الفصل الثالث

الحياة الحاسة

(١) علم النفس قديمًا وحديثًا

هنا يبدأ علم النفس الحديث، وقد تخفف من مبحث النفس النامية، ولكنه تضخم بوفرة المسائل ووفرة الاستشهادات من سائر العلوم الطبيعية والفلسفية أو التطبيقات عليها، وأهمها مسألة المعرفة التي كان هو أحد نتائجها. لقد مرَّ بنا الكلام في آراء القدماء في النفس النامية، وقد نظروا إلى النفس الحاسة كذلك كلٌّ بحسب مذهبه العام في الفلسفة. وها نحن موردون الآن بعض آرائهم لتركيز تصورهم لها، فليس غرضنا تاريخيًّا، وإنما هو مذهبي، يعرض للمشكلات الفلسفية ويُبدي فيها الرأي بالأدلة القاطعة. فليس هذا الفصل والفصل التالي عرضًا لعلم النفس بجميع مسائله وتحليلاته، ولكنهما يكوِّنان «فلسفة علم النفس» المبينة لما يعتقد في المشكلات وما لا يعتقد.

وربما كان فاتح الباب أمامهم ديموقريطس بنظريته في الجوهر الفرد أو الذرة؛ فالنفس عنده مادية طبعًا، مؤلفة من أدق الجواهر وأسرعها حركة، كلما تكاثرت اكتسبت الحساسية والإدراك، فهي لذلك أوفر عددًا في أعضاء الحواس وفي القلب والمخ. وأعقبه أنبا دوقليس، وهو الذي اعتبر الماء والهواء والنار عناصر وأصولًا، وزاد عليها التراب، وقال: إن النفس مزاج من هذه الأركان الأربعة يغلب فيها الهواء والنار؛ ولذا كانت ألطف وأدقَّ، وكان للنبات شعور كما للحيوان، ولكنه أضعف. واصطنع أبيقور مذهب ديموقريطس، وقال: إن الأحياء نشأت اتفاقًا، وبقي الأصلح وثبت نوعه، والنفس مادة حارة لطيفة للغاية، تتكون مع الجسم وتنحلُّ بانحلاله. وقال الرواقيون: ليس للنبات تصور ولا حركة، فليس له نفس، وإنما النفس للحيوان والإنسان، وهي نفس حار.

هذه أقاويل ساذجة لا تستحق الذكر إلا لبيان أصول المذهب المادي في هذا المضمار. أما علم النفس فقد نضج واتخذ طابعًا علميًّا ممتازًا بجهود أفلاطون وأرسطو. أفلاطون فيلسوف الروحانية والخلود. وأرسطو فيلسوف اتحاد النفس والجسم في جوهر واحد، وواصف مختلف القوى الإنسانية من حواس ظاهرة وباطنة وعقل وإرادة، وصفًا ما أدقه وأعمقه. أثبت أفلاطون للإنسان نفسًا روحيةً لسببين: أحدهما أنه يعقل المعاني الكلية أو المثل، وهي غير متحققة في التجربة بما هي كلية، وغير مكتسبة بالحس، فلا بد من قوة روحية مثلها تعقلها؛ والسبب الآخر أن المادة جامدة ساكنة بطبعها، فلا بد من مبدأ لا مادي يحرك الجسم. ولا يمكن أن يقال: إن النفس عبارة عن توافق الأخلاط أو العناصر المؤلفة للبدن، فإن التوافق نتيجة التركيب والنفس تدبر البدن وتقاومه بالإرادة، فلا بد أن تكون شيئًا متمايزًا منه.

على أن رأي أفلاطون فيها وفي صلتها بالبدن لا يخلو من التردد والغموض: فإنه يحد النفس تارة بأنها فكر خالص، وطورًا بأنها مبدأ الحياة والحركة في الجسم؛ ويقول تارة: إن النفس هي الإنسان، وطورًا يضع بينهما وبين الجسم علاقة وثيقة إلى حد علاج النفس بالجسم وعلاج الجسم بالنفس، وتارة يضع في النفس قوى ثلاثًا للإدراك والغضب والشهوة، وطورًا يضع في الإنسان ثلاث نفوس. فهو يترنح بين مذهبه المثبت للنفس وجودًا مستقلًّا، وبين التجربة المثبتة لها علاقة جد متينة بالجسم، وهذه هي النقطة الضعيفة في مذهبه: يتصور النفس جوهرًا تامًّا حالًّا في الجسم حلولَ شيء في شيء، ويضيف إلى الحياة والإحساس والانفعال والتعقل وسائر الظواهر الوجدانية، ويعتقد أن الجسم مجرد آلة مادية، فلا يفسر تأثير الجسم في النفس ولا تأثير النفس في الجسم، مع إقراره بتفاعلهما.

وكان هو أول من قال بروحانية النفس من بين فلاسفة اليونان، أعني بتجردها عن المادة أصلًا وقيامها بذاتها روحًا وقوة. ودليله على وجود النفس بلا مادية كالمثل، يفيده في التدليل على خلود النفس، فإنه يقول: إن النفس لا مادية كالمثل، ومن ثمة بسيطة، فهي ثابتة باقية؛ لأن المركب هو الذي ينحل إلى بسائطه ويتحول. كانت في الأصل في العالم المعقول أو السماوي، ثم ارتكبت خطيئة، فكان عقابها الهبوط إلى الجسم، وإن لم تقضِ حياتها الأرضية في العمل على استعادة برارتها الأولى، عادت بعد الموت إلى جسم آخر بشري أو حيواني، وهكذا، إلى أن تطهر تمامًا، فتعود إلى مقرها الأول ذلك الجرم الفلكي السعيد بصحبة الآلهة السعداء. وهذه نظرية التناسخ تلصق بالمذهب لصقًا.

لم يفض أرسطو في مسألة الخلود، بل لعله لم يمسها، مع إيمانه الراسخ بروحانية النفس؛ وامتاز بتأسيس علم النفس على قواعد علمية بحت، فحصر مسائله وعالجها بالمنهج العلمي الصرف، دون ما تضحية به للخيال ولو كان جميلًا. خصص له كتابًا على حياله مليئًا بالعلم والبرهان، ورسائل سُمي مجموعها بالطبيعيات الصغرى حافلة بالتجارب التشريحية والتحليلات الوجدانية، مما لم يسبق له نظير. في مفتتح الكتاب تعريف هذا العلم، وتعيين منهجه، وبيان اتحاد النفس والجسم بإلحاح شديد لأهمية المسألة في نظره. فالنفس مبدأ الحياة والأفعال الحيوية في الجسم الحي من نبات وحيوان وإنسان، وهي في كل على قدره، فلا تطلق إلا بضرب من التشكيك أو التناسب، أي مع الفارق، ولا بأس في استعمال هذا اللفظ المشترك والقول بنفس في النبات والحيوان، ما دمنا نلحظ الفارق ونميز بين النفوس. فالنفس هي الصورة الجوهرية للجسم الحي، وعلم النفس جزء من الفلسفة الطبيعية؛ لأن موضوعه — وهو الجسم الحي — مركب من هيولي وصورة. ومنهج مثل هذا العلم لا يمكن أن يكون إلا تجريبيًّا استقرائيًّا؛ لأن الوجدانيات ظواهر حادثة تابعة للأحوال والظروف. أما اتحاد النفس والجسم اتحادًا جوهريًّا بحيث يؤلفان جوهرًا واحدًا، فأظهر مظاهره تجمل في ما يأتي: ليس الانفعال، كالخوف والغضب، فعل النفس وحدها، وإنما هو فعل المركب من النفس والجسم، ففي الوقت الذي يحدث فيه انفعال نفسي يحدث تغير في الجسم؛ بل قد ينشأ الانفعال من اختلال الجسم دون قصد ذهني ولا سبب خارجي، على ما نشاهده بوضوح في العصبيين والسوداويين. والإحساس فعل النفس بمشاركة العضو الحاس. والتعقل، ولو أنه خاص بالنفس، إلا أنه مفتقر للصور الخيالية كي نجرد منها المعاني الكلية التي هي موضوعات العقل، ولا خيال من غير المخ والجهاز العصبي؛ فمن الوجهة النفسية الانفعال صورة وجدانية، ومن الوجهة الجسمية الانفعال مظهر لهذه الصورة، من غير تقدم أحد الحدين على الآخر أو تأخره عنه. فجميع الأفعال الوجدانية متعلقة بالجسم ضربًا من التعلق.

ظلت العقول تتناقل معاني أفلاطون وأرسطو إلى أن جاء ديكارت. كان رياضيًّا عبقريًّا، وأراد أن يطبق المنهج الرياضي على المادة بمختلف صورها، فكان أكبر العاملين على انقلاب العلوم إلى شكلها الحديث، فإليه يجب الرجوع في علم النفس. وقد ذهب إلى أن المادة مقابلة للفكر، وأطلق لفظ الفكر على جميع الظواهر الوجدانية من إحساس وشعور وتخيُّل وتذكر وتعقل وإرادة، ولما كانت المادة لا تفكر قال: إن النفس مبدأ الفكر، وأنكر أن الحيوان يدرك ويشعر، واستنتج أن الإنسان وحده — وهو مفكر بلا ريب — ذو نفس دون غيره من الأحياء، وأن مظاهر الحياة النامية في النبات والحيوان والإنسان تؤديها وظائف آلية صرف، وأن مظاهر الإدراك والشعور والنزوع في الحيوان تؤديها وظائف آلية كذلك لا دخل فيها للنفس، وأن النفس والجسد جوهران تامَّان كل منهما قائم بذاته، وأن الصلة بينهما قاصرة على حلول النفس في الغدة الصنوبرية التي هي جسم صغير بيضاوي واقع في مقدم المخِّ، فتتأثر بما يصل إلى هذه الغدة من الحركات الواقعة على أعضاء الحواس، وتترجم الحركات ترجمة وجدانية من لون وصوت ورائحة وطعم وحرارة وبرودة، وتدبر الجسد من تلك الغدة كما تريد بأن تبعث الحركات التي تريد أن يأتيها الجسم. أما كيف تتأثر النفس — وهي روحية بسيطة — بحركات مادية، وكيف تترجمها على النحو المذكور مع ما بين الحركة والوجدان من تباين، وكيف تبعث بحركة مادية وهي روح، أو كيف تستطيع أن تحول الحركة الجسمية من وجهة إلى أخرى كما قال ديكارت، فتلك اعتراضات وجهت إليه ولم يستطع الإجابة عنها إجابة مقنعة.

ولما أراد ديكارت أن يعرِّف الإنسان قال: إنه «جوهر مفكر». وهذا التعريف يمنع أن يكون الإنسان حيوانًا ناطقًا، ويوجب أن يكون ناطقًا أو مفكرًا فقط، أو على الأقل يمنعه أن يعتبر نفسه حيوانًا حين يقول: «أنا أفكر.» جميع الظواهر الجسمية من اغتذاء ومشي وانفعال بإحساسات، ضروب من الحركة تفسر بالأعضاء وتركيبها ومكانها بعضها مع بعض لا أكثر، يحركها الدم، والأرواح الحيوانية تشبه غازًا جد لطيف، أو لهبًا في غاية الصفاء يولدها القلب باستمرار، فتصعد إلى الدماغ الذي هو بمثابة خزانة لها، ثم تمر في الأعصاب، وتوزعها الأعصاب في العضلات، حيث تُحدث انقباضًا أو انبساطًا تبعًا لكميتها. فدراسة الإنسان دراسة لظواهره الوجدانية، وهذا هو علم النفس. أما الظواهر الجسمية فراجعة إلى الفيزيقا المعنية بالمادة وأحوالها.

تلك أصول التفكير الحديث في علم النفس. وقد تشعَّب هذا التفكير إلى وجهتين؛ هما التصورية والمادية. التصورية وجهة الذين قبلوا الوضع الديكارتي لمسألة المعرفة، وهو أننا لا ندرك الأشياء أنفسها، بل ندرك تصوراتنا أو أفكارنا، فهؤلاء بدءوا بالفكر أو النفس، وانتهوا به، كما صنع ديكارت، أي: استبعدوا الجسم، حسبانًا منهم أنه مجموع تصورات ليس غير، فاستغرقت النفس الجسم، وتبددت مسألة العلاقة بينهما. والمادية وجهة الذين رفضوا أن يعترفوا للفكر بقيمة ذاتية، وأضافوا القيمة الذاتية للمادة، فاستبعدوا النفس ظانين أنها مجرد فكرة طارئة على تغيرات الجسم، وتبددت كذلك مسألة العلاقة بين نصفي الإنسان. ولم يلبثوا أن اصطنعوا التصورية في المعرفة بالرغم من معارضتهم لوجود النفس، وتحول مذهبهم المادي إلى مذهب تجريبي Empirisme أو واقعية تصورية شعارها: «إننا لا نعلم إلا ما يظهر لنا وعلى ما يظهر.» ورجع الفرق بين التجريبي والتصوري إلى أن الأول لا يقر بحقيقة للمعاني الغريزية التي يؤمن بها الثاني، ويجعل منها أسس المعرفة والوجود.
نعد من أئمة التصوريين: مالبرانش وليبنتز وسبينوزا وبركلي وكنط، اعتبروا التفاعل بين النفس والجسم أمرًا غير مفهوم لما بينهما من تعارض حاسم. وكانت النتيجة المنطقية لهذا الاعتبار الوقوف عند توازي السلسلتين، أي ظواهر النفس وظواهر الجسم، دون محاولة التفسير والتعليل؛ ولكنهم أضافوا الظواهر جميعًا إلى الله، لا إلى النفس ولا إلى الجسم، فقال مالبرانش: إن ما يُتَوَهَّم من إرادات النفس ما هو إلا «مناسبات» لتأثير الله في النفس. فكل فاعلية تبدو في المخلوقات ما هي إلا ظاهرية. وارتأى ليبنتز أن الله يودع في كل مخلوق ظواهره جميعًا بلا استثناء في حالة قوة وكمون، فتتحقق رويدًا رويدًا على الترتيب الذي عينه الله. والغريب من هذين الفيلسوفين وأمثالهما أن التصورية عندهم لم تكن كلية كما ينبغي، بل كانت قاصرة على الجسميات؛ إما النفس وإما الله، فقد اعتقدوا بهما كحقيقتين لا يتطرق إليهما الشك. وإلى مثل هذا ذهب سبينوزا ماحيًا التمايز الجوهري بين الموجودات، وقائلًا بجوهر واحد مفكر ممتد عنه تصدر الموجودات وأفعالها. وباركلي أنكر المادة مبقيًا على معانيها المتجلية في النفس أو الذهن، ومضيفًا هذه المعاني إلى إيحاءات من لدن الله. أما كنط فقد كان التصوري الصارم الحاسم، لم يعتقد بوجود النفس ولا بوجود الجسم، بل ردهما إلى الفكر كصورتين من بين صور غريزية فيه. وقد كان إمام الظاهريين Phénoménistes أولئك الذين لا يرون في الوجدان سوى سلسلة من الظواهر المتعاقبة دون ما ربط بينها أو «أنا» مفكر، ولا يحيدون عن «النوازي» يمنة ولا يسرة.

ونعد من أئمة الماديين المحدثين هوبس ولوك؛ والباقون يكادون لا يأتون بشيء جديد. يمضي هوبس من هذه القضية الأساسية في مذهبه، وهي: أن كل علم فهو آت من الإحساس، ويعرِّف الإحساس بأنه حركة في ذرات الجسم الحاس، ويردد القول القديم أن المعاني المجردة أسماء تقوم مقام الصور الجزئية. ولا يعلل نشوء الظاهرة الوجدانية مع الحركة الجسمية: فإذا كانت هذه الظاهرة ذاتية للحاس، فكيف نعلل هذه الذاتية إن لم يكن للإنسان نفس، ولم يكن للنفس فعل متغاير للحركة؟ وهو يلاحظ أن مجرى أفكارنا تابع، ليس فقط لتعاقب حركات الدماغ بترتيب معين، كما يقضي به المذهب المادي، بل أيضًا لتأثير الميل والاهتمام: فكيف نفسر الحياة الفكرية تفسيرًا آليًّا؟

أما لوك فهو حسي على هذه الطريقة: يعين لأفكارنا منبعين اثنين يرجعان إلى واحد ولا يختلفان إلا بالتسمية، وهما: الإحساس بكيفيات الأجسام، والتفكير الذي يظهرنا على الأفعال الباطنة. فالمعاني التي ليست آتية لا من الإحساس ولا من التفكير هي مصطنعة مفتعلة، مثل المعاني المجرَّدة؛ ولوك يحمل على المعاني الغريزية حملة نراها موفَّقة في أغلب مفاصلها. ولكنه يتردد كثيرًا في مسألة النفس. يقول: إن وجودها موضوع حدس باطن، وإن الأنا شيء مفكر مدرك لأفعاله، كما يشهد التفكير، ثم لا يريد أن يقول: إن «الذاتية الشخصية» تقوم في ذاتية النفس، أي بقائها هي هي، ويردها إلى ذاتية الشعور بالأنا الذي يتذكر الآن فعلًا ماضيًا، وهذا وصف لشعورنا بالشخصية، وليس تفسيرًا لإمكان الذاكرة والشخصية. إن التذكر يستلزم بقاء الأنا هو هو، ويرى لوك أن هذه المسألة، أي بقاء الأنا بالفعل هو هو، مجاوزة لنطاق التجربة الصرف، ولا يريد أن يعرض لها. وكذلك يفعل في مسألة ما إذا كان الأنا روحيًّا أو ماديًّا، فهو يطلب شهادة التجربة الخالصة، ويأبى تأويلها بالعقل.

واتخذ هوبس وهيوم وآخرون؛ من العلم الطبيعي كما وجدوه عند نيوتن، أسلوبًا في التصوير والتعليل يرتكز على الجذب والدفع والتجميع والتركيب، فتصوروا الظواهر الوجدانية وحداتٍ مستقلة على مثال الذرات العنصرية تتجاذب وتتدافع وتتركب تبعًا لقوانين التداعي من تشابه وتضادٍّ وتقارن دون فاعلية باطنة ولا نفس يحار في كنهها، فكونوا علم النفس الفيزيقي Psycho-Physique المبني على نظرية التداعي. ولكن معاصرين لهم أو خلفاء تركوا الطبيعيات شيئًا فشيئًا، والتمسوا في علم الحياة أسلوبًا أقل صلابة وأقرب إلى «النفسيات»، فاستعاضوا عن تلك الوحدات بالأفعال المنعكسة، وهي أبسط الظواهر الحيوية، وأدت بهم دراسة تركيب أعضاء الحواس ومزاولتها وظائفها إلى دراسة الأفعال الوجدانية المرتبطة بها، فكونوا علم النفس الفسيولوجي Psycho-Physiologie ودفعوا إلى الأمام هذا العلم الناشئ من الفحص عن وظائف الدماغ، وأثر جروحه أو اضطراباته في العادات الجسمية والتذكر والتكلم، على ما سنذكره فيما بعد. وهكذا إذا أراد الماديون تسويغ مذهبهم وإرجاع الظواهر الوجدانية إلى الظواهر الفيزيقية، أدخلوا المادة والكمية في علم النفس.
وظنوا أنهم يجدون تأييدًا في مذهب التطور، أو النشوء والارتقاء، الذي كان يحاول — في جميع الميادين — تعليل الأشياء على اختلافها، بما فيها النشاط الوجداني، بتنوع أصل متجانس هو الحركة المنعكسة لا غير، وذلك بالملاءمة بين الإنسان وبين الأحوال المواتية في البيئة الخارجية، وتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، وترسيخ التغير بالوراثة. وبالرغم من هذه المحاولة بدا الوجدان أو الشعور مغايرًا للمادة غير مشترك وإياها في شيء ما. وكان هذا خليقًا أن يحدوهم إلى الاعتراف بإخفاق مذهب التطور، أو على الأقل إلى احتجازه في حدود معينة؛ ولكنهم أصروا على أن المادة هي الأصل الراسخ، هي الأول والآخر، وأن الشعور «عرض طارئ» على الجهاز العصبي Epiphénomène فكأنهم لم يصنعوا شيئًا.

والواقع أنهم لما وجدوا العلم التجريبي قد تقدم كثيرًا، خطر لهم أن يطبقوا على علم النفس المنهج الذي حاز ذلك النجاح الكبير في العلوم الفيزيقية والحيوية، وهو منهج المشاهدة والاختبار، وأن يغفلوا كل مسألة لا تُنال بهما، فاقتصروا على وصف الظواهر الوجدانية واستخلاص قوانينها، صارفين النظر عن النفس في ذاتها وما تثيره من مسائل وجودها وماهيتها وأصلها ومصيرها، تاركين هذه المسائل لما سُمي علم النفس النظري، ناقلين هذا العلم إلى علم ما بعد الطبيعة، وهو عندهم خزانة الفروض والتخمينات. والحقيقة أن العلمين متلازمان؛ لأن النظري مكمِّل للتجريبي مفسِّر لظواهره. بل إن علم النفس أكثر اتصالًا بالفلسفة وأحوج إليها من سائر العلوم الطبيعية، بحيث لا يمكن الخوض فيه من الوجهة التجريبية البحت.

مما تقدم يتبين أن أهم مسائل النفس، من الوجهة العلمية، مسألتان اثنتان: هما وجودها أولًا، وعلاقتها بالجسم ثانيًا، وأن على نوع هذه العلاقة يتوقف الرأي في مسألة المعرفة التي هي المسألة المركزية في الفلسفة. سيأتي الكلام عن وجود النفس في مكانه المنطقي، بعد استعراض القوى أو الوظائف الوجدانية، كما ينظر في العلة بعد النظر في المعلول. أما العلاقة بين النفس والجسم ففيها أربعة مواقف: إفراط وتفريط ووسط زائف ووسط حق.

الإفراط في جانب الأفلاطونيين يقولون بالنفس، ولكنهم يتصورونها شبيهة بالملاك، ولا يضعون بينها وبين الجسم سوى تجاور عرضي. والتفريط في جانب الماديين ينكرون النفس ويردون جميع أفعال الإنسان إلى الجسم وحده. والوسط الزائف في جانب القائلين بالتوازي بين أفعال النفس وأفعال الجسم، إما لسبق تدبير من الله، أو لعلة لا ندركها. والوسط الحق القول بالاتحاد الجوهري بين النفس والجسم؛ وهو قول أرسطو، يسترشد بالواقع ويفسره، فيتفادى الصعوبات التي اعترضت الفلاسفة، ويوفق بين الروحية والمادية توفيقًا بديعًا، لا بأخذ شيء من هنا وشيء من هناك، على مألوف أصحاب التخير، بل بالتزام الحد الذي يلتقي عنده الطرفان ويندمجان فيه.

ومن الرأي في الإنسان يلزم الرأي في المعرفة: فالإفراط في جانب الأفلاطونيين يدعون أننا ندرك المجردات إدراكًا معادلًا لها، ويرتفعون بالمعرفة الإنسانية إلى أصل علوي أو مُثل غريزية لا صلة لها بالمحسوس. والتفريط في جانب الحسيين يلحون بحق في تبعية المعرفة للحواس، والتفاتنا إلى الصور الخيالية، وينكرون أن يكون لنا بالمجردات علم أصلًا. والوسط الزائف قول كنط: إن المجردات صيغ أو قوالب فكرية لا تمت إلى الوجود بسبب. والوسط الحق تصور الإنسان متوسطًا بين الملاك والبهيمة، له طبيعة خاصة شأنها أن تبدأ معرفتها بالحواس وتتأدى إلى اللامحسوس بالعقل المجرد المستدل.

(٢) منهج علم النفس

إذا كان هذا حال علم النفس، فبأي منهج يعالج؟ أبالمنهج القياسي الصادر عن مبدأ عقلي، أم بالمنهج الاستقرائي المؤسس على التجربة؟ لقد زعم سبينوزا — وكان الوحيد في هذا الزعم — أن العلم إطلاقًا قياسي، يحمل معه البرهان ويولِّد اليقين، وأن علم النفس لا يشذ عن هذه القاعدة، بل يستنبط قوى النفس وأفعالها بالطريقة الهندسية، على ما هو معروض في كتابه «الأخلاق». والحقيقة أن ليس هناك استنباط بالمعنى الصحيح، ولكنه افتنان في العرض يستند على مشاهدة ضمنية ويستمد منها جميع المبادئ والنتائج. ولا يمكن أن يكون الحال إلا كذلك؛ لأن العالم الجسماني — بما فيه الإنسان — مجموع موجودات ممكنة محققة دون غيرها من ممكنات لا تحصى، فهي إذن حادثة، ولا يقع الاستنباط القياسي إلا في الضروريات. ما السبيل العقلي، قبل تحليل الماء مثلًا، إلى معرفة تركيبه من هيدروجين وأوكسجين بقدر معين؟ وما السبيل — قبل مشاهدتنا ذاتنا وسلوك الآخرين — إلى معرفة الوجدانيات؟ هذا الفن في العرض لجأ إليه سبينوزا تبعًا لنظرية ميتافيزيقية هي وحدة الوجود وما يلزم عنها من ضرورة الأحداث. بل حتى لو سلمنا بالوحدة والضرورة لما جاز لنا أن ندعي علمًا ضروريًّا بالأحداث، من حيث إن العلاقات بينها ممكنة لا ضرورية. لقد خلط سبينوزا بين ضرورتين: ضرورة التحقق في العلم الإلهي والضرورة الذاتية كتلك التي نشاهدها في الرياضيات؛ فلو سلمنا بالأولى لما اضطرَّنا ذلك البتة للتسليم بالثانية وقلب الميتافيزيقا إلى منطق: الميتافيزيقا علم الوجود الواقعي، والمنطق علم الوجود الذهني، فهما دائرتان متخارجتان مختلفتان كل الاختلاف، ومعرفتنا تتبع ترتيبًا عكس ترتيب الأشياء؛ إذ تذهب من المعلول إلى العلة ومن العرض إلى الجوهر، مع تقدم العلة والجوهر، في الوجود على المعلول والعرضي؛ ثم إن وضع المسائل توحي به التجربة لا العقل الصرف. وعلى ذلك فمنهج علم النفس لا يمكن أن يكون إلا تجريبيًّا استقرائيًّا.

وقد كان كذلك بالفعل، ولا يزال ممعنًا في التجربة والاستقراء، أنشئت له المعامل، وأجريت التجارب على الحيوان الأعجم، وعلى الإنسان في جميع مراحل عمره، وفي حالتي الصحة والمرض، وخصوصًا الأمراض العصبية والعقلية، وفي العلاقة بين الإحساس والمؤثر الخارجي، وفي العلاقة بين الظواهر الوجدانية والظواهر البدنية المثيرة لها أو المصاحبة أو التابعة، واستنطقت اللغات والآداب والعلوم والفنون والتاريخ، بغية الوقوف على كل شاردة وواردة. هذا هو المنهج الموضوعي المتمم للمنهج الذاتي أو الوجداني، وهو منهج ضروري خصب، بشرط ألا يؤخذ وحده، فيؤدي إلى ما سمي «علم نفس بلا نفس» لامتناعه من كل فحص عن حقيقة النفس، كما يمتنع علم الطبيعة أو علم الأحياء من الخوض في ماهية المادة أو ماهية الحياة، إذا أنكرنا النفس إنكارًا إيجابيًّا أقصينا فكرة الموضوع أو الجوهر أو الأنا الذي يحدث الوجدانيات ويوحِّد بينها، فسلمنا بإمكان وجودها من غير موضوع، وهذا خلف، وانتزعنا عن الظواهر أنفسها طابع الشخصية، ولم نفهم الذاكرة التي تعني وجود مبدأ صدرت عنه الظواهر وحفظت فيه، ولم نفهم تداعي الصور أو المعاني الذي يعني وجود مبدأ حافظ لها داعٍ لما تتطلبه الحال منها، ولم نفهم العادة وهي تعني أن ستعدادًا ما قد تكوَّن بتكرار فعل معين، فنعني وجود مبدأ يحدث فيه التكرار ويحفظ الاستعداد. هذه أمثلة لما يلحق علم النفس من تشويه وتناقض إذا لم نقبل وجود النفس.

وهذه الاعتراضات تجرح من باب أولى مذهبًا أكثر تطرفًا استحدثته مدرسة معاصرة وسمته بالمذهب السلوكي Behaviourism، وهو يعد أصدق تعبير عن المادية؛ إذ إنه يتجاهل الوجدان بالمرة، ويكتفي بوضع الإنسان أو الحيوان في موقف معين لمشاهدة تصرفه وسلوكه، واستخلاص قوانين تسمح بتوقع أنواع السلوك اللازمة عن ظروف خارجية معينة دون تأويل وجداني، ودون قصد في استعمال ألفاظ العقل والإرادة والمخيلة والذاكرة، وما إليها من الوظائف الوجدانية، إلى قوى متمايزة وأفعال مشعور بها في الباطن، بل إلى مواقف ظاهرة أو ضروب من المجاوبة ورد الفعل. ولهذا المنهج فائدته أيضًا، بشرط أن يظل موقفًا منهجيًّا وحسب، وألا يتضمن أي إنكار للحالات الباطنة، فإن أنصاره — إذ يدعون أنه المنهج الوحيد — يشوهون علم النفس ويجرون عليه من الاضطراب والتناقض ما لا قبل بمثله لأي علم. فأولًا توجد ظواهر وجدانية عديدة ليس لها وجهة خارجية، مثل تتابع أفكارنا وأسباب أفعالنا؛ وثانيًا إذا كنا نعبر عنها بالكلام، وهو بالفعل سلوك خارجي، فإنها مغايرة كل المغايرة لألفاظ التعبير، ولا يمكن ردها إليها بحال؛ وثالثًا لا يفسر السلوك بالظروف الخارجية وحدها؛ إذ إنه يتنوع في نفس الظروف، وإن إشارة بعينها قد تتخذ دلالة على مقاصد مختلفة، فلا مندوحة من اعتبار الميول والمقاصد والصور الباطنة التي يحققها السلوك الخارجي؛ فلولا شعورنا بحالاتنا الباطنة لما فهمنا شيئًا من الأفعال الظاهرة؛ إنهما وجهتان غير منفصلتين: إحداهما باطنة تدرك بالشعور، والأخرى ظاهرة تدرك بالحواس؛ والأولى متقدمة بالطبع، فكيف يصرف عنها النظر؟

المنهج السليم تجميع الظواهر، ثم تصنيفها تبعًا لمشابهاتها، وتعيين قوانينها، أي: شرائط وجودها وفعلها، ثم الارتقاء من الأصناف إلى أسبابها المباشرة التي هي القوى النفسية الصادرة عنها الظواهر، وأخيرًا إلى النفس التي هي منبع القوى ومحلها، كي تتحقق في علم النفس معنى العلم بالإطلاق، وهو معرفة العلل الأولى للأشياء. ولا محيص من الاعتقاد بقوى نفسية، مهما يقل الحسيون والتصوريون، ولنا على ذلك دليلان؛ الأول: أن الظواهر مختلفة بالماهية، ليس التذكر كالتعقل، وليس التخيل كالإحساس، وليست الغريزة كالإرادة، فكيف تردُّ هذه الأصناف إلى أصل واحد، أو كيف يجحد لها الأصل؟ الدليل الثاني: أنها غير واقعة دائمًا بالفعل، ولكنها واقعة أحيانًا متخلفة أحيانًا، ففي حال الوقوع تقتضي سببًا معينًا يحدثها، وفي حال التخلف تقتضي استعدادًا لأحداثها، وإلا كانت إذا حدثت كأنها تحدث عن لا شيء، فيلزم أن أفعالنا تزاول بقوى متميزة هي تارة بالقوة وطورًا بالفعل، هي «كفايات فعلية» قد تظل في حال الكفاية، وقد تخرج إلى الفعل فتبدو فاعليتها للعيان.

أما القوانين التي نحصل عليها في علم النفس، فلا بد من التفرقة بينها وبين قوانين الطبيعة الصامتة من جماد ونبات تفرقة حاسمة: ذلك أن القوانين الطبيعية تنطبق على كل فرد بتمام الدقة، بحيث يمكن اعتبار أي فرد مثالًا للنوع؛ أما في علم النفس، ولا سيما فيما يخص النفس الإنسانية لحصولها على الحرية والاختبار، وكثرة المؤثرات الواردة عليها، وتعقد ظواهرها، واستحالة تكرار ظاهرة بعينها، فنحن مضطرون إلى العدول عن طلب قوانين كلية لا شاذ لها، والقنوع بنسب عامة تقريبية قد لا تكفي أحيانًا كثيرة لتعليل الحالات الجزئية التي تعرض في الواقع، وهذه النسب عبارة عن متوسطات لما يجري في النفس، وليست قوانين بالمعنى الفيزيقي توضع في قضايا كلية أو يعبر عنها بأرقام.

فخلاصة المنهج المشاهدة الباطنة، التي هي الأصل الأول والمرجع الأخير، تؤيدها وتكمِّلها المشاهدة الظاهرة غير أن الماديين وجهوا إلى المشاهدة الباطنة اعتراضًا لو صح لقُضي على علم النفس، نظريًّا على الأقل؛ إذ إنه بالفعل ناجح مزدهر لا نتصور إمكان زواله من بين العلوم. قالوا: ليس من المستطاع أن نلاحظ تفكيرنا ونحن نفكر، فإن الجهد الذي نبذله في المشاهدة يبطل موضوعها أو يفسده، فإذا كنا في حالة غضب مثلًا وأردنا أن نتعرف تفاصيلها، فإنها تتلاشى لساعتها. وإذا عدنا إلى الحالة بعد وقوعها، فإننا حينئذ لا نقع عليها في ذاتها، بل على أثرها في الذاكرة، وقد يكون هذا الأثر ناقصًا أو مشوهًا.

وجوابنا أن الاعتراض ساقط بمحض تكوين علم النفس بالفعل، وقد أمكن هذا التكوين؛ لأن كل ظاهرة وجدانية فهي دائمًا مصحوبة بمشاهدة أولية تلقائية، فإننا لا نفعل إلا ولنا دراية بالفعل والانفعال، وهذه الدراية تبقى في الذاكرة، وهي تعدل الظاهرة ذاتها؛ إذ ليس من المعقول أن تخوننا الذاكرة على الدوام، فتقع المشاهدة المتأملة على صورة من الظاهرة صحيحة تتأملها وتحللها، وما من دليل على سلامة هذه الطريقة أبلغ من تحليلات النفسيين، علماء كانوا أو شعراء أو قصصيين، وتكوين علم النفس بالفعل كما قلنا، ونحن لا نقرأ لهم إلا ونحس في أنفسنا مطابقة أوصافهم لما مررنا به من حالات، ونوقن أنهم عرفوا النفس الإنسانية بدقائقها ونفذوا إلى صميمها.

لقد كان أوجست كونت شيئًا شبيهًا بذلك الاعتراض، وأنكر إمكان انشطار الذهن شطرين؛ الواحد هو الظاهرة المشاهَدَة، والآخر هو المشاهِد، وكشف عن السبب الذي يحدو إلى هذا الإنكار، وهو المادية عينها؛ إذ إنها تقر المشاهدة الباطنة حين تصدر عن عضو إلى عضو أو على آثاره، ولا تقر مشاهدة عضو لنفسه؛ لأن مثل هذه المشاهدة تستلزم انعكاس العضو على نفسه، بحيث يكون المشاهِد والمشاهَد شيئًا واحدًا، كما يدعي القائلون بالروح، ولكن المادة لا تنعكس على ذاتها، بل ينعكس جزء منها على جزء بقدره، وعند أوجست كونت والماديين أجمعين العقل هو الدماغ، فمحال عندهم دراسة الأفعال العقلية بالعقل نفسه. واعتراض منصب بالأكثر على نظرية المعرفة؛ لذا يقول: إن المنطق وما بعد الطبيعة ونقد العقل خيالات وأوهام؛ ولذا لم يفسح مكانًا لعلم النفس في تصنيفه للعلوم الأساسية، فنعود ونقول: إن هذا العالم قائم بالفعل، وإن قيامه دليل على إمكان الانعكاس أو الانشطار شطرين، ودليل من ثمة على روحانية العقل.

أجل إن مشاهدة الباطنة أمر عسير؛ إذ هي تقتضي أولًا قسطًا وافرًا من العلم يحمل على توجيه الاهتمام إلى ما يجري في الوجدان وطلب تعرفه، فإن هذه الفكرة لا تخطر ببال الطفل أو الرجل الجاهل أو المتوحش، وإن هي خطرت فلا يكون نصيبها إلا الإخفاق. ثم إن الوجدانيات من الدقة والسرعة والتنوع والتشابك بحيث تستلزم أيضًا إخلاء الذهن من كل شاغل، والاستغراق في تأملها بانتباه حاد متصل، وبراعة كبيرة في التمييز والتحليل، وهذه مجهودات أو مواهب لا تتفق إلا للقليل من الناس وجلُّهم مأخوذ بالعالم الخارجي. ولكنها على كل حال ميسورة لكثيرين، وليست هي مصدر الأخطاء في علم النفس، وإنما هي التفسير والتأويل، إلى الوجهة الفلسفية وما يشرف عليها من مذاهب.

(٣) أصالة الحياة الوجدانية

ولنا مع الماديين شوط آخر في محاولتهم رد الحياة الوجدانية إلى الحياة البدنية، كما يردون هذه إلى القوى الفيزيقية الكيميائية. يبدءون حجتهم بما هو معلوم من أن الحياة الوجدانية إنما تظهر في الأحياء الحائزين على جهاز عصبي، وإنما ترتقي وتتنوع بارتقائه وتكثر مراكزه، وإذا تعطل كله أو أحد أعضائه الهامة انطفأت أو اضطربت، كما ينطفئ النور أو يختلج إذا عطب المصباح. ثم يدعون أنها نتاجه، وعلى الخصوص الدماغ، تصدر عنه كالهضم عن المعدة، والتنفس عن الرئتين، والدورة الدموية عن القلب سواءً بسواء. فإذا صحت هذه الدعوى كان الجهاز العصبي علة، وكانت الحياة الوجدانية معلولة له، وكانت هي والحياة البدنية من نوع واحد تابعة لها خاضعة كل الخضوع لقوانين المادة الصرف. وهم يكدسون الشواهد على تبعية الوجدان للبدن، فيذكرون تأثير الغذاء والمنبهات والمخدارت، وأن الخلق يتقوم إلى حد كبير بالمزاج البدني؛ وبكيفية تأدية الوظائف لأفعالها؛ وأن الذكاء يظهر بالتأثير في الغدد أو بجراحة في الدماغ؛ وأن التشريح المقارن يبين أن نمو الحياة الذهنية في مختلف الأنواع الحيوانية هو بنسبة عدد تجاويف الدماغ، وبنسبة ثقل الدماغ بالقياس إلى ثقل البدن؛ وأن علم الأمراض الذهنية يدل على تناقص الحياة الوجدانية بالإعياء البدني وبالجروح الدماغية، مثلما يبدو في أمراض الذاكرة وأمراض الإرادة؛ وإن بتر الدماغ يدع الحيوان وليس له سوى الآلية.

هذه العلاقة بين الحياتين؛ الذهنية والبدنية، لا تنكر. ولكن الذي ينكر هو تأويل الماديين لها، فقد يكون البدن شرطًا للحياة الوجدانية لا علة مكافئة لها، وقد يكون للحياة الوجدانية بدورها تأثير في الحياة البدنية. وسنذكر الشواهد على هاتين القضيتين، فنبين أصالة الحياة الوجدانية، وأن تبعيتها للبدن خارجية فقط. نبدأ بشواهد القضية الثانية فإنها أسهل تناولًا، وتعتبر الجواب المباشر على الحجة المادية، فنقول: إذا كانت الحياة الوجدانية متعلقة بالبدن، فإن تأثيرها فيه يربو على تأثرها به. كيف تكون عرضًا طارئًا على الجهاز العصبي وكل تصور فهو يحاول أن يترجم عن نفسه بالحركة ويتحقق في الخارج؟ إن حركة الصور هذه قانون عام تلزم عنه نتائج كثيرة مذكورة في كتب علم النفس. ثم بالعمل العقلي يتوارد الدم إلى الدماغ، ويُحدث هذا التوارد تلفًا فيه؛ ويتضاءل المجهود العضلي، وتسوء الصحة عامة. وأيضًا للانفعالات، وبخاصة المفاجئ منها، أثرٌ بدني قوي: فالحزن يقسم ويهزل، والفرح ينشط وينعش، والخوف يهز البدن كله ويورث بعض الأمراض. وأيضًا معظم أفعالنا معين بالإرادة إلى حد السيطرة على الغرائز والعادات، ووقف الأفعال المنعكسة. وأيضًا ليست تقتصر فاعلية الحالات الوجدانية على ما يغايرها من أعضاء البدن والأشياء الخارجية، بل تتناول فعل حالة في حالة: كفعل الصورة في الفكر وفي العاطفة وفي الحركة، وفعل الفكرة في توليد اليقين وبث العزم. وأيضًا بالمعرفة نضيف إلى وجودنا الذاتي صور الأشياء المعروفة، فنجاوز حدودنا الجسمانية إلى سعة الكون نغذي عقلنا بعجائبه ونستمتع بجماله؛ وإذا اقتنعنا بتمايز الروح من المادة، وبعلو الروح على المادة، فأخذنا بالفضائل أسباب الكمال الروحي، رأينا أنفسنا نقهر البدن على الانصياع لمقتضيات ذلك الكمال، بل نضحي بحياتنا في سبيله، كما فعل ويفعل كثيرون جدًّا من الصالحين والمتصوفين في مختلف البلاد ومختلف العصور. فأي دلائل أقوى من هذه على ثبوت الحياة الوجدانية، وتواضع الحياة البدنية بإزائها، سواءٌ من حيث الأثر الفعلي ومن حيث القيمة الذاتية؟! الحق أن تعسف الماديين يبلغ هنا إلى الحد الأقصى المغني بظهوره عن المناقشة والتدليل.

ولكنا نمضي في التدليل والمناقشة بغية تبديد جميع شبهاتهم والإقناع العالي على كل شك، لأهمية المسألة من الوجهة النظرية إذا كنا طلاب حق، ومن الوجهة العملية أو الأخلاقية إذا كنا طلاب فضيلة. فلننظر فيما للحياتين من صفات ذاتية متعارضة، بعد أن نظرنا في تفاعلها، فيحتم علينا هذا التعارض الإقرار بتمايزهما وحصول وجود خاص لكل منهما. إن الظواهر البدنية أو الفسيولوجية متحيزة خاضعة للمقاس، بعضها بالنسبة إلى بعض يمين ويسار، فوق وأسفل، أمام وخلف. أما الظواهر الوجدانية فليست ممتدة ومتحيزة لما بينها وبين المادة من تغاير ظاهر، كالذي بين الجرح أو الحرق وبين الألم الناتج عنهما؛ ولا تجزأ إلى وحدات تشغل أمكنة متخارجة؛ ولا تقاس، وكل ما لها في باب المقاس شدة أو قوة نقدرها تقديرًا اعتباريًّا ولا نقيسها كالكمية، وما مقاس الحالات البدنية المقارنة لها إلا وسيلة بعيدة لتعرف مبلغ الشدة، وما امتداد بعض منها وتحيزه، كالجرح أو الحرق، سوى حالة عرضية لارتباطها بالجزء المصاب من البدن. فالظاهرة الوجدانية التي من هذا القبيل وحدة ذات وجهين، وجه عضوي ووجه وجداني.

هذا الإصرار على جمود أصالة الحياة الوجدانية، وعلى اتباعها للحياة البدنية اتباعًا مطلقًا، نتيجة محتومة للمادية الآلية: فإنها تستند إلى مبدأ قائل: إن كل حركة في العالم فهي لازمة عن قوى سابقة، وتستنتج منه أن الأفعال الإنسانية لازمة عن الحركات الكونية، وأن المتنوعات صادرة عن تجانس أصلي، فيتعين القول بأن الإحساسات تتركب من «صدمات عصبية» تتكرر بعينها، كالإحساس البصري أو السمعي، فإنه يقابل آلافًا من الذبذبات الخارجية تؤثر في العصب البصري أو السمعي وتنتج الإبصار أو السماع. هذه نظرية «وحدة تركيب الذهن» — على حد تعبير سبنسر — تجعل من الحياة الوجدانية معلولًا للجهاز العصبي وعرضًا طارئًا عليه. وهي نظرية ساذجة مصطنعة والاعتراضات عليها تتوارد إلى الخاطر بكل سهولة:
  • فأولًا: إنها تعني أن في كل إحساس موعٍ إحساسات أولية غير موعية بعدد الذبذبات الصادرة عن المؤثر. ولكن الإحساس يبدو لنا وحدة بسيطة غير متجزئة، وليست تكون الظاهرة الوجدانية مركبة إلا إذا بدت كذلك للوجدان؛ هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ليس يعقل أن تكون غير موعية دائمًا وبالطبع؛ وإذا سلمنا بذلك جدلًا يبقى أن نفهم كيف تصير موعية لمحض تعددها: أليس هذا يعدل قولنا: إنا إذا جمعنا عددًا كافيًا من الأصفار حصلنا على واحد صحيح؟
  • ثانيًا: إن الإحساسات مختلفة موضوعًا، فكيف تختلف وأصلها صدمات بعينها لا اختلاف بينها؟ من الممكن أن تثير الظواهر البدنية ظواهر وجدانية، وليس يمكن أن تخلقها من عدم.
  • ثالثًا: إن العالم الفسيولوجي بما هو كذلك لا يبلغ في بحثه إلى الإحساس واللذة والألم والرغبة والإرادة، لما بينها وبين موضوعات علمه من تباعد وتباين؛ وكل من يقتصر على مشاهدة أحواله الباطنة يجهل أن له أعصابًا ومخًّا لنفس السبب.
  • رابعًا: إن الجمع بين الصدمات العديدة وتركيبها في إحساس واحد يتطلب تفسيرًا، فأين هو؟
  • خامسًا: من غير المعقول أن نعترف للدماغ بما يزعمون له من قوة سحرية تحوِّل الحركات المتواردة عليه إلى أفكار وعواطف؛ إن التغيرات العصبية تؤلف سلسلة لا تتخللها حالة وجدانية، والحالات الوجدانية تؤلف سلسلة لا تتخللها حالة عصبية، ولا تكشف عن وجود الدماغ.

فعلى ذلك يجب الإقرار للحياة الوجدانية بالأصالة في الوجود وفي الفعل، وبانفراد طبيعتها عن طبيعة الحياة البدنية، إن الردود المتقدمة على أقوال الماديين تؤلف برهانًا دافعًا وإن يكن سلبيًّا. وهناك برهان إيجابي يؤيده أقوى التأييد ببيان خصائص للحياة الوجدانية هي الأصل العميق للخصائص الظاهرة التي استمددناها من المشاهدة، وهي: المعرفة، والنزوع أو الإرادة، والنقلة الذاتية، ونوع من المعرفة هو الوجدان أو الشعور يتناول الحياة الباطنة على اختلافها.

المعرفة تمثل الذهن لموضوع، فمتى أثَّر الموضوع في إحدى القوى العارفة طبع فيها صورته فصار معروفًا. فالموضوع المعروف متحد بالقوة العارفة بصورته لا بمادته: ليس الحجر المرئي هو الذي في العين، بل صورة الحجر؛ وليست الصورة هنا شبهًا ماديًّا كالذي يرتسم على الشبكية وليست هي المعروفة أولًا، والوجدان يشهد أن ما نعرفه مباشرة ونلتفت إليه أولًا هو الموضوع لا صورته، وأن الصورة تعرف بالتفكير في المعرفة ومتقضياتها؛ فالحجر في البصر «معنويًّا» بحصول معناه فيه، أو «قصديًّا» لاتجاه قصد العارف إلى المعروف. فالعارف يقبل صورة المعروف مجردة عن مادته، كالعين مثلًا لا تتلون بقبول اللون، بل يحصل فيها معنى اللون، أو كالعقل يعرف أشياء كثيرة متباينة ويظل هو هو، بخلاف العين المصفرة بالمرض، فإنها ترى الأشياء صفراء. فبالمعرفة يزيد العارف على صورته الخاصة صور الأشياء المعروفة، فإنها تحتفظ فيه بماهياتها ومغايرتها له، خلافًا لغير العارف، كالجماد والنبات، فإنه إذا قبل شيئًا قبله بمادته ولا يستبقي له غيريته بل يحيله إلى ذاته، كما يحدث في الاغتذاء والتمثيل. فالنبات محروم من قوة المعرفة بسبب ماديته التامة المانعة لقبول الصورة، بينما الحس له تلك القوة بسبب قابليته للصور؛ وللعقل قوة أعظم لكونه أكثر تجردًا عن المادة، وأقدر على قبول الصور المنوعة، فغير العارف محصور في حدود وجوده، والعارف مجاوز لكيانه، حتى ليصير على نحو ما جميع الأشياء، على حد تعبير أرسطو.

فالمعرفة فعل باطن قارٌّ في القوة العارفة، حسًّا كانت أو عقلًا، لا يتعداها إلى شيء آخر. والباطنية هنا غير باطنية أفعالنا البدنية في داخل البدن؛ فإن هذه الأفعال، وإن تكن محجوبة عادة عن الحواس الظاهرة، إلا أنها معروضة لها كلما سمحت الحال؛ ومهما دقت فإن آلاتنا تكشف عنها؛ على حين أن باطنية الوجدانيات أكثر عمقًا من أن تتناولها الحواس، ولا تدرك إلا بالوجدان. وليست معرفة حالات الغير من الملامح والتغيرات البدنية التي تنم عنها معرفة وجدانية، وإنما هي استدلال بالدال على المدلول. فعلى الماديين أن يتدبروا هذا الفرق الجسيم بين هذين النوعين من الباطنية، فإنهم يتصورون باطنية المعرفة على مثال الباطنية المادية، فيقول أحدهم: إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء، ويمثل آخر بالمعدة والهضم، وآخر بالرئتين والتنفس، مما لا معنى له ولا أصل لتغاير الحدين تغيرًا كليًّا، بحيث لو فرضا أننا أحطنا علمًا بخلايا الدماغ وحركاتها جميعًا، لما أفادنا ذلك شيئًا في معرفة الحالة الوجدانية المقابلة لتلك الحركات؛ قال ليبنتز: «إننا مضطرون للإقرار بأن «الإدراك» وما يتعلق به لا يفسَّر بأسباب آلية، أعني بأشكال وحركات. وإذا افترضنا آلة تجعلنا نفكر ونحس، فلن نجد فيها سوى قطع يدفع بعضها بعضًا، ولا نجد قط ما يفيد في تفسير الإدراك، وإنما يجب التماسه في الجوهر البسيط.» أي في النفس.١

المعرفة ممتنعة إذن على المادة الصرف، والمسألة لا تحتمل الشك أو الترجيح كما ظن لوك؛ لأن قبول الأشياء بصورها دون مادتها يقتضي في العارف وفي المعروف ضربًا من الروحانية أو الاستقلال عن المادة قليلًا أو كثيرًا: ففي المعروف يقتضي أن يكون له صورة يطبعها في العارف طبعًا معنويًّا أو قصديًّا؛ وفي العارف يقتضي أن يكون له صورة تقبل الانطباع الصوري وتدركه؛ أما المادة فتقبل بحسبها هي، فلا تتحقق معرفة الموضوع كما هو، وكلما كانت اللامادية أتم كانت المعرفة أوسع وأكمل.

والمعرفة تبعث في العارف ميلًا إلى الشيء المعروف إذا كان خيرًا أو لذيذًا أو نافعًا، وميلًا عنه إذا كان شرًّا أو مؤلمًا أو ضارًّا. وهذا هو النزوع أو الإرادة، يتجه إلى الملائم، وينصرف عن المنافر، والوظيفة واحدة؛ إذ إن الانصراف عن المنافر هو في الحقيقة طلب للملائم، أو إن طلب الملائم هو السبب في الهرب من المنافر، فالنزوع إما شهوة تميل إلى الخير، أو غضب يميل إلى مدافعة ما يمنع الخير أو يجلب الضرر، وقد تتجشم النفس الألم على خلاف ميل الشهوة؛ لكي تدفع الضار على مقتضى ميل الغضب. فالغضب بمثابة حامٍ للشهوة ومدافع عنها. ومبدأ آلام الغضب من آلام الشهوة ومنتهاها إليها. والنزوع مشترك بين الكائنات جميعًا، فهو أعم من المعرفة؛ إذ ليس كل كائن بعارف. ولكن كل كائن نازع طبعًا إلى الفعل وفقًا لصالحه. ففي غير العارف الميل فطري موجه إلى فعل واحد وموضوع خاص كما رسمت الطبيعة في صورته، فهو يتحرك إلى غايته دون أن يعرفها، كالعناصر الكيميائية يأتلف كل منها بعنصر معين بمقدار معلوم، وكالنبات يؤدي وظائفه الحيوية، ويتوجه إلى الضوء والحرارة؛ لأن فيه ميلًا إلى النمو والازدهار، وكالحيوان والإنسان حين يقومان بوظائفهما المختلفة في الحياة البدنية، فهما يشتركان في هذا الميل الفطري من حيث هما مادة أو طبيعة غير عارفة، ويزيدان عليه ميلًا إراديًّا مقابلًا للصور الحاصلة لهما بالمعرفة، حين ترى فيها الحواس أو يحكم العقل أنها خير يطلب أو شر يُجتنب.

إدراك الخير والشر يثير في النفس انفعالات أو عواطف شهوانية وغضبية مصحوبة برد فعل في البدن. وهي تترتب على الوجه الآتي؛ الانفعالات الشهوانية: أولًا وبالنسبة إلى الخير: المحبة، وهي الميل إلى الخير في ذاته، والشوق وهو الميل إلى الخير الغائب، واللذة وهي السكون في الخير الحاصل؛ ثانيًا وبالنسبة إلى الشر: البغض وهو الميل عن الشر في ذاته، والكراهية وهي الميل إلى الشر الغائب، والألم وهو الاضطراب للشر الحاصل. والانفعالات الغضبية: أولًا وبالنسبة إلى الخير الغائب: الرجاء أو اليأس؛ ثانيًا وبالنسبة إلى الشر الغائب: الجرأة أو الخوف؛ ثالثًا وبالنسبة إلى الشر الحاصل: الغضب. والانفعال ظاهرة مشتركة بين الوجداني والبدني، بحيث لو حاولنا أن نجرد شعورنا من الأعراض البدنية لما تبقَّى لنا سوى فكرة الانفعال: هل يمكن تمثل الغضب دون فوران الدم وتلون الوجه، وانفراج المنخرين وصرير الأسنان، أو تمثُّل الحزن دون انقباض القلب، وتساقط الدموع وتصعُّد الزفرات، أو تمثل الخوف دون الرعشة ودق القلب وعسر التنفس؟ هذا الاتحاد بين الوجداني والبدني في الانفعال مثال للاتحاد بين النفس والجسم على العموم؛ ولا يمكن القول بأن الحياتين متوازيتان، وأن هناك سلسلتين من الظواهر متقابلتان، فإن هذا التقابل نفسه يتطلب تفسيرًا، وشهادة الوجدان صريحة بأن الإنسان كائن واحد هو هو الذي يغتذي ويحس ويعقل.

وللكائن العارف حواس تدرك الأشياء البعيدة، وله إلى هذه الأشياء نسبة موافقة أو مضادة؛ لذا كان له قوة محركة إما لطلبها أو للهرب منها، بخلاف الجماد الذي يتحرك من خارج دون فعل ذاتي، وبخلاف النبات الذي لا نقلة له البتة. وللقوة المحركة أعضاء انفعالية هي العظام، تستند عليها وتبعثها على الحركة، وأعضاء فاعلية هي العضلات المنقبضة والمنبسطة المتحركة من الأعصاب. وهي تستخدم الطاقة الكيميائية المختزنة بالتغذية؛ وقد لا تستطيع استخدامها في حال الشلل مع وجود انفعال باطن، أو بالأحرى فكرة الانفعال، مما يدل على تمايز القوتين. وحركات القوة المحركة ترجع إلى ثلاثة أنواع: الأول الحركات المنعكسة، وهي انقباضات العضلات والغدد ناشئة مباشرة، دون تدخل فعل إرادي، من تأثير عصبي إما باطن أو واقع على أديم البدن، وهذه هي الآلية الفسيولوجية. النوع الثاني: الحركات الناشئة من الغريزة. النوع الثالث: الحركات الإرادية الناشئة عن معرفة ونزوع، ومنها حركات العادات المكتسبة تدريجًا في الإنسان والحيوان.

أفعال المعرفة والنزوع والنقلة معروفة بالوجدان، وهذه المعرفة أوثق اتصالًا بموضوعها منها بالموضوعات الخارجية والداخلية؛ لأنها عبارة عن معرفة الوجدان لنفسه، فهي «علم حضوري»، أي: «حصول العلم بالشيء بدون حصول صورته في الذهن، كعلم زيد لنفسه».٢ والمعرفة الوجدانية إما أولية تلقائية أثناء حدوث الفعل، فإن الذي يعلم شيئًا يعلم بالضرورة في نفس الوقت أنه يعلم؛ أو معرفة إرادية تفكيرية مروية بعد حدوث الفعل، وبهذا المعنى يطلق الوجدان كأنه جملة الأفعال أو محلها، وكأنه قوة مدركة للأفعال. ويقال: إنه في جريان متصل كماء النهر، يمضي من حال إلى حال ولا نستطيع وقفه ما دمنا في اليقظة، بل لا يخلو النوم من صور تؤلف الأحلام؛ وإن اتصال جريانه يبدو، ليس فقط فيما يجرف من معانٍ وصور وأفعال، بل أيضًا وبنوع خاص في «حالات متعدية» états substantifs من حد إلى آخر هي بمثابة «تيار الوجدان» أو روابط بين موضوعاته états substantifs كالعطف والجر والاستدراك بلكن أو بلو، وخفض الصوت أو رفعه بحيث تعبر جملة بعينها عن استفهام أو عن خبر، ونية قول شيء أو فعل فعل. ومن هنا فرق في المعرفة الوجدانية الأولية بين الإنسان والحيوان، فهي في الإنسان أدق وأوسع يمكن أن تصير مروية بأهون سبيل؛ وفي الحيوان هي قاصرة على شعور وقتي منحصر في حالة حاضرة، غير متحول إلى الروية لعدم قدرة الحيوان على الانعكاس على نفسه لتأمل الموضوع الباطن صراحة كموضوع معرفة، وهذه القدرة خاصة بالإنسان، وليست توجد الروية إلا فيه.

هل يفهم من هذا أننا نشعر بالنفس وبكل ما فيها؟ هكذا زعم ديكارت، فإنه لما عرَّف النفس بأنها جوهر مفكر ليس غير، لزمه أنها تشعر بجميع أحوالها منذ أن يخلقها الله في الجنين، ما دامت ماهيتها الفكر، والماهية ثابتة لا تتغير، ولو أن هذا الشعور قد يكون غامضًا أحيانًا، كما هو الحال في النوم، لكن ليس يوجد فكر غير مشعور به: بل زاد على ذلك أنها تعرف وجودها وماهيتها معرفة مباشرة، وأن معرفتها هذه أيسر عليها. وأوكد لديها من معرفتها لجسدها فضلًا عن سائر الجسميات.

والمحقق — مهما يقل ديكارت وأتباعه — أن النفس لا تعرف وجودها إلا في أفعالها، ولا تعرف ماهيتها إلا بالاستدلال من هذه الأفعال، وأنها لا تشعر بما فيها من ميول واستعدادات وملكات، ولا بالصور المحفوظة في المخيلة والذاكرة، ولا بالمعاني المحفوظة في العقل، إلا بالتي تحضر صراحة في الذهن، مع أن هذه المكنونات حالات لها حقيقية. كذلك لا تشعر بالكثير من طرق أفعالنا، كطرق الإحساس والإدراك الظاهري، وتداعي الصور والمعاني، وتكوين المعاني المجردة، فتلجأ في تعرفها إلى التفكير والتحليل، وإذن فقوانا وقسم كبير من أفعالنا غير داخلة ابتداءً في نطاق الشعور، وقسم آخر لا يدخل في هذا النطاق إلا بعد أن يختمر ويتَّضح في اللا شعور، على ما يبدو في هذا القول من تناقض: فكم من موضوع نكف عن التفكير فيه ثم يظهر معدلًا مزيدًا، والشواهد كثيرة جدًّا في الحياة العادية، وعلى الخصوص في المسائل العلمية والفنية؛ وكم من محبة أو كراهية لأشخاص وأشياء تتولد من أسباب لا شعورية تؤثر فينا ونحن لا ندري.

والذي يهمنا من مسألة اللاشعور هذه أنها تعرض علينا فكرة القوة المقابلة للفعل على أجلى ما تكون؛ فإن المكنونات الخافيات التي أشرنا إليها وأمثالها محفوظة في النفس بالقوة، وما بالقوة غير مشعور به في ذاته، ولا يعرف إلا بأثره حال خروجه من القوة إلى الفعل؛ وهذا حال النفس الإنسانية، فإنها كما قلنا لا تعرف وجودها إلا إن عملت وأدركت ذاتها عاملة، ولا تعرف طبيعتها، أي إنها عاقلة بسيطة روحية خالدة إلا بتحليل أفعالها. فليست فكرة القوة فكرة خيالية من اختراع أرسطو والمدرسيين، كما يدعي ديكارت وكثير غيره؛ إنها واضحة كل الوضوح في التغيرات الطبيعية، وأوضح ما تكون في تغيرات النفس؛ فما إنكارها إلا مكابرة في الواقع المعروض للمشاهدة ظاهرة وباطنة، وفي حكم العقل على التغير بالإجمال.

وجملة القول: إن المعرفة والنزوع والنقلة والشعور، أربع خصائص كبرى لا نظير لها في الحياة البدنية، بل لا أصل بالغًا ما بلغ من الصغر والدقة، ومنها تتبين أصالة الحياة الوجدانية، وتهافت المذهب المادي بمختلف صوره.

(٤) الإحساس

هو أول عناصر الحياة الوجدانية، أعني أن أول معرفة تدخل إلى النفس هي معرفة حسية، وأول انفعال تتأثر به صادر عن مثل هذه المعرفة. فالإحساس هو الفعل الذي به يدرك الحس الظاهر موضوعه؛ وهو أيضًا التأثر اللاذ أو المؤلم المصاحب لذلك الإدراك، والناشئ من تأثير الموضوع على الحاسة. ولكن الأفضل الدلالة على كل من المعنيين بلفظ خاص، فنقول: «انفعال» للمعنى الثاني. وكثير من الألفاظ يطلق هكذا على معنيين أو جملة معانٍ، فينزلق الفكر إلى أغلاط قد تجر وراءها أحيانًا أغلاطًا جسيمة؛ مثلما يقال «الإدراك والتخيل والتذكر والعلم والمعرفة» ويراد بها فعل الشخص أو موضوع هذا الفعل، ويظن التصوريون أن الفعل ما دام ظاهرة وجدانية صادرة عن الشخص ومستقرة فيه، فالموضوع ظاهرة وجدانية كذلك لا حقيقة له في الواقع.

والواقع بالنسبة إلى الإحساس، أن للحواس موضوعًا مشتركًا هو الشيء المادي البادي لها بجميع مشخصاته، وأن لكل حاسة وجهًا معينًا من أوجه الشيء المادي، تدركه بعضو مادي يصل بينها وبين الشيء، ولا تدركه حاسة أخرى بهذا الاعتبار؛ لأن العضو جهاز خاص معد لقبول الموضوع يمتد منه عصب إلى مركز دماغي، قال ابن سينا: «المحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس، فتنطبع فيها، فتدركها القوة الحاسة.»٣ ويسمى موضوع الحاسة بالكيفية. ولنا من الحواس بقدر ما ندرك من كيفيات محسوسة متمايزة بالنوع، ومعلوم أنها اللون والصوت والرائحة والطعم والصلابة والحرارة والبرودة. وللإحساس ثلاث مراحل: مرحلة فيزيقية كيميائية، وهي التأثير الخارجي والتغير الناتج منه في العضو؛ ومرحلة فسيولوجية، وهي مجاوبة العضو وتأثر الجهاز العصبي؛ ومرحلة وجدانية، وهي الإحساس بمعنى المعرفة والإدراك، وبين المعرفة أو الإدراك، والتأثر أو الانفعال، نسبة عكسية: فإذا كان الانفعال قويًّا أضرَّ بالإدراك؛ فلكي يكون الإدراك تامًّا ينبغي أن يكون التأثير الواقع على الحاسة متناسبًا، وأن يكون الانفعال معتدلًا.

وتثير مسألة الإحساس مسائل علمية وفلسفية تضاربت فيها الآراء. لا نستقصيها جميعًا، بل نقتصر على أهمها، وبخاصة من الوجهة الفلسفية.

فنعرض أولًا لتشكيك التصوريين على اختلافهم في وجود موضوعاته، أي الكيفيات المحسوسة، فإنهم يقولون: لا يوجد في الخارج مقابلات لها شبيهة بها، وكل ما يمكن التسليم به، جدلًا إن لم يكن اعتقادًا، فهو أن في الخارج حركات، أو على الأكثر أسبابًا غير شبيهة بالكيفيات، ولكنها تترجم بها فينا. نقول: نعم إن وجود الكيفيات مرتبط بالحركة، ولكن الحركة حاملة لها فقط، وليست وإياها شيئًا واحدًا؛ بل إن الحركات المقابلة لها تختلف اتجاهًا وسرعة، ولا يفسر هذا الاختلاف إلا بوجود الكيفيات وتمايزها فيما بينها كما تبدو في الوجدان، فالحركة مسبوقة بالكيفية معلولة لها، وهم يعكسون الآية. ولنا عليهم ردود قاطعة نجملها فيما يلي:

لكل ظاهرة وجدانية مضمون لولاه ما حدثت. هذا المضمون مستفاد من شيء حقيقي مغاير للوجدان وللظاهرة الوجدانية، وهو الذي يثير الوجدان إلى الفعل. إن انتباه الإنسان يتجه أولًا إلى الخارج ولا يتجه إلى الوجدان إلا بعد ذلك؛ وسبق الخارج شرط تأثيث الذهن، وإلا فمهما انعكسنا على نفسنا فلن نجد في الذهن شيئًا. فمن التعسف المحض أن يراد بنا الاحتباس في الوجدان وقطع كل صلة بالواقع. فإن المعطي لنا منذ أول الأمر هو الإنسان كله، لا الذهن من ناحية، والبدن وانفعالاته من ناحية أخرى؛ فتسمية الذهن أو الوجدان وحده بالأنا، وتسمية البدن باللاأنا، انقياد للتصورية لا سند له. واعتبار الظواهر الوجدانية وحدات قائمة بأنفسها، ثم التساؤل: كيف تركب فكرة الشيء أو الموضوع، هذه مسألة زائفة، وهذه فلسفة تصورية. كيف لا يعلمون أن مذهبهم هذا يجعل مدار العلوم على الصور الذهنية فقط، لا على أشياء واقعية، فتسقط قيمة العلوم، فتصبح تطبيقاتها في صوالحنا لغزًا من أغمض الألغاز، وكيف لا يعلمون أن مذهبهم يستتبع أن كل ما يعلم فهو حق عند الذي يعلمه، وأن المتناقضات صادقة معًا، من حيث إنه إذا كان الذهن لا يدرك سوى تصوراته، فهو يدركها كما يستطيع، غير عابئ برأي الغير، غير معتمد على أصول يرجع إليها، فيصبح كل من الأذهان المختلفة عمدة نفسه. فلا مناص من الإقرار بأن الشيء ذاته هو المعقول أولًا، وأن صورته معقولة ثانيًا بالانعكاس على تعقله الأول.

نضيف إلى ما تقدم أن صدق الحواس من البداهة والبيان بحيث لا يفتقر إلى برهان، ولا يقام عليه برهان. أما أنه لا يفتقر إلى برهان؛ فلأن إنكاره إثباته؛ إذ إننا نرى الأعضاء مركبة تركيبًا دقيقًا عجيبًا متناسبًا مع التأثيرات، فندرك أنه كان يكون عبثًا لو لم تكن الحواس مرتبة للموضوعات الخارجية بالطبع رامية إليها بالطبع، وليس من المعقول أصلًا أن يذهب العبث أو تذهب المصادفة إلى هذا الحد. وأما أن لا يقام عليه برهان؛ فلأن كل برهان إنما يقوم على صدق التجربة، ظاهرة وباطنة، فإذا تشككنا في هاتين التجربتين استحالت علينا كل برهنة.

وأخيرًا نتخذ دليلًا عليهم من تناقضهم وتهافتهم، فإنهم يعللون الإحساسات إما بفعل النفس أو بفعل الله: ولكن النفس تشعر أنها منفعلة في الإحساس، فليست هي صانعة الإحساس، وإلا كنت تحس ما تريد، وهذا مخالف للواقع. وإذا كانت الإحساسات صادرة عن الله، فالوجدان يدركها كأنها صادرة عن الأشياء ذاتها، وهذا خداع بلا شك، وخداع قاهر يجعلنا نصدق بوجود الأشياء فنسعى إلى بعضها ونهرب من بعض آخر؛ ولقد كان من اللائق بالله أن يوحي إلينا في نفس الوقت أنها صادرة عنه تعالى. ثم نلاحظ أن ديكارت يسلم بوجود العالم بسبب الصدق الإلهي، مع أن وجود الله يستفاد من النظر في العالم، وهذا دور منطقي. والناس يقعون في أخطاء كثيرة والله يسمح باغترارهم، فكيف نثق بصدقه؟ ويعتقد مالبرانش بوجود العالم بناءً على شهادة الكتاب المقدس، والكتاب معلوم لنا بالتجربة الحسية. ويذهب باركلي إلى أن الله يلقي في أنفسنا معاني الأجسام، والمذهب التصوري الذي يعتنقه يقول: إننا لا ندرك سوى تصوراتنا، فكيف لم يَرَ أن الاعتقاد بوجود الله مجاوزة للتصور كالاعتقاد بوجود العالم سواءً بسواء؟

ومن أمثلة تطبيق المذهب التصوري في علم النفس وفي مسألة الإحساس هذه، نظرية تُدعى الطاقة النوعية للأعصاب، ومؤداها أن الكيفيات المحسوسة آتية من الأعضاء أنفسها لا من المؤثرات، وأن الإحساسات ترجع إلى الوحدة من جراء وحدة تركيب العالم من مادة وحركة، أي إن الأعضاء الحاسة يجاوب كل منها دائمًا على نحو واحد أيًّا كان المؤثر الخارجي؛ فسواء أقرصت الشبكية أو ضغطت أو تأثرت بموجات ضوئية أو صدمة آلية أو ضربة قوية على العين أو تيار كهربائي، فإن كل سبب من هذه الأسباب يحدث في العصب البصري إحساسًا ضوئيًّا؛ والتيار الكهربائي إذا وقع على العصب السمعي أحدث إحساسًا سمعيًّا، أو على البشرة أحدث إحساسًا لمسيًّا، أو على اللسان أحدث إحساسًا ذوقيًّا؛ واستنتجوا من هذا أن إحساساتنا المختلفة لا يقابلها شيء في الخارج.

نلاحظ أولًا أن الأكمه لا يرى ضوءًا إذا هيج عصبه البصري، وأن هذا حال كل فاقد حاسة منذ الأصل، فإنه فاقد الإحساسات والصور المقابلة لها والتي تظهر عادة عند التأثير؛ فليست المجاوبة النوعية فطرية في الأعصاب أو المراكز الدماغية، ولكنها مستحدثة بفعل الأعضاء الظاهرة التي هي مخصصة ومنوعة بتركيبها الخاص وبالتأثيرات المتفقة معها، أي بالكيفيات الخارجية؛ وبهذه المجاوبة تفسر المجاوبة النوعية على التأثير المخالف للعضو الحاس، أي بالعادة التي اتخذتها الأعصاب والمراكز الدماغية بالمجاوبة النوعية على التأثيرات المتفقة مع العضو الحاس. وعلى ذلك فحواسنا محتفظة بكل قيمتها؛ وفي الحالات العادية تجاوب وفقًا لطبيعتها على تأثيرات متفقة معها.

وأراد بعض العلماء أن يقيسوا النسبة بين التأثير والإحساس، بل أن يقيسوا الإحساس ذاته، إذ لاحظوا أن الإحساس الطبيعي الجلي يتولد عن تأثير معتدل القوة هو حد بين حدين: أحدهما حد أدنى لا يحس لضعف التأثير، والآخر حد أقصى لا يحس كذلك لفرط التأثير؛ وبين الحدين مجال للزيادة التدريجية. أرادوا أن يطبقوا المقاس هنا أسوة بتطبيقه في علوم المادة، غير حاسبين الحساب الكافي لطروء النفس على بدن الحيوان والإنسان، ولاختلاف الحدين باختلاف الحواس والأشخاص وقوة أعضائهم وحالتهم المعنوية، فلم تفلح الجهود التي بذلت في هذا السبيل. من المعروف المعقول أن مصباحين يضيئان أكثر من مصباح واحد، وأن صوتين يدويان أكثر من صوت واحد، وأن الجهد الذي نبذله في رفع أقة أكبر من الإحساس الذي نشعر به عند رفع رطل، وقس على ذلك. ولكن من المشاهد أيضًا أن كل زيادة في المؤثر لا تقابلها زيادة في الإحساس؛ فمثلًا إذا أضفنا نصف رطل إلى نصف رطل أحسسنا به، ولا نحس بنصف الرطل إذا أضيف إلى قنطار. وإذا ضاعفنا عدد المغنين في قاعة ضاعفنا الصوت ولم نضاعف قوة الإحساس به. فالواقع أن قوة الإحساس لا تتبع في تزايدها تزايد كمية المؤثر، بل إنها أبطأ منها. وما يقال في التزايد يطلق أيضًا على التناقص.

اصطنعوا طريقتين: إحداهما سميت الطريقة النفسية الفيزيقية psycho-physique؛ لأن الغرض منها قياس المؤثرات من جهة، وملاحظة الإحساسات الناجمة عنها من حيث القوة والضعف من جهة أخرى. والمشهور بهذه الطريقة العالم الألماني فيبر welber (١٧٩٥–١٨٧٨). وقد خرج من تجاربه بهذه النتيجة وهي: أن ما تجب إضافته إلى المؤثر لإحداث فرق في الإحساس هو بنسبة مطرد إلى كمية المؤثر، فكلما كان المؤثر قويًّا وجب أن تكون الزيادة كبيرة؛ وهذه النسبة هي: ١٠٠ / ١ لإحساس الضوء؛ و١٧ / ١ للإحساس العضلي؛ و٣ / ١ لإحساسات الثقل والحرارة والصوت؛ فإذا فرضنا شخصًا يحمل ما زنته ١٧٠ درهمًا، فالزيادة التي تجب إضافتها هي ١٠ دراهم؛ وإذا كان يحمل ١٧٠٠ درهم أو ١٧٠٠٠، كانت الزيادة ١٠٠ و١٠٠٠ على التوالي، من حيث إن النسبية الثابتة هي ١٧ / ١ — وقد سمي هذا بقانون فيبر.
والطريقة الثانية سميت الطريقة النفسية الفسيولوجية Psycho-physiologie؛ لأن الغرض منها تعرف ما يقابل الظواهر الوجدانية من تغيرات بدنية حاصلة في التنفس والدورة الدموية والإفراز وحركات العضلات في حالات العمل العقلي والفراغ منه والحزن والسرور والغضب وما إلى ذلك، وتعيين عضو أو مركز عصبي لكل واحدة من الوظائف الوجدانية بملاحظة ما يطرأ على الوظيفة من اضطراب بسبب ما يطرأ على الجزء العصبي من جرح أو بتر في التجارب التي تعرض للإنسان، أو التي تجري على الحيوان، ويمكن تطبيق نتائجها على الإنسان، لما بينهما من تشابه في الحياة الحسية. والمشهور بهذه الطريقة عالم ألماني كذلك هو فخنر Fechner (١٨٠١–١٨٨٧) أقام على قانون فيبر نظرية في مقاس الإحساسات أنفسها. وليس فقط مقاس قوة المؤثرات، فاعتبر الفروق المقابلة للزيادات في المؤثرات متساوية كأنها وحدات حسية، وصاغ قانونًا بهذه العبارات الرياضية: إذا ازداد المؤثر بنسبة التصاعد الهندسي، ازداد الإحساس بنسبة التصاعد الحسابي. والتصاعد الحسابي سلسلة أعداد كل واحد منها يساوي العدد السابق مجموعة إليه أو مطروحة منه كمية ثابتة؛ فمثلًا: ١-٢-٣-٤ إلخ تؤلف تصاعدًا حسابيًّا الكمية الثابتة فيه هي ١. والتصاعد الهندسي سلسلة أعداد بين كل منها وبين العدد السابق نسبة ثابتة، أي إن كلًّا منها يساوي العدد الذي قبله مضروبًا في كمية ثابتة؛ مثال ذلك الأعداد الآتية: ٢–٤–٨–١٦–٣٢–٦٤ إلى ما لا نهاية على هذا القياس، تؤلف تصاعدا هندسيًّا كميته الثابتة هي ٢.
هذان القانونان منتقدان من وجوه:
  • أولًا: أن الزيادة الواجب إضافتها بحسب قانون فيبر ليست مطلقة مؤسسة قانونًا عامًّا لجميع أنواع الإحساسات، وإنما هي نسبية تابعة لكمية المؤثر، غير منطبقة على الإحساسات، وليس القانون العلمي نسبيًّا.
  • ثانيًا: أنها أمعن في النسبية، إذ إنها تقريبية، ولا يصح إطلاقها في جميع الحالات، لاختلافها باختلاف الأشخاص، وفي الشخص الواحد باختلاف ظروفه البدنية والمعنوية، من قوة وضعف ومران وانتباه.
  • ثالثًا: إن فخنر يزعم أنه يقيس الإحساس، ويعتبره كمية متصلة قابلة للقسمة إلى أجزاء متساوية، والحقيقة أنه فعل وجداني بسيط غير منقسم وغير قابل للمقاس، وأن ما يحدث عند زيادة قوة المؤثر، ليس تزايد شدة الإحساس، بل إحساس بالزيادة، أي: فعل وجداني جديد، فإن الإحساسات لا تحدث إلا متتالية، فلا يمكن أن تتزايد أو تتناقص؛ وإذا جاز لنا أن نقول: إن إحساسًا أقوى أو أضعف من إحساس آخر، فإن الناس جميعًا يدركون أن من العبث محاولة تقدير الفرق بينهما تقديرًا رياضيًّا.
  • رابعًا: أن المقارنة الكمية بين إحساسين أو أكثر أمر مستحيل، لاستحالة وجود وحدة حسية تتخذ مقياسًا، أي لاستحالة وجود إحساس ثابت يستخدم كوحدة في المقاس والمقارنة، فإن الحواس مختلفة فيما بينها بالنوع أو الكيفية، وليس يوجد شبه قريب أو بعيد بين اللون والصوت والرائحة والطعم والصلابة، بل أيضًا في كل حس توجد فروق كيفية بين موضوعاته، كما بين الأبيض والأحمر، والحلو والحامض، والخشن والأملس؛ هذا فضلًا عما بين الأشخاص من تباين تبعًا لتباين شدة الإحساس واستعداداتهم البدنية والمعنوية المتقلبة الحائلة دون ردها إلى الوحدة.

وقد كان البعض عقدوا آمالًا كبارًا على هاتين الطريقتين، وتوقعوا أن يصلوا بهما إلى قوانين ثابتة معبر عنها بأرقام، فيصبح علم النفس علمًا «ماديًّا»، ولكنهم لم يوفقوا إلا لنتائج تافهة، لمنافاة الظواهر الوجدانية لشروط الاختبار المادي، فكانت هذه هزيمة أخرى للماديين.

وثمة مسألة ربما كان المذهب التصوري السبب في إثارتها، وهي: أين يتم الإحساس؟ إن الناس كافة يشعرون أنه يتم في الأمكنة من البدن التي يحدث فيها التأثير. ولكن علماء كثيرين يعتقدون أنه يتم في الدماغ حيث ينقل التأثير؛ وقد يكون الباعث لهم على انتحال هذا الرأي قول ديكارت: إن الإحساس فكر، وإنه فعل النفس بمفردها، وإن النفس في الغدة الصنوبرية. ولهم دليل علمي هو أنه إذا قطعت الصلة بين ألياف الحاسة والدماغ، فلا يكون إحساس. ويؤيدون ذلك بأن المبتور له عضو يحس ألمًا أو لمسًا عضليًّا في الجزء المفقود، وهذا وهم طبعًا. فيستنتجون أن ليست الأعضاء حاسة، بل إن وظيفتها قاصرة على تأدية التأثير إلى الدماغ.

هذا الرأي ليس بأسعد حظًّا من الآراء السابقة. إن الإحساس يتم في مكان التأثير، وأول الأدلة على ذلك ما نشعر به في غاية الوضوح في الحواس السفلى؛ الشم والذوق واللمس، فنركز الإحساس بالرائحة في المنخرين، والإحساس بالطعم في اللسان والحلق، والإحساس بالصلابة في الموضع من البدن الذي يقع عليه اللمس؛ ولا بد أن يكون الأمر في البصر والسمع على هذا القياس. ثانيًا: يثبت ذلك، من جهة واحدة، أن العضو جهاز مخصوص مركب لتأدية وظيفة مخصوصة، ولو لم يكن هو الحاس وكان مجرد واسطة لِنَقْل التأثير إلى الدماغ لما احتاج إلى هذا التركيب؛ على حين أن الدماغ غير مخصص أو هو أقل تخصصًا، ومن ثمة أقل كفاءة لإدراك الكيفيات المتباينة؛ ومن جهة أخرى إن المحروم عضوًا منذ الأصل لا يحس الإحساسات المقابلة لهذا العضو، وهو لا يحسها إذا هجنا فيه عصب الحاسة أو مركزه الدماغي. ثالثًا: إن انتزاع مخ الحيوان أو تعطيله لا يؤثر في الحساسية، وقد دلت التجارب التي أجريت على الضفادع والعصافير على أنها تجاوب بحركات على التأثيرات، فهي إذن تحس هذه التأثيرات، إن لم تكوِّن منها صورًا؛ وليس الدماغ ضروريًّا، ويكفي النخاع الشوكي لضمان الصلة بين الأعصاب الحاسة والأعصاب المحركة؛ ومن التجارب المذكورة في كتب علم النفس بتر جولتز Goltz مخ كلب واسبقاؤه حيًّا ثمانية عشر شهرًا. ففقد كل مهارة في تحريك رجليه الأماميتين، وفقد الحركات المركبة المكتسبة، ولم يكتسب غيرها، ولم يكن يأكل من تلقاء ذاته، ولكنه كان يضطرب إن طال صومه، ولكنه كان يجاوب على الأضواء القوية والأصوات الحادة، وعلى الخصوص الإحساسات اللمسية، بحركات دفاعية، ولم يكن يعرف الناس ولا الحيوانات ولا الأشياء. وفي هذه التفاصيل إشارات إلى وظائف الدماغ ووظائف الحواس. رابعًا: لنا في الأبله التام من بني الإنسان، أو الذي في الدرجة الأولى من البله، شبيه بهذا الكلب، فإن وظائفه المحركة جد مختلة، وهو من الجمود بحيث لا يبين عن حاجته للغذاء، ولا بد من إبلاغ غذائه إلى مدخل البلعوم وحينئذٍ يزدرده، والازدراد فعل منعكس لا يتطلب تفكيرًا ولا إرادة؛ ومع ذلك فهو متمتع بحواسه جميعًا، كما يثبت من التشريح بعد الوفاة، ويجاوب على التأثيرات الخارجية، فهو إذن يحسها. خامسًا: إن الخطأ المأثور عن ذوي الأعضاء المبتورة يؤيد رأينا ولا ينقضه، فإن هذا المدعو خطأ يظهرنا على أن اشتراك العضو في الإحساس أمر توحي به الطبيعة وترسخه العادة، حتى إنه يستمر بعد فقدان العضو؛ ثم إنه متقطع وليس متصلًا، إما بسبب الإحساسات السابقة وتوهم أن هذه الذكرى إحساس حاضر، فتركز في العضو كما كانت تركز الإحساسات السابقة، وإما في انقباض عضلات مجاورة للجزء المبتور، وإضافة الإحساس بهذا الانقباض إلى العضو المفقود، إذ يندر أن يتحرك عضل دون أن تنقبض عضلات أخرى قليلة أو كثيرة؛ وربما كان العصب أو طرف العضو المبتور قابلًا للتحريك، فلا يكون هناك وهم أو تأويل، بل إحساس صحيح، وبعد فهذه إحدى مسائل اتحاد النفس والبدن، فلها إذن شأن كبير.

(٥) التخيل والتذكر

يترك الإحساس أثرًا في الذهن، فنتمثل هذا الأثر في اليقظة والمنام، ثم نحلله ونركب عناصره تركيبًا آخر، فنتخيل أشياء ممكنة فقط، كإنسان يطير، أو شخص واحد نصفه إنسان ونصفه فرس. فالمخيلة هي القوة التي تحفظ صورة ما يرد على الحواس الظاهرة، وتتمثلها في غيبة موضوعها، وتعمل فيها بالتفصيل والتركيب بإشراف العقل وتوجيهه. ولئن كان اسم الصورة مأخوذًا من البصر، فإنه يطلق على سائر الآثار الذهنية، إلا أن الصور البصرية أقوى وأوضح وأكثر عددًا، وأن الناس يترجمون عن أفكارهم وعواطفهم بالأشكال والألوان، ولا يكادون يستخدمون الأصوات والطعوم والروائح إلا في موضوعاتها، فيقال: صور سمعية وشمية وذوقية ولمسية.

وللصورة فينا نفس مفاعيل الإحساس البدنية والوجدانية، وإن تكن عادة أضعف منها، وقد تكون أشد في الحالات المرضية. ومفاعيل الصور هذه أبرز الشواهد على تعلق المخيلة بالبدن، أي بالجهاز العصبي والدماغ. إذا قويت الصور في الحلم أو في التخيل نشأت عنها حالة «الروبصة»، أي التحرك والتكلم في النوم. والتخيل القوي لصورة زاهية يتعب العصب البصري ويثيره مثلما يثيره الإحساس القوي من صور لاحقة إيجابية وسلبية. وحينما نتخيل شكلًا من ستة أضلاع مثلًا أو سبعة أو ثمانية نشعر أننا نحاول القيام بحركات بقدر الأضلاع. والذي يفكر في لون من الطعام مستملَح يجري ريقه ويترطب لسانه؛ والذي يفكر في طعام مستهجن يشمئز وينفر. ومن باب أولى تخيُّل الحركات يولد فينا حركات من نوعها، مثلها إذا تخيلت شيئًا واقعًا إلى يميني، تخيلت الحركة اللازمة لتناوله؛ وحدث في ذراعي تهيؤ لذلك. وكل ما نتخيله فهو يبدو في عضلاتنا وأعصابنا: من هذا القبيل عدوى الضحك والتثاؤب؛ وانتقال حركات الممثلين واللاعبين في مختلف المباريات إلى جسمنا. والمنوَّمون صناعيًّا إذا وضعناهم في هيئة معينة بعثنا فيهم الحركات المقابلة لها، فهيئة الصلاة وهيئة الغضب وهيئة السرور تبعث كل منها ما تستتبعه من حركات في الحياة الحقيقية؛ وبعكس ذلك لو أوحينا إليهم بفكرة الشلل سقطت الذراع على طول الجسم وانعدمت كل حركة. وكان «كمبرلند» يدعي قراءة الأفكار، وما كان يصنع في الواقع إلا تتبع انقباض عضلات الشخص وانبساطها. هذا قليل من كثير أوردناه لفائدته في مسألة اتحاد النفس والبدن العظيمة الأهمية في الفلسفة، وتيسيرًا لمعالجة بعض المسائل الفلسفية الخاصة بالصور.

قبل هذه المعالجة نقول كلمة في الذاكرة؛ كي نُلمَّ بموضوع الصور في جملته. فإلى الحفظ والاستعادة ينضاف الذكر، أي الشعور بأن الشيء الذي نتمثل صورته أو نُحسُّه قد سبق إحساسه في وقت ما. وهذا الشعور عبارة عن استئناس وألفة لا يتفقان لنا أمام المدركات الجديدة. وقد تعود الصورة إلى الذهن ولا يصاحبها هذا الشعور فنظنها تخيُّلًا؛ أو يصاحبها شعور ناقص فلا ندري إن كانت تذكرًا أو تخيلًا؛ أو ينضاف إليها خطأ فنحسبها تذكرًا. فالذاكرة قوة متمايزة من المخيلة تزيد عليها الذكر وتعيين الزمان. والذكر إما أوَّلي يتم عفوًا في الحيوان والإنسان، أو إرادي يتم بالتفكير، في الإنسان لافتراضه الانعكاس على الذات والبحث والمقارنة وفكرة الزمان، مما يعلو على إدراك الحيوان وليس موضوع البحث مجهولًا كل الجهل، وإلا لم يكن موضوع بحث. ولكنه معلوم في صلته بحالة حاضرة، فهو عبارة عن فراغ في الذهن نشعر به شعورًا واضحًا، ونشعر بأنه لا يمتلئ إلا بالشيء المطلوب، وقد تتردد في الذهن أشياء أُخَر ونشعر أنها ليست هي المطلوبة.

كيف تحفظ الصور؟ فإن الماديين يزعمون أن الصور الكامنة ضرب من الطوابع أو الرسوم المادية في الدماغ يبعثها من كمونها مرور التيار العصبي بها، ويطلقون عليها أسماء أخرى فيقولون: تغيرات دماغية، وآثار دماغية وتألقات بمعنى أن التألق إضاءة جسم في الظلمة دون اشتعال ولا حرارة. ويسرف بعضهم فيتخيل كل صورة منزلة في خلية من خلايا الدماغ. وكل هذا سذاجة يمتنع وصفها. إنه لخطأ شنيع أن نتصور المخيلة خزانة لصور تظهر في الشعور وتعود إلى الكمون بحسب جريان التيار العصبي. إن الصور من حيث هي صور أو مُثل للأشياء لا توجد إلا في اللحظة التي نتأملها فيها، وكلما تجدد التأمل تجددت هي أيضًا، أي خرجت من القوة إلى الفعل؛ إذ ليست الصور الكامنة موجودة إلا بالقوة، أي إنها استعدادات نفسية يتركها فينا الإحساس، أو هي كفاية المخيلة للتخيل، وإن كان لهذه الكفاية أساس وشرط في الدماغ ماهيته مجهولة، والأسماء التي وضعوها لها قاصرة عن تبيان حقيقته.

هذه النظرية المادية لا تحسب أقل حساب لما بين الظواهر الفسيولوجية والظواهر الوجدانية من تباين حاسم، ولا تكشف عن سر بقاء الصور مع تغير الخلايا العصبية تغيُّرًا متصلًا، وإذا كانت الصور تتغير هي أيضًا فلا نستعيدها كما قبلناها بالتمام، بل تعود فاقدة بعض التفاصيل، أو بالعكس كاسبة تفاصيل أخرى، فليس ذلك من أثر التيار العصبي أو مسالك انتشاره كما يقولون، بل من أثر ما نعيرها من اهتمام وانتباه، أي من أثر الجانب الوجداني. وليس قولنا إن الصور تتطور، وتنتظم في مجاميع، وتتداعى، وتعود وتأتلف … إلخ إلا من قبيل إسناد فعل الفاعل إلى المفعول؛ إذ ليس للصور وجود ذاتي، وإنما ترجع هذه الأفعال جميعًا إلى الشخص المتخيِّل وأحواله الخاصة.

وفي أواخر القرن التاسع عشر توصل الماديون إلى تطبيق لمذهبهم ظنوه الدليل القاطع على صدقه، وذلك بإقامة نظرية دعوها «نظرية الأمكنة الدماغية»، وكان أشهر القائلين بها الدكتور بروكا Broca، وقد أعلن أنه وُفِّقَ إلى تحديد مراكز في الدماغ لوظائف النطق والكلام، وأن من المستطاع تحديد مركز لكل وظيفة وإرجاع مختلف الصور إلى مناطق معينة من الدماغ؟ فكان لهذا الإعلان حظ عظيم من الاهتمام والرَّوَاج، وانتعش به «علم الفراسة» على نحو عجيب.٤ والحقيقة أن هذا الرأي قديم، وقد اصطنعه غير الماديين، ونحن نجتزئ بما أورده ابن سينا، فإنه يعين للحس المشترك مكانه في أول التجويف المقدم من الدماغ، وللخيال والمصورة في آخر هذا التجويف، وللمخيلة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة، وللقوة الوهمية في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ. وللحافظة الذاكرة في التجويف المؤخر من الدماغ.٥

وليس يهمنا تحديد معاني هذه القوى، وقد تراوحت واختلفت عند ابن سينا نفسه؛ وإنما المهم محاولة تعيين أحيازها. وظلت هذه النظرية موضع أخذ ورد إلى أن أتاحت الحرب العظمى الأولى مشاهدات عديدة لجروح دماغية أثبتت فسادها.

أظهرت هذه المشاهدات؛ أولًا: أن بعض الجرحى الذين فقدوا ثلث دماغهم استمروا على مزاولة جميع قواهم الذهنية. ثانيًا: أنه لا يوجد أي مركز أصيل للغة ملفوظة أو مكتوبة، لا في أسفل التجويف الثالث لمقدم الدماغ اليساري، كما ادعى بروكا، ولا في منطقة أخرى؛ وإنما توجد مراكز مستحدثة. ثالثًا: أنه وجدت حالات لفقدان النطق دون جرح في المركز الذي عينه بروكا، وحالات كان فيها هذا المركز مصابًا دون اضطراب في النطق. رابعًا: أن النسيان، سواءٌ كان نتيجة إصابة في الدماغ، أو نتيجة ضعف الدماغ ضعفًا عامًّا، يبدأ بأسماء الأعلام، وينتقل إلى أسماء النعوت أو الصفات … إلخ تبعًا لطوائف الأسماء، لا على نحو مجموعي للأسماء المكتسبة في وقت واحد كما تقتضي النظرية. خامسًا: أنه إذا عطب المركز المستحدث فقد تقوم بوظيفته منطقة أخرى مجاورة دعيت لذلك بالوظيفة «الغائبة» fonction vicariante؛ مما يدل على أن ليس هناك مراكز تولد الوظائف، وأنها هي الوظائف التي تولد المراكز وتنظمها، وأن لفظ المركز يجب أن يؤخذ بمعنى واسع جدًّا. فسقطت هذه النظرية في ميدان العلم.

وللماديين نظرية في استعادة الصور، اشتهر بها خاصة الفلاسفة الإنجليز من الحسيين، هيوم وجيمس مل وجون ستوارت مل وألكسندر بن وهربرت سبنسر، بنوها على المشاهد من عودة الصورة إلى الذهن بمناسبة إحساس أو صورة أخرى حاضرة فيه. ومعلوم أن النسب بين الصور تتوزع إلى طائفتين: جوهرية وعرضية. النسب الجوهرية قائمة على ماهيات موضوعات الصور، كنسب الجوهر والعرض، والعلة والمعلول، والمبدأ والنتيجة، والغاية والوسيلة، والجنس والنوع، والجزء والكل. وما إلى ذلك؛ والنسب العرضية قائمة على أعراض في الموضوعات أو في الذهن، وهي ثلاث محصورة لدى أفلاطون في محاورة «فيدون» ولدى أرسطو في «رسالة الذكر والتذكر»، فإن الموضوعات قد تكون متشابهة أو متضادة أو متقارنة في المكان والزمان؛ وقد يكون التشابه والتضاد في ذات الشخص المدرك، كما لو آثر لونين من الطعام فإنهما يتشابهان لديه من هذه الناحية، أو آثر لونًا وكره آخر فإنهما يتضادان لديه بهذا الاعتبار. وثمة نسبة مأثورة منهم هي الاقتران، لبعدها عن الوعي الصريح وقربها من الآلية، فإن إحدى صورتين مكتسبتين في مكان واحد أو وقت واحد، غالبًا ما تستدعي الأخرى، لا لشبه أو تضاد بينهما، بل لمجرد الاقتران.

وبناءً على هذا ردوا إليها سائر النسب: الجوهرية منها لكونها مقترنة في الإدراك؛ والمتضادة لهذا السبب؛ ولأن المتضادين يجتمعان تحت جنس واحد، كالأبيض والأسود تحت جنس اللون؛ والمتشابهة أخيرًا فإنها هي أيضًا تجتمع تحت أجناس، فإنها تتشابه بعنصر معين مندمج في كل منها، فيجعلها مقترنة في الذهن. ويتصورون الإحساسات كالذرات العنصرية لها خصائصها تدفعها إلى التداعي والتجمع، وبهما تفسر جميع الأفعال الذهنية المركبة، بحيث تعود الحياة الوجدانية ضربًا من العادة الآلية، كلما ظهر فيها حد أيقظ حدًّا آخر.

أول ما نأخذه على هذه النظرية خلط أصحابها بين شروط قبول العودة وشروط العودة الفعلية: إن النسب المذكورة تهيئ الصورة للعودة؛ ولكن الواقع أن الصورة الواحدة تدعو إلى الذهن صورة أخرى دون سائر الصور المرتبطة بها. فما السبب في ذلك؟ ليست الصور هي السبب، فإن النسبة موجودة بين كثير منها، وقد أوضحنا أن الصور ليست مماثلة في الذهن بما هي صور، ولكن الذهن هو الذي يبعثها من كمونها ويمنحها الوجود في التصور. السبب هو الشخص ذاته، فإنه يدعو من الصور ما له به حاجة وما يقابل اهتمامه، وهذا الاهتمام ناشئ من استعداداته الفطرية وكفاياته المكتسبة وظروفه المعيشية والمعنوية، فتختلف الصور المدعوة باختلاف الأشخاص، كما نرى مثلًا منظرًا طبيعيًّا معينًا يوحي بأفكار وعواطف مختلفة للمُزارع والتاجر والفنان والعالم بطبقات الأرض. ونأخذ عليهم أيضًا ظنهم أنهم ردوا النسب إلى نسبة التقارن؛ وإذا سلمنا بصحة ما قالوه بهذا الصدد، يبقى أن نسألهم: كيف يفسرون الشعور بالتقابل الذاتي بين النسب الجوهرية، والشعور بالتشابه والتضاد حيث يوجدان؟ وفي هذا الكفاية للدلالة على نشاط الفكر واستحالة الآلية فيه.

(٦) حياة الحيوان

جميع القوى المذكورة آنفًا، وجميع أفعالها، تؤلف الحياة الحاسة المشتركة بين الإنسان والحيوان فنعود ونذكر «القوى» برغم معارضة الحسيين والتصوريين، فليست تفسر الأفعال المتنوعة إلا بمبادئ متنوعة أو قوى متمايزة فيما بينها، ومتمايزة من جوهر النفس؛ لأنها لا تفعل دائمًا، والنفس تظل بالفعل ما دام الحي موجودًا. إنهم ينكرون القوى ولا يزالون يتحدثون عن وظائف وكفايات واستعدادات وميول، فأين الفرق بين ألفاظهم وألفاظنا؟

ومعظمهم ينكر الحياة على الحيوان، ويجعل منه مجرد آلة. ويتخذون من الغرائز أدلة على الآلية، فإن الغريزة من الجهة الواحدة استعداد فطري لصناعة معينة في جميع أفراد النوع، فيأتون مفعولًا معينًا بوسائل معينة لا يغيرها الحيوان إلا في النادر تحت ضغط الظروف، فهي استعداد تام منذ ميلاده، وهو لا يتردد في عمله الغريزي ولا يخطئ، حتى إن العصفور الذي يفقس في حاضنة وينشأ في قفص، يبني عشًّا إذا ما حصل على المواد اللازمة وهو بغير حاجة إليه، وإن من الحشرات أنواعًا يهلك أفرادها قبل نقف ديدانها وتعد المكان والمئونة لهذه الديدان التي لن تراها، ونشأ النسل والغريزةُ فيه تامة، مما يدل قطعًا على أن الغريزة عمياء، أي إنها آلية. ومن جهة ثانية الغريزة إدراك معنى غير محسوس في المحسوسات، حيث لا يدرك الحس الظاهر سوى الهيئات والمؤثرات الفعلية؛ مثل إدراك الشاة أن الذئب مهروب منه؛ وليس يتسنى للحيوان إدراك غير المحسوس، فليست تصح التسمية بالإدراك، وإذن يرجع الأمر إلى عمل آلي.

إذا كانت الغريزة هكذا فكيف تعلل؟ هنا يزهو الحسيون بتعليلهم، وقد جاء في أوضح صورة عند كوندياك، إذ استبعد أولًا فكرة القوة الفطرية، والمذهب الحسي ينفر منها خشية الاضطرار إلى التسليم بفاطر غير منظور؛ وزعم أن الحيوان يكتسب كل ما يعرف ويعمل، وأن الغريزة ثمرة التجربة الفردية، أي إنها عادة مكتسبة بالتفكير على ما بيَّنه هو ابتداءً من أبسط إحساس، ثم سقط عنها الشعور كما يسقط عن كل عادة. وبمثل هذا قال أصحاب نظرية التطور، أي بأن الحيوان كان في الأصل خلوًا من كل غريزة، ولكن جهاده لحفظ بقائه دفع به إلى أن يلائم بين حاله وبين البيئة، وكان الفعل العكسي أول محاولة في سبيل هذه الملاءمة، فكرره وزاد عليه، فتأصل فيه بالتكرار، وصار عادة متوارثة؛ فالغريزة فعل عكسي مركب وعادة وراثية كوَّنها النوع بتأثير القوى الطبيعية، وأضحت فطرية تامة في الأفراد.

هذا الرأي منتَقَد من وجوه، ونقده يقودنا إلى تحديد فكرة الغريزة:
  • الوجه الأول: أن الفعل العكسي حركة بسيطة فسيولوجية بحت، والغريزة الصناعية مجموعة متنوعة فسيولوجية ونفسية (على ما سنبين فيما بعد) مرتبة لغاية معينة، ومهما يقل أصحاب التطور فمن المحال أن يخرج المتنوع من المتجانس، كما يستحيل أن يأتلف الكثير في واحد اتفاقًا ومصادفة. وتبعًا للطبيعة الفسيولوجية للفعل العكسي، فإن سببه تأثير فيزيقي كيميائي يقع على أديم الجسم؛ وتبعًا للطبيعة النفسية للغريزة فإنها صادرة من باطن، وإذا ما صدرت عقب تأثير خارجي فليس هذا التأثير علة لها، وإنما هو فرصة ومناسبة.
  • الوجه الثاني: أن الغريزة ضرورية لصيانة الحيوان وحفظ نوعه، فكيف تسنَّى له أن يحيا قبل اكتسابها، وهذا الاكتساب يستلزم أجيالًا متطاولة بإقرار التطوريين أنفسهم، والأفعال التي تؤلف الغريزة الواحدة لا يفيد كل منها إلا مجتمعًا مع سائرها، وإذا أُخذ على حدة لم تتحقق به نتيجة فهو إذن غير مفيد، وليس هناك ما يدعو إلى تكراره، وهو لا يترك في جسم الحيوان أثرًا ينتقل بالوراثة.
  • الوجه الثالث: أن الغريزة قابلة لبعض التعديل والتنوع، فهي ليست آلية، وأقرب الأمثلة على ذلك العنكبوت حين تشكل نسيجه حسب المكان المتوفر له، والعصفور حين ينوع المواد التي تتفق له لبناء عشه، وكلب الماء حين يراعي في بنائه اتجاه التيار ومستوى الماء والمسافة من سكنى الإنسان. يضاف إلى ذلك في الغريزة الصناعية أن الغريزة المسماة إدراكًا لمعنى غير محسوس هي في الحقيقة إدراك من حيث إنها تتناول موضوعًا مخصوصًا بشكل مخصوص مدركًا بالحس الظاهر، فإذا كان للحيوان إدراك ظاهر فلِمَ نأبى عليه الإدراك الباطن؟ لذا لا يعرَّف بالحركة، ظاهرة في النقلة، وباطنة في الفعل العكسي، فإن النقلة قاصرة على بعضه وإن منه الثابت في الأرض كالنبات؛ وإنما يعرَّف الحيوان بالحس لاشتراكه فيه بدون استثناء، فحاسة اللمس حاصلة لجميعه، فيقال للنفس الحيوانية: حاسة؛ وباقي الحواس موزع على باقي الحيوان.
  • الوجه الرابع: أن الغرائز تختلف باختلاف الأنواع الحيوانية وأحوال المعيشة في البيئة الواحدة، فهي لم توجد بفعل العوامل الطبيعية كما يوجد الآليات، ولكنها وجدت حية تغتذي وتنمو وتتناسل، وهذه أفعال مباينة للآلية كل المباينة كما أوضحنا. ولها أعضاء شبيهة بأعضائنا الحاسة، وجهاز عصبي شبيه بجهازنا، وهما قوام الحياة الحاسة فينا، مدركة ونازعة، فإذا لم يدلا على حياة مثلها كانا عبثًا غير معقول أصلًا. الواقع أنه يبدي علامات معرفة حسية، من إحساس وتخيل وتذكر وانفعال، يحدق البصر في الأشياء ويرهف السمع ويتذوق الطعوم، وهو يشعر بحاجات باطنة، ويدرك الموضوعات الكفيلة بقضائها. وعن معارفه تنشأ الانفعالات، من محبة وكراهية وغضب وسرور واللذة والألم والحقد والأمانة … إلخ.

بيد أنها غير مكتسبة بالتفكير، كما ظن كوندياك؛ إذ لو صح ظنه للزم أن لبعض الحيوان، كالنحل مثلًا، عقلًا مساويًا لعقل النوابغ من بني الإنسان، لما تشهد به خلاياه من معقد الهندسة ودقة الصنعة؛ وإذا لاحظنا أن أدهش الغرائز توجد لدى الحشرات — أي لدى الحيوانات التي هي في أسفل دركات المعرفة — ازددنا استبعادًا لهذه القضية؛ ولا يمكن أن يقال: إن الحشرات تتعلم الواحدة منها بمحاكاة أبويها، فإن أنواعًا منها يولد أفرادها بعد هلاك الأبوين فتنشأ والغريزة فيها تامة. ثم إن الحيوان يعمل على نحو واحد في كل نوع بينما أفعال الإنسان متنوعة للغاية، وما علينا إلا أن نلقي النظر على حضاراته الحاضرة والماضية، فنجد أنه غيَّر سطح الأرض بالفنون والعلوم، فإن العقل مرن يمتد إلى موضوعات كثيرة، وينوع الغايات والوسائل، وينتفع بالتجارب، فيترقَّى ويخترع، والحيوان غبي كل الغباوة فيما عدا الغريزة. ويكفي هذا الآن، وسنعود إلى المسألة عند الحديث عن العقل الإنساني في الفصل التالي. أجل إن الغريزة تدل على عقل؛ لأن العقل وحده يتصور الغايات ويهيئ لها الوسائل؛ ولكنه ليس عقل الحيوان لما تقدم من علوها على مقدرته؛ فينبغي أنها أثر من آثار العناية الإلهية، فإنها جزء من ماهية الحيوان، متسقة مع تركيبه، ضرورية لحياته.

الحيوان حاصل إذن على وظائف الحياتين، النامية والحاسة، فهل يؤدي وظائف كل حياة منهما بنفس متمايزة من الأخرى، أم يؤديها جميعًا بنفس واحدة؟ الجواب: يستخلص أولًا من نظرية تجوهر الأجسام التي تبين وحدانية الصورة الجوهرية في كل جسم طبيعي. ويعزز بأدلة خاصة: فأولًا تكوين البدن الحي يتم بتكاثر الخلايا، ويرجع هذا التكاثر إلى الاغتذاء، أي: إلى الحياة النامية، ففي تكوين النفس النامية للحيوان بأعضائه الحاسة مجاوزة لنطاق هذه النفس، فيتعين تعليله بفعل نفس نامية حاسة معًا. ثانيًا: الشعور بالجوع والعطش عنصر ذاتي في الحياة النامية للحيوان، وهذا لا يمكن تفسيره إذا افترض للحيوان نفسان. ثالثًا: الاتصال الوثيق بين الحياتين، فإن الحيوان يستخدم أفعال الحياة الحاسة من معرفة وانفعال ونزوع وحركة، لخير الحياة النامية، من اغتذاء وتوالد ودفاع عن الذات، فالحياتان متضامنتان صادرتان عن أصل واحد.

على أن النفس الحيوانية ليست صورة قائمة بذاتها، ولكنها صورة متعلقة بالمادة، يدل على ذلك أن أفعال الحيوان صادرة عن قوى عضوية متعلقة بالمادة تعلقًا ذاتيًّا، وإذا اقتصرنا على الإحساس منها قلنا: إنه فعل المركب من النفس والجسم، لا فعل النفس وحدها، أو الجسم وحده؛ العضو هو الشرط المادي للإدراك الحسي، وهذا الإدراك وظيفة نفسية؛ وكما أن النفس صورة الجسم، كذلك القوى الحاسة صور الأعضاء؛ حالما ينفعل العضو كالعين مثلًا تنفع القوة الحاسمة التي هي البصر من حيث إنهما شيء واحد، فلا «جسر» بين الاثنين ولا انتقال من الظاهرة العصبية إلى الظاهرة الحسية، كما يظن الماديون والتصوريون على تعددهم. يلزم عن ذلك أن النفس الحيوانية متعلقة بالمادة في وجودها كما هي متعلقة بها في أفعالها، فإذا ما وجد الحيوان خرجت هي من «قوة المادة» كالعناصر الجمادية؛ وإذا ما هلك الحيوان عادت هي إلى «قوة المادة»، فللحيوان حياة حقة متوسطة بين النبات والإنسان: يشترك مع النبات في الحياة النامية، ويشترك مع الإنسان في الحياة الحاسة؛ ولسنا نرى مبررًا البتة لاعتباره مجرد آلة.

هوامش

(١) Monadologie; § IV.
(٢) تعريفات الجرجاني.
(٣) النجاة ص٢٦١.
(٤) انظر كتاب «علم الفراسة الحديث» لجورجي زيدان ١٩٠١.
(٥) انظر كتاب «النجاة» ص٢٦٥، ٢٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤