القصة تكتب نفسها

«إن الفنان الحقيقي يهب نفسه كلها للفن.»

بوشكين

«للفنان عالم خاص يملك مفتاحه هو وحده.»

أندريه جيد

«إن الفن يزلزلني» عبارة لفلوبير، أتذكرها كلما أنهيت عملًا ما. كانت الكتابة — في تقدير فورستر — أمرًا مريحًا، وأعلن دهشته لعبارة «آلام الخلق». وأكد مورافيا أنه يكتب ليسلي نفسه. والكتابة — عند الكثيرين — هي مجرد تسلية. يغيظني قول أحدهم، ردًّا على اعتذاري عن موعدٍ بأني مشغول: يعني مشغول في إيه؟ والكتابة: أليست مشغولية؟ أليست همًّا يجب حشد النفس له؟ أذكر عجب جون برين من افتراض الناس أن الكتابة لا تعدو ضربًا من السحر، وأنها تخلو من الجدية. عذر الفتاة مقبول إذا تحدثت عن انشغالها بغسل شعرها، أما عذر الانشغال بالكتابة فهو غير مقبول. وحين سُئِل وليم ستايرن: هل يستمتع بالكتابة؟ أجاب: كلا بالقطع! نعم، إني أشعر شعورًا طيبًا عندما أجيد، لكن ذلك الشعور يتخلله الألم الذي أعانيه كلما شرعت — كل يوم — في الكتابة … بصراحة، إن الكتابة جحيم!

اللغة تقول إن الإبداع هو «إحداث شيء على غير مثال سابق.» وإذا كان أندريه جيد قد كتب إبداعاته على أمل أن يجد قارئًا لم يقرأ الأعمال السابقة عليه، فإن ناتالي ساروت تعلن «يجب ألا نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحسَّ به، أو عبَّر عنه، كُتَّاب آخرون.» ويقول سيزان: «إنني أريد أن أرسم، وكأن رسامًا واحدًا من قبلي لم يقُم بهذه المهمة.» ولعلِّي أوافق فلوبير بأن مهمة الرواية الأهم هي أن تبين دائمًا عن الجديد. الخطأ الأكبر الذي يقع فيه الروائي هو أن يكون سلفيًّا، فيكرر ما اكتشفه — من قبله — الآخرون. القول إنه «لا جديد تحت الشمس» يحتاج إلى مراجعة. ثمة الجديد دائمًا تحت الشمس، وكل يوم هو إضافة — سلبية أو إيجابية — في حياة الفرد والجماعة، وفي حياة الكون جميعًا، وإلا فماذا تعني آلاف المنجزات التي تقدمها البشرية، في توالي الأيام: الكتب والاختراعات والاكتشافات وطرائق التربية والإبداعات الفنية وغيرها؟ يعجبني قول جارثيا ماركيث «الكاتب الذي لا يعرف ماذا يعمل، يسعى دائمًا ألا يكون شبيهًا بالآخرين، لكنه يصبح في الحال غير متجاهل للكُتَّاب الذين يحبهم، أفضل من هجرهم نهائيًّا.» ودلالة قول هيراقليطس «أنت لا تستطيع أن تستحم في مياه النهر مرتين» واضحة، فمياه النهر في جريان دائم، بحيث يغتسل المرء دائمًا في مياه جديدة.

والحق أني لا أذكر متى كان تعرُّفي إلى الإبداع السردي، كقارئ في البداية، ثم كواحدٍ من الذين يطمحون لتقديم إضافة في هذا المجال. كانت «أيام» طه حسين هي أول ما أذكره من قراءات مؤثرة، قرأتها في حوالي الثامنة من عمري، أحببت لغتها في القراءة الأولى، ثم ألممت بمضمونها في القراءة الثالثة، وأفدت — بعد ذلك — كثيرًا من مكتبة أبي. كانت تضم عددًا هائلًا من المؤلفات التي تعني بألوان المعرفة الإنسانية، والقصة والرواية — بالطبع — من بينها. وحين جرى القلم بالمحاولات الأولى، فإنها لم تكن أكثر من تقليد ساذج لكتابات المنفلوطي والمازني وهيكل وحقي وعبد الحليم عبد الله ومكاوي وغيرهم من أدباء جيل الرواد، وجيل الوسط الذين أتاحت لي مكتبة أبي قراءة مؤلفاتهم (تعرفت إلى نجيب محفوظ في مرحلة تالية). وقد أقدمت في سن باكرة على إصدار كتابين (التسمية لا تخلو من تجاوز) يتبدى فيهما ذلك التأثر بصورة مؤكدة، وهما «الملاك» و«ظلال الغروب». أنت تجد في كل فقرة، وكل تعبير، إفادة من كتابات هؤلاء الكبار. كنت أنفِّذ — دون أن أدري! — نصيحة د. جونسون «انقل كتابات أدبائك المفضَّلين حتى تستطيع — ذات يوم — أن تكتب مثلهم.» كنت في مرحلة الصبا، لم أستقر على أسلوب، وإن تعجَّلت — في الوقت نفسه — أن أكون كاتبًا. كانت «الملاك» أشبه بمقال رثائي لأمي التي اختطفها الموت قبل سنوات. أما «ظلال الغروب» فقد عرضت لقصة حب بين شاب وفتاة. وبالطبع، فإني أعتبر هذين النصَّين من ذكريات الصِّبا، بل إني أتردد كثيرًا في وضعهما تحت تصرف الدارسين، حتى لا يُصدَموا في سذاجات البداية. أما قصة البداية التي أعترف بها، فهي «يا سلام» من مجموعة «تلك اللحظة». كنت أسير في شارع شريف، بالقرب من ميدان محطة الإسكندرية، عندما استمعت إلى شيخ يبيع الكيزان الصفيح، يخاطب نفسه بأنه يريد النوم في أي مكان. ولأن مصر — أيامها — كانت تواجه عدوان ١٩٥٦م، فقد تناولت مأساة الرجل باعتباره ضحية للحرب. ثم كتبت العديد من القصص القصيرة، قرأها أستاذي أحمد عباس صالح، فنصحني بأن أمزق معظمها، وأنشر أقلَّها، وبعضها لم أنشره في مجموعتي الأولى.

•••

يقول نورمان بوردور في سيرته الذاتية: «الكتابة من أشد الأنشطة الإنسانية غموضًا، ولا أحد، حتى المحللين النفسيين، يعرف القوانين التي تحكم حركتها أو توقُّفها. فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة، وحتى الدراسة النقدية، هي هناك، حتى قبل أن يخطَّ الكاتب كلمة واحدة على الورق. وفعْل الكتابة أشبه بالمفتاح السحري الذي يفتح الباب المغلق، فيبدأ الإبداع في التدفق.» وبالنسبة لي فإني أخشى العمل الفني قبل أن أبدأ في كتابته، يشغلني، ويلحُّ عليَّ. أقرر — مرات كثيرة — أن أخلو إليه لأكتبه، لكنني أتذرَّع بحجة ما، فأتشاغل عنه، وإن ظل يشغلني إلى حدٍّ بعيدٍ. ثم أبدأ في الكتابة عندما أشعر أن هناك إلحاحًا داخليًّا يدفعني إلى ذلك. ربما انشغلت، أو تشاغلت، فتفلِت اللحظة المناسبة. وحين أتوهَّم ثانية أنها قد عادت، تأتي الكلمات باهتة، باردة، كالوجبة التي لم تُقدَّم وهي ساخنة. وفي معظم الأحيان، فإن البدء والختام في قصة قصيرة — أحرص أن يكون ذلك في جلسة واحدة — تأتي أقرب إلى المفاجأة. ربما تطاردني الفكرة شهورًا، فأتناساها وأهملها، وأنصرف عنها إلى قراءات وكتابات أخرى، ثم يجري القلم على الورق دون تعمد. ولعلِّي أتذكر ملاحظة صامويل باتلر عن أعماله الروائية «إنني لا أضعها أبدًا، إنما هي تنمو، فهي تُقبِل عليَّ ملحَّة في أن أكتبها، ولولا أنني أحببت موضوعاتها لحزنت، وما كان لشيء أن يحملني على كتابتها إطلاقًا. أما وقد أحببت هذه الموضوعات فعلًا، وأما وقد جاءت الكتابة قائلة إنها تريدني أن أكتبها، فقد تململت قليلًا، ثم كتبتها» (ت. نبيل راغب). ويعرِّف جورج مور الرواية بأنها «تتابُع منظَّم للحوادث في أسلوب إيقاعي منظم للعبارات.» ولعلِّي أعترف أني أبدأ في كتابة العمل، وأواصل الكتابة، وقد أهملت كل ما قرأته وتعلمته عن الشخصية والحدث والبيئة والصراع والعقدة والذروة والحل، وغير ذلك من التعريفات التي أعتبرها مخزونًا معرفيًّا، أفيد منه بالضرورة، ودون تعمُّد، شأنه شأن الذكريات والتجارب والخبرات والقراءات … إلخ، عفوية الإبداع لا تلغي ثقافة المبدع، بل إن الثقافة لازمة للمبدع إطلاقًا.

أحيانًا، أهُمُّ بكتابة رسالة أو مقال صحفي، فيتحول — منذ البداية — إلى القصة التي كانت تشغلني وتشاغلني. وعندما أنتهي من كتابة القصة، فإني أعيد النظر فيها بين حين وآخر، حتى أطمئن — في النهاية — إلى إمكانية نشرها. فإذا نُشِرت، لم يعد لي بها بعد ذلك صلة. ولأن الفكرة حين تختار لحظة تسجيلها تكون أشبه بالمولود الذي لا بد أن يغادر بأكمله رحم أمه، فإني أكتب بسرعة، دون توقف. ما يشغلني هو التدوين فحسب. ربما أتوقف أمام كلمة، أو جملة، أو موقف، فأتجاوز ذلك كله، وأترك السطور مكانه خالية وأواصل الكتابة، على أن أعود إلى السطور الخالية بعد ذلك، فأحاول أن أسوِّد بياضها. بعض أعمالي واتتني («هل»، على سبيل المثال) وأنا في حلم يقظة، وحين قرأتها، لم أضِف إليها — ولا حذفت — حرفًا، نقلتها على الآلة الكاتبة بصورة الكتابة الأولى (لم أكن قد تعرَّفت إلى الكمبيوتر بإمكاناته المذهلة!). كنت أتردد في البوح بذلك الأمر، حتى عرفت أنه يحدث للكثير من الأدباء. أذكر قول همنجواي «يحدث لي أحيانًا أن أحلم بالسطور نفسها، وفي هذه الحالة، فإني أستيقظ وأكتبها، وإلا ربما نسيت الحلم تمامًا.» كانت كوليت تقضي الصباح كله في كتابة جملة واحدة. وأنا أفضِّل أن أترك لهذه الجملة موضعها في السياق، ثم أتأملها، أضعها في بالي، أحاول صياغتها في حياتي العادية: في البيت، في المكتب، في الطريق، حتى إن تشكَّلت على النحو الذي أطمئن إليه، ملأت بها الموضع الخالي من السياق. تعمُّد وصل الجمل بالمعاني الغائبة يضر بالعمل الإبداعي، فأنت قد تقبَل — لتكامُل النص — كتابة ما، قد يكون في وعيك أفضل منها. أنا أكتب القصة القصيرة، أو الفصل في رواية، في جلسة واحدة. لا أترك القلم والورق قبل أن أنهي ما بيدي، يملي النص ما يحمله. ربما اتجهت الأحداث إلى عكس ما كنت أفكر فيه قبل البدء في الكتابة، وربما أبانت الشخصيات عن نقيض ما كنت أتصوره فيها. لا أحاول التدخل، إنما أترك المسألة برمتها إلى موروثات وقراءات وتأملات ورؤى وخبرات وتجارب. وعلى حد تعبير همنجواي، فإن همي الأول — وأنا أبدأ في كتابة الرواية — هو أن أنجزها. إذا صادفت قلقًا في بعض المواقف أو التعبيرات، أو حتى الكلمات التي تهب المعنى، فإني أتجاوزها ليظل الخيط متصلًا إلى نقطة الختام، ثم أبدأ في رتق (وأعتذر لرداءة التشبيه!) ما أهملته من قبل، أو يبدو لي غير منسجم مع النص. لا أترك القلم، لا أعتبر النص منتهيًا إلا إذا بدا النص جسمًا مكتمل الملامح والقسمات والتكوين، لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان والظلال، قطعة نسيج خلت من العيوب التي تقلل من قيمتها. لا أقصد من ذلك أني أكتفي بمجرد وضع السواد على البياض، أو على حد تعبير موباسان «أكتب أي هراء، ولا يهمني ماذا يكون، ثم أنظر فيه بعد حين.» أنا أكتب بالفعل، أحاول أن أعبِّر بقدر ما تواتيني الموهبة، وحضور اللغة، فإذا استعصى التعبير تركت الجملة، أو الفقرة، حتى لا أفقد المواصلة، ثم أعود إلى النص، أطيل قراءته، أعاودها، أتأمل وأفكر وأضيف وأحذف وأبدِّل، حتى أطمئن إلى أني لم أخطئ في صياغة جملة، ولا إلى موضع كلمة ولا حرف. وربما أقدمت على تمزيق النص، لأن صورة المولود شوهاء، فلن تجدي إعادة نظر. عمومًا، فإنه يجب أن تكون أمام الفنان فترات للتأمل، وهذه الفترات عندي حين أقود سيارتي، أو عند ركوبي المواصلات العامة، أو لحظات القراءة. تثيرني معلومة، فأسرح فيها، وربما بعيدًا عن المعلومة نفسها. قد تأتي لحظات التأمل تحت «الدوش»، أو في دورة المياه، أو حتى أثناء تناول الطعام. إنها تأتي في اللحظات التي أنعزل فيها — دون وعي دائمًا — عن الآخرين، أذهب إلى جزر قريبة، وبعيدة، أتنقَّل بين عوالم واضحة وضبابية وهلامية. في هذه اللحظات، تواتيني فكرة الرواية، أو القصة، أستكمل الجملة الناقصة، أحذف الكلمة الزائدة، وربما الحرف الزائد. قرأت لفيلكس ألكرن إنَّ قلمه كان يجري على الورق بقدر ما تواتيه السرعة، فهو يجعل بعض الكلمات إشاراتٍ وخطوطًا، ويملأ الصفحات بما يصعب قراءته. ربما كان خط ألكرن جيدًا، فهو يكتب — بسرعة — كلمات وجملًا واضحة. أما خطي فهو سيئ في الكتابة العادية، ويصعب عليَّ قراءته — أحيانًا — بعد أن أكتب بسرعة، ولولا أن عمل زوجتي بالتدريس لأعوام طويلة، فخِبْرتها في الخطوط طيبة، ولولا أني أفلح في القراءة بالتذكُّر، فلعلِّي كنت سأتخلص من الكثير الذي كتبته، يأسًا من قراءته.

•••

يعرِّف بعض الأدباء «الإلهام» بأنه القدرة على أن يخلق المرء في نفسه أنسب الحالات للعمل. ويقول أوستروفسكي: إنني مقتنع بشيء واحد، هو أن الإلهام يأتي أثناء العمل، والكاتب يجب أن يكون كالبنَّاء في هذا البلد، أي أن يعمل في جميع الأجواء، سواء كانت سيئة أم حسنة.» أنا أتفق مع هذا الرأي تمامًا، فالقضية ليست في «أنسب الحالات للعمل»، ولكن في مدى قدرتنا على إيجاد تلك الحالة في النفس. كذلك فإني أتفق مع الرأي بأنه ينبغي على الكاتب ألا ينتظر حتى يأتيه الإلهام — وقد لا يأتيه! — وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه. من الخطأ — على حد تعبير جون برين — أن ننتظر الوحي قبل الكتابة، لا لأن الوحي لا وجود له، بل إنه لا يأتي إلا مع الكتابة. يكفي أن تكون لديك الصورة، ليس من الحتم أن تكون عالِمًا بأصل الصورة، المهم أن تكون لديك الصورة، وهي لن تكون موجودة، ومتبلورة إلى حدٍّ ما، ما لم تكن قد اتخذت قرارًا بكتابة القصة — أو الرواية — وهممتَ بكتابتها. ولعلِّي أشير إلى قول همنجواي: «في روايتي «العجوز والبحر» كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله، لكن لم أعرف القصة، كما لم أكن أعرف على وجه الدقة ما سيقع من أحداث في «لمن تدق الأجراس»، أو «وداعًا للسلاح».»

والحق أني حين أبدأ في كتابة عمل ما، فإن صورته في ذهني لا تكون واضحة تمامًا. إني أكتفي بالفكرة دون تفصيلات، وإن توضَّحت بعض التفصيلات الصغيرة، لكنني أفضِّل أن يكتب العمل نفسه، بمعنى أني أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة، حتى لحظة ترك القلم، ذلك تعسف لا أتصور أني أقدِم عليه. وكما قلت، فإني أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح، فتتوضح معالمها أثناء الكتابة، لأنها هي التي تهب تلك الملامح، بإسهام من المخزون الذي أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات. عندما أبدأ الكتابة، فإني أعتمد كثيرًا على الخبرات — خبراتي وخبرات الآخرين — الكامنة والمترسِّبة في أعماقي. لا أجهد نفسي في البحث، ولا أحاول انتزاعها، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق، تظهر في الوقت الذي تريده، وعلى النحو الذي تريده، دون تعمُّد ولا قسر من ناحيتي. وربما تكون الشخصية، أو الحادثة، غائبة تمامًا، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة.

•••

لفلوبير عبارة شهيرة هي «أنا مدام بوفاري»، بمعنى أنه عندما نتحدث عن مدام بوفاري، فإنه كان يتحدث عن نفسه. والمؤكد أني لست موجودًا خارج أعمالي. ما أكتبه يتضمن وجهًا من وجوه حياتي: قراءة، مشاهدة، تجربة … إلخ. من الصعب أن أجد ذلك في كل ما كتبت، مع أني أجد نفسي في الكثير مما كتبت. أجد ناسًا عرفتهم، التقيتهم، صادقتهم، عايشت خبراتهم وتجاربهم، ولحظاتهم الهانئة والمأساوية، أجد العديد من الأماكن والأزمنة التي اتصلت بحياتي، بصورة وبأخرى. لاحظ الناقد «لاكان» في دراسة له عن الكاتب الفرنسي الشهير أندريه جيد أن تفصيلات السيرة الذاتية لحياة الكاتب ومنمنماتها، تشكِّل بُعدًا أساسيًّا في أعماله الفنية (لا يخلو من دلالة قول همنجواي: أنا لا أعرف إلا ما رأيته). وأتصور أن هذا هو الدور نفسه الذي تشكِّله سيرتي الذاتية فيما كتبته، وأكتبه، من أعمال. أذكر حين أنهيت قصتي «القرار» مفاجأة القصة لي بأن الشقة التي اختارها الراوي للإقامة بعيدًا عن مشكلات إخوته، هي الشقة نفسها التي أمضيت فيها طفولتي وصباي إلى بداية العقد الثالث، في الطابق الثالث، البيت رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري بالإسكندرية. وأتذكر قول باشلار: «إن البيت الذي وُلِدنا فيه بيت مأهول، وقيم الألفة موزعة فيه، وليس من السهل إقامة توازن بينها؛ إذ هي تخضع للجدل، فالبيت الذي وُلِدنا فيه محفور بشكل عادي، وفي داخلنا، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية.» ولعلَّك لاحظت شبهًا واضحًا بين الكثير من الشخصيات التي قدمتها في أعمالي، ذلك لأن معظم هذه الشخصيات تعبير — بدرجة وأخرى — عن شخصية الكاتب نفسه.

القصة يجب أن تكتب نفسها؛ فعل الكتابة اكتشاف. أرفض التصور بأن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تمامًا صورتها النهائية. القصة تكتسب ملامحها وقسماتها أثناء ولادتها. قد يأتي المولود في صورة غير التي كان يتوقعها الفنان. قد تبيِّن القصة، أو الأحداث، عن ملامح ربما لم تخطر في باله. كاتب القصة يختلف عن كاتب السيناريو، في أن الثاني عنده قصة جاهزة، فهو يحوِّل القصة إلى مشاهد. وفي كل الأحوال، فإن كتابة القصة ينبغي ألا تخضع للمنطق الصارم، للعقلانية التي قد تفقدها تلقائيتها. الفنان مطالَب بأن يخفض صوته إلى حدِّ الهمس، حتى يتحقق الإيهام بالواقع، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته.

أحيانًا، أبدأ في تصوير الشخصية، ولها في مخيَّلتي ملامح محددة، ثم تذوي الملامح التي تصورتها أثناء عملية الكتابة، لتحل — بدلًا منها — ملامح أخرى، فتأتي الشخصية مغايرة — سلبًا أو إيجابًا — لكل ما تصورته. وربما بدأت في كتابة عمل ما وفي داخلي وهمٌ أني أمتلكه، أعرف البداية والنهاية. فإذا بدأت في الكتابة، أسطر قليلة أو كثيرة، لم أعد سوى أداة للتسجيل. القصة تكتب نفسها، كأنها الأمواج التي تذهب بالقارئ إلى شواطئ لم يكن يتوقع ربَّانه الوصول إليها. وكما يقول سيمينون: «أنا لا أعرف في البداية ماذا سيحدث لأبطالي بعد قليل، فإذا عرفت ذلك، انتابني السأم والملل. أنا لا أكتشف الوقائع دفعة واحدة، بل أقع عليها وأنا أنتقل من فصل إلى آخر، وكأني أحكي قصتي لنفسي لا للآخرين.» وبالتأكيد، فإن ما أريده بعد أن أتمَّ كتابة عمل ما، يختلف عن الصورة التي كتبته بها فعلًا؛ تغيب شخصيات وأحداث وأماكن كنت أتصور أنها أساسية، لتحل بدلًا منها شخصيات وأحداث وأماكن كانت مختفية في تلافيف الذاكرة، ثم ظهرت في وقت لم أحدده. انطلاقات الشعور لا تعرف الترتيب ولا المنطق، ولا يحدُّها زمان ولا مكان، فهي أشمل من كل زمان ومكان، يختلط فيها الماضي والحاضر واستشرافات المستقبل. لم يبدأ همنجواي أيًّا من رواياته على أنها رواية، لم يجلس إلى الورق — ذات يوم — ليكتب رواية، لكنه كان يبدأ كل ما كتب على أنه قصة قصيرة، قد تنتهي بالصورة التي أرادها، وقد تطول فتصبح رواية. وقد بدأت روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي» باعتبارها قصة قصيرة، لكن اتساع القراءة في الفترة التاريخية وسَّع كذلك من بانورامية الصورة التي يجدر بي تناولها، فتضاعفت الصفحات القليلة — كما كنت أعد نفسي — إلى ما يزيد عن المائة والخمسين صفحة. وكانت تلك اللحظة — مجموعتي القصصية الأولى — كتابًا أوليًّا، يتكون من ثماني قصص، هي أقرب إلى الاسكتشات، أو الرسوم التخطيطية، لأعمال أشد اقترابًا من فن القصة القصيرة، أشد اقترابًا من النضج. باختصار، فقد وشت تلك اللحظة بطموحاتي بأكثر مما رسخت تلك الطموحات. وكان عليَّ بعدها أن أعطي لنفسي إجازة، أعيد خلالها تثقيف نفسي، وأعيد النظر في أوراقي، وأناقش إعجابي بالأساتذة الذين قرأت لهم: هل يقف عند حد الإعجاب، أو أنه يمتد — أحيانًا — إلى التأثر والتقليد؟ وهل الكتابة الروائية والقصصية هي الفن الذي ينبغي أن أخلص له بالفعل؟ وإذا كانت الصرامة القاسية التي ألزم بها أستاذنا نجيب محفوظ نفسه في مجال الكتابة الإبداعية، هي المثل الأوضح، والأقرب، بين أساتذتي من الأدباء العرب، فإن الصرامة القاسية نفسها كانت مثلًا لي في السيرة الذاتية لأديب فرنسا الأشهر جوستاف فلوبير (١٨٢١–١٨٨٠م). رفض فلوبير تكرار التجربة الأدبية، أو التأثُّر برؤى وتجارب الآخرين، جعل همَّه أن يفرز أسلوبًا مميزًا، طابعًا أدبيًّا يسم أعماله، وشغله — في الوقت نفسه — وجوب الانطلاق في كل إبداعاته من تجربة حسية عميقة، فلا يكتفي بالقراءة أو الإنصات، إنما هو يعانق الناس والأشياء، يتعرَّف فيهم وفيها — بصورة مباشرة — إلى شخصيات وأحداث عمله الأدبي، أيًّا تكن طبيعة ذلك العمل، وبصرف النظر عن المكان الذي ينتسب إليه، وينطلق منه. وبالقدر نفسه الذي تمنيت أن أكتب عملًا ملحميًّا، رواية أجيال، أو نهر، مثل ثلاثية نجيب محفوظ، فقد تمنيت أن أكتب عملًا عبقريًّا مثل مدام بوفاري التي أنفق فلوبير في كتابتها أكثر من عشر سنوات. ألتزم بالصرامة التي تبلغ حد «الرهبنة»، أشاهد، أتعرَّف، أقرأ، أحاول الاستيعاب والهضم والفهم والتفهم، وتقديم محصلة ذلك كله في أعمال فنية. وحتى الآن، فإن العمل — أي عمل — يشغلني، وأفكر فيه، حتى يدفعني — في لحظة يختارها — إلى كتابته. جاوزت هذه الفترة في «الأسوار» ثماني سنوات، واقتربت في أعمال أخرى من الفترة نفسها، في حين أن «المتنبي» ألحَّت كفكرة، ثم ألحَّت في الميلاد، بما لا يجاوز بضعة أيام، لكن الأحداث امتدت، وتشابكت، فصارت القصة القصيرة قصة مطولة، أو رواية.

كانت «المتنبي» روايتي الثالثة. شدني في سيرة الرجل ما كان يتناوب حياته من أمل ويأس، حتى لقي مصرعه — بصورة مأساوية — في دير العاقول، لكنني اخترت من حياة المتنبي ما يجعله شاهدًا على الحياة في مصر أعوام إقامته فيها، وإن ارتكزت إلى مقولة كروتشي «التاريخ كله تاريخ معاصر»، بمعنى أن التاريخ هو رؤية للماضي بمنظار الحاضر، وفي ضوء مشكلاته، وكان ذلك هو الباعث أيضًا لكتابتي روايات أخرى: «إمام آخر الزمان»، «اعترافات سيد القرية»، «زهرة الصباح»، «قلعة الجبل»، «ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله»؛ وجدت في استعادة التاريخ إضاءة لأحداث معاصرة.

•••

أعترف أني أحاول — ما أمكن — أثناء كتابة العمل، ألا أسيطر على الفكرة بصورة مطلقة. تخفُّ قبضتي على العمل، أترك له تلقائيته. أختلف في باعث تقدير بيرسي لوبوك لرواية تولستوي «الحرب والسلام»، وأنه كان «يعرف تمامًا أين يذهب، ولماذا، وليس أي شيء في أية لحظة يشير إلى أنه لا يمتلك السيطرة الكاملة المحكمة على فكرته» (صنعة الرواية، ص٣٧). ثمة قول «لا وجود في الحلم لشيء اسمه الضمير، فالقاتل قد يقدم في الحلم على السرقة أو القتل أو الاغتصاب، وهو لا يبالي أو يستشعر ندمًا.» ويقول فولكت: «لا تعرف الغرائز الجنسية في الحلم أي نوع من الكبح، فلا حياء ولا رادع ولا منطق، بل إن الأشخاص الآخرين أيضًا الذين يراهم في الحلم، كثيرًا ما يكونون في صورة أخلاقية مريعة.» وفي قصة «رحلة بورين» لأندريه جيد لا يدري بورين: هل ما يحياه هو رحلة حقًّا أم لا؟ يقول: «نحن ربما نعيش حلمًا، إنه خداع، فليست هنا رحلة أصلًا». وفي روايتي «الصهبة» لم أعن بتدبُّر السؤال: هل كان ما جرى حقيقة أم حلمًا؟ وفي «البحر أمامها» تطمئن نجاة إلى تردد زوجها الراحل على البيت، وتستغني به عن الآخرين، أما «نجم وحيد في الأفق» فهي تنطلق من اختلاط المشاعر والرؤى والتصورات. الإحساس بالحياة والحلم يكاد يكون واحدًا، ثمة رابط كبير بينهما، بحيث ينتفي الخلاف، أو عدم التشابه. وكما يقول بورخيس فإن الحياة وسيلة للحلم، أو وسيلة للحياة. مع ذلك فإني حين أدعو لأن يكتب العمل الأدبي نفسه، لا أقصد أن تنطلق القصة، أو الرواية، في تهويمات، أو تفقد المعنى، أو تلجأ إلى الغموض والتلغيز، ذلك لأن تسلُّح الفنان بثقافة موسوعية سيفيده — ولو في النظرة النقدية المتأملة الأخيرة — في تبيُّن قيمة ما كتبه، سلبًا وإيجابًا.

•••

الكثير من أعمالي يبدو فيها البطل واضحًا، مسيطرًا، لا يفارقنا منذ بداية العمل إلى نهايته، نتعرَّف إلى ملامحه النفسية — والجسمية أحيانًا — وظروفه الاجتماعية والثقافية، ونوازعه، وأفكاره، وآرائه. وعلى العكس من ذلك، فإن بقية الشخصيات تعاني الشحوب، لأنها تؤدي أدوارًا مساعِدة تعمِّق من دور البطل، توضحه، تجسِّده، تثريه. والحق أني لم أكن أعرف أن هذا هو ما تعتمده — في الأغلب — الحكايات الشعبية، فقد حاكيت إذن تكنيك الحكاية الشعبية، دون تعمد! وعمومًا، فإني أفضِّل أن أقدم من ملامح الشخصية ما يساعد على التعرف إليها، على فهمها. أحترم الميراث الإبداعي الروائي الذي يمتد عشرات الأعوام، أتفهم قول همنجواي إن الرواية مثل كتلة جليدية عائمة في البحر، ثلثاها مغمور في الماء، فأنا أكتفي برسم الملامح التي تهب الشخصية بلا ثرثرة، ولا زيادات مقحمة، ولا كلام مرسل، أو سرد مملٍّ. أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية وليس لمجرد تصوير الشخصية في ذاته. وأحيانًا، فإن وصف الكائنات قد يقتصر على تقديم الدلالة الاجتماعية، أو النفسية، أو يصبح رمزًا، أو معادلًا لما يمور به داخل الشخصية من انفعالات.

ولعلَّ في مقدمة ما أعني به أثناء الكتابة: تلك اللحظة التي يبدو فيها العمل قد انتهى، فهو في غير حاجة إلى حذف أو إضافة، أو تدخل من أي نوع. أستطيع نقله على الآلة الكاتبة (الكمبيوتر) باعتباره مسودة نهائية، أدفع بها إلى المطبعة، وأنتظر — مطمئنًا — آراء القراء والنقاد. أتذكر قول جراهام جرين: «هنالك لحظة في الكتابة، عندما يصل المرء إليها يشعر بأن الطائرة، بعد أن قطعت ممرًّا طويلًا، معبدًا، قد أقلعت، وخرجت قليلًا عن السيطرة.» عانيت طويلًا من تلك المشاعر التي لم تكن — بالتأكيد — مقصورة عليَّ، لعلَّها المشاعر نفسها التي عاناها العديد من الأدباء، والتي تدفعه إلى الهمس لنفسه: «فلننتظر قليلًا»، أو: «أنا لست على استعداد»، أو: «إن تصوري لم ينضج بعد»، أو: «إنني لم أجد بعد النغمة المطلوبة» … إلخ. وكل التعبيرات للشاعرة الروسية الشهيرة «فيرا أنبر»، فهي قد عانت تلك المشاعر إذن. وذات يوم — لا أذكر إن كانت قد سبقته إرهاصات، أم أنه كان وليد اللحظة — قررت أن أتخلى عن التردد والوسوسة، أن أنهي الإضافة والحذف والتعديل، وأبدأ في «تبييض» كومات الأوراق التي كُتِبت في مدى سنوات وسنوات، بخطٍّ رديء للغاية — هو خطي! — فهي لا تزيد عن مسودات يصعب أن تفتح مغاليقها إلا لكاتبها. المشكلة التي عبَّرت عنها الشاعرة الروسية، لما بلغت السن التي كان على الزمن أن يراعي فيها بكل عناية، في هذه المرحلة من الحياة، ينبغي على المرء ألا يقول: سأفعل كذا أو كذا يومًا ما، بل عليه أن يفعل ما يجب عمله فورًا، وإلا أصبحت عبارة «يوًما ما»، مطلقة وأبدية. وكان نقل «المسودات» على الآلة الكاتبة/الكمبيوتر هو الفعل الآني الذي كان عليَّ أن أحرص عليه. لم يكن ثمة سبيل آخر لمواجهة كومات الأوراق التي تكاثرت، وتضخمت، حتى إني كنت أبذل جهدًا في تذكُّر بعضها.

•••

يقول ألان روب جرييه: «إن القصة هي التي تبتدع أسسها الخاصة.» التكنيك وسيلة لنقل معنى العمل الفني إلى القارئ، كلما أجاد الفنان اختياره، كان ذلك فرصة لتقديم أقصى قدر من المضمون، أو التكنيك الذي أكتب به عملًا ما، هو سر يستغلق حتى عليَّ شخصيًّا. العمل يفرض صورته وأسلوبه وطريقة تناوله. من الصعب تفسير ذلك في ضوء رؤى فنية أو نقدية محددة. ثمة العديد من الاعتبارات التي ربما غاب بعضها عن الكاتب نفسه. أحيانًا، يغيب الوجود المستقل للزمان أو المكان، فهما وحدة متكاملة، ليس ثمة عقدة ولا حبكة، وربما لا تتخلق رواية — بالمعنى التقليدي — على الإطلاق. لا أعني إهمال الشكل، فالشكل مهمٌّ جدًّا، ذلك لأن الفرق كبير — ذكرت هذا المثل في مقدمة كتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين» — بين شكوى في رسالة، وقصة في رسالة، مقابلًا لوعي الفنان الحاد بقضايا مجتمعه وعصره، والتزامه بالتعبير عنها. ومع أن حقيقة وجود القاص تبدو واضحة لنا، فإنه يميل إلى البقاء في الظل كما لو أنه أطلَّ من نافذة، يشاهد العالم من تحته، فجاءت شخصيته مجسدة في ساحة مضاءة، دون أن يتبين القارئ ملامحه بدقة. وكما يقول كيتس، فإن «الفنان الأصيل هو الذي لا يفرض شخصيته عليك، لأنه هو نفسه بلا شخصية.» ويذهب هنري باير إلى أن من نقاط الضعف في الرواية الفرنسية تلك المراقبة الشديدة للذات، والتي تصل إلى حد تسلُّط الروائي على شخصياته، لكن الفرنسيين أصبحوا يضيقون بتلك الشخصيات التي يكبِّلها الفنان بأفكاره، دون أن يترك لهم حرية التصرف والمغامرة الذاتية. أزعم أني كنت مؤمنًا بذلك الرأي قبل أن أقرأه، وقبل أن أقرأ لهنري جيمس الرأي نفسه، وإن زاد فدعا إلى اختفاء الفنان من عمله. الفنان مطالَب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس، حتى يتحقق الإيهام بالواقع، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته. وعلى حد تعبير فلوبير، فإن الفنان في عالمه الروائي صاحب القدرة على كل شيء، رغم أنه لا يكشف عن ذاته. لعلِّي أتفق كذلك مع الرأي الذي يؤكد أن «كل القواعد التي توضع لفنٍّ ما، إنما توضع لتُخرَق … إن الشكل ينبثق من التجربة انبثاقًا طبيعيًّا. وعلى العكس، يكون مقلدًا بقدر ما يحاول أن يصبَّ التجربة في قالب جاهز مصنوع مسبقًا» (الحياة، ٢٨ / ١١ / ١٩٨٩م).

النثر — في تقدير همنجواي — ليس مجرد زخارف على الهامش، لكنه بناء معماري فني شديد الحيوية، العمل الفني يتألف من عناصر فنية، لكل منها وظيفته المحددة، والمرتبطة عضويًّا بوظائف العناصر الأخرى، بما يحقق التفاعل بين كل العناصر، تحقيقًا لعملٍ فني يسعى إلى التفوق. ومن ناحيتي، فقد كنت أريد أن أمتلك صوتًا خاصًّا بي فلا أقلِّد أحدًا. أحاول — في كل ما أكتب — أن أرتاد آفاقًا ربما تكون مجهولة لي في الأقل، إن لم تكن مجهولة للكثيرين. وكما يقول فرانسوا مورياك، فإن على كل روائي أن يخترع أسلوبه الخاص، وتكنيكه الخاص، وإن كل رواية هي مثل كوكب آخر، له قوانينه مثلما أن له نباتاته وحيواناته الخاصة. كل رواية مثل كوكب آخر، لكنني أتصور — في الوقت نفسه — أن الفنان لا يخترع أسلوبه الخاص، وتكنيكه الخاص. أرفض كلمة «يخترع»، فبالإضافة إلى الموهبة، فإن الأسلوب والتكنيك ينبعان من داخل العمل نفسه، هو الذي يفرضهما، والأسلوب — والتكنيك — الذي قد يكتب به الفنان رواية ما، قد يبدو مجافيًا لرواية أخرى. تعجبني النصيحة التي وجَّهتها شاعرة أمريكية إلى همنجواي: دع الناس في حياتهم، لا تقل شيئًا عنهم، بل دعهم هم وحدهم يتكلمون. ويقول همنجواي: «في روايتي «العجوز والبحر» كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله، لكنني لم أكن أعرف القصة.» وكان مشهد فتاة صغيرة فوق شجرة دافعًا لأن يكتب فوكنر مئات الصفحات، هي روايته الرائعة «الصخب والعنف». وكنت حين بدأت كتابة روايتي «الصهبة» أعلم بأمر واحد فقط، هو طقس الهبة نفسها، عملية نزع النقاب. وفيما عدا ذلك، فلم أكن أعرف شيئًا، اخترت للرواية أن تكتب نفسها، كلما أضفت صفحات توضَّحت شخصيات، وظهرت شخصيات لم تكن موجودة، وتخلَّقت أحداث ربما غابت عن تصوري، بحيث اكتملت في النهاية رواية لم أكن أعرف من شخوصها سوى الفتاة المنقبة في الصهبة، والشاب الذي نزع نقابها، أما بقية الشخصيات والأحداث فقد تخلَّقت أثناء كتابة العمل نفسه. لم تشغلني الحبكة، ولا العقدة، ولا اختلاط الواقع والخيال، ولا تداخل سيرتي الذاتية بالسير الذاتية للآخرين، ولا الأحداث القديمة بالأحداث المعاصرة، والتفكير بالسرد … كل ما تريد الرواية أن تكتبه، كتبته حالًا.

مع ذلك، فإن «الحدوتة» هي النطفة التي يتخلَّق منها العمل الفني. وعلى الرغم من اختلافي مع أرنولد بينيت بأن أساس الرواية الجيدة هو خلْق الشخصيات، ولا شيء سوى ذلك، فلعلِّي أتفق تمامًا أن خلق الشخصيات دعامة أساسية في البناء الروائي، الذي يستند — بالضرورة — إلى دعامات أخرى، أولاها — أو هذا هو المفروض — الحدوتة، وإن تصور بعض الروائيين والنقاد أن الرواية ليست في حاجة إليها، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات يضع الحدوتة في مرتبة تالية، أو أنه يمكن الاستغناء عنها. وكانت الحدوتة، الحكاية، الفكرة، إلى غير ذلك من المسميات، هي الباعث الحقيقي لأن تتحوَّل روايتي «الأسوار» في ذهني — قبل كتابتها بأعوام — إلى أحداث وشخصيات، ثم تخلَّقت في أشكال هلامية عدة، قبل أن تأخذ — أثناء عملية الكتابة — سماتها النهائية. الحدوتة هي الدعامة الأولى في بناء أي عمل روائي، ثم تأتي بقية الدعامات، وتشمل عندي الإفادة من العناصر والمقومات في الفنون الأخرى. أتصور أن ذلك يتبدَّى — بدرجة وبأخرى — في كل رواياتي بدءًا ﺑ «الأسوار»، وانتهاء ﺑ «أهل البحر». إن على الفنان أن يثري إبداعه السردي بإسهامات الفنون الأخرى، بما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتقنية، فيتحقق للنص الأدبي أبعاد جديدة، وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى. ثمة التحقيق المطول «إمام آخر الزمان» والتقارير البوليسية «قاضي البهار ينزل البحر» والرواية التاريخية التي تدعي الاجتهاد «قلعة الجبل» وتقنية القص واللصق «الأسوار» ومخاطبة الآخر «النظر إلى أسفل» واليوميات «من أوراق أبي الطيب المتنبي» وتداخل الزمان والمكان «الخليج» واختلاط الواقع بالحلم «الصهبة» والتبقيعات النثرية «مد الموج» والاعترافات «اعترافات سيد القرية» والواقعية التسجيلية «الحياة ثانية» وتعدد الرواة «بوح الأسرار» والحكي السردي «صيد العصاري» وتوظيف التاريخ «الجودرية، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله» وتوظيف التراث الشعبي «زهرة الصباح» واللوحات المنفصلة، المتصلة «رباعية بحري» وتقنية الموسوعة «أهل البحر».

وأحيانًا، فإن ضمير المتكلم — كما تقول ناتالي ساروت — أفضل وسيلة لإرضاء الكاتب والقارئ سواء بسواء، إنه يهب إحساسًا — ولو ظاهريًّا — بالتجربة الحية والأصالة، مما يقلل من شك القارئ. ولكي يجذب الكاتب قارئه إليه، فقد جعل البطل يتحدث بضمير المتكلم، واتضح بالفعل أن هذه الوسيلة أفضل الوسائل وأكثرها فاعلية في هذا الصدد؛ لذا لجأ إليها الكثيرون، وما زالوا يلجئون (عالم الفكر، المجلد السابع، العدد الأول، ص٢٣٥). سبقني إلى فنية تعدد الرواة، أو تعدد الأصوات (قصتي «متتابعات لا تعرف الانسجام»، حوَّلتها — فيما بعد — إلى رواية باسم «بوح الأسرار») أدباء كُثر: فوكنر في «الصخب والعنف»، فتحي غانم في «الرجل الذي فَقَدَ ظلَّه»، نجيب محفوظ في «ميرامار»، جبرا إبراهيم جبرا في «السفينة»، لورنس داريل في «رباعية الإسكندرية»، وغيرهم … لكن حاجتي لتعدد الأصوات في «بوح الأسرار» لم تكن لمجرد رواية ما حدث، أو التعليق عليه، الاتفاق أو الاختلاف، وإنما لإعادة اكتشاف الحدث، إعادة تفسيره، تعميقه بالأضواء والظلال، بما يهب القارئ فرصة حقيقية للتعرف إلى سيرة بطل الرواية محمد أبو عبده.

•••

الفن — مهما يخلص في تصوير الواقع — فإنه يظل أقل واقعية من الواقع نفسه. الواقعية التامة مستحيلة في الفن، فالفن انتقاء يخضع لموهبة الفنان ورؤيته. يشير ديهاميل إلى أن بلزاك قد خلق نماذجه بنفسه، فهو لا يصور الأشخاص الواقعيين، إنما يعيد خلق هؤلاء الأشخاص. العناية بتفصيلات الزمان والمكان، وإجادة رسم الجو والشخصيات … ذلك كله يشكِّل ما يسمى الإيهام بالواقع، شريطة أن يحتاجه العمل الفني فعلًا، فلا يأتي مجرد تزيُّدات، أو نتوءات، أو حواشٍ قد لا يحتاج العمل إليها. ومع ملاحظة أن نتاج الفن — كما يقول جوتة — يختلف عن نتاج الطبيعة، فهو لا يكررها صورة طبق الأصل «النتاج الفني هو طبيعة ثانية.» المتلقي حين يعلن — بينه وبين نفسه — «هذه الشخصية الروائية تشبه شخصية فلان الذي أعرفه»، يؤكد — ضمنًا — أن الشخصية الروائية ليست من الخيال تمامًا، حتى لو تصور الفنان نفسه ذلك.

•••

اللغة — في تعريف نقدي — هي أداة التعبير في فن الأدب، فهو إذن فن لغوي. الكلمات أهم أدوات الكاتب، ومن هنا تأتي عنايته باللغة، أو هذا المفروض. يقول العماد الأصفهاني: «لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر .» لقد حاولت أن أعمل بالنصيحة نفسها التي تلقاها همنجواي من أحد نقاده، فأتخلص من كل الألفاظ «القنبلية»، وأصف الأشياء ببساطة أشد، وأضع الكلمة المناسبة في الموضع المناسب.

معاني الكلمات مهمة جدًّا، لكن إيقاعاتها وإمكاناتها الصوتية مهمة أيضًا، وربما أرجأت نقل قصة لي على الآلة الكاتبة/الكمبيوتر، لأن إحدى كلماتها تبدو نشازًا، أو غير متسقة، مع بقية الكلمات. وكما يقول فلوبير فإن «جملة نثر جيدة حقًّا، تساوي في جودتها بيتًا من الشعر، وبالدرجة نفسها من الإيقاع والجزالة.»

أذكر أني بدأت حياتي الأدبية شاعرًا، مثلما بدأ الكثير من الأدباء. الأدق أني أحببت الشعر، وحاولت أن أسبح في بحوره، وكتبت بالفعل بضع قصائد تحاكي محاولات شعراء قدامى ومعاصرين، لكنها لم تكن تعبيرًا بأية حال عن موهبتي الخاصة. فلما أدركت أنه من الصعب أن تكون لي موهبة حقيقية في مجال الشعر، عنيت بالكتابة القصصية والروائية، وإن ظل حبي للشعر، أحاول الإفادة من خصائصه اللغوية تحديدًا في كتاباتي النثرية. ولعلِّي أستعير قول لورنس ديرل بأني شاعر تعثَّر فكتب نثرًا، أو أني روائي شاعر، يشغلني التوتر في الجملة، الصورة، التداعيات الداخلية … إلخ.

والحوار مهم أيضًا في الرواية. إن حوارًا قصيرًا، مكثفًا، بين شخصيات الرواية قد يغني عن سرد مطول يفتقد المعنى. وفي العديد من رواياتي إفادة مؤكدة من درامية الحوار، فهو جزء من البنية الدرامية للرواية، لا تستقيم بدونه، جسر يستحيل إلا أن تمضي عليه بين فقرات السرد. لقد طالما حذَّر موباسان روائيي عصره أن يحكوا كل شيء «فذلك أمر غير ممكن، لأنه يلزمك مجلد كامل كي تروي ما حدث لشخص واحد، في يوم واحد.» وكان رأي شوبنهاور أن على الكاتب أن يكتب ما يستحق ذلك بالفعل، ويتحاشى التفصيل الممل عن أشياء يستطيع كل امرئ أن يعرفها، أن يفرِّق بين ما هو لازم، وما هو من قبيل التزيد الذي لا لزوم له. ويقول تشيخوف «الإيجاز توأم الموهبة»، ويكتب في إحدى رسائله: «قد يبدو غريبًا أنني أحب — لدرجة الجنون — كل ما أتى مختصرًا، بل إني لم أقرأ بعد — فيما كتبته، أو ما كتبه غيري — ما أطلبه من الإيجاز.» وبالطبع، فإن الإيجاز لا يتصل بطول العمل؛ ثمة فرق بين الإيجاز والتركيز. من المستحيل — على سبيل المثال — أن نتصور «ثلاثية نجيب محفوظ» في غير الحجم الذي صدرت به، مثلما أنه من المستحيل تصور «الحرب والسلام»، و«الأبله»، و«الجريمة والعقاب»، في صفحات أقل مما صدرت فيها. باختصارٍ، فإنه إذا كان التكثيف مطلوبًا، فإن الاختصار المخل غير مطلوب. وعلى حد تعبير بيرسي لوبوك فإنه مما يدمر القصة هو «الإفراط في معالجتها، أو التقصير في هذه المعالجة.»

وإذا كنت أشدِّد على أهمية اللغة، فإني أشدد كذلك على أهمية الجوانب الأخرى للعمل، أن يكون العمل فنًّا له وهج الفن، وخصائصه، وقيمته، وجدواه، الموهبة اللغوية وحدها لا تكفي، وكما يقول أرسكين كالدويل «هناك العديد من الكُتَّاب الذين يملكون سيطرة كاملة على الشكل والتكنيك، لكن ينقص قصصهم الإحساس، أعتقد أن ذلك مهم» (كيف أصبحت روائيًّا، ص٨٥).

•••

إذا كان تولستوي يذهب إلى ضرورة أن يتقمص الأديب شخصين، هما الكاتب ذاته والناقد، فإني أفضِّل أن يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الإبداعية. القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة؛ فالنقد الحقيقي، المطلوب، هو ما يمارسه الأديب على فنه، وما يرتفع بمستوى أديب عن سواه — بالإضافة إلى الموهبة — هو ارتفاع حسِّه النقدي. المبدع الذي يفتقر إلى ملكة النقد — والرأي للروائية الإنجليزية إليزابيث بوين — لا وجود له، بل إن مهنته كروائي لا تتحمَّل مثل هذا النقص. طبيعي أن الفنان لا يرضى تمامًا عن نفسه، ولا عن عالمه، لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التي تنطلق فيها جياد إبداعاته.

مع ذلك، فأن يكون الفنان صاحب عمل ما، فذلك لا يعني أنه هو أجدر الناس بفهم عمله. ربما كان الناقد أكثر فهمًا للعمل من الفنان نفسه، أكثر استنباطًا لمعانيه ودلالاته. استمعت في البرنامج الثقافي الإذاعي إلى حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور. بدأ نعمان في تلخيص مسرحيته «عيلة الدوغري». قاطعه مندور — بعد لحظات — في بساطة: أخشى أنك لن تحسن تلخيص عملك، أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التي فهمتها. ولخص مندور المسرحية، وأذكر أنه كان أكثر قدرة على تسليط الضوء على مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان. وكان أبو الطيب المتنبي يحيل السائلين عن شعره إلى شارح ديوانه وناقد شعره، أبي الفتح عثمان بن جني، ويقول: عليك بابن جني فإنه أعرف بشعري مني.

•••

تقول بيرل باك: لكي تكون كاتبًا جيدًا، فعليك أن تكد، بمعنى أن تنهض في الصباح، وتبدأ في الكتابة مبكرًا، والذهن صافٍ ورائق، فضلًا عن أن تبدأ الكتابة حتى لو لم يكن الذهن رائقًا وصافيًا. عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هي ضرورية للعامل، وربما أكثر، لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب على العمل، وليس هناك من يساعده في أداء عمله، إنه رئيس نفسه، وهذا الرئيس هو عامل في الوقت نفسه. وتقديري أنه على الفنان ألا يرجئ عمل اليوم إلى الغد، بحجة أنه مشغول، فالوقت لن يكون في حوزته — ذات يوم — بصورة مطلقة. وعلى الرغم من حرصي على عادة الكتابة اليومية، فإني أتذكر — دومًا — قول روبرت هنري «إن كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة»، وأثق أن هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة إبداعه. ولعلِّي أتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا: «لا تكتب وأنت تحت تأثير الانفعال، اتركه يزول، استدعه مرة أخرى.»

على الفنان — إن اعتبر الإبداع قضية حياة — أن يحاول الإفادة من كل ما يسمح به الوقت، حتى لو كان مجرد دقائق قليلة، أنا أطمئن إلى ما كتبته في تلك الأوقات العابرة، إن جاز التعبير، أوقات ما بين عملين، أوقات الانشغال في عمل لا يتصل بالإبداع، وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوى. أجري بالقلم على الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن، وربما وضعت نقطة الختام لعملٍ كنت قد أهملت إلحاحه منذ فترة طويلة. كانت روايتي «مد الموج» إبداع ما بين أوقات العمل الإداري نائبًا لرئيس اتحاد الكتاب لمدة عامين. وكانت قصتي القصيرة «نبوءة عراف مجنون» محصلة ضيق نفسي في أيام الغربة، حاولت رفضه في استقالة، فعبَّرت عنه في قصة قصيرة. وكانت قصة «أحاديث النفس المتداعية» امتداد يوم صحفي كامل، بدأ في السابعة صباحًا، إلى الثانية من صباح اليوم التالي. انصرف الجميع، وخلوت إلى نفسي، أغراني الورق الأبيض بأن أخط عليه كلمات، كتبت جملة وشطبتها، كتبت جملة ثانية، استدعيت بقية الجمل، حتى فرغت من كتابة القصة في الصباح نفسه.

حاولت — منذ تعرفت إلى الكتابة الأدبية — أن أكتسب عادة الكتابة اليومية، بصرف النظر عن كل شيء، حتى الأيام التي كان الإجهاد يلفُّني فيها تمامًا، بعد تواصل عمل شاق، كنت أحرص أن أكتب، ولو بضعة أسطر. أتذكر قول جوجول: «لا بد للكاتب أن يسيطر على قلمه، كما يسيطر الرسام على فرشاته، يجب أن يكتب شيئًا كل يوم، فاليد ينبغي أن تألف الطاعة العمياء للأفكار.» وكان استندال يرغم نفسه على العمل كل يوم، وحاول كازنتزاكس — لما اشتد عليه المرض — أن يملي إبداعاته، لكنه أخفق: مستحيل! لا أجيد الإملاء! عندما أمسك بالقلم فقط تأتيني الأفكار. والواقع أن الإملاء — بالنسبة للكاتب الذي تعوَّد الكتابة — مسألة مستحيلة، ذلك الاتصال العجيب بين الأفكار في الذهن، والقلم الذي يجري على الورق. عملية الكتابة باليد — بالنسبة لي — مهمة للغاية. قد أملي موضوعًا صحفيًّا، لكن العمل الإبداعي لا بد أن ينطلق من الذهن إلى الورق، عبر الوجه، والرقبة، والكتف، والذراع، والأصابع. وكان الشعور الأقوى عند همنجواي أن أصابعه تقوم بالجزء الأكبر من تفكيره.

أعترف أني حاولت أن تكون لي عاداتي المصاحبة للكتابة، مثل شرب القهوة والسجائر، وسماع الموسيقى، والتحكم في مساحات الضوء، فلم أُوفَّق. تكفيني المعادلة السهلة: فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم، لا يشغلني — بعد ذلك — أي شيء، حتى الشاي تعرَّفت إليه متأخرًا. كنت قد حاولت — قبلًا — أن تكون لي — مثل بقية الناس — هوايات أمارسها، لكن الفشل كان هو الجدار الذي اصطدمت به كل محاولاتي. أوافق جون برين على أن إرادة الكتابة تخلق لك جو العزلة الذي تريده، ليس بوسعك الانتظار حتى تتوافر لك الظروف المناسبة للكتابة: الجو الهادئ، والضوء المناسب، والموسيقى الخافتة التي تساعد على الكتابة، والتخفُّف — ما أمكن — من الهموم الحياتية الخاصة. لن أنسى قعدة بيرم التونسي في قهوة شعبية بشارع السد، منشغلًا بإبداعاته عن الزحام الصاخب حوله، كأنه يحيا في جزيرة منفصلة عن الأمواج المتلاطمة من النداءات والدعوات والابتهالات والشتائم والصرخات. الكاتب يجب أن يعمل في كل الأجواء، بصرف النظر إن كانت حسنة أم رديئة، وكما يقول نيكولاي استروفسكي، فإن «الإلهام يأتي في أثناء العمل.» كان مكتبي في الجريدة ضمن ثلاثة عشر مكتبًا، في مساحة حجرة متوسطة الحجم، ومخزن لأوراق رئيس التحرير، وبضعة دواليب للصحف، وما يبيعه السعاة من سجاير وبسكويت وأقلام … إلخ (تغيرت الظروف — بعد عناء سنوات طويلة — إلى الأفضل). وكنت أتذكر في ذلك اللغط مقولة همنجواي: «إن المرء يستطيع أن يكتب في أي وقت يتركه الناس وشأنه، ولا يشوشون عليه ويقاطعونه.» كانت الشوشرة فضل الزملاء المقيمين في الحجرة، والمترددين عليها لتناول فطورهم، بعيدًا عن الأعين في الصالة الواسعة، فضلًا عن السعاة الذين تتعالى أصواتهم — بلا انقطاع — في طلب احتياجات الزملاء في الصالة.

الإخلاص للفن قد يدفع الفنان «إلى التضحية بنفسه — القول لبوريس بوريسوف — والابتعاد عن أي شيء يعرقل عملية الإبداع لديه، بل إن الظروف قد تضطره لأن يتجاهل مصالح المقرَّبين له، والتصرف معهم بقسوة.» «الفن يحتاج إلى ضحايا» تلك مقولة شهيرة، لكنها لا تتجه إلى الفنان وحده، وإنما تشمل القريبين منه أيضًا. وإذا كنت — في أحيان كثيرة — قد أهملت البعد الاجتماعي، من حيث المشاركة في الحياة العامة، والخروج إلى المجتمعات، فإن ذلك قد انسحب بالضرورة على القريبين مني، زوجتي وابنيَّ، وأصدقائي الذين أحبهم، لكنني لا أستطيع أن أبذل لهم وقتي على النحو الذي يريدونه، وأريده أنا أيضًا.

نُشِرت في (فصول) بعنوان «كتبت ما تريده الرواية»
(العدد الأول، صيف ١٩٩٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤