شارع إسماعيل صبري

وأنا أصعد الترام المتجه إلى محطة القطار، خطفت نظرة من الشقة في البيت رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري، النوافذ والشرفات التي أطللت منها على المشهد الذي أحبه، في داخلي شعور بأني مسافر بلا عودة، تفتح لي القاهرة حتى الباب الواحد والأربعين الذي يجب أن يظل مغلقًا.

ثمة تكوينات ومنمنمات تصنع فسيفساء المشهد: صيد المِياس أوقات العصر، سُمِّي «صيد العصاري»، آخر معارك الفتوات في ميدان «الخمس فوانيس»، خطب الشيخ عبد الحفيظ في صلاة الجمعة، يأتي إليها المصلون من أحياء المدينة، ومن المدن القريبة، لعب الكرة في الشارع الخلفي، نواهي أمي ترفض الفكرة، ثم يتاح لي اللعب بإشفاق أبي.

الجلوات القادمة من «أبو العباس» تخترق شارع الأباصيري إلى ميدان «الخمس فوانيس»، تميل إلى شارع إسماعيل صبري، ثم شارع الميدان، لا أعرف أين تنفضُّ، أعرف نهاية الجنازات: الصلاة في جامع الشيخ إبراهيم، ثم تتجه إلى مقابر العامود. سوق العيد بصخبه وزحامه وألعابه، يبدأ أول رمضان، يمتد إلى ما بعد أيام العيد. الرويعي الترزي في جلسته الثابتة أمام الدكان، لا تُفلت امرأة — ولو سحبت حفيدها — من معابثاته. محمود أفندي جار البيت المقابل، مثَّل لي جثمانه الملتف بالكفن عقدة عانيتها طيلة عمري. موقف عربات الحنطور على ناصية إسماعيل صبري من ناحية التتويج. بيت الأوقاف القديم.

فاطمة أول تعرفي إلى الدنيا الغامضة، النافذة قصاد النافذة، البنت تنبهني إلى ما يغيب عني، تمط شفتها السفلى في خيبة أمل، وتغلق النافذة. دكان الطيبين الحلواني يسدل الستارة الحديدية، أعرف أن الرجل يسوي خلطة الهريسة السحرية، السرية، على المياه الساخنة، لا يأذن حتى لعماله بالمتابعة. عيادة الطبيب الأرمني الدكتور مردروس في الطابق الأول من البيت، أتاح لنا التمرجي — في أوقات غياب الطبيب — ما اخترعناه من ألعاب، تعكس بقايا تأثيرات الحرب العالمية الثانية، جعلْتُ الرجل — بما رواه أبي عن حياته — بطلًا لروايتي «صيد العصاري». عم أحمد بائع ألواح الثلج، صندوقه الضخم لِصْق الجدار، أول شارع فرنسا، وسيلة تبريد الماء، وحفظ الطعام، في زمن الثلاجة الخشبية، أي التي بلا كهرباء.

المظاهرات الحاشدة تأتي من ناحية باب الجمرك رقم واحد، تتشابك السواعد، وتُنشد الصفوف: «بلادي بلادي بلادي … لك حبي وفؤادي.» سيارات الجيش الإنجليزي يجري وراءها صبيان الفتوات، يقفز أحدهم داخلها، يقذف — في غيبة من انتباه السائق — ما تحمله إلى زملائه في نهر الطريق. آلاف الوفديين يحيطون بسيارة فؤاد سراج الدين، إلى جواره رفعة الزعيم الجليل في عربة مكشوفة، يحتفون بعودته من رحلته العلاجية بهتافات وأهازيج وأغنيات.

بائع الصحف على ناصية الطريق، أشتري منه — كل صباح — ما يعرف أن أبي يقرؤه من صحف عربية وأجنبية، الجريدة بخمسة مليمات، غالبية الأسماء غابت بتغير المشهد السياسي وغياب الإسكندرية «الكوزموبوليتانية»: المصري، الاشتراكية، المقطم، البصير، البورص، الإجبشيان جازيت، البروجريه … إلخ.

أُمَيز الشيخ فتوح من صوته المسرسع، أتابع خطواته المترنحة تحت ثِقْل المِخلاة فوق ظهره، بها — أتصور — ما يقدمه له الخيرون من أطعمة، وما ييسر حياته. متابعتي — من خَصاص النافذة المغلقة — منشد الأهازيج في مشواره اليومي، قبل صلاة الفجر. عم عبده في دكان بيع السجائر، أمامها طلمبة بنزين وحيدة، يفسر أبي إغلاق الدكان والطلمبة — أحيانًا — بأن الرجل أخفق في الحصول على الكِيف.

طال ابتعادي عن البيت والشارع، أعود في فترات متباعدة، لكن رائحة المكان تظل في أنفي، أميزها بصعوبة، لكنها موجودة، تلامس أنفي بتداخل روائح مختلفة، اختلاط ملح البحر واليود والبخور وزفارة السمك والطحالب والأعشاب، تصنع رائحة تعيدني إلى الحياة في بحري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤