الكاتب … والقارئ

«نحن نكتب على أمل أن نجد قارئًا لم يقرأ الأعمال السابقة علينا.»

أندريه جيد

إذا كان الفن يكمن في العلاقة بين الدوافع الكامنة وراء الإبداع الفني وبين المتلقي لهذا الإبداع، فإن الكثير من الشخصيات الروائية — والقول لأندور لايتل — يجيئون إلى الحياة عبر صفحات العمل الإبداعي بقوة الإلهام اللاشعوري المتحكم في مسيرة الكتابة، دون إعداد سابق قد يسهل على القارئ تبيُّنه. أذكر رأي أستاذنا حسين فوزي بأن «الحاسة الفنية لا يكاد يخلو منها إنسان، وإن تفاوتت قدرات الناس على الانفعال بالفن، واختلفت قيمة الأعمال الفنية ذاتها بالنسبة لمقدرة الناس على التذوق، ووعيهم الثقافي» (الطليعة، مارس ١٩٦٧م). لذلك فإن على القارئ أن يستدعي مخزونه المعرفي من قراءات وتجارب الذات وتجارب الآخرين، بل وإعمال الخيال ليصل ما قد يحمله العمل الإبداعي من دلالات.

الفنون هي أعلى شكل من أشكال النشاط التوصيلي، والعلاقة بين المبدع والمتلقي — في تصوري — أشبه بالعلاقة بين جهازي الإرسال والاستقبال، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفني، لا يتعمَّد الغموض، وإنما يترك العمل يكتب نفسه، مستفيدًا من موهبة المبدع، ومن خبراته وقراءاته وتجاربه. وفي المقابل، فإنه على المتلقي أن يبذل جهدًا مكافئًا لما بذله المبدع في فنِّه، أن يشارك المبدع مغامرة اكتشافه وإبداعه، لا يكتفي بالتلقي السلبي أو السطحي الذي ينشد المتعة المجانية، وإنما يحاول تذوق العمل الإبداعي، وتبين دلالاته، وتلمُّس النشوة الروحية العميقة التي يهبها لمتلقيه. بل إن عملية القراءة تختلف باختلاف لحظات التلقي. فالذهن الرائق، والحالة المسترخية المنبسطة، أو الموافقة التي قد تكون مسبقة لما يحمله النص من دلالات، تتلقَّى النص بصورة مغايرة للذهن المكدود، أو الحالة المزاجية المتعكِّرة، أو الرفض الذي قد يكون مسبقًا لما يحمله النص.

ولعلِّي أوافق سارتر على أن القراءة عملية خلْق من القارئ بتوجيه من الفنان. ثمة نصوص تهبني نفسها منذ السطر الأول، تهبني صداقتها، وخطابها التحدثي، وحميميتها. تنفتح أمام القارئ، فيسهل عليه المتابعة والفهم. قد يكتفي بدلالة ما، وقد يعيد القراءة، فيخرج بدلالات أخرى. وثمة نصوص تنغلق أمام قارئها، فهو يجد صعوبة في تلقِّيها، لا يصل — من خلال المتابعة ومحاولة الفهم — إلى مستوى دلالي، ومن ثَمَّ فهو يضطر — لتحقق المتابعة — إلى تحميل النص دلالات قد لا يحتملها، أو قد يمتنع عن مواصلة التلقي.

القول بأن موت المؤلف سيجعل القارئ على الحياد، يحتاج إلى مراجعة، لأن عملية التلقي — بافتراض موت المؤلف — لا شأن لها بشخصية المتلقي نفسه. المتلقي شخصية مقابلة، مغايرة، لها خصائصها التي تُحسِن التلقي، أو العكس. أنا أقبِل على قراءة العمل الأدبي بمخزون معرفي وخبرات، تمثِّل — في مجموعها — الشخصية المتلقية التي هي أنا. المتلقي ليس شخصًا مطلقًا، ليس مجرد فهمٍ واحدٍ، متكرر، في تلقي العمل الأدبي، لكنه شخص، فرد، يختلف في ظروفه وبيئته وثقافته وتجاربه عن بقية القراء، وباختلاف ذلك كله تختلف درجة التلقي بين قارئ وآخر.

ربما وجد الفنان في دراسة نقدية لأحد أعماله دلالات لم تكن في باله عندما شرع في الكتابة، بل ولا حين دفع بالعمل إلى المطبعة. لم يكن يقصد المعنى الذي تحدث به القارئ/الناقد إطلاقًا. وللدكتور عبد الله الغذامي مثلٌ مهم، هو أن المتنبي كان يقول إن ابن جني أعرف بشعره منه، أي من المتنبي. وكانت اجتهادات ابن جني في شعر المتنبي، تأويلًا وتفسيرًا، رائدة وغير مسبوقة، فضلًا عن امتيازها المؤكد المستند إلى ثقافة موسوعية. لكن الأجيال توالت، وقُدِّمت تأويلات جديدة لشعر المتنبي، تختلف — بصورة جذرية أحيانًا — عما قدمه ابن جني من تأويلات.

والحق أن مشاهدة مسرحية، أو فيلم سينمائي، لا تحتاج من المتلقي إلا التركيز في متابعة ما هو متجسد أمامه بالفعل. أما قراءة الرواية أو القصة، فهي تترك للذهن تجسيد ما يقرؤه، بتخيُّل الشخصية والحدث، بإثارة الحوار مع، وفي، ذلك جميعًا. إن الإبداع الجيد هو الذي نكتشف أننا لم نعُد كما كنا عندما بدأنا تلقيه.

وبالطبع، فإن الكتابة لا تتم في لحظات، إنما هي قد تأخذ زمنًا طويلًا من الكتابة والمراجعة والتأمل، والاطمئنان إلى الصورة النهائية. بالإضافة إلى ما سبق ذلك من قراءة وتجربة ومعايشة، بحيث اكتملت للمبدع أدواته الفنية، واكتملت نظرته الشاملة. وفي المقابل، فإن القراءة يجب ألا تتم في لحظات. إنها تحتاج إلى جهد يقترب — ما أمكن — من جهد الكتابة. قد تصح القراءة السريعة لمواد الجريدة اليومية من أخبار وتحقيقات وغيرها، لكن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة واعية، ومتأملة.

•••

ابتداء، فإن المبدع يجب أن يعيد قراءة ما كتب أكثر من مرة. الناقد في ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التي تناقش وتحذف وتضيف وتجيز. وقد يكتب الأديب قصة في ليلة، ويراجعها في أشهر … وهذا ما أفعله شخصيًّا. وفي المقابل، فإنه على القارئ أن يبذل جهدًا مساويًا للجهد الذي بذله المبدع في الكتابة. من الصعب التوقُّع بأن يمنح العمل الإبداعي عطاءه، ويكشف مقولته ودلالاته، دون أن يسهم القارئ في مغامرة الاكتشاف. النص الإبداعي يحتاج إلى قراءة متأمِّلة، متعمِّقة، متفكِّرة، بحيث يلامس مفتاح العمل، ويستطيع اكتناه دلالاته. وكما يقول أوكونور، فإنه ليس للروائي أن يتوقع من القارئ أن يصبر على قراءته مرتين اثنتين، إذا لم يكن مستعدًّا لقراءة ما يكتب عشرات المرات. أشفق على المبدع الذي يعنيه القارئ أكثر مما تعنيه العملية الإبداعية في ذاتها. إنه يفكر في التأثير الذي سيحدثه الموقف، أو الشخصية، أو الدلالة التي يعنيه توصيلها … لكنني — في الوقت نفسه — أرفض القارئ الذي تعنيه سهولة العمل. القارئ الذي أريده هو الذي يشاركني في متابعة الأحداث، وفي فهمها، وتقبُّل الشخصيات، أو عدم تقبُّلها، التعاطف معها، أو معاداتها. يقرأ بإيجابية، يتأمل، يضع الملاحظات، يشارك بإيجابية في تنامي النص، يظل منشغلًا بما قرأه بعد أن يتركه. من المهم أن تتحوَّل العلاقة بين المبدع والمتلقي من مجرد متابعة مسلية إلى مناقشة، أخذ وردٍّ، قبول ورفض. ولعل غاية ما أرجوه أن أثير في القارئ — القارئ العادي تحديدًا — مَلَكة النقد. كذلك فإني أفضِّل النهاية المفتوحة بدلًا من النهاية التي تقرِّر وتحسم. إنها تحضُّ على تأمُّل العمل، والتحاور معه، ومحاولة الكشف عن الدلالة — أو الدلالات — الكامنة فيه. النهاية المفتوحة، مجرد النهاية المفتوحة لقصة ما، بحيث يضع المتلقي دلالتها، يعني أن المتلقي ليس مجرد مستهلك للعمل الإبداعي، لكنه مشارك في عملية الإبداع.

الأدب هو المعرفة الكاملة بخبرة الإنسان، والمقصود بالمعرفة الفهم الفريد والمتشكِّل للعالم، وهو ما لا يقدر عليه غير الإنسان. وبالنسبة لي، فحين أستغرق في القراءة، أغادر صفحات الكتاب، وأغادر الكرسي الذي أقعد عليه، والحجرة التي تحتويني، والمدينة التي أقيم فيها. أتعرَّف إلى أماكن أخرى، قريبة وبعيدة، وإلى شخصيات تتحدث بلغاتٍ متباينة، وأحيا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والميتافيزيقا وعلم الاجتماع والسياسة … إلخ. وثمة حقيقة — أتصورها بديهية — هي أن عمل الروائي الأساسي هو أن يجعل القارئ يستمر في قراءته، وهو لن يستمر إلا إذا استهواه ما يقرؤه، أو فلنقل ما دام يؤمن بصدق ما يقرؤه.

ثمة من لا يملك صبرًا طويلًا على الأدباء الذين يكلِّفون القارئ مجهودًا ليتفهَّم كتاباتهم: «ليس لديَّ صبر طويل على هؤلاء الكُتَّاب الذين يكلِّفون القارئ مجهودًا ليستبطن معنى ما يقولون. وما عليك إلا أن تذهب إلى كبار الفلاسفة لترى أنه من الممكن التعبير في وضوحٍ عن أعمق الأفكار.»، وتقول الشاعرة ماريان مور: «إذا لم تستطع أن تشدَّ انتباه المتلقي منذ البداية، وتجعله يتابع ما كتبت، فلا جدوى من الاستمرار.» ولكن على القارئ ألا يتوقع حلًّا جاهزًا يقدمه له المبدع، وعلى المبدع — في الوقت نفسه — أن يحرك في القارئ استجابة كافية للعمل بما يدفعه — بإرادته — إلى التفكير في التغيير. الأدب فن للقراءة يقوم به القارئ وحده، وهو يتلقى الصور التي يخلقها العمل الأدبي بمخيِّلته في الدرجة الأولى، أي في التصور الروحي.

يقول ميشيل بوتور: «إن القارئ لا يقف موقفًا سلبيًّا محضًا، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة، مستعينًا هو أيضًا بالمواد التي هي في متناول يده، أي ذاكرته، فيضيء الحلم الذي وصل إليه بطريقته هذه كل ما كان يغشاه من الإبهام. إن الإبداع ليس مهمة المبدع وحده، وإنما يجب أن يشاركه فيه القارئ، لأنه وجه العملة الآخر. أوافق على أن القارئ طرف في علاقة طرفها الآخر هو النص.» نحن نبدع النصوص حين نقرؤها، ونحن بالقراءة نقيم حياة النصوص، أو نشهد على موتها. وكان كورناي Corneille يترك الجميع يعلنون آراءهم، ثم يحاول أن يفيد من النصائح الصالحة، بصرف النظر عن مصدرها. ربما لذلك أحرص على أن أدفع بكل عمل جديد أكتبه إلى أصدقاء متبايني الثقافة والمكانة الأدبية أو الاجتماعية، يبدون آراءهم، فأهمل ما لا أراه عيبًا في العمل، أو إضافة له، وأعمل بالملاحظات الإيجابية. وأذكر أني عملت بملاحظات أصدقاء بعيدين عن العمل الثقافي، لأنها أنقذت بعض ما كتبت من أخطاء معيبة. وعلى سبيل المثال، فقد تنبَّه صديق إلى وفاة الخادم في «اعترافات سيد القرية» قبل وفاة البطل «زاو مخو»، وكنت قد جعلته يقف على تحنيطه كما كان الحال في العصر الفرعوني. خطأ مبعثه مغالاتي — كما ذكرت لك — في أن تكتب القصة نفسها. أبدأ بالقليل، ويتخلَّق الكثير الباقي فيما بعد. تتخلق أحداث، وتظهر شخصيات، وتموت شخصيات، وتتبدَّل مسارات، ولا يكون لي في ذلك كله حيلة. وأذكر أني توقفت عند النهاية التي اختارها محمد قاضي البهار، بعد أن حاصرته الظروف تمامًا، حتى همس لي — بعد أيام قليلة، وأنا أسير في الشارع — أنه اختار النزول في البحر.

ونزل محمد قاضي البهار البحر، وإن لم أجعل ذلك التصرف نهائيًّا في حياة قاضي البهار، ربما لأني وجدت فيه قيمة مصرية، قد تغيب عن حياتنا — لبواعث طارئة — لكنها لا بد أن تعود.

•••

الفن إضمار، بمعنى أن العمل الإبداعي يجب أن يوجد فيه ضوء، وفيه أيضًا ظلال. وفي «أوفيد» بجماليون: «الفن هو أن تخفي الفن.» بل إن العمل الإبداعي قد يجد إضماره في تقديم بعض المفاتيح غير الحقيقية، بحيث يصعب أن نتوصل من خلالها إلى دلالات مؤكدة. وعلى حد تعبير جون برين فأنت لا تدري ما يحدث في الرواية حتى تنتهي. بل إن الفنان — في تقدير جورجي جاتشيف — لا يدرك الكثير من تفسيراته الممكنة … ومع ذلك، فإني أوافق شوبنهاور على أن «أسلوب التعبير الملتبس الغامض دائمًا، من الدلالات البالغة السوء. وهو يأتي في معظمه نتيجة لغموض الفكرة، بمعنى أنه يوجد نقص وتناقض في الفكرة نفسها، أو أن الفكرة خاطئة.»

•••

يقول فلوبير: «إن الفنان في العالم الروائي، صاحب القدرة على كل شيء، برغم أنه لا يكشف عن ذاته … إن عليه أن يكون مختفيًا في ثنايا عمله، كالإله في السماء.» لذلك فإني أرفض الوصف الجسدي إذا لم يكن للعمل الإبداعي حاجة إليه. لماذا أقتحم ذهن التلقي بصورة محددة، في حين أنه ربما رسم صورة مغايرة، تتسق مع الشخصية، ومع الأحداث. الأبعاد الحقيقية لشخصية ما في عمل إبداعي هي الأبعاد النفسية. كلما أجاد الفنان التعبير عنها، توضَّح تميُّزها، صورتها الخاصة. وثمة عوامل مساعدة، مهمة، للأبعاد النفسية مثل تيار الوعي، والحوارات الداخلية، ودرامية الحوار، والتصورات والأحلام والرؤى والذكريات … إلخ. أتفهَّم حب الكثير من الأصدقاء للقراءة أو السماع، بدلًا من المشاهدة. القراءة والسماع يتركان للمتلقي فرصة تخيُّل المكان والشخصيات. أما المشاهَدة فهي تحدد ذلك بصورة قاطعة. أنا أرسم الملامح الظاهرة إذا فرضت الحتمية الروائية — إن جاز التعبير — ذلك. أما الوصف لمجرد أن يكون للشخصية ملامحها الخارجية، فهو تزيُّد لا معنى له، ويشوِّش على الصورة التي ربما رسمها القارئ — في ذهنه — للشخصية.

العمل الإبداعي يصل إلى المتلقي بقدر الصدق الفني الذي عبَّر به المبدع. الصدق الفني هو ما أطلبه في العمل الإبداعي الذي أتلقَّاه. ما يهمني هو قيمة العمل الفنية، لكنني لا أستطيع أن أهمل البيئة التي أحيا فيها، لا أستطيع أن أهمل المعتقدات والقيم والتقاليد، فلا أنسلخ عنها، ولا أرفضها، ولا أسخر منها. العلاقة الإبداعية هي بين مبدعٍ ومتلقٍّ. ومن الصعب أن تنهض هذه العلاقة على نقيض الاحترام، وهو ما لن يتحقق إذا ناقض المبدع ما يؤمن به المتلقي من قِيَم ثابتة.

•••

فماذا عن النقد؟ أليس الناقد قارئًا؟

الناقد الممتاز — في تعريف البعض — هو فنان تبحَّر في المعرفة، وذوَّاق كبير، لا أفكار مسبقة عنده ولا غيره. بينما يرى آخرون أن الناقد ليس مقومًا بتوخي العدالة في أحكامه، إنما هو روح مرهفة الحسِّ تصف لنا مغامراتها بين روائع الفن. ويرى جوتييه Gautier في الناقد الخصي المسكين المجبَر على مشاهدة السيد الكبير — المبدع — وهو يلهو! أما روجر ب. هينكل فقد لاحظ أن معظم الدراسات التي تعنى بالقراءة النقدية تسلك أحد سبيلين، فهي قد تتخذ من المجموعات القصصية أو المقتطفات الروائية ما تعتمد عليه في تحقيق ما تريده من إيضاح المداخل المتعددة للقراءة النقدية، أو أنها قد تلخص المقالات النقدية النظرية المعنية بدراسة الرواية. ويناقش الفرنسي ألبير تيبوديه ما يُشاع بين الكُتَّاب من أن الفنان مبدع، وأن الناقد لا يبدع شيئًا، وليس له وظيفة إلا أن يرى، وأن يحكم، وعلى وجه أخص أن يطري ما ابتدعه الآخرون. والمديح الأكبر الذي يمكن أن يوجِّهه إنسان إلى ناقدٍ كبيرٍ هو أن يقول له: إن النقد في المستوى الذي ارتفعت به إليه أصبح حقيقة نقدًا مبدعًا خلَّاقًا. ويجيب تيبوديه عن السؤال: ما هو ذلك الإبداع؟ يقول: «لنأخذ نمط المعماري. لكن هناك معماري ومعماري. معماري يبني بيتًا للسكن، على حين أن مايكل رانج يبتدع قبة سان بيير. أن تبني معناه أن تطبق قواعد استخدام المواد الأولية وتلاحمها وفقًا لخريطة مُعدَّة، أن تطبق الذكاء الحركي، لكن أن تبدع، معناه أن تسهم في قوة الطبيعة ذاتها، أي أن تنتج من خلال عبقرية موازية للعبقرية الأولى» (ت. أحمد درويش).

•••

ويفرض السؤال نفسه: هل الناقد مجرد وسيط بين المبدع والمتلقي العادي، ليصبح المتلقي قادرًا على الاستجابة للعمل الإبداعي؟

النقد الأدبي — بأبسط تعبير — هو فن الحكم على الإبداع الأدبي. دراسة العمل الفني يجب أن تركز على العمل نفسه، وليس المبدع أو المتلقي. تركز على بناء العمل، مكوناته، صورته الفنية، عناصره المختلفة، تفصل بين العمل الفني وأية عوامل أخرى أساسية أو مساعدة، ما دامت لا تتصل ببنية العمل نفسه. وبالنسبة لي، فأنا حين أقرأ عملًا ما لا أدَّعي أن ما كتبته عنه هو تقويم بقدر ما هو تعبير عما في خاطري. وأستعير التعبير من «ليمز».

والحق أن قراءة النقد الذي يُعرَض للأعمال الأدبية، ويناقشها، ليست بديلة عن قراءة الأعمال الأدبية نفسها. ومع أن الناقد هو قارئ في الدرجة الأولى، فإن مهمته هي تحويل القراءة إلى كتابة، أي أنه يهبنا في كتابته ما لم يفصح عنه العمل الإبداعي. وفي أسرار البلاغة يقول الجرجاني «إن الباحث عن المعاني كالغائص في الدر.» الكتابة السردية كنز، والتأويل فعل اكتشاف ذلك الكنز.

ثمة رأي أنه «ليس هناك قرَّاء يتشوقون إلى متابعة أحكام النقد أكثر من المؤلفين أنفسهم.» وفي تقديري أنه إذا كان النص — حين يبدأ الناقد في قراءته — يتحول إلى علاقة بين وعيين: وعي المبدع، ووعي الناقد، فإن النقد في أفضل صوره — والتعبير لفورد مادوكس — يتعامل مع العمل الفني كنقطة بداية في عملية خلْقٍ جديدة. أما أبشع أنواع النقد، فهي تلك المبنية على معرفة مسبقة خارجة عن العمل الفني. الرومانسية — على سبيل المثال — تنظر إلى العمل الأدبي على أساس «أنه تعبير عن العالم الداخلي للفنان، وموازٍ له. وصارت مهمة الناقد أو المفسِّر هي أن يفهم الفنان بهدف فهم العمل نفسه، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التي يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية» (فصول، أبريل ١٩٨١م). ولعلِّي أميل إلى قول بيير ماشري Pierre Macherey إن مهمة الناقد أن يركز اهتمامه على «لا شعور» النص أي ما لا يقال، وما هو مكبوت بالضرورة (ت. جابر عصفور).

يقول همنجواي: «كثيرًا ما أشعر بأن هناك اليوم منافسة بين الأدباء والنقاد، بدلًا من الشعور بضرورة مساعدة كل جانب للآخر.» لا ينبغي — والقول لأميرسون — أن يكون النقد باحثًا عن الشجار، داعيًا إلى هدر الطاقات، يمسك بالسكين، وينتزع الجذور. عليه أن يكون هاديًا، معلمًا، ملهمًا. عليه أن يكون ريحًا منعشة وليس ريحًا باردة تجمِّد الأطراف. أما بوب فإنه يرى أن «الناقد الكامل يقرأ كل عمل بالروح نفسها التي كتب بها المبدع عمله. عليه أن ينظر إلى العمل في شموله، ولا يسعى إلى أن يتصيد الهنات، ما دامت العاطفة الحقة قد حفزت الكاتب، والنشوة قد أوقدت عقله.»

أذكر قول تشستر فيلد: «لنترك الناقد الغبي يعيش على جثث الأعمال. أعطوني أنا روح العمل ورواءه.»

أما الفنان الذي يمارس النقد، فلعلِّي أذكر قول أستاذنا يحيى حقي إن «الفنان الذي يشتغل بالنقد، إما أن يكون تدفقه غنيًّا جدًّا، وموهبته كبيرة جدًّا، بحيث لا يؤثر اشتغاله بالنقد على فنِّه، وإما أن تكون قدرته على الفيض الفني محدودة ولا ترضيه، فيحاول التعبير عن أفكاره بكتابة المقالات النقدية ما دام لم يشملها تدفقه الفني.»

•••

إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم النقدي الذي تناول أعمالي الإبداعية، فلعلِّي أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة «أصوات» الأدبية ضمَّت بعض المقالات والدراسات والحوارات التي ناقشت أعمالي حتى عام ١٩٨٤م في كتابين، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية، تفوق ما ضمَّه كتابا جماعة «أصوات»، وهما «محمد جبريل وعالمه القصصي» و«قراءات في أدب محمد جبريل». أذكِّرك بكتاب حسين علي محمد «البطل المطارَد في روايات محمد جبريل»، وكتاب ماهر شفيق فريد «فسيفساء نقدية: تأملات في العالَم الروائي لمحمد جبريل»، وكتاب سعيد الطواب «استلهام التراث في روايات محمد جبريل» وكتاب نعيمة فرطاس «فلسفة الحياة والموت في رواية محمد جبريل الحياة ثانية»، وكتاب حسن حامد «مصر التي في خاطره»، وكتاب سمية الشوابكة «التراث والبناء الفني في روايات محمد جبريل»، وكتاب محمد زيدان «المنظور الحكائي في روايات محمد جبريل» … إلخ.

مع ذلك، فإني — حتى الآن — لست مدرجًا في قوائم — وبتعبير أدق: لست مدرجًا في تصنيفات السادة الأعزاء من أدباء الأيديولوجية والشللية ونقَّادها. إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كُتَّاب القصة والرواية، فإنهم يعلنون القائمة التي تضم ممثلي الأيديولوجية أو الشلة في أقل تقدير. ولأني أتصور الكاتب أكبر من أي منصب أو تنظيم حزبي أو أيديولوجي، لأني أرفض مبدأ الشللية في إطلاقه، ولأني لا أتردد على المقاهي والجلسات الخاصة، وأفضِّل المشاركة في المؤتمرات الثقافية، والحياة مع الناس العاديين، وقضاء غالبية الوقت في بيتي أقرأ وأكتب … لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمي، وإن وجدت تعويضًا حقيقيًّا، وجميلًا، في الكثير من الكتب والدراسات والموسوعات المتخصصة والحوارات التي تناولت سيرتي الإبداعية وأعمالي، وفي العديد من الرسائل الجامعية التي كان قرار أصحابها بإعدادها أول تعرُّفي إليهم.

أزمة النقد — التي يتجدد حديثها في الصحف والدوريات — اصطنعتها تلك التقسيمات الجائرة، والمنحازة … حتى إنه يمكن القول: قل لي من هم نقَّادك، أقل لك من أنت!

(١٩٨٧م بإضافات)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤