»31 ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد منطق أكبر يعمل على وضع جميع هذه الأحداث في مكانها المناسب. وحتى في صفحات الوفيات، يمكننا أن نجد دليلًا على الحس العام السائد. اكتشف فرانكو موريتي في تحليله لصفحة الوفيات في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» ما يشكل قصة حياة الفرد في عالمنا اليوم. إنه نوع من السرد يتخذ شكلًا محددًا: مسيرة بطيئة، متقدمة بخطًى ثابتة نحو الأمام، مع تقديم حياة الأفراد لمساهمات بسيطة في اتجاه تاريخي محدد بالفعل؛ من الفقر إلى الثروة، احتفال بالنجاح في الحياة (لكونه في الصحيفة الشهيرة). ويُعد هذا مثالًا على المنطق الأكبر الذي يحكم مسيرة العالم: «لا يوجد تغير في الاتجاه، بل هي خطوات منتظمة ضخمة على طول طريق مطروق بكثرة … مسيرة كمية ومنظمة: من دون التباس، وبالتأكيد من دون كوارث.»32

إن الأعمال التي سندرسها هنا لم يكتبها مراسلون، بل كتبها معلقون كثيرًا ما يقدمون رؤاهم على صفحات الرأي. وعلى الرغم من أن صفحات الرأي بدأت في شكل مساحة للرأي في وسط لا يحتوي على شيء سوى الحقائق دون غيرها (كان مجرد الاعتراف بوجود وجهة نظر أو تحيز في جزء من الصحيفة يعمل على جعل سائر الموضوعات محايدة من خلال منطق الاختلاف)، فقد خدمت غرضًا مختلفًا. وبما أن الأخبار تركز على الأحداث «العاجلة» وتحاول أن تجذب اهتمام الجمهور من خلال التركيز على الأخبار والمواقف الجديدة، فيمكن للصحافة أن تستفيد من شكل من أشكال فقدان الذاكرة الثقافية. تقع الأحداث وتبدو بلا سوابق أو تبعات أو علاقة مع التواريخ والهياكل الأكبر والأكثر استمرارًا. تجري الأحداث، ويبدو أنها تحدث من العدم؛ فتعمل الصحافة في وضع الأزمة الدائمة، مع تحويل اهتمامها من قضية إلى أخرى. ولا يوجد ما هو مثير أكثر من مشاهدة لقطات قديمة من نشرات أخبار تليفزيونية، لقطات تعج بتنبؤات «الخبراء» وتوقعاتهم التي يطرحونها دون خوف فيما يتعلق بالعواقب الوخيمة التي قد تتكشف عنها الأخبار العاجلة التي لا نستطيع أن نتذكرها الآن، أو لا يمكن أن نتخيل أنها كانت على قدر كبير من الأهمية في وقت سابق.

تحاول صفحات الرأي — وإن كان هذا يتم على نحو منقوص — أن تقدم وجهات نظر تربط الأحداث بغيرها من الأحداث، وكذلك فيما يتعلق بالروايات الثقافية الأوسع التي يمكن استدعاؤها باختصار لتقدم المبادئ والقوى التنظيمية التي تقف خلف هذه الأحداث، وكذلك التي تشير إلى أهميتها الكبرى. إلا أن هذا العرض لتأثيرات النظام لا يزال مفقودًا في المساحات القصيرة والطبيعة العابرة التي تتصف بها الأخبار اليومية، وهذا ما جعلنا نتحول للأعمال الكبيرة التي سنفحصها ها هنا، وهي أعمال تعرب صراحة عن رغبتها في رسم الصورة الكاملة لكيفية سير الأمور في العالم، وكيف «ينبغي» أن تسير. وهذا ما يجعل هذه الأعمال مثالية للتعرف على الروح السائدة والجانب المعرفي للعولمة. ولأن هذه الأعمال تعليمية كذلك — أي تهدف إلى ملء الثغرات في الفهم، وتقديم الدروس حول ما على الأفراد والأمم أن يؤمنوا به، وكيف يجب أن يتصرفوا — فسيتكشف لنا الحس العام فيما يتعلق بأعمق عناصر واقعنا: جوانبه المعرفية، والوجودية، والأخلاقية، والسياسية، ورؤيته للحاضر والمستقبل. سيكون تحليلنا مفتقرًا إلى شيء مهم إذا لم يشمل أيضًا فحصًا لطريقة لعب السينما الشعبية دورًا في هذا النوع من التحليل والتعليم، ولهذا السبب سنتطرق في نهاية الفصل الثاني إلى فيلم عن الحاضر يجسد حدود وأوهام الحس العام الذي نعيش في إطاره.

نحن نزعم أن إنتاج الحس العام الذي نجده في الأعمال التي سندرسها في الفصل الثاني يشكل عنصرًا أساسيًّا في المشروع السياسي للعولمة، وهو، في الواقع، أساس الروايات الناشئة لما سيأتي بعده. لقد كانت العولمة هي العملية التي أعادت إنتاج نفس الحس العام «في كل مكان»؛ نفس المعايير، ونفس الافتراضات العامة، ونفس المعتقدات فيما يتعلق بطابع الجيوسياسة. ويمكننا أن نرى هذا بكل وضوح في الاعتقاد العالمي بضرورة وجود نظم اقتصادية رأسمالية؛ فبغض النظر عن بعض الاستثناءات القليلة، أصبحنا جميعًا الآن رأسماليين. إلا أن هذا يتجاوز حدود الاقتصاد ليصل إلى جميع الأشكال التي تعبر عن الهيمنة.

لقد انتهت العولمة، ولكنها لا تزال حاضرة، حتى لو كان من الممكن الآن (على سبيل المثال) أن نركز على دور القوة الأمريكية في العالم، أو نَذْكر دون خوفٍ الرأسماليةَ بوصفها نظامًا (أي إن هذا الخيار متاح) بدلًا من كونها قدرًا. وهذا على الأقل هو زعمنا. لاستعراض هذا الادعاء وتوضيح مدى عمق مغزاه، شعرنا أنه من المهم أن نذهب لأبعد من تحليل تعبيرات أعراض الحس العام مثل تلك الموجودة في هذه الأعمال. من خلال اختيارنا للكُتاب الذين يمكن أن نرى أنهم ينتمون إلى الوسط أو يسار الوسط في الطيف السياسي، كان هدفنا هو تقديم تناول أقل حزبية وأكثر تعقيدًا للحس العام، مقارنة بما كان سيكون عليه الحال إذا قصرنا اهتمامنا على كُتاب محافظين يكتبون لصالح سياسات القوة العظمى ويقفون ضد أي تغيير جوهري في العالم. إن الكُتاب الذين اخترناهم لنركز عليهم يرون أن المستقبل مليء بالمشاكل وفي أمسِّ الحاجة إلى التغيير؛ إنهم لا يتمسكون بالأمور على ما هي عليه، ولكن يرون أنفسهم تقدميين يقدمون الأفكار التي سوف تمكننا من مواجهة التحديات التي نواجهها بنحو جماعي بطريقة من شأنها أن تنتج مستقبلًا أفضل. وعلى الرغم من أن هذا يقدم عرضًا أكثر إثارة وإقناعًا يمكن من خلاله فحص الحس العام الخاص بالحاضر العالمي وما بعده، فإنه لا يكفي لإكمال الصورة الكبيرة التي نريد أن نرسمها.

ينظر الفصل الثالث من هذا الكتاب فيما وراء المواقف النظرية التي سنعرضها في الفصل الأول والرؤى النصية التي سندرسها في الفصل الثاني. ويتساءل: هل ثمة حس عام مشترك على الصعيد العالمي للحاضر والمستقبل؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي مزاعمه وافتراضاته؟ ما هي آثاره السياسية والثقافية؟ للإجابة عن هذين السؤالين، أجرينا سلسلة من المقابلات مع طلاب الجامعات على مدى ثلاث سنوات (٢٠٠٦–٢٠٠٩). وأجرينا هذه المقابلات في مواقع مختلفة حول العالم في محاولة لفهم أوجه التشابه والاختلاف في السياقات المحلية والقومية المتنوعة. وباستخدام نفس مجموعة الأسئلة في كل حالة، طلبنا من الطلاب (الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٣٠ عامًا) المسجلين في مجموعة من البرامج الجامعية والخاصة بالدراسات العليا أن يخبرونا عن المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تواجهها بلادهم والعالم، ودور التعليم في العالم، وإحساسهم بمعنى السياسة والرأسمالية والديمقراطية، ورؤيتهم للولايات المتحدة باعتبارها اللاعب الأساسي على الساحة العالمية، والدور الذي تلعبه الثقافة الشعبية العالمية وثقافتهم الشخصية، وإحساسهم بما يخفيه المستقبل من وعود أو تهديدات. بالنسبة إلى الطلاب الذين تحدثنا إليهم، كانت الحرب الباردة، في أحسن الأحوال، ذكرى باهتة. وكان هؤلاء الطلاب بالفعل نتاج حقبة العولمة وحسها العام؛ الجيل العالمي الأول، الذين شاهدوا العالم ليس فقط من وجهة نظر دولهم، ولكن أيضًا من خلال شعورهم بأن الثقافة والسياسة تعملان على مستوًى عالمي، مع وجود آثار مهمة لهذا على طريقة حياتهم وسلوكهم محليًّا وعالميًّا.

وقد أُجريت المقابلات في العديد من الدول التي لا تُضَمَّن عادةً في الدراسات الواسعة النطاق التي تتناول معاداة أمريكا والعولمة، وبالتأكيد لم تكن في الغالب تُجمع معًا في دراسة واحدة، وذلك في محاولة لمعرفة أنواع التأطير الاجتماعي التي نهتم بفهمها على نحوٍ أفضل قدر الإمكان. أجرينا حوارات مع طلاب في الديمقراطيات الرأسمالية الجديدة في أوروبا الوسطى (كرواتيا والمجر)، وفي القوى الأوروبية القديمة (ألمانيا وروسيا)، وفي الدول التي لها علاقات ودية أو مفعمة بالتوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية، كل دولة بطريقتها الخاصة المعقدة (تايوان وكولومبيا). في نهاية المطاف، عقدنا لقاءات مع إجمالي ٦٠ طالبًا، في مقابلات استغرقت تقريبًا ساعة واحدة لكلٍّ منها. لم يكن هدفنا هو مجرد التأكد من عمليات الحس العام العالمي من خلال البحث عن أي أثر له في وجهات نظر هؤلاء الطلاب ومعتقداتهم. كما أننا لم نكن نبحث عن بعض التناقضات البسيطة في المواقف والأيديولوجيات الواردة في الأعمال التي جرى فحصها في الفصل الثاني. عوضًا عن ذلك، أردنا أن نفهم النقاط التي تتلاقى وتتباعد فيها أفكار هذا الجيل العالمي والمفكرين الواردين في الفصل الثاني، لمعرفة الاهتمامات والتطلعات الحاضرة والغائبة في رؤية كلٍّ من الفئتين. ولم نأخذ آراء الطلاب كتلة واحدة ونقارنها بأفكارِ مَن كتبوا عن العولمة وأخرجوها إلى حيز الوجود. وكما يوضح الفصل الثالث، كنا نحرص على الاهتمام بالاختلافات الوطنية والتاريخية.

ومع ذلك، اصطدمنا بقوةٍ بمدى تشابُه وجهات نظر الطلاب تقريبًا في كل موضوع تناولناه معهم. دون أن نتوقع الكثير، فوجئنا بفهم جميع الطلاب تقريبًا لطبيعة السلطة العالمية، بعمق وإدراك للفروق الدقيقة. ولكن هذا العمق لم يقدم أي قدر من القدرة على التحرك لتغيير طبيعة النظام الذي اعتبروه مضطربًا وظالمًا وغير متوازن. ولعل أكبر فجوة بين الحس العام الذي يتقاسمه الطلاب وذلك الذي عبَّر عنه الكتَّاب في الفصل الثاني هي الشعور بالقدرة على التحرك في العالم. كان المقصود من كتابات «قادة الفكر» إحداث التغيير، حتى لو كانوا يرون أن الحاضر جيد على وضعه الحالي بنحو أو بآخر؛ أما الطلاب، على الجانب الآخر، فيرون عالمًا مضطربًا في حاجة إلى تغيير جذري، ولكن حجم ونطاق ما يمكن أن يحتاج إليه الأمر لوضع الأمور في نصابها يعني أن كل ما يتوقعونه هو استمرار الوضع الراهن؛ ففي نهاية المطاف، حتى لو كانت العولمة (باعتبارها أيديولوجية) تبدو مترنحة، فالعولمة (باعتبارها اسمًا لفترة زمنية) لا نهاية لها. وإذا كانت إلى ما لا نهاية، فلماذا نتخيل أن المستقبل سيكون مختلفًا بأي نحو عن الحاضر؟

سنترك أهمية هذه الفجوة التفسيرية بين المفكرين والطلاب إلى موضع لاحق من الكتاب. هذا الكتاب يلفت الانتباه إلى ما تقدِّمه لنا الروايات الحالية للعولمة وما بعدها، وما فشلت في تقديمه. وتم تنظيم تحليلنا حول الحدود والثغرات ونقاط الضعف الموجودة في تلك الروايات، وكذا يشير الكتَّاب الذين درسنا أعمالهم والطلاب الذين أجرينا مقابلات معهم إلى هذه الحدود والثغرات، وحاجتنا إلى تخيلِ مستقبلٍ جديدٍ والتخلي عن العادات القديمة في التفكير والتحرك. ومن المهم بالنسبة إلى التحليل التالي أن نقر بوضوح أن كيفية فهمنا لما يعنيه أن نتحدث عن الحدود — أن نقول مع جيمي في أوبرا برتولت بريخت وَكورت فايل «صعود وسقوط مدينة ماهوجني»: «ثمة شيء مفقود» — يختلف تمامًا عن فهم هاتين المجموعتين، وهو أمر مهم حقًّا. إن ما نودُّ أن نحققه من تدخل في فهم العولمة وما بعدها يظهر في الأطروحات السبع التالية. تشير هذه الأطروحات، في مجملها، إلى طريقة مختلفة تمامًا لتخيل وجود فجوة أو حدود للنظام، وهذه نقطة نظرية نسعى للتعبير عنها في القسم الأخير من هذا الفصل.

(٦) الأطروحات السبع لما بعد العولمة

سواء كنا نريد تغيير الواقع أو الإبقاء عليه كما هو، فإن الكتابة عن الحاضر ومشكلاته تبدو دائمًا مقدمة للحلول. يتضمن هيكل أي كتاب نموذجي عن «الأحداث الجارية» الأقسام الثلاثة التالية؛ أولًا: تناول تغيير/تطور/اكتشاف مهم يتطلب تأليف الكتاب (والذي، إن أمكن، يمكن وصفه من خلال مصطلح أو تعبير جديد، والذي قد يجد طريقه إلى صفحات كُتاب مجلة «فورين بوليسي» أو أبحاث الطلاب الجالسين في القاعات الدراسية في كلية جون إف كنيدي للإدارة الحكومية). ثانيًا: وصف موضوع الكتاب بشيء من التفصيل، مع اللجوء إلى افتراضات ونظريات الحس العام لدفع العرض قدمًا. ثالثًا: اختتام الكتاب بمناقشةِ ما يجب القيام به للتعامل مع التغيير/التطور/الاكتشاف بطريقة مناسبة؛ أي بما يعود عادةً بالفائدة على الجماعة القومية التي ينتمي إليها المؤلف (على سبيل المثال، إذا كانت أمة ما لا تفعل شيئًا معينًا، فسوف تتخلف عن ركب سائر دول العالم، وخاصة الأمم المنافسة لها). إن الاكتشاف المعروض في القسم الأول من المفترض أنه سيؤثر ضمنًا على العالم بأسره؛ أما الحل المعروض في القسم الثالث، فهو موجه لدول محددة فقط، أو ربما لمجموعة صغيرة من الدول الصديقة. على كل حال، ثمة شيءٌ ما يمكن القيام به إما للاستفادة من الاكتشاف وإما للتخفيف من آثاره؛ أي لإنقاذنا.

ما هي الطريقة الأفضل للتفكير في العالم؟ فكِّر كالتالي: ليس ثمة ما يمكنه أن ينقذنا.

(٦-١) الأطروحة الأولى: لن ينقذنا التعليم

هناك تصور عام بأن التعلم والمعرفة هما الحل لجميع مشاكلنا، وأن متاعب العالم جاءت نتيجة للجهل أو عدم الفهم الكافي؛ لذا، فالحل وفقًا لهذا التصور يكمن في التعليم. يُنظر للتعليم بوصفه عملية ملء بالمعرفة لفراغات، يليه ملء مجددًا لفراغات جديدة، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. ولكن الجهل ليس هو ما يتجاوز نطاق رؤية التعليم، بل هو بالأحرى ما يظل مفقودًا عندما يتم التغلب على الجهل.

وحتى عندما يتدبر التعليم حدوده الخاصة، فإنه يفشل في تأمل كيفية مشاركته في إعادة إنتاج المنطق ذاته الذي وضع هذه الحدود؛ ومن ثم، ترى أشكال التعليم السائدة أنها دائمًا محايدة وتعمل دون غرض. في هذا الدور كمفسر محايد، لا يُستخدم التعليم لمعالجة الحاجة إلى المعرفة، وإنما لمعالجة الحاجة إلى ترشيد أكثر التجاوزات سوءًا؛ من الاستعمار إلى تدمير البيئة إلى كل «الحروب العادلة» التي دعمها الخبراء الأكاديميون. مع توفر أفضل النوايا، يجد التعليم طرقًا بارعة لتبرير هذه التجاوزات، لتبرير الظلم (دائمًا باسم المعرفة، باسم الحياد). في كل مرة يهاجم التعليم الجريمة والفساد، فإنه يقدم بالتأكيد أهم مبرراتهما. إن الإبادة الجماعية والحرب وتجاهل إخواننا في الإنسانية من نتاج التعليم بقدرِ ما هي من نتاج الجهل. ويشكل إنتاج مبررات العنف باسم التعليم مواطنين منقسمين داخليًّا وغير متصالحين مع أنفسهم إلى درجة خطيرة. إن الحقيقة الخفية للعلم هي السلطة؛ والسلطة المخفية أكثر تعصبًا وخطورة من السلطة المعلنة.

لا يستوي العلم و«الفعل». إن معرفة المشكلة، وفهم سبب وكيفية حدوثها، لا يعنيان بالضرورة امتلاك القدرة على الاستجابة بفاعلية. ولا تستوي المعرفة و«التغيير». إن معرفة المشكلة، وفهم سبب وكيفية حدوثها، لا يعنيان بالضرورة امتلاك القدرة على تغيير الظروف الحالية؛ وفي حالات عديدة، ساعدت هذه الرغبة وتراكم المعرفة على زيادة صعوبة المشكلة قيد الدراسة. لا يمكن التغلب على حدود المعرفة إلا من خلال الفعل. وبالمثل، لا يمكن التغلب على حدود الفعل إلا من خلال المعرفة. ولكن حتى هذه القاعدة البديهية لا يمكنها أن تعمل بالقدر الكافي؛ حيث إن إدراك هذه المشكلة الخاصة بالفعل لا يزال مرتبطًا بالأشكال السائدة من التعليم.

لا ينتج عن التعليم الجامعي التقليدي سوى الصرامة داخل حدود التخصصات الأكاديمية. عادةً ما تُنتج الجامعة إما التخصص الأكاديمي الصارم (الدراسة المباشرة والمتخصصة داخل التخصصات)، وإما التخصص الأكاديمي غير الصارم (الدراسة الضعيفة التي تقوم على تقليد تخصصي موجود بالفعل)؛ وإما عدم وجود تخصص أكاديمي أو نظام صارم (وهو أسوأ أنواع الدراسة الأكاديمية التي غالبًا ما تتخفى خلف شعار «تعدد التخصصات»). ويقف وراء هذه الأنواع الثلاثة من إنتاج المعرفة نمو الشكل التجاري للجامعات (حيث يتم تقييم كل شيء وفق النتائج الكمية؛ «التميز» يعني عدد المقالات المنشورة، وعدد الطلاب، والعائد المادي)، هذا فضلًا عن أيديولوجية الحياد. وعلى الرغم من ذلك، فإن الفجوة التي تفصل بين العلم والفعل، والفعل والتغيير، والنظرية والممارسة، والنقد والتميز، والحياد والتحيز؛ لا يمكن سدها إلا من خلال نظام صارم يقاوم النظام التعليمي الذي تهيمن عليه التخصصات الأكاديمية. ونطلق على ذلك اسم «النظام الصارم دون تخصص أكاديمي»، وهي طريقة للتفكير تتحدى على نحو أساسي التعليم؛ فالتعليم لن ينقذنا.

(٦-٢) الأطروحة الثانية: لن تنقذنا الأخلاق

إن أكثر الطرق الشائعة لتحديد أسباب الأخطاء والمشاكل في العالم هي من خلال التصنيفات الأخلاقية: الصواب والخطأ، الخير والشر؛ فإذا أخفق شيءٌ ما أو جرى على نحو سيئ، أو على العكس، إذا سارت الأمور على ما يرام أو نجح أمرٌ ما على نحو غير معتاد؛ نهرول نحو هذه المفاهيم (كما قال أوباما: «الشر موجود في العالم»). يعتمد استخدامنا لِلَفظة «الخطأ» أو «الشر» في موقف معين على درجة الخطأ أو ربما على القوة البلاغية التي نريد من خلالها أن نؤكد على الجانب الأخلاقي. عندما تدَّعي شركة جوجل أنها «لن تفعل الشر»، نعلم أنها لا تعني أنها لا ترغب في أن تخضع لأي مساءلة قانونية أو ملاحقة قضائية أو تتورط في صفقات مشبوهة، ولكن تعني أنها على الرغم من سلطتها المالية، فإنها ستسعى للعمل مثل أي مواطن صالح.

في حين أن تصنيف الفضيلة أو الرذيلة قد يكون تقييميًّا معتادًا، فلا ينبغي أن يكون الموضعَ الذي نبدأ منه أو ننتهي عنده. تُعد التصنيفات الأخلاقية مفهومة فقط فيما يتعلق بقواعد سلوك محددة، إن الحديث عن «الخير» أو «الشر» ما هو إلا تأكيد على وجود هذه القواعد وشرعيتها. وما لا يمكن أن يفعله هذا هو أن يحكم على النظام نفسه، أو أن يجري تحليلًا للبديهيات والصيغ خاصته. تستطيع شركة جوجل أن تتجنب الشر بوصفها مواطنًا صالحًا. إن مدى سماح النظام لكيان مجرد، مثل شركةٍ ما، بأن يكون مواطنًا منتجًا أو مدمرًا في مقابل الكيان الاجتماعي، لَهُوَ أمر خارج الحسابات تمامًا؛ فيمكن للمرء ألا يفعل إلا الخير، ومع ذلك يظل سيئًا.

ولكن أليس من المفيد أن نشير إلى السلوك الفاضح وغير الأخلاقي الذي ينتهجه أفراد بعينهم؛ أي أن نقول: كل شيء كان سيصبح على ما يرام، لولا وجود الفاسدين في الشركات، والأشخاص السيئين، والمتهربين من الضرائب؟ تشير مثل هذه الأوصاف إلى التوق إلى العدالة، حتى وإن كانت ترجئ إمكانية تحقيق العدالة إلى إشعار آخر. وتساهم هذه الإخفاقات الأخلاقية المنعزلة للنظام على تأكيد قوته حتى أكثر من ذي قبل؛ فعندما ندعو بعض الأفراد ﺑ «الأشرار»، يجب أن يعني هذا أن النظام نفسه «خيِّر». هناك حل أفضل يتمثل في عدم تصور أن النظام نفسه شرير على الدوام، وضرورة تجاهل هذا التقييم الأخلاقي والاتجاه نحو تحليل عمليات النظام؛ فالأخلاق لن تنقذنا، ولم يكن النفاق هو ما حوَّل الخير الديني إلى شرور الحروب الصليبية، ولكنه الرضا عن نظام تصنيف يؤكد الأمور بدلًا من تحليلها.

دعونا نتأمل التجربة الفكرية التالية. ماذا لو أن كل شخص في العالم، كل يوم وبكل وسيلة، تصرف وفقًا لما تمليه عليه الأخلاق؟ سنحظى بالمعلم الجيد، والطبيب الجيد، والمحامي الجيد، والشرطي الجيد، والسياسي الجيد. هل ستكون نتيجة كل هذا الخير أن يكون النظام «جيدًا»، خاليًا من الفقر، والظلم، والتلوث؟ تذكر أن «الخير» يختلف عن «المساواة». إذا ما افترضنا أن السياسي الجيد سيحاول الإبقاء على القوانين الحالية قدر استطاعته، فسيكون الجواب هو «لا». وإذا كنا نتصور أن السياسي الجيد سيغير القوانين القائمة بغية الوصول إلى المساواة، إذن فالقضية الحقيقية ليست قضية أخلاق على الإطلاق.

(٦-٣) الأطروحة الثالثة: لن ينقذنا مفهوم الأمة

على عكس ما قد يتوقع المرء مع اختفاء الحدود الاقتصادية والمالية، اتجهت الشعوب إلى إخراج عباءة الأمم والقوميات من الخزانة، وإزاحة الغبار عنها، وارتدائها من جديد بفخر ودون حرج، على الرغم من كونها مهلهلة إلى حدٍّ ما ولم تعد رائجة على الإطلاق. كان من المفترض أن يكون القرن الحادي والعشرون عصر تقليل الحدود ومحو خطوط ترسيم حدود الدول، سواء على خرائطنا أو في خيالنا. وها هي الأمم، تقف فخورة كما يجب لها أن تكون، على استعداد للدفاع عن قيم حضارة التنوير ضد الجحافل الإسلامية، أو للإصرار على أنه على المهاجرين استيعاب أفكارها ومثلها العليا. وقد كتب يوهان جوتفريد فون هيردر قائلًا: «كل أمة هي شعب واحد، لها شكلها القومي الخاص، بالإضافة إلى لغتها الخاصة.»33 من الواضح أن بعض الهراء يستطيع أن يصمد في مواجهة اختبار الزمن، بل ويصبح أكثر شعبية بمرور الوقت.

في البداية، نولد بشرًا، قبل أن نصبح من رعايا أمم، حتى لو كنا نميل إلى تعلم هذا بطريقة عكسية. ونظرًا لأننا بشر، فإننا نكون متماثلين؛ أما بوصفنا رعايا لأمم، فنحن نختلف بالضرورة؛ نقسَّم، ويقاتِل بعضنا بعضًا؛ ومن ثم لا نتفاجأ إذ نرى أن الدول لا تستطيع أن تتعامل مع المشاكل المهمة للبشر وليس لمواطنيها فحسب، سواء منفصلة أو مجتمعة. وعلى الرغم من كل المعرفة التي تشير إلى «ما ينبغي القيام به» فيما يتعلق بالبيئة، وهي الحقائق العلمية التي يعلمها حتى القادة القوميون تمام العلم، ثمة القليل من الخطوات الفعلية التي يتم اتخاذها لمواجهة هذا التهديد لمستقبلنا جميعًا. يعوق الشكل السياسي للأمة تقدمنا للأمام في المسار الذي نعلم جميعًا أن علينا أن نسلكه.

قد يختلف بعض الراديكاليين مع هذا الرأي؛ فيوجد العديد ممن يرون أن ثمة عدة فرص سياسية في سياسات وخطط دولهم منفردة. ألا يستحق الأمر أن نستخدم إطار الأمة لنؤسس وندافع عن خطط ما — على سبيل المثال، الرعاية الصحية الشاملة — نظرًا لأن هذه الخطط تتعرض للخطر في أجزاء كثيرة من العالم؟ قد يكون هذا صحيحًا، ولكن لا يمكن أن يكون هو الخطوة النهائية؛ فكلمة «شاملة» هنا لا تعني أمة واحدة، بل تعني الجميع. إن الرعاية الصحية في أمة واحدة محدودةٌ وتمثل مشكلة تمامًا مثل «تطبيق الاشتراكية في بلد واحد»؛ فمثل هذه الخطط لا يمكن أن تنقذنا.

فلنكن واضحين ومحددين. «نحن» لسنا بحاجة للأمة؛ بل رأس المال هو ما يحتاجها؛ فمن دون هذه التقسيمات السياسية، وخاصة عندما تكون المعاملات الاقتصادية بلا حدود، لن توجد مناطق تفضيلية للعمل، أو مجال لتحقيق الربح من خلال التخلص من فائض الإنتاج، أو وسيلة لمراقبة السكان المشاكسين الذين قد يرغبون في مقاومة الرأسمالية، أو صمام تفريغ للمضاربات المبالغ فيها. إن الوظائف الأساسية للأمم تجعلها كيانات مثالية يمكن تنظيم العالم سياسيًّا حولها. ماذا يمكن أن يكون أفضل مما يلي بالنسبة إلى رأس المال؟ وماذا يمكن أن يكون كارثيًّا أكثر منها بالنسبة إلى البشرية بأسرها؟ إنشاء مناطق للدمج والإقصاء، والسيطرة على الوضع القانوني للرعايا-المواطنين، والممارسات المحاسبية والإدارية الديموغرافية، وحشد الهيئات لاستخدامها في التوسع الإقليمي والحرب.

كتب ثيودور أدورنو يقول: «إن تشكيل الجموع القومية … وهو مصطلح شائع في مصطلحات الحرب البغيضة التي تتحدث عن الروس والأمريكيين وبالتأكيد عن الألمان؛ يتبع وعيًا يحاول العودة للوجود، لكنه لم يَعُد يمكنه حقًّا العودة. إنه يحصر نفسه ضمن تلك القوالب النمطية التي يجب أن يعمل الفكر على تفكيكها.»34 ونحن تمامًا مع ذلك. في سلسلة حلقات مسلسل «ستار تريك»، كلما وجدت سفينة الفضاء «إنتربرايز» عالمًا جديدًا، تجد عليه مجتمعًا واحدًا من الكائنات على امتداده. لا بد أن هذه الكائنات الفضائية قد أصيبت بخيبة أمل عندما التقت البشر، الذين حملوا معهم اختلافاتهم القومية حتى في المستقبل، وحتى آخر الحدود.

(٦-٤) الأطروحة الرابعة: لن ينقذنا المستقبل

الحاضر استعمر المستقبل؛ فحتى اسم وخيالات المستقبل تظل محصورة في إطار الحدود الخيالية للحاضر. ونحن نتظاهر بأننا لا نعرف ما سيجلبه المستقبل؛ ما يشعرنا بالارتياح إلى حدٍّ ما، ولكن هذا أيضًا سبيل لاحتواء المستقبل. إن الموقف الأكثر تطرفًا في التعامل مع المستقبل هو ألا نتوقع أنه سيأتي. ومع ذلك، نظل متمسكين بالاعتقاد بأن المستقبل يأتي دائمًا، وأن كل ماضٍ يحل محله مستقبَلٌ؛ ولكننا نعتقد ذلك فقط باعتباره وسيلة لتبرير حاضرنا، كي يبدو أكثر عقلانية.

لن ينقذنا الحاضر أيضًا؛ فمن دون المستقبل، سيكون الحاضر مجرد شيء نعمل على إدارته والإبقاء عليه وتغيير بعض تفاصيله. إلى أي شيء آخر غير هذا يمكن أن يشير المصطلح الانهزامي «التنمية المستدامة»؟ فأنْ تعيش في حاضر لا يزعجه أو يربكه مستقبل مختلف (حتى المستقبل المختلف جذريًّا من حيث إنه لا يوجد مستقبل)، يعني أن تستسلم لحدود هذا الحاضر؛ إذن، فنحن لا نحتاج إلى حاضر أو مستقبل مختلف، بل إلى طريقة مختلفة لفهم هذه التصنيفات الزمنية التي نسميها الحاضر والمستقبل والعيش فيها.

إن الحالة النموذجية التي توضح هذا الوضع المختلف من الحياة هي حالة المريض الذي حصل على تشخيص نهائي بإصابته بمرض عضال، ولكنه عاش حتى شهد التقدم الطبي الذي حوَّل هذا المرض العضال إلى مرض مزمن. والآن، لا يزال هذا المرض قاتلًا، لا يزال مستعصيًا، مهما استطاعوا التعامل مع المرض في المستقبل والسيطرة عليه، وربما إلى أجل غير مسمًّى؛ وهذا نوع من التنمية المستدامة للمريض المحتضر. إن المريض في طريقه إلى الموت بالفعل، ولكنه لم يَمُتْ بعدُ، وحصل على فترة زمنية تعمل بمنزلة ثقب في الزمن، وطريق للهروب إلى مكان آخر وباب مسحور لمكان البداية.

إن هذه الطريقة التي يعيش فيها المريض بمرض عضال في السابق باعتباره «ميتًا بالفعل» تقدِّم نموذجًا للتحديات الاجتماعية والبيئية. فلْنُنْعِم التفكير في بعض التنبؤات البيئية التي تشير إلى سيناريو للمستقبل البيئي قد فات أوانه بالفعل، أو أي موقف آخر يقول بأنها مسألة وقت فحسب قبل أن تقع النهاية المتنبأ بها، مهما استغرق الأمر للوصول إلى هذه النهاية. ربما يكون الموت نفسه هو ما مثَّل دائمًا هذا الحد الذي يقلب الطاولة علينا ويُعيد للزمن حريته المطلقة.

إن أكثر المجالات الطبية ثوريةً هي الرعاية التلطيفية؛ تحديدًا لأنها أعادت تقييم قيمة الحقل الزمني. كان المرضى الذين يشرفون على الوفاة عمومًا يعطَون أقل أولوية؛ حيث كان مفهوم الموت يُنظر إليه على أنه هزيمة للطب أو يمثل حرجًا إحصائيًّا؛ فلماذا ننفق مواردنا على شخص لن تستمر حياته أكثر من أسابيع قليلة فحسب؟ لماذا نعطي اهتمامنا لشيء لن يعطينا ما يكفي من عائد على استثمارنا فيه؟ لأن لحظةَ توقُّفنا عن تأجيل المستقبل أو أملنا في الحصول على مستقبل جديد هي لحظة تحول شيءٍ ما في الحاضر. ولكننا من جديد نؤكد على أن هذا التحول لا يشير إلى حاضر أو مستقبل بمحتوًى مختلف، ولكن إلى واقع مختلف للحاضر والمستقبل الحاليين.

ولا يتعلق نموذج الرعاية التلطيفية هذا بالمريض المحتضَر فحسب؛ فالتاريخ أيضًا يُحتضَر، وكذا الجنس البشري، والكوكب كذلك. كيف يمكن أن يبدو جناح الرعاية التلطيفية لهذه الوفيات المنتظرة؟ كما هو الحال بالنسبة إلى المريض المحتضر، ماذا لو كان فهمنا أن كوكبنا، وجنسنا البشري، وتاريخنا يحتاج إلى نوع مختلف من الرعاية؛ طريقة مختلفة للنظر للحاضر والمستقبل لم تتشكل من خلال سبب أو معجزة؟ كيف يمكن رعاية شيءٍ ما، أو شخصٍ ما، مع العلم بأنه سوف ينتهي قريبًا؟ ماذا يعني أن تتصرف في مواجهة هذه النهاية؟

صحيح أن هذه العلاقة بالنهاية قد تفتح طرقًا جديدة لتأجيلها أو تجنبها، إلا أننا لا يمكن أن نعرف ذلك مسبَّقًا؛ فمن شأن هذه الاستراتيجية أن تقدم الموقف البديل تجاه النهاية المطلوب تغييرها. وما لم نفكر بأسلوب مختلف، فإن المستقبل لن ينقذنا.

(٦-٥) الأطروحة الخامسة: لن ينقذنا التاريخ

لا وجود للطبيعة البشرية. إن عبارة «منذ زمن سحيق» هي أخبث عذر للعنف البشري، كما أن كلمة «دائمًا» تفضح دائمًا الرغبة في التبسيط. وعندما نعود إلى ماضٍ سحيق لتبرير الحاضر، فنحن بلا شك نخلط بين وضعين مختلفين؛ على سبيل المثال، «لطالما كانت الحرب موجودة، وستظل موجودة»؛ «لطالما كان هناك فقر، وسيستمر الفقر على الدوام»؛ «دائمًا ما يَتْبع السلامُ الحربَ، وسوف يتبعها دائمًا». إن هذه الحقائق الثلاث البادية الصحة تحمل زيفًا عميقًا! بالطبع، يمكننا أن نتتبع الحروب منذ بداية البشرية، ولكن سياق الحرب، منطق الحرب (تصنيف الحرب في حد ذاته)؛ شيء يختلف نوعيًّا في لحظات مختلفة من التاريخ. لا ريب أن ثمة شيئًا يسمى الفقر يملأ سجلات التاريخ، ولكن كيفية نشأة الفقر وهيكلته، وكذلك ما يعنيه، وما يعنيه أن نكون فقراء في الحقب الإقطاعية؛ لا يقارَن بوضع وتجربة الفقر في الوقت المعاصر. إن تثبيت هذه التصنيفات والتظاهر بأنها تستمر من لحظة تاريخية إلى أخرى يعمل دائمًا على قمع أو التماس الأعذار لأعمق مخاوفنا، هذا إلى جانب إمكانيات توفير وسائل بديلة للحياة وتنظيم أنفسنا.

لا يحتوي التاريخ على السر الخفي الذي فاتنا أن نلاحظه في المرة الأولى. توجد بالفعل أسرار خفية في التاريخ، ولكن بمجرد الكشف عنها تفقد استقلاليتها؛ ومن ثَمَّ أهميتها، فسرعان ما تسترد قوتها وتسير على خط مستقيم وصولًا إلى الوقت الحاضر. إن التاريخ مهم حتى يذكِّرَنا بأن فئة التاريخ ذاتها تعني شيئًا مختلفًا اليوم عما كانت عليه في الماضي.

إن استحضار شرور الماضي (مجسدةً في شخص هتلر) دائمًا ما كان خطأً. إذا كان ثمة شر، فهو دائمًا في صورة مفردة؛ فلا يمكن أبدًا أن يُعرف من خلال مجموعة من المعايير أو أن يتكرر، بل ينتج فقط ودائمًا من جديد؛ مما يجعله غير متناسب مع ما كان عليه الشر من قبل، ومما كان قبل ذلك؛ ومن ثم، دائمًا ما يُستخدم استدعاء الشر لتسطيح التاريخ وإطالته على نحو خاطئ. يدير التاريخُ الخطيُّ الشرَّ بتمثيله باعتباره زَلَّة مؤسفة، وإن كانت مؤقتة، في مسيرة التاريخ نحو المستقبل. غير أن استدعاء التاريخ الخطي لا يكتفي بذلك، فهو يصل إلى أقصى حدٍّ له؛ إلى تبرير الشر. ومن خلال استدعاء الوجود «الأبدي» و«المستمر» للشر، يؤكد التاريخ الخطي على وجود الشر في الحاضر، وأثناء هذه العملية، يؤكد عدم الوعي بإنتاج القيمة المرجح تاريخيًّا.

تُشكل قيمة الشر المفترضة عبر التاريخ القيمةَ المفترضةَ للثروة عبر التاريخ، كما تتشكل من خلالها. ينبغي ألا يكون مفاجئًا أنه يتعين على الأثرياء أن يَحجبوا الأصول التاريخية لثرواتهم. إلا أن ثمة مشكلة في ذلك؛ فإذا لم تُبرر الثروة الهائلة تاريخيًّا، فسيبدو أن مصدرها الاحتيال، ولكن عندما تُبرر تاريخيًّا، فهي تقترب على نحو خطير من الكشف عن أن مصدرها السرقة. تَفْحص مجموعةُ ريبوهيستوري الفنية التمثيلَ التاريخيَّ وتعيد وضعه في سياقه من خلال الأعمال الفنية العامة، الخاصة بمواقع محددة في مدينة نيويورك. قد تضع المجموعة لافتة على مبنَى شركةٍ ما (على نحو يتناسب مع ديكور المدينة)، تشرح كيفية حيازة المبنى وأي ممارسات مشبوهة أو عدوانية أدت إلى بنائه. تريد تدخلات ريبوهيستوري غير النظامية أن تلفت الانتباه إلى الروايات المنسية أو المقمعة الخاصة بالثروة، وفي الوقت ذاته «أن تكشف عن العلاقات المكانية الكامنة في السلطة والاستخدام والذاكرة.» إن استدعاء المكان مهم؛ فمن خلال إعادة رسم التاريخ وفي نفس الوقت إعادة سرد هذا التاريخ، تحل مجموعة ريبوهيستوري على نحو مؤقت المشكلةَ الحتميةَ الخاصةَ بالتعامل مع التاريخ، والمتمثلة في كيفية سرد كلٍّ من حالات استمراره وتوقفه.35

إن التاريخ موجود، ويمكننا استخدام السجل التاريخي لإثبات ذلك، إلا أن التأريخ المستمر للتاريخ ليس له وجود من دون عدد كبير للغاية من الفواصل والتمزقات التي تفصلنا بدورها عن الماضي تمامًا بحيث يمكننا مواجهته (وتذكُّره) فقط كما نتذكر حلمًا. ويمكننا استخدام السجل التاريخي لإثبات ذلك أيضًا.

(٦-٦) الأطروحة السادسة: لن تنقذنا الرأسمالية

الرأسمالية هي نظام من تصميم الإنسان وابتكاره، ولم تتنزل علينا من السماء مثل المَنِّ، ولم تقدمها لنا الآلهة لمساعدتنا على اجتياز الصحراء الاجتماعية، إنها ليست قريبة من النظم التي تشكل جزءًا من النظام الطبيعي للأشياء، مثل دورة كريبس (العملية التي تَستخدم من خلالها الخلايا الأكسجينَ في التنفس) أو الجهاز القلبي الرئوي (الجهاز الدوري). والرأسمالية، شأنها شأن أي نظام اجتماعي بشري، بالضرورة غير منزهة عن الأخطاء؛ فهي مليئة بالثغرات والمشاكل التي لا تسمح لها بالعمل وفقًا للمخططات التي وضعها الاقتصاديون. ويُفترض ﺑ «الكائن الاقتصادي»، المنوط به أن يعيش في النظام الاقتصادي للرأسمالية، أن يتخذ قرارات عقلانية طوال الوقت. حتى الاقتصاديون يعترفون أن هذه الكائنات النادرة تسترشد أكثر بما أسماه جون مينارد كينز «الغرائز الحيوانية»، أكثر من الملكة التي تدعى «العقل»36 (التي هي بدورها غير مكتسبة). ويمكن للمرء أن يتوقع بعد ذلك نتائج متواضعة من نظام يتوقع منه مناصروه أن يتقدم بنا نحو المستقبل.

دعونا نتوقف لِلَحظة لنسأل إن كان هذا الشيء الذي نسميه الرأسمالية يشكل نظامًا بالمعنى الصحيح للكلمة، حتى لو كان هذا هو ما نميل إليه عندما نتحدث عنه. إذا كانت الرأسمالية غير مكتملة بالضرورة، وإذا لم تكن تشكل أفضل العوالم الممكنة، فلِمَ نصمم على أن نُلحِق بها صفات ليست لها؟ لقد لعبت الرأسمالية دورًا مهمًّا في التطور التكنولوجي؛ فقد نمَّت الاقتصادات على مستوى العالم على مدى القرن الماضي، وحتى أكثر على مدى العقدين الماضيين؛ مما أدى إلى تحسن مستويات المعيشة في كل مكان تقريبًا. كما تُنتج الرأسمالية مجموعة وافرة من المنتجات الجديدة، كلها مفيدة وجيدة.

غير أنها لم تكن مفاجأة لأحد أن كل شيء في نظامنا الاقتصادي ليس على هذه الدرجة من الروعة. إن الحرية التي كثيرًا ما تُربط بالرأسمالية تُعد عبودية بالنسبة إلى الغالبية العظمى من سكان العالم: الملل المتكرر لعالم مبتذل لا يرى المرءُ بصيصَ أملٍ للهروب منه. من المستويات غير المتكافئة على نحو مزعج لتوزيع الثروة (حصل أغنى ١٠ في المائة في الولايات المتحدة على ٥٠ في المائة من الدخل في عام ٢٠٠٦)،37 إلى انعدام الأمن المالي العميق بالنسبة إلى معظمنا، ثمة مشاكل عديدة في العمليات المنهجية المعتادة للرأسمالية. تعود العمليات الرأسمالية بالنفع المادي فقط على فاحشي الثراء؛ فمن الصعب أن تدافع عن الفائدة الاجتماعية للإنتاج المجرد للمال من خلال المال. مما لا شك فيه أن الرأسمالية تُنتج ثروة، ولكن من أين تأتي هذه الثروة؟ هل هي مثل الأرنب الذي يخرجه الساحر من القبعة بسرعة فائقة! هذه تمامًا هي الحقيقة: ولكن كما هو الحال مع السحر، فالأمر لا يتعلق بالسحر الحقيقي، فهو لا يتعدى خفة اليد التي تصرفنا عن رؤية الحقيقة بأن عمل الكثيرين هو لصالح قلة قليلة.

وللرأسمالية عيوب، بعضها عميق للغاية، ومن الغباء أن نتصور أن هذا النظام، وهو صنيعة لحظة تاريخية محددة، يمكنه أن يتغلب على كل الحدود بطريقة تعود بالفائدة على الناس جميعًا؛ فهو ليس بمنزلة الدواء الناجع لكل العلل. لماذا إذن نجد هذا الدفاع المستميت عنه، كما لو كان جزءًا من كتاب مقدس لا يمكن لأحد أن يعارض ما فيه خوفًا من الوقوع في دائرة الكفر؟

يردد أولئك الذين يصرون على الضرورة غير القابلة للنقاش للرأسمالية (دون أن يعرفوا ذلك) حجة جوتفريد لايبنتس حول طبيعة العالم. لقد خلق الرب العالم؛ إذا كان عالمنا هذا هو العالم الذي اختاره الرب لترتبط ذاته به (بعد تجربة توليفات عديدة أخرى للعالم، كما يجب أن نفترض)، فلا بد أنه أفضل العوالم الممكنة. بالتأكيد، بالتأكيد، ثمة شر ومعاناة، ولكن هذا جزء من المزيج الأمثل الذي يجعل الكل على ما هو عليه، أو الذي يسمح له بأن يكون ممكنًا من الأساس. إن الشر أمر ضروري، ولا يمكن الاستغناء عنه؛ فالمعاناة مفيدة لأنها تدفع البشر إلى العمل. ويبدو هذا الكلام مشابهًا لنوعية الحجج التي يسوقها الأغنياء فيما يتعلق بضرورة وجود مشاعر الخوف والرهبة التي تَنتج عن الرأسمالية؛ فهي ما يدفع الفقراء الكسالى إلى العمل. لقد سَخِرَ فولتير، في مسرحيته «كانديد»، من هذه الرؤية الخاصة بالعالم. ويبدو أن تفاؤل دكتور بانجلوس الخاطئ وغير العقلاني بأن الخير أساسي في طريقة سير الأمور، يكرره الكثيرون الذين يصرون أنه لا يوجد إلا الرأسمالية. إن الرأسمالية موجودة؛ ومن ثَمَّ يجب أن تكون جزءًا من تدبير الرب! ومثل كانديد، يعلم سائر البشر الحقيقة.

(٦-٧) الأطروحة السابعة: لن ينقذنا الحس العام

هذه النقطة هي الأسهل في فهمها، ومع ذلك فهي عصية على التفسير بحيث تُفهم فهمًا سليمًا. لن ينقذنا الحس العام؛ فنحن نواجه العديد من التحديات والتهديدات والمشاكل بحيث لا يمكننا أن نعتمد على الطرق القديمة في القيام بالأمور. مَن يمكن أن يختلف مع ذلك؟ يحضنا الكتَّاب من مختلف المشارب السياسية ممن يرغبون في توجيه طاقاتهم نحو هذه المشاكل على «التفكير خارج الصندوق»، أو يطالبوننا بأن نأتي بطرق بديلة لرؤية الأمور. بعبارة أخرى، مثلما يقول الإعلان الشهير، يطالب كل الناس تقريبًا بعضهم بعضًا ﺑ «التفكير بطريقة مختلفة».

يتعلق الحس العام بالشكل أكثر من المضمون. إن الحس العام مسألة عمومية؛ بمعنى أنه سمة من سمات كل مجتمع بشري. وفي سياق معين، يتعلق الحس العام بمحتوًى معين. يتضمن محتوى الحس العام لدينا — وهو الحس العام الذي يحمل الآن صبغة العالمية — الأطروحاتِ الستَّ المذكورة أعلاه. بالكاد تستنزف هذه الأطروحات حِسَّنَا العام! ما تشير إليه بالفعل هذه الأطروحات هو البديهيات الاجتماعية التي نتصور أنها سوف تنقذنا من أنفسنا. بعبارة أخرى، هذه هي عناصر الحس العام التي عادةً ما نلجأ إليها لتنقذنا من المشاكل التي تَنتج عن حِسِّنا العام.

يا له من بناء فلسفي مبهم! نظام الأفكار الضروري هذا الذي يُطبق على نفسه بطريقة تمنعه من الفكاك! ومن الإنصاف تمامًا أن نسأل: ما الذي يسمح لنا بأن نرى الحس العام بصورة مخالفة لما هو عليه؟ أليس منظورنا النقدي هو نفسه حسًّا عامًّا فحسب؟

إن الحس العام هو ما يعلمه الجميع، وهو مجرد معرفة افتراضية، من الأمور البسيطة وحتى القضايا المعقدة. ويفترض به أن يقدم بالفعل إجابات لجميع الأسئلة، حتى لو كانت ثمة حاجة إلى بعض الجهد الذي يتعين القيام به لإعادة الجمع بين بعض معتقداته أو لتوسيع بعض رؤاه لنطاق أبعد قليلًا. إن مثل هذه الرؤى الجديدة هي شكل من أشكال «التفكير خارج الصندوق» الذي يفتخر بكونه مبتكرًا وثوريًّا، ولكنه في الواقع يظل ضمن نطاقِ ما يُعد معقولًا. على سبيل المثال، قد تؤدي الحاجة إلى المزيد من الطاقة ومشاكل الاحترار العالمي إلى اختراع أشكال مختلفة من الطاقة النظيفة. ومع ذلك، فإن النظرة المتفحصة لقضية «الحاجة» في هذه الحالة — هي حاجة يغذيها نظامٌ لا يملك ببساطةٍ خيارَ تقليل مستوى النمو الاقتصادي — لا تزال حدًّا غير قابل للتفكير فيه. إن الحس العام دائمًا ما يُعيق عملية تخيل الحدود؛ فالسعي من أجل «التفكير خارج الصندوق» يؤدي بنحو رئيسي إلى تأكيد شرعية وقيمة الصندوق.

عندما نقول إن الحس العام هو ما يعلمه الجميع، فنحن لا نستدعي الأيديولوجية بالمعنى الشائع لهذا المصطلح. ولا يعني هذا أننا ببساطة نُمنع من رؤية الجوانب «السيئة» للأنظمة، أو يحظر علينا (لسببٍ ما، مِن قِبل شخصٍ ما) فَهْم كيفية عمل الأشياء؛ فكما تقول الأغنية:

يعلم الجميع أن النرد مغشوش
يلعب الجميع ويتمنون أن يكون الحظ السعيد حليفهم
يعلم الجميع أن الحرب قد انتهت
يعلم الجميع أن الأخيار قد خسروا
يعلم الجميع أن المعركة لا تتغير
يظل الفقراء فقراءَ ويزداد الأغنياء ثراءً
هذه هي طريقة سير الأمور
والجميع يعلم.38

فنحن لا نفتقر إلى المعرفة، بل إلى التعرف على نمط منهجيتها.

دعونا نكُن واضحين ومحددين أكثر؛ نحن لم نفهم الحس العام بطريقة سليمة بوصفه خطأً في طريقتنا في رؤية الأشياء، إذا كنا نعني ﺑ «الخطأ» أن ثمة حلًّا للحس العام يمكن أن يأخذ شكل موقفٍ ما خارج إطاره ويتجاوزه تمامًا (الخيال المعرفي بامتياز)، أو أن للحسِّ العام «أخطاءً» يمكن بطريقةٍ ما تصحيحها؛ على سبيل المثال، من خلال تحويل غنائية الشعر إلى يقين الرياضيات، كما هو الحال في رواية يفجيني زامياتين «نحن».39 فنحن لا نسعى لما يتجاوز الحس العام، ولكن هذا يختلف عن القول بأن ما هو قائم بالفعل هو المقدر. تم تقديم الأطروحات الستِّ السابقة باستخدام أسلوب النفي؛ والهدف من هذا النفي ليس الحكم على المقترحات التي تكشف عنها ولا استبعادها بطريقة مباشرة وبسيطة، ولكن — عوضًا عن ذلك — الهدف هو أن تجعل حدود الفكر أكثر شفافية بالنسبة إليه نفسه مما كان سيكون عليه في وضع آخر. فقط في هذه المرحلة يمكن للنقد أن يبدأ. مرة أخرى، لنكُن واضحين ونقول، يبدأ، ليس من خارج الحس العام، ولكن من موقف «داخله» يدرك أن مضمونه الإيجابي وقواعده أو بديهياته الأساسية لا يمكن أن تغطي مجال الفكر بالكامل. إن الحدود التي نشير إليها هي الحدود التي ينتجها الحس العام، والتي يصر على أنه لا يمكن معالجتها إلا من خلال تلك العمليات التي صنعت الحدود. ولا يحتاج المرء إلى أن يمارس ألعابًا عقلية وجودية أو معرفية للتعرف على المساحة التي يمكن أن ينشأ فيها النقد.

عندما نقول إن الحس العام لا يمكن أن ينقذنا، فنحن في الواقع نقدم زعمًا إيجابيًّا؛ فما نحتاج إليه هو نقد يسعى لتحليل وتغيير المجتمع ككل. تهدف الرؤى النظرية للحس العام إلى التفسير والفهم، ولكنها لا ترغب على الإطلاق في إحداث تغيير على المستوى الكلي. لكن هذا هو التحدي الذي يلزم على الفكر أن يواجهه اليوم.

(٧) هناك شيءٌ ما مفقود

إذن، كل هذه الأشياء (التعليم، والأخلاق، والأمة، والمستقبل، والتاريخ، والرأسمالية، والحس العام) لن تنقذنا. لا شيء يمكن أن ينقذنا. ما هو هذا «اللاشيء» الذي سينقذنا؟ في الواقع، يمكن أن يُفهم هذا «اللاشيء» بوصفه «شيئًا ما» (وليس مجرد نتيجة للخدعة اللغوية التي تجعل من كلمة «لا شيء» اسمًا). ولكن الأهم فالمهم: إن هذا اللاشيء هو تحديدًا ما يساعد على وجود هيكل لهذه الأشياء. هناك دائمًا شيء مفقود في هذه الأشياء؛ وهو اللاشيء. هذا اللاشيء هو الشيء الذي من دونه لن يكون ثمة وجودٌ لشيءٍ ما. أبراج النجوم هي اللاشيء الذي يجمع النجوم معًا، والمساحة بين الأغصان هي اللاشيء الذي يحفظ ترابط الشجرة. الرأسمالية هي اللاشيء الذي يجمع رءوس الأموال معًا.

إن الرأسمالية هي لا شيء؛ إذ لا يمكن العثور على أي أثر لها في أي مكان، فلا يمكن الإمساك بها أو قياسها أو إثباتها، لكن كل ما يحيط بالرأسمالية موجود في كل مكان ويمكن الوصول إليه بسهولة للدراسة؛ فالسلع، والأوراق النقدية، ونقل الحمولات الثقيلة، والرغبة الاستهلاكية المفرطة، والأعمال الخيرية المثمنة، والاضطرابات العصبية (بدءًا من فرط الحساسية وحتى التفارق)، والانبعاثات الكربونية، والفيضانات والحرائق وغيرها من «الكوارث الطبيعية» الاجتماعية، والآحاد والأصفار الرقمية التي تنقل اتصالاتنا بنحو فوري، ووسائل الترفيه، والأموال حول العالم؛ ليست هي الرأسمالية، بل هي آثارها؛ فالرأسمالية هي لا شيء.

ومن ثم، فإن المعنى الأول لتعبير «هناك شيءٌ ما مفقود»، هو أن هذا «اللاشيء، الذي هو الرأسمالية، والذي هو شيءٌ ما، مفقود». وحيث إن اللاشيء يكون مفقودًا، حتى وإن كان موجودًا، فإن اللاشيء يصبح مسألة إيمان؛ فيجب علينا أن نؤمن بأن اللاشيء موجود، حتى وإن لم نكن نمتلك أي دليل إيجابي لإثبات ذلك؛ ولهذا السبب فإن الرأسمالية مسألة إيمان. واليوم، بدأ المزيد والمزيد من الناس يستعيدون إيمانهم، يولدون من جديد؛ ليس بالضرورة كيساريين أو يمينيين، ولكن كمؤمنين بنظام يسمى الرأسمالية، أو لنكونَ أكثر تحديدًا، بوجود فكرة «النظام» من الأساس.

لم يَعُد هذا الإيمان بالنظام إلا بعد أن أصبح خطاب العولمة لا يُخفي وراءه الرأسمالية؛ فخلال ذروة العولمة، لم يكن ثمة من يؤمن بالنظام الرأسمالي؛ ليس فقط أنه لم يكن موجودًا في أي مكان، وإنما كان يتعرض للإخفاء باستمرار. لقد كان مخفيًّا عن الأنظار، بعيدًا عن إحساسنا، عن قدرتنا على الإيمان به. كان موجودًا ولكن ليس بوصفه نظامًا، وإنما كأي شيء؛ ولن يكون كل شيء، دون اللاشيء، موجودًا إلا في الخيال. والآن، أصبحت العلاقات بين الأشياء، بين الأمم، بين الماضي والحاضر، بين الأغنياء والفقراء، بين الحليف والعدو (والعلاقة هي التمثيل المثالي للا شيء!) في طور الإظهار. ما الذي سَيَلِي العولمة؟ إظهار العلاقات الغائبة التي تُشكِّل حياتنا، وتتشكل من خلالها؛ إظهار اللاشيء.

كانت مساحات اللاشيء هذه الموجودة بين كل الأشياء هي أكثر الأسواق حيوية بالنسبة إلى رأس المال. إن المناطق الحضرية لدينا مزدحمة بالإعلانات، ليس فقط على لوحات الإعلانات ولكن على أجسادنا وأحلامنا؛ فكلُّ شقٍّ مليء بالشعارات، وكل قطعة من الأماكن المتوافرة محتلة مثل أراضي العدو. وبالمثل، الوقت مزدحم كذلك؛ كل ثانية مليئة بالإعلانات والأجساد العارية، والمزيد من الشعارات؛ حتى الشعارات التي تُهيب بنا أن نتوقف عن النظر إلى الشعارات، على سبيل المثال، إذا ذهبتَ إلى إحدى الفعاليات الرياضية وحاولتَ التركيز على الحدث، فلن تجد لحظة واحدة فارغة؛ لا توجد فواصل زمنية، أو استراحات، ولا لحظة واحدة غير محددة معالمها مسبقًا. وتتعرض أي محاولة للتمرد على ذلك للإيقاف على الفور، وأي محاولة لإحداث تأثير مضاد تولد ميتة ولا تحصل على أي فرصة للنمو والاستمرار. حتى المستقبل مزدحم؛ فالدين الشخصي والقومي ما هو إلا احتلال لوقت مستقبلي.

يعني هذا أيضًا أن اللاشيء قد يظل بلا تغيير، ولكن علاقتنا به يمكنها أن تتغير. إن طريقة فهمنا وتمثيلنا وإيماننا وتجربتنا له تتغير من لحظة تاريخية إلى أخرى. في الواقع، قد نروي حتى تاريخًا حديثًا لعلاقتنا باللاشيء. مع وصول الرأسمالية الصناعية للذروة في القرن التاسع عشر، زاد إدراكنا «للاشيء». ساهم التحرك من الريف إلى المدينة وتحويل الاعتماد على الزراعة إلى الاعتماد على العمل في المصانع في تيسير التمثيل والإيمان بالعلاقات التي شكَّلَت هيكل الحياة اليومية. كان من المستحيل إغفال العلاقات الإمبريالية، وتنظيمها الواضح والمتماسك للمدن والمستعمرات، للمستعمِر والمستعمَر. وفي أعقاب عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، أبرزت الحقائق الصارخة لِمَا كان عليه الجانب الآخر من الرأسمالية (من طوابير الحصول على الطعام إلى المسيرات الفاشية، وصولًا إلى معسكرات الاعتقال) علاقات النظام (اللاشيء) من جديد. وينطبق الأمر نفسه على الحرب الباردة؛ فكان كل شيء منظمًا ومفهومًا من وجهة نظر القطبية الثنائية؛ نظامان مختلفان تنظمهما المساحة (مساحة الأيديولوجية، ومساحة الإنتاج، ومساحة القيمة الثقافية) التي تفصل بينهما.

ولكن مع أزمات النفط التي ظهرت في سبعينيات القرن العشرين، بدأ تكامُلُ نظامَي طرفَي الحرب الباردة في التداعي، وسيطرت عولمة أحد النظامين (الرأسمالية) على النظام الآخر. وعندما سقط جدار برلين، كانت السيطرة كاملة، واختفت المساحة التي كانت قائمة بين النظامين. ولكن عندما يكون هناك نظام واحد فقط سائد، يتغير كل شيء، خاصةً خبرة وفهم وتمثيل النظام نفسه. هذه هي لحظة العولمة المكتملة. وفُقد النظام الرأسمالي مع ارتفاع أصوات المتفاخرين بكل شيء في العولمة (من جميع أطراف الطيف السياسي). لقد فُقد شيءٌ ما، وهو نظام اللاشيء، أو اللاشيء بوصفه نظامًا. ومع أزمة الرهن العقاري والانهيار المالي العالمي في عام ٢٠٠٨، بدأنا نبحث عن شيءٍ ما مفقودٍ مرة أخرى. «لقد عاد النظام؛ ومن ثم، فثمة شيء مفقود.»

إن إحدى طرق تصور هذه العودة لشيءٍ ما مفقودٍ هي عودة تخيُّلِ شيءٍ ما مفقود. ويعني الإيمان بنظام من جديد أن نؤمن بالأنظمة الأخرى، ليس أنظمة الماضي الفاشلة أو المهزومة فحسب، ولكنْ أنظمة المستقبل كذلك. نحن لا نرغب في تقديم مخطط محدد لنظام مستقبلي، ولكن، عوضًا عن ذلك، نريد أن نشير إلى ضرورة تخيل أنظمة بديلة؛ جميع أنواع الأنظمة: السخيف منها والخطير، المستحيل منها وما لا يمكن تخيله. إن اقتراح نظم أخرى وأخذها على محمل الجد لا يتعلق فقط بعمل تحليلات لهذه البدائل، ولكن يتعلق أيضًا باستخدام قدراتنا من أجل تخيل مثل هذا النظام أيضًا. تمثل ديستوبيات الخيال العلمي، على سبيل المثال، مجتمعات بائسة ونظمًا كارثية، ولكن مجرد تخيل إحدى هذه الديستوبيات يبدو عملًا يوتوبيًّا، عملًا يؤمن بتكامل نظامٍ ما وكيف يمكن لهذه الأنظمة أن تظهر إلى حيز الوجود ثم تختفي. تصل «نهاية التاريخ» إلى نهايتها عندما نستطيع أن نبدأ في تخيل بداية الأنظمة ونهايتها.

ومن ثم، يعرض كتابنا هذا ثلاثة مزاعم رئيسية، وهي؛ أولًا: في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية لعام ٢٠٠٨، عاد الإيمان بما يشكِّل هيكل العالم في الوقت الحاضر (اللاشيء المدعو الرأسمالية) والوعي به. ثانيًا: هذه العودة للإيمان تتيح وتلهم الرغبة في وجود لا شيء آخر؛ نظام آخر يمكن للرأسمالية أن تتحور فيه. وثالثًا: هذه الرغبة في لا شيء آخر، لشيء آخر، تهز دعائم ما هو ممكن. يشمل «الشيء المفقود» كلًّا من «اللاشيء» الذي نعيشه من جديد والمستقبل المختلف الذي «نفتقده» على الرغم من عدم قدرتنا على وصفه، أو تخيله، أو الرغبة فيه صراحةً. إن «الشيء المفقود» منفتح على ما يأتي فيما بعد العولمة؛ وهذا الانفتاح الذي يَعِدُ بسلام أكبر ومساواة أكبر من مجرد مجموعة السلع التي تباع لنا مرة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤