الفصل الأول

عبَسَت عندما رأت كوبَ عصير البرتقال الموضوع أمامها. عندما راودَتها فكرةُ أنها كانت مبتهجةً في أول يوم وصلَت فيه إلى هنا — هل كان ذلك منذ ثلاثة أشهر فقط؟ — بسبب توقعِها الحصولَ على عصير برتقال طازَجٍ كلَّ يوم. لكنها كانت متحمسةً لأن تجد ما يُبهجها — فهذا كان سيصبح بيتَها، وكانت ترغب بشدة في أن تعجب به، وأن تصبح ممتنةً من أجله — وأن تتصرف على نحوٍ جيد، كي تجعلَ أخاها فَخورًا بها وتسرَّ السير تشارلز والليدي أميليا بنتيجةِ كرمهما.

لقد أوضحَت الليدي أميليا أن البساتين الواقعةَ على بُعد مسيرة بضعة أيام في الجنوب والغرب من هنا؛ هي الأفضلُ في البلاد، وأن كثيرًا من البرتقال الذي رأته في موطنها، قبل أن تأتيَ إلى هنا، قد جاء على الأرجح من تلك البساتين نفسِها. كان من الصعب تصديقُ وجود بساتينِ برتقال عندما نظرَت من النافذة، عبر السهل المنبسِط الصحراوي فيما وراء القصر، الذي لا يتخلَّله أيُّ شيء به حيوية سوى رقعاتٍ قليلة من العشب الجاف والشجيرات القزمة الباهتة اللون، إلى أن يختفيَ عند سفح الجبال ذات اللونين الأسود والنحاسي.

لكن كان هناك عصيرُ برتقال طازج كل يوم.

كانت هي أولَ من ينزل ليجلس على المائدة كل صباح، وكانت تُمازحها الليدي أميليا والسير تشارلز بشأن شهيتِها الجيدة؛ لكن لم يكن الجوعُ هو ما يجعلها تستيقظ مبكرًا للغاية هكذا. فنظرًا إلى أن أيامها كانت تمضي بلا هدف؛ فهي لم تكن تستطيع النوم عندما يأتي الليل، وعند بزوغ الفجر في كل صباح تُصبح على استعدادٍ تام لأن تدخل الخادمة إلى غرفتها، وتُزيح الستائر بعيدًا عن النوافذ الطويلة، وتقدِّم لها كوبًا من الشاي. وغالبًا عندما تصل تلك المرأة تكون قد استيقظت، وارتدَت ملابسها، وجلست بجوار النافذة تُحملق نحو الجبال؛ إذ إن نافذة غرفة نومها تُواجه الاتجاه نفسَه مثل نافذة غرفة الطعام. كانت تراها الخادمات إنسانةً طيبة، حيث لا تُكلِّفهن بعملٍ إضافي كثير؛ لكن أن تنهض سيدةٌ من نومها وترتديَ ملابسها في وقتٍ مبكر للغاية هكذا، ودون مساعدة، كان بالتأكيد شيئًا غريبَ الأطوار بعض الشيء. لقد كنَّ يعلمن أنها جاءت من خلفيةٍ فقيرة؛ مما يُفسر كثيرًا من الأمور، لكنها أصبحَت في بيتٍ راقٍ الآن، ويرغب مُضيفها ومضيفتها بشدة في منحها أيَّ شيء قد تريده؛ حيث إنهما لم يُرزقا بأبناء. وربما عليها أن تحاول أكثرَ التأقلمَ مع وضعٍ جيد مثلِ هذا.

كانت تحاول فِعل ذلك بالفعل. فقد كانت تعلم الأفكارَ المتوارية خلف النظرات التي ترمقها بها الخادمات؛ فقد تعاملَت مع خادماتٍ من قبل. لكنها كانت تتأقلم مع حياتها الجديدة بأفضلِ ما تستطيعه روحها التي تفيض بالحيوية. كان بإمكانها أن تصرخ، وتضربَ على الحوائط بقبضتَيها، أو تقفز من فوق عتبة النافذة المنخفضة في غرفتها، وتتعلق بتعريشة اللَّبلاب (وهو لبلابٌ من نوعٍ خاص، يحتمل حرارةَ الصحراء، ويُروى بعنايةٍ كل يوم من قِبَل بستانيِّ السير تشارلز) حتى تنزلَ إلى الأرض، وتجريَ باتجاه الجبال، لكنها كانت تبذل قُصارى جهدها كي تصبح فتاة صالحة. ولذلك، اكتفَت فقط بأن تكون أولَ من يجلس على مائدة الإفطار.

كان السير تشارلز والليدي أميليا عطوفَين للغاية في تعاملهما معها، وأصبحَت هي مغرمةً بهما بعد أسابيع قليلة في صحبتِهما. لقد كانا، بالفعل، عطوفَين إلى أبعد الحدود. عندما تُوفي والدها قبل عام، عرض ريتشارد، وهو مساعدٌ عسكري رتبته صغيرة للغاية، على السير تشارلز مسألة صعوبة تحمُّل مسئولية أختٍ غير متزوجة مع وجود ميراث سيَئول له وحده، والتمس منه النصيحة. (وقد عرَفَت كلَّ هذا؛ مما سبَّب لها حرجًا شديدًا، من ريتشارد، الذي أراد أن يتأكد من تفهمها كم عليها أن تصبح ممتنة.) فقال هو وزوجته إنهما سيسرُّهما استضافتها لتعيش معهما؛ ومن ثَم أرسل لها ريتشارد، الذي شعر بأنَّ عبئًا كبيرًا قد انزاح عن كاهله بحيث لم يُفكر كثيرًا في مدى ملائمة مثلِ تلك الهبة السماوية، رسالةً ليطلب منها الحضور. ولم يقُل تحديدًا إن عليها التحليَ بسلوكٍ مهذب، لكنها فهمت ذلك أيضًا.

لم يكن لديها أيُّ اختيار. كانت تعلم، لأن والدها كان قد أخبرها منذ خمس سنوات مضَت عندما تُوفيت والدتها، أنها لن تحصل على ميراث؛ فإن أيَّ مال سيتبقَّى سيرثه الابنُ الأكبر فقط. كان والدهما قد قال لها بابتسامةٍ باهتة: «ليس الأمر أن ديكي سوف يُسيء معاملتك، لكنني أشعر، من خلال معرفتي بطبعك، أنه من الأفضل أن تعلمي بالأمر قبله بمدةٍ طويلة حتى تستطيعي التوافقَ معه. إنك ستُفضلين الاعتمادَ على أخيك بصورةٍ أقل، حسبما أتخيل، مما كنتِ تفضلين الاعتماد عليَّ.» ونقَر على مكتبه بأصابعه. لم تكن الفكرةُ التي لم يُكشَف عنها صراحةً بحاجة إلى أن يُفصح عنها بصوت عالٍ، وهي أنها ليس من المحتمل أن تتزوَّج. لقد كانت فخورةً بنفسها، وإن لم تكن كذلك، فإن والدَيها كانا سيشعران بالفخر من أجلها. وفرص الزواج محدودة للفتيات الفقيرات اللواتي ينحدرن من أصولٍ نبيلة واللاتي يتمتَّعن بجمالٍ عادي — خاصةً عندما يكون هناك شكٌّ في نقاء تلك الأصول من جهة الجدة الكبرى للأم. لم تكن هاري متأكدة من سبب ذلك الشكِّ على وجه التحديد. ومع انكفائها على ذاتها أثناء مرحلة الطفولة لم تهتمَّ بالسؤال عن السبب، ولاحقًا، بعد إدراكها أنها لا تهتمُّ بالمجتمع وأن المجتمعَ لا يهتمُّ بها، لم تجد لديها الرغبةَ في السؤال.

كانت الرحلة باتجاه الشرق على متن السفينة «سيسيليا» طويلةً ولكن هادئة. فقد تأقلمَت مع السفر عبر البحر بسرعة، وعقَدَت صداقةً مع امرأة في منتصف العمر، كانت تسافر بمفردها أيضًا، ولم تسأل صديقتها الصغيرة أيَّ أسئلة شخصية، وأعارتها رواياتها على نحوٍ مجاني، وناقشتها فيها عند إرجاعها إليها. لقد تركَت عقلها يسترخي، وقرأت الروايات، وجلسَت تحت أشعة الشمس، وتجوَّلَت على أسطح السفينة، ولم تفكر في الماضي أو المستقبل.

رسَت السفينة في ستزارا بسلام، ووجدَت الأرض تتمايل تحت قدمَيها بغرابة عندما وضعَتهما لأول مرة على الشاطئ. وقد مُنح ريتشارد إجازةً لمدة شهر كي يُقابلها ويصحبَها إلى الشمال حيث يوجد بيتها الجديد. وقد بدا أصغرَ مما كانت تتوقَّع؛ فقد رحَل إلى أعالي البحار منذ ثلاث سنوات، ولم يعد إلى الوطن منذ ذلك الحين. وقد كان ودودًا معها بعد أن أُعيد لمُّ شملهما، ولكنه كان متحفظًا؛ إذ بدا أنه لم يعد هناك شيءٌ مشترك بينهما سوى القليل. فقالت في نفسها إنها لا ينبغي أن تُفاجأ بهذا؛ فقد مرَّ وقتٌ طويل منذ أن كانا يلعبان معًا كلَّ يوم، قبل أن يُرسل ديكي إلى المدرسة. وقد أصبحَت هي الآن عبئًا عليه، وهو لديه حياته التي عليه أن يفكر فيها. ورأت مع ذلك بحزنٍ أنه من اللطيف أن يُصبحا صديقَين. وعندما ضغطَت عليه كي يُعطيها فكرةً عما يمكنها أن تتوقَّعه في حياتها الجديدة، هز كتفيه وقال: «سترَين. إن الناس هناك مثلُ الناس في وطننا. لن يكون عليكِ التعاملُ كثيرًا مع السكان المحليِّين. وهناك الخدم، بالطبع، لكنهم طيبون. لا تقلقي حيال الأمر.» ونظر نحوها بوجهٍ قلق للغاية جعَلها لا تعرف ما إذا كان عليها أن تضحك أو تنهرَه. وقالت: «أتمنى أن تُخبرني بما يُقلقك.» وقد جرَت أشكالٌ مختلفة من هذه المحادثة عدة مرات خلال الأيام الأولى لرحلتهما معًا. لكن عند هذه النقطة كان يسود صمتٌ طويل.

وفي النهاية، كما لو كان لم يعد يحتمل أكثر من ذلك، انفجر قائلًا: «لن تتمكَّني من الاستمرار في التصرف كما كنتِ في بيتنا.»

«لكن ماذا تعني؟» لم تكن قد فكرَت بعدُ كثيرًا في أمر الخدم المحليين، أو في وضعِها، ومن الواضح أن ريتشارد كان يعرفها جيدًا كي يُخمن ذلك الآن. لقد كانت تكتب له رسائلَ كثيرة كل عام، منذ أن سافر إلى الخارج، لكنه كان نادرًا ما يرد. لم يُضايقها هذا كثيرًا، على الرغم من أنها اعتقدَت من آنٍ لآخر، كما حدث عندما وصلتها رسالتُه المكوَّنة من ستة أسطر والمكتوبة بخطٍّ متعجلٍ رديء في عيد الميلاد، أنه سيُصبح من المبهج إذا كانت رسائله إليها أكثرَ من ذلك، لكن هذا الأمر لم يكن يُزعجها. لكنه كان يزعجها الآن؛ لأنها كانت تشعر بأنه غريبٌ عنها — غريب ربما يعلم كثيرًا عنها وعن طريقتها المعتادة في الحياة.

بدا عليها المفاجأة، وحاولَت إعادةَ ترتيب أفكارها. لقد كانت متحمسة، لكن خائفة أيضًا، وكان ريتشارد هو كلَّ ما لها في الدنيا. إن ذكرى جنازة والدِهما، وأنها كانت الفردَ الوحيد من العائلة الذي وقف بجوار القس، وذكرياتها مع الخادمات والمستأجرين الذين عرفَتهم طوال حياتها، والذين أصبحوا بعيدًا عنها الآن، كانت لا تزال حيةً في مُخيلتها. لم تكن تريد التفكير في حياتها الجديدة؛ فهي تريد وقتًا كي تنخرطَ فيها رويدًا رويدًا. وقد أرادت أن تتظاهر بأنها سائحة. «ديكي … ديك، ماذا تقصد؟»

لا بد أن ريتشارد قد لاحظ الارتباك على وجهها نتيجةَ حنينها لبيتهما في الوطن. فنظر نحوها على نحوٍ غير مبتهج. وقال: «أوه … حسنًا … إنه ليس بيتَكِ، كما تعلمين.»

صاحت قائلةً: «بالطبع أنا أعلم ذلك! وأقدِّر ما تفعله عائلةُ جرينو من أجلك ومن أجلي من خلال … من خلال استضافتي للعيش معهم.» وأضافت بحرص: «لقد أوضحتَ لي كلَّ هذا في رسالتك.»

فأومأ برأسه.

قالت في النهاية وهي مستفَزَّة: «هل تظن أنني لا أعرف كيف أتصرف على نحوٍ مهذب؟» فحظِيَت بمدةِ صمتٍ طويلة أخرى بينما كانت تشعر بالدم يتصاعدُ إلى وجهها.

قال في النهاية: «ليس الأمر أني أظن أنك لا تعرفين السبيلَ إلى ذلك.» فجفَلَت، وانطلق يقول: «أن …»

فقاطعَته بحدةٍ: «هاري. سيظلُّ اسمي هاري.» نظر نحوها في إحباط، فأدركَت أنها تؤكد مخاوفَه بشأنها، لكنها لم تكن لتتخلَّى عن ذلك، من بينِ كل الأشياء الأخرى. وبدا أن إدراكه أنها ستُصرُّ على أن يظل اسمها هاري قد أعجزه عن الكلام؛ لأنه لم يُحاول أن يجادلها أكثرَ من ذلك، وانسحب إلى مقعده الواقع عند الركن، وحدَّق عبر النافذة.

لقد فهمَت من صوته أنه لم يُرِد أن يجرحها، لكنه قلقٌ بالفعل. هي وريتشارد كانا أشبهَ باثنين من الحيوانات البرِّية في طفولتهما؛ لكن عندما أُرسل ديكي إلى المدرسة، جرَّتها أمُّها إلى داخل البيت، غالبًا وهي تُمسكها من أذنَيها أو خلف رقبتها، وبدأت العملية الصعبة الطويلة الخاصة بتقويمها وتحويلها إلى شيءٍ أقرب إلى فتاةٍ مهذبة.

قالت حينها لابنتها العابسة: «أظن أنه كان ينبغي عليَّ بدءُ ذلك منذ سنواتٍ مضت، لكنكِ كنتِ تستمتعين بوقتك، وكنتُ أعلم أن ديكي سوف يُرسَل بعيدًا للمدرسة عمَّا قريب. واعتقدتُ أنه ليس من العدل أن تبدَئي دروسَكِ حينها.» قلَّل هذا من عبوس ابنتها بعضَ الشيء؛ لذا أضافت وهي تبتسم: «وعلاوةً على ذلك، أنا نفسي لطالما أحببتُ بشدةٍ ركوبَ الخيل وتسلُّق الأشجار والقفزَ في البِرَك.» وبعد هذا الإقرار المفتوح بالتعاطف من جانب العدو، لم يكن من الممكن أن تصبح الدروسُ مضجرةً تمامًا؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن صارمةً مثلما كان من المفترض أن تكون. ففي أيامٍ جميلة على نحوٍ خاص، غالبًا ما كانتا تأخذان معهما الغداء وتخرجان معًا على صَهوةِ حِصانَيهما، كأمٍّ وابنتها، كي تحصلا على بعض الإلهام — مثلما كانت تقول الأم — عبر قليل من الهواء المنعش؛ لكن الكتب غالبًا لم تكن تُغادر رَحل الحصان طَوال اليوم. لقد تعلَّمَت الابنة أن تُحب الكتب، وخاصةً روايات المغامرات حيث يمتطي البطلُ حصانًا جميلًا، ويطعنُ كلَّ الأشرار بسيفه الفِضي، لكنَّ قدرتها على التطريز لم تكن متميزةً على الإطلاق، وتعلمَت الرقص فقط بعد أن أشارت أمُّها إلى أن هذه الرشاقة والاتزان اللذَين يمكن تعلُّمهما في قاعة الرقص ستُمكِّنانها بلا شكٍّ من التحكم الجيد في الحصان من على السَّرج. كما تعلمَت الأعمال المنزلية الضرورية في بيتٍ ريفي عتيق متهالك على نحوٍ مكَّنها من إدارتها بنجاح أثناء مرض أمها الذي سبق وفاتَها؛ وأصبحَت الشهور الأولى الرهيبة بعد وفاة أمها أكثرَ سهولة؛ نظرًا إلى أنها قد وجدَت ما تفعله. ومع اندمال أولِ جُرحِ فراقٍ تتعرض له، أدركَت أيضًا حبها لأن تكون مفيدة.

في خلال السنوات الخمسة الصادمة التي تلَت وفاةَ والدها، ومع علمها بأنه لا بد لها من تركِ بيتها، والعهدِ به إلى مدير أعمال غيرِ مُبالٍ، خطر في ذهنها أنَّ عليها أن تشعر بالارتياح لأنَّ القاعدة الشرقية الصغيرة الموجودةَ عند أبعدِ حدود إمبراطورية هوملاند حيث أُرسل ريتشارد، وحيث كانت هي على وشك أن تنضم إليه؛ صغيرةٌ ومنعزلة. لقد اصطحبَتها أمها إلى الحفلات الصغيرة والمناسبات الاجتماعية المتنوعة التي قد تُتاح في منطقةٍ ريفية مثلِ التي كانوا يعيشون فيها، وبينما كانت تعلم أنها كانت «تتصرف على نحوٍ جيد»، فإنها لم تكن تستمتع بوقتها. أحد الأسباب تمثَّلَ في أنها ببساطةٍ ضخمةٌ للغاية؛ أطولُ من كل النساء، وأطولُ من معظم الرجال.

لم تتمكَّن هاري من استخلاص أيِّ شيء مفيد أكثرَ من أخيها بشأن مخاوفه الخاصة، بينما كان يُقلُّهما القطارُ المتهالك الصغير نحو الشمال. لذا بدأت تسأل أسئلةً عامة — أسئلة سائحة — حول بلدها الجديد؛ وعندئذٍ حالفَها حظٌّ أوفر. إذ بدأ ريتشارد بوضوح في التخلي عن تحفظه؛ لأنه لمس الإخلاصَ في اهتمامها، فأخبرها بابتهاجٍ شديد أن البلدة التي تقع في نهاية خط رحلتهما، حيث ينتظرهما السير تشارلز والليدي أميليا، هي البلدة الوحيدة الواضحةُ المعالمِ في نطاقِ مسيرة ثلاثة أيام منها. وأضاف: «هناك محطةٌ لا سلكية وسط مكانٍ ناءٍ حيث يتوقف القطار — وهي موجودة فقط كي يجدَ القطار مكانًا يتوقف فيه — وهذا كل شيء.» إن اسم البلدة هو إيستن، وقد كانت تُسمى إهيستن وَفقًا للسكان المحليين، لكنه اعتُ بر اسمًا يصعب للغاية نُطقه. وخلف إيستن كانت توجد مجموعةٌ متفرقة من الأكواخ الكئيبة الصغيرة في حقولٍ مرويَّة بعناية، حيث يُزرع نباتٌ محلي خشن منتج للحبوب ذو شراشب، يُسمى الكورف. لقد كانت إيستن قريةً صغيرة قبل مجيء الهوملانديِّين، حيث كان يأتي إليها الفلاحون والرعاة والبدوُ من الأماكن المحيطة كي يبيعوا ويشتروا في سوقها كلَّ أسبوعَين، كما كان يوجد بها قليل من متاجر تصليح الأواني ونَسْج الأبسِطة. وقد استخدمها الهوملانديون قاعدةً أمامية، ووسَّعوها، على الرغم من بقاء السوق الأصلي في مركزها؛ وبنَوا حصنًا عند الجانب الشرقي منها، أُطلق عليه اسمُ الجنرال ليونارد إرنست ماندي.

وقد أصبحَت إيستن مؤخرًا مكانًا له بعضُ الأهمية في الشبكة الحكومية التي أسَّسها الهوملانديون في الأرض التي احتلوها منذ ثمانين عامًا. لكنها كانت لا تزال بقعةً منعزلة، ولا يذهب إليها أحد إلا إذا كان مضطرًّا؛ لأنها تقع على حافة الصحراء الشمالية الكبرى للقارَّة التي هي عبارةٌ عن شبهِ جزيرة، التي كان يُطلق عليها الهوملانديون اسم داريا. ولكن منذ ثلاثة عشر عامًا اكتُشفت مناجم إيل في جبال راميد في جهة الشمال الغربي، وخلال الأعوام الثمانية الأخيرة أعلن بصفةٍ رسمية أن المناجم هي أكثرُ اكتشاف مربح في قارة داريا كلها، وكان ذلك يحمل مغزًى كبيرًا. فعائدات البرتقال وحدها لا يُمكنها تسديدُ أجورِ سوى نصفِ الموظفين العامِّين في المقاطعة.

«مع ذلك، يصعب بشدةٍ الوصول إلى المناجم؛ إذ إن الطريق عبر جبال راميد وعرٌ للغاية. وتقع إيستن على الطريق الملائم الوحيد إلى المناجم، وهي آخرُ بلدةٍ كبيرة بما يكفي لتوفير المؤن لأيِّ قافلة أو صُحبةٍ ذاهبة في ذلك الطريق، أو قادمة منه. لهذا السبب امتدَّ إليها خطُّ السكك الحديدية، أخيرًا. قبل ذلك كنا السببَ الوحيد لأي شخص يريد المجيءَ إلى هذا الحد، وعناصر جذبنا محدودة. لكن المناجم هي الأمرُ المهم الآن. وربما يتوصلون إلى طريقة من أجل حفر طريق عبر جبال راميد. أتمنى أن يُحالفهم الحظ.»

تظل بلدةُ إيستن أيضًا مهمةً من الناحية التكتيكية؛ لأنه بينما في جنوبها امتدَّت حدودُ نفوذ الهوملانديين على نحوٍ سريع للشرق، فقد أخفقوا في دفعها بالقرب من جبال الشمال والشرق. وقد أثبت السكان المحليون، ربما من خلال تعلُّم التكيُّف مع الصحراء من أجل البقاء، أنهم أكثرُ غِلظةً من أبناء عمومتهم في الجنوب.

لقد قرأَت هاري عن بعض من هذا وهي في موطنها عندما سمعَت لأول مرة عن تعيينِ ريتشارد هناك منذ ثلاثة أعوام. لكنها كانت تشعر بحقيقته الآن، مع الرياح الغربية التي تهبُّ عليها من مناجم إيل الغنية، واللون البرونزي المخضرِّ الغريب للسماء، والحُمرة الرائعة لغروب الشمس. وقد رأت الزيَّ الرسمي البني الكئيب لجنود هوملاند المتمركزين هنا، والذي يوجد به رأسيًّا على جانب الصدر الأيسر شريطٌ أحمر، يشير إلى أنهم كانوا يخدمون في مقاطعةِ داريا الخاضعةِ لسلطة هوملاند. وكلما امتدَّت رحلتهما، شاهدا مزيدًا من هؤلاء الجنود. «إنه لَمن المؤسف أن إيستن هي الحدُّ الشرقي؛ يبدو أننا لا يُمكننا تحملُ فكرة أن الحدود ليست ممتدةً على استقامتها، من الشمال إلى الجنوب؛ لأننا نودُّها أن تصبح كذلك. إنهم يستمرون في التهديد بشنِّ هجمات جديدة، لكن الكولونيل ديدام — وهو المسئول عن حصن ماندي القديم — يقول إنهم لن يفعلوا ذلك. فمن الذي يريد بسْطَ سيطرته على صحراء كبيرة على أي حال؟ إنها المَزارع في الجنوب — والمناجم — التي تجعل الأمرَ يستحقُّ الوجود هنا.»

وقد شجَّعَته على الحديث عن حكومةِ جلالتها في مقاطعة داريا الملكية، وإذا لم تكن قد استمعت بإنصات كما ينبغي لها إلى وصفِ الرتب والمهامِّ الخاصة بالموظفين العامين الذين تعامَل معهم ريتشارد، فقد وصلت إلى إيستن في النهاية ولديها فكرةٌ بسيطة عن كيف من المتوقَّع بنحو عام أن ينظر الهوملانديون إلى داريا. كما رأت نبات الكورف بعينَيها، ومجموعةً من الغجر المتجولين الذين يُعرَفون باسم ديلبادي، وتغير لون مساحات الأرض التي مرُّوا عليها، من اللون الأحمر في الجنوب، إلى البنِّي في الوسط، والأصفر المائل للرمادي في الشمال. واستطاعت تمييزَ شجرة الإيلبين ذاتِ الأوراق العريضة من شجرة تورثوك الزرقاء الدائمة الخُضرة، وعندما قابلتْها الليدي أميليا وقدَّمَت لها باقةً من زهور بيميتشي الصغيرة ذاتِ اللون القَرنفُلي الوردي؛ تعرَّفَت عليها بالاسم.

كانت الليدي أميليا امرأةً ممتلئة القوام ضئيلةَ الحجم، ذاتَ عينَين واسعتين بلون البندق، وشعرٍ مجعَّد رماديِّ اللون، وهيئةٍ عامة حزينة تنمُّ على جمالٍ ذابل. وكان زوجها، السير تشارلز، في مِثل طول ريتشارد لكنه أعرضُ بكثير؛ لا بد أن وزنه كان يبلغ نحوَ مائة كيلوجرام، هكذا ظنَّت هاري على نحوٍ موضوعي وهي تُصافحه. وقد كان ذا وجهٍ أحمر وشعر أبيض وشاربٍ رائع، وإذا كانت عيناه الزرقاوان ضيقتين قليلًا، فهناك تجاعيدُ بوفرةٍ حولهما، كما أن ابتسامته كانت دافئة. وشعرَت كأنهما كانا يتوقان لمجيئها، فشعرَت بالارتياح بعض الشيء؛ إذ لم يكن هناك أيٌّ من التعالي الذي كانت تتوقعه تجاه قريبٍ فقير؛ قريب فقير لشخص آخرَ في هذا الخصوص.

لقد أوضح لها السير تشارلز خلال الأمسية الأولى تاريخَ داريا بالكامل؛ من حيث ماضيها، واحتلالُها من قِبَل الهوملانديِّين، وحاضرُها، ومستقبلُها المحتمل، لكنها كانت متعبةً للغاية بحيث لم تتمكَّن من مُتابعة أغلبِ ما قيل. وكانت تعليقات الليدي أميليا العرَضية السريعة، عندما كان يتوقَّف زوجها لالتقاط أنفاسه، عن وسائل الراحة التي ستجدها هاري هنا مرحَّبًا بها أكثر بكثير من جانب هاري، على الرغم من أنها حاولَت عدمَ إظهار ذلك. ولكن في وسط الأمسية، وبينما كان يشير السير تشارلز بكأسِ مشروبه وينظر ريتشارد بلا مبالاة، التقَت عينا الليدي أميليا بعينَي الفتاة التي أصبحَت مسئولةً عنها لحظةً طويلة. وقد سرَت بينهما نظرةُ حِلم وتعاطف؛ وظنَّت هاري أن الأمور ربما ستسير على ما يُرام، وصعدت لتنام بمعنوياتٍ مرتفعة.

وخلال الأيام القليلة الأولى لها في إيستن، أفرَغَت حقائبها، وأخذَت تتفقَّد ما حولها، ووجدت كلَّ شيء جديدًا عليها. لكن مجتمع مواطني هوملاند في إيستن كان صغيرًا، ومزدهرًا في الوقت نفسِه، وكانت هي أحدثَ الأفراد المنضمِّين لذلك المجتمع الذي يتطلَّع للقاءِ المنضمِّين إليه ويُرحب بهم ويستجوبهم ويتحدث عنهم.

كانت دائمًا تُعاني من تململٍ غامض وشوق للمغامرة، وقد أخبرَت نفسها على نحوٍ واضح أنه كان ناتجًا عن قراءةِ عددٍ كبير جدًّا من الروايات عندما كانت طفلةً صغيرة. وعندما كبِرَت، وعلى وجه الخصوص بعد وفاة أمها، تعلمَت أن تتجاهل ذلك التململ. لقد نسيَت أمره تقريبًا، حتى بدأت تشعر به الآن. وقد كانت تتساءل في بعض الأحيان إذا ما كان أخوها أيضًا يشعر بتململ الروح هذا، وإذا كان شيءٌ مثلُ ذلك له صلة بالحال الذي قد انتهى إليه الآن بالعمل في قاعدةٍ حدودية صغيرة، مهما كانت أهميتها من الناحية التكتيكية، مع أن تطلعاته، عندما تخرَّج في الجامعة، كانت تشير إلى شيءٍ أفضل. كان هذا واحدًا من الأشياء العديدة التي لم تسأله عنها. وسؤالٌ آخَر لم تسأله هو إذا ما كان قد شعَر بالحنين للوطن طوال الآونة التي غابها عنه.

وضعَت كوب عصير البرتقال الفارغَ على المائدة، وتنهَّدَت. لم يتمكَّنا من مشاهدةِ بساتين البرتقال في طريق المجيء شمالًا من ستزارا، حيث رسَت سفينتها على الشاطئ. التقطت شوكتها من المنديل الكتاني الأبيض اللامع، والمطوي بأناقة، ولفَّتها بحيث إن ضوء الشمس الذي كان يتلألأ عبر كوب عصير البرتقال الخاص بها؛ أصبح الآن يتلألأ بأشعةٍ صغيرة على أسنان الشوكة. قالت لنفسها: لا داعي للتململ.

كانت ستذهب هذا الصباح للقيام بجولة بالخيل مع الآنستين كاسي وإليزابيث بيترسون. إن عمرَيهما كانا مقاربين لعمرها، وكانتا أكثرَ الفتيات جمالًا في القاعدة؛ إذ قد وقع في غرامهما جميعُ ضباط الكتيبة الرابعة من سلاح الفرسان، المتمركزة في حِصن الجنرال ماندي. لكنهما أيضًا كانتا مَرِحتَين وودودتين، وقد كانت تُحبهما كثيرًا. لم تهتمَّ مطلقًا كثيرًا بمسألة الجمال، على الرغم من إدراكها بأنها ليست جميلة، وأن وضعها ربما كان سيُصبح أفضل قليلًا لو أنها كانت جميلة.

كنَّ سيَعُدن من جولتهن عند انتصاف الصباح؛ لأن الشمس كانت ستصبح أكثرَ حرارةً مما يمكن احتماله بحيث يصعب الاستمتاعُ بالتنزُّه. لقد كانت تنوي أن تسأل الليدي أميليا إن كان بإمكانهن جميعًا العودةُ إلى هنا لتناول الغداء. وهي بالفعل كانت تعلم كيف ستكون الإجابة: «عجبًا، بالطبع! نحن دائمًا نسعد برؤيتهما. أنا مبتهجة للغاية، يا عزيزتي، لأنكِ ماهرة بما يكفي لأن تُصادقي أكثرَ فتاتين فاتنتين لدينا هنا.» وجدَت هاري نفسها تلعب بشوكتها مرةً أخرى، فوضعَتها على المائدة بقوة.

كانت هناك حفلةُ رقص أخرى ذلك المساء. وقد وعَدها ريتشارد بأن يُرافقها، وكان عليها أن تُقر، على الرغم من أن كلامهما معًا كان قليلًا الآن، أنه كان طيبًا للغاية لأنه يُرافقها إلى الحفلات ويرقص معها — وهذا يعني أن هناك على الأقل رجلًا واحدًا حولها يمكن أن ترقص معه دون أن تجده أقصرَ منها. لم يَخفت امتنانها على الإطلاق بسبب الشكِّ في أنه كان يُكنُّ حبًّا لم يُفصح عنه تجاه كاسي، ولا بسبب الظن، الذي لم يكُن حتى شكًّا حقيقيًّا، أنه ربما لا يريد أن يسخر منه أحدٌ بسبب عدم شعبية شقيقته. كلا، لقد كانت طيبته حقيقية؛ كانت تعتقد أنه كان يُحبها، بطريقته الصامتة القلقة. ربما يكون من المحتَّم ببساطةٍ أنَّ كونَ المرء مساعدًا عسكريًّا رتبتُه صغيرة للغاية، وقد وجد نفسه مسئولًا على نحوٍ مفاجئ عن شقيقةٍ غيرِ متزوجة، قد جعله يُبالغ قليلًا في اتباع قواعد اللياقة.

لم يخطر على بالها مطلقًا أن تُفكر فيما إذا كان أيٌّ من الشباب ذَوي الزيِّ العسكري البرَّاق الذين عرَّفها ديكي بهم على نحوٍ جاد، والذين طلبوا منها بعد ذلك بالجدِّية نفسِها أن يرقصوا معها، قد تعاملوا معها انطلاقًا من أيِّ دافع بخلاف الرغبة في إسداء صنيع لصديقهم كرو، من خلال المعاملة اللطيفة لشقيقته الفارعة الطول. كان سيدهشها للغاية أن تكتشف وجودَ اثنين أو ثلاثة ممَّن أُعجبوا بها من بينهم، والذين قاوَموا حتى الآن الاعتقادَ السائد في الثكنات العسكرية التي يعيشون فيها، ومالوا إلى فتاةٍ ذاتِ شعبية أقلَّ من الأختَين بيترسون. اشتكى واحدٌ منهم لصديقه المقرَّب الذي استمع إليه بسَعة صدر صديق، على الرغم من أنه هو نفسه لم يكن قادرًا على رؤية جاذبية أيِّ امرأة بخلاف بيث بيترسون قائلًا: «لكنها تُشبه أخاها تمامًا.» وتابع على نحوٍ غير واثق قليلًا: «إنها مهذَّبة للغاية. أوه، وهي لطيفة بالقدر الكافي، كما تعلم. أنا لا أعتقد أنها بالفعل غيرُ معجبة بي.» ثم أضاف: «لكني غيرُ متأكد على الإطلاق أنها تستطيع حتى تذكُّري من يوم إلى يومٍ يليه؛ لذا فهذا لا يُهم.»

قال الصديق ممازحًا: «حسنًا، إن ديك يتذكَّركِ على نحوٍ جيد للغاية.»

قذف المعجبُ زميلَه بفردة حذائه التي لم يُلمعها بعد. وقال: «أنت تعلم ما أعني.»

وافقَه الصديق قائلًا: «أنا أعلم ما تعني. إنها متبلدةُ المشاعر.» رفع المعجب نظرَه عن تلميع الحذاء بغضب، ورفع الصديق الفردة الأخرى كدِرْع. «إن ديك متمسكٌ بالشرف للغاية. وأنا واثقٌ أن أخته مثله. أنت فقط لا تعرفها جيدًا بما فيه الكفاية حتى الآن.»

قال المعجب بحزن: «حفلات الرقص، وحفلات العشاء. أنت تعرف كيف تسير الأمور خلالها؛ قد يستغرق الأمر سنوات.» أعاد له الصديق فردة الحذاء في تعاطفٍ صامت (وهو يُفكر في بيث)، وبدأ المعجب في تلميعه في تجهُّم.

إن مَن يميل إليها، لو علمَت بهذا الحديث، لاتفقَت معه في موضوع حفلات الرقص وحفلات العشاء. في الواقع، كانت ستُضيف على ذلك أنها غيرُ متأكدة من إمكانية حدوث هذا على الإطلاق، وهي تقصد التعرفَ على شخصٍ ما في أي مجموعةٍ متتالية من هذه الحفلات، مهما طال أمَدُها. وكان الصديق مُحقًّا بشأن تمسُّكِ ديك كرو الشديدِ بالشرف. فقد كان يعلم جيدًا أن اثنين على الأقل من أصدقائه كانا واقِعَين في حبِّ أخته، لكنه لم يخطر بباله مطلقًا أن يقول لها أيَّ شيء عنهما. لم يستطِع استغلال ما يعرفه من خلال الصداقة من أجل مصلحةٍ شخصية بهذه الطريقة.

وشقيقةُ ديك، التي كانت غافلةً عن حقيقة أنها فازت لنفسها بمكان في التسلسل الهرمي للقاعدة، كانت ضجرةً ومتململة.

كانت الليدي أميليا ثانيَ من وصلت إلى مائدة الإفطار. وكانتا قد حسمتا للتو مسألةَ حضور كاسي وبيث لتناول الغداء في البيت — من خلال الكلمات المحددة المتوقعة تقريبًا — عندما فُتح باب غرفة مكتب السير تشارلز، الموجودة قبالة الرواق المؤدي لغرفة الطعام؛ ودخل السير تشارلز وسكرتيره السيد مورتيمر لتناول الإفطار. نظرت المرأتان إليهما بدهشة؛ حيث كان يدلُّ مظهرهما بوضوح على أنهما ظلَّا مستيقظَين ساعاتٍ عديدة، يعملان بجِدٍّ دون تناوُلِ أكثرَ من فنجان أو اثنين من القهوة المحلية الثقيلة الداكنة، وأنهما سوف يُهرَعان بعد تناولِ وجبتَيهما الآن للعودة إلى ما كانا يفعلانه. ولم يَبدُ أيٌّ منهما سعيدًا للغاية حيالَ ما كان ينتظره.

قالت الليدي أميليا: «عزيزي. هل هناك أيُّ مشكلة؟»

مرَّر السير تشارلز يدَه في شعره الأبيض، وتناول طبقَ بيضٍ بيده الأخرى، وجلس. وهز رأسه نافيًا. نظر فيليب مورتيمر نظرةً خاطفة إلى مديره لكنه لم يقُل شيئًا. قال السير تشارلز: «ريتشارد لم يأتِ إلى هنا حتى الآن»، وكأنَّ غيابه فسَّر كل شيء.

قالت الليدي أميليا بصوتٍ خافت: «ريتشارد …؟»

قال: «أجل. والكولونيل ديدام. أنا آسفٌ يا عزيزتي»، وبدا أنَّ تناول بعض من البيض قد جعله يستعيد قوَّته. وتابع موضحًا من خلال استعارته وفمِه الممتلئ بالطعام: «لقد جاءت الرسالة فجأةً وكأنها صاعقةٌ من السماء، في منتصف الليل. جاك — الكولونيل ديدام — ذهب، في محاولةٍ لمعرفةِ ما يمكنه فعلُه، وقلت له أن يأتيَ لتناول الإفطار ويُخبرنا بما علمه. أما عن ريتشارد، فهو شابٌّ يعرف كيف يتحدث إلى الناس. اللعنة عليهم! اللعنة عليه! سيُصبح هنا في غضون ساعاتٍ قليلة.»

حدَّقت زوجتُه به في حيرةٍ تامة، وتجنَّبَت ضيفتُه الشابة التحديقَ به عندما نظر إليها؛ لأنه لم يكن من اللائق أن تُحدق به. فوضَع شوكته وضحك. ثم قال: «ميلي، إن وجهك يَشي بما يدورُ في رأسك. لكن صغيرتي هاري ستُصبح زوجةَ سفيرٍ جيدةً يومًا ما؛ انظري إلى هذا الوجه الخالي من التعبيرات! لا ينبغي حقًّا أن تَبْدي مثل أخيك هكذا؛ يجعلك هذا مفهومةً بسهولة لمن يعرفه منا. أنت الآن تقولين لنفسك: هل ذهب عقلُ الرجل العجوز أخيرًا؟ فلْنُسايره حتى نتأكد؛ إذا هدأ قليلًا، فربما سنحصل منه على بعض الكلام المفهوم حتى وهو في هذه الحالة.»

ابتسمَت هاري له، غيرَ منزعجة من مداعبته، فمدَّ يده عبر المائدة، متجاوزًا الشمعدانات ووعاءً من الفاكهة مرتَّبةً محتوياتُه بنحوٍ فني، ليربت على خدِّها بأصابعه. وقال: «ستُصبحين زوجةَ جنرال، بعد التفكير في الأمر مرةً أخرى. ستُهدر قدراتك في السلك الدبلوماسي؛ فنحن جميعًا موظفون بيروقراطيون غِلاظ.»

وغرس شوكته في قطعة من الخبز المحمَّص، فأشاحت الليدي أميليا بنظرها بعيدًا؛ إذ كانت تتبع مع عائلتها آدابَ مائدة نيقة جدًّا كما لو كانت تتناول الطعام مع العائلة المالكة. وكدَّس السير تشارلز مربَّى البرتقال على قطعة الخبز المحمص، حتى بدأت تسيل من الحافَات، وأضاف مقدارًا ضئيلًا آخَر من المربى، وأكل القطعة كلَّها في ثلاث قضمات. «ميلي، أتذكر أنني قد أخبرتك عن الصعوبات التي نُواجهها في الشمال، على هذا الجانب من الجبال مع الجماعات الخاضعة لنا، وعلى الجانب البعيد مع أيٍّ من الجماعات التي تعيش هناك — إذ إنها تُعد توليفة غريبة جدًّا، وذلك حسب معلوماتنا — وقد بدأ كل شيء في التصعيد، في العام الماضي، بسرعة تُنذر بالخطر. هاري، هل أخبرك ديك بشيء عن هذا؟»

أومأَت برأسها بالإيجاب.

«قد تعرفين أو لا تعرفين أن سيطرتنا الحقيقية على داريا تنتهي تمامًا عند حدود هذه القاعدة، على الرغم من أنه من الناحية التقنية — على الورق — يمتدُّ حكم هوملاند مباشرةً إلى سفحِ تلك الجبال الموجودة إلى الشمال والشرق من هنا — أوساندر، التي تمتدُّ من جبال راميد، ثم تلك السلسلة الشرقية البعيدة التي ترَينها فوق الرمال، والتي لم يسبق لأيٍّ منا أن ذهب إليها … هذه الجبال هي الأجزاء الوحيدة من مملكةِ دامار القديمة، التي لا تزال تحت حكم السكان الأصليِّين. وقد نشبَت كثيرٌ من المعارك على طول هذه الحدود — لنقُل، قبل أربعين عامًا مضَت. منذ ذلك الحين يتجاهلنا مَلِكُهم — أوه، أجل، هناك ملك — بنحو أو بآخر، ونحن نتجاهله على النحو نفسِه. لكن أشياءَ غريبةً — أُطلق عليها أشياء غريبة؛ سيُخبرك جاك بما يظنه عنها — لا تزال تحدث في ذلك السهل، أرضنا المهجورة. لذا لدينا الكتيبة الرابعة من سلاح الفرسان هنا معنا.

لم يحدث شيءٌ غريب للغاية منذ أن تولى الملك الحاليُّ العرش قبل نحو عشر سنوات، كما نظن؛ إنهم لا يُكلفون أنفسهم عناءَ إطلاعنا على كل ما هو جديد في مثل هذه الأمور — ولكن هذا ليس قلةَ اكتراث أبدًا. حسنًا.» ومن ثَم عبَس، وبينما هو عابسٌ أكل قطعة أخرى من الخبز المحمص. وتابع: «كان كل شيء هادئًا لمدة … أوه، خمسة عشر عامًا على الأقل. منذ قدمتُ إلى هنا تقريبًا، وهذا وقتٌ طويل. اسألي جاك، مع ذلك، عن القصص الخاصة بما كان عليه الوضع في جانبَي النصف الشمالي من هذه الحدود قبل ذلك. فلديه كثير منها.» نهض من على المائدة وتوجَّه عبر الغرفة إلى صفِّ النوافذ. ورفع الستارة لمسافة كبيرة بينما كان ينظر عبر الصحراء، كما لو أن اتساعَ الرؤية قد يُساعد في وضوح التفكير. كان من الواضح أن عقله لم يكن مُركَّزًا على التفسير الذي يُقدمه، وعلى الرغم من كل ابتهاجه المفترض، كان قلقًا للغاية. «اللعنة! … اعذروني. أين جاك؟ كنتُ أتوقع أنه على الأقل كان سيُرسل الشابَّ ريتشارد قبل الآن.» تحدث كما لو كان يتحدث إلى نفسه، أو ربما إلى فيليب مورتيمر، الذي أحدث ضوضاء مهدِّئة، وصبَّ كوبًا من الشاي، وأخذه إلى السير تشارلز حيث كان يقف محدقًا في ضوء شمس الصباح.

قالت الليدي أميليا بلطف. «هل هناك مشكلة؟ مزيدٌ من المشكلات؟»

أسقط السير تشارلز الستارة واستدار. وقال: «أجل! مزيد من المشكلات.» ثم نظر إلى يديه، وأدرك أنه يحمل كوبًا من الشاي في إحداهما، فارتشَف منه رشفةً بمظهر رجلٍ يفعل ما هو متوقَّع منه. وقال: «قد تقع حربٌ مع الشماليِّين. يعتقد جاك ذلك. أنا لستُ متأكدًا، لكن … أنا لا أحب الشائعات. يجب علينا تأمين الممرات عبر الجبال — ولا سيما ريتجرز جاب، التي تمنح أيَّ شخص يمرُّ عبرها مسارًا شبه مباشر إلى إيستن، ثم بالطبع إلى المقاطعة بأكملها. قد يكون هذا اضطرابًا قَبليًّا فقط — ولكنه قد يكون حربًا حقيقية كما كانت قبل ثمانين عامًا. لم يتبقَّ كثير من الداماريين القدامى — سكان التلال — لكننا أُجبرنا على إبداء احترام شديد لهم. وإذا قرَّر الملك كورلاث أن يُجرب حظه ويتحالف مع الشماليين …»

سُمع صوتُ قعقعة في الشارع بالأسفل. فالتفتَ السير تشارلز برأسه تجاهها. وقال: «ها هما أخيرًا»، ثم اندفع نحو الباب الأمامي وفتحه على مِصراعَيه بنفسه، تحت العين الخَجلى لكبير الخدم الذي خرَج من غرفته الداخلية متأخرًا للغاية. «ادخلا! لقد كنتُ في حالةِ توترٍ شديد خلال الساعة الماضية، وأخذتُ أتساءل عمَّا حدث لكما. هل اكتشفتما أيَّ شيء قد يكون مفيدًا لنا؟ كنت أحاول أن أشرح للسيدتين ماهيَّةَ المشكلة التي تُواجهنا.»

سألت الليدي أميليا من دون تسرُّع، بدماثتها الهادئة المعتادة: «هل تودَّان تناول الإفطار؟ ربما كان يُحاول تشارلز الشرح، لكنه لم ينجح حتى الآن.» واستجابةً لإيماءة منها، وضعَت خادمةٌ كرسيَّين آخرَين على المائدة. ومع جلجلة مهاميز الأحذية، دخل الوافدان الجديدان، واعتذرا عن اتِّساخ زيِّهما، وكانا مسرورين بالحصول على بعض الإفطار. وطبع ريتشارد قُبلة روتينية على خدِّ أخته وهو في طريقه لتناول البيض ولحم الخنزير.

بعد بضع دقائق من صبِّ الشاي وتمرير الزبدة، وبينما كان يسير السير تشارلز ذَهابًا وإيابًا في الغرفة بنفادِ صبرٍ شبه واضح، كانت الليدي أميليا هي أولَ المتحدثين. وقالت: «سنتركُك لعملك، الذي أرى أنه مهم للغاية، ولن نُضايقك بمطالبتك بتقديم تفسيرات. لكن هل لك أن تجيب عن سؤالٍ واحد فقط؟»

قال الكولونيل ديدام: «بالطبع، يا ميلي. ما هو؟»

«ما الذي ألقى بك فجأةً في هذا الاضطراب الكبير؟ زائر غير متوقَّع، حسبما فهمت مما قاله تشارلز؟»

حدَّق بها ديدام. وقال: «ألم يُخبرك …؟ يا إلهي! إنه كورلاث نفسُه. إنه قادم. لم يقترب من هنا قَط، كما تعلمين؛ لا أحد من سكان التلال الأصليين يفعل ذلك، إذا كان بإمكانهم. في أحسن الأحوال، إذا أردنا بشدةٍ التحدثَ إليه، يمكننا إيقافُ أحد رجاله أثناء مرورهم عبر التلال السفحيَّة في الجهة الشمالية الشرقية من هنا. هذا يحدث في بعض الأحيان.»

قاطعه السير تشارلز قائلًا: «أتعلم، يجعلنا هذا نأمُل أنه ربما يرغب في التعاون معنا — وليس مع الشماليِّين. جاك، هل توصلتَ إلى أي شيء؟» هز ديدام كتفيه نافيًا. وقال: «ليس بالضبط. لا شيء لم نكن نعرفه بالفعل — أن مجيئه إلى هنا غيرُ مسبوق، على أقل تقدير — وأنه هو بالفعل الذي سيأتي. لا أحد لديه أيُّ تخمينات أفضل من تخميناتنا حول لماذا، فجأةً، قرَّر فعل ذلك.»

قال السير تشارلز حاثًّا إياه: «لكن تخمينك هو …»

هز ديدام كتفيه مرةً أخرى نافيًا، وبدا ممتعضًا. وقال: «أنت تعرف بالفعل ماذا سيكون تخميني. أنت فقط تحب أن تسمعني وأنا أجعل من نفسي أبدو شخصًا أحمق. لكنني أُومن بالأشياء … الغريبة التي تحدث هناك …» ولوَّح بملعقةِ السكَّر، وأضاف: «وأعتقد أن كورلاث لا بد أن لديه علامةً من نوعٍ ما، كي يذهب إلى المدى الذي يدفعه إلى المجيء إلينا.»

خيَّم الصمت، وأمكن لهاري ملاحظةُ أن كل الموجودين في الغرفة بخلافها كان يشعر بعدم الارتياح. فقالت بتردُّد: «علامة؟»

رفع ديدام نظرَه مع ابتسامته السريعة. وقال: «أنتِ لم تكوني هنا مدةً كافية كي تسمعي أيًّا من القصص الغريبة عن حُكام دامار القدامى، أليس كذلك؟»

قالت: «بلى.»

«حسنًا، لقد كانوا سحرةً — أو هكذا يُقال. سحَرة. يمكنهم استدعاءُ البرق ليضرب رءوسَ أعدائهم، هذا النوع من الأشياء؛ وهي أشياء مفيدة لتأسيس إمبراطورية.»

نخر السير تشارلز.

«كلا، أنت محقٌّ تمامًا؛ كل ما كان لدينا هو البنادق الفتيلية والحماسة. حتى السحر يتضاءل، حسبما أظن. لكنني لا أعتقد أنه قد تضاءل إلى حدٍّ بعيد بعد؛ لا يزال هناك البعض الذين يعيشون في تلك الجبال هناك. يمكن لكورلاث تتبُّعُ نسَبِه إلى إيرين وتور، اللذَين حكَما دامار في عصرها الذهبي — باستخدام السحر أو بدونه، اعتمادًا على نسخة الرواية التي تُفضلها.»

قاطعه السير تشارلز قائلًا: «إذا لم يكن كلٌّ منهما أسطورة.»

قال جاك ديدام: «أجل. لكنني أعتقد أنهما كانا حقيقيَّين. أنا حتى أعتقد أنهما استخدما شيئًا نُسميه نحن، أهلَ هوملاند الذين لا نمتع بخيالٍ واسع، بالسحر.»

حدَّقَت به هاري وهي مفتونة، فاتَّسعَت ابتسامته. وقال: «أنا معتاد على أن يراني الناس أحمقَ بشأن هذا. إنه بلا شك جزءٌ من السبب الذي يجعلني ما زلتُ برتبة كولونيل، وما زلت في حصن الجنرال ماندي. لكنَّ هناك عددًا منا، نحن الجنودَ القدامى الذين لديهم ذكريات عن داريا قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، الذين يقولون الشيء نفسَه.»

قال السير تشارلز باشمئزاز، ولكن كان هناك أثرٌ للقلق في صوته أيضًا: «أوه، سحر. هل سبق لك أن رأيتَ البرق يمتثل للأوامر مثل كلب؟»

بدا ديدام من خلال دماثته عنيدًا بعض الشيء. وقال: «كلا. لم أفعل. ولكن من المؤكد على الأقل أن الرجال الذين عادوا والدَ كورلاث وجَدَّه قد صادفهم سوءُ حظ عجيب. وأنت تعلم أن الملكة والمجلس هناك في الوطن قد يُضحُّون بأغلى ما لديهم لتوسيع حدودنا بالطريقة التي ظللنا نقول إننا سنفعلها على مدى الثمانين عامًا الماضية.»

قالت الليدي أميليا: «سوء حظ؟ لقد سمعت الروايات، بالطبع؛ بعض الأغاني الشعبية القديمة جميلة جدًّا. لكن … أيُّ نوع من سوء الحظ ذلك الذي صادفَهم؟»

ابتسم ديدام مرةً أخرى. وقال: «أعترف أن الأمر يبدأ بالفعل في أن يبدوَ أحمق عندما يحاول المرءُ تفسيره. لكن أشياء مثل البنادق — أو البنادق الفتيلية — التي تفشل في الانطلاق أو تنفجر، ليس فقط القليل منها، بل الكثير — تلك الخاصة بك، وجارك، وجاره. وجيرانهم. عندما يصل سلاح الفرسان إلى أقصى امتداد له ويبدأ في الانقضاض على العدوِّ، تبدأ الخيولُ في التعثُّر والسقوط كما لو أنها قد نسيت كيفية العَدْو؛ جميعها. والرجال يُخطئون في تنفيذ أوامرهم. وعربات الإمداد تفقد عجلاتها. ونصف سَرية يدخل الرملُ فجأةً في أعينها في وقتٍ واحد، ولا يمكنها رؤيةُ إلى أين تتَّجه — أو إلى أين تُطلق النار. هذا النوع من الأشياء الصغيرة الذي يحدث دائمًا، لكنه تجاوز كلَّ الاحتمالات. يميل الناسُ إلى تصديق مثلِ هذه الأشياء التي تبدو مثل الخرافات، مهما سَخِروا من قدرة الجن والساحرات وما إلى ذلك. ومن المروِّع جدًّا أن ترى سلاح الفرسان الخاصَّ بك ينهار وكأنهم جميعًا في حالةِ سُكْر، بينما تجد هؤلاء المجانينَ الذين لا يملكون سوى السيوف والفئوس وقِطع من الدروع الجلدية؛ يُهاجمونك من كل اتجاه، ولا أحد يبدو أنه يُطلق النارَ عليهم من جانبك. أؤكد لكم أنني رأيتُ ذلك.»

تململَ ريتشارد في كرسيِّه. وقال: «وكورلاث …»

تابع الكولونيل: «أجل، كورلاث»، وبدا هادئًا كما كان عندما شكر الليدي أميليا على كوب الشاي الذي قدمَته له، بينما كان وجه السير تشارلز يزداد احمرارًا، وأخذ ينفخ في شاربه. كان من الصعب عدمُ تصديق ديدام؛ إذ كان صوته هادئًا للغاية ويمتلئ بالصدق. «يقولون إن الملوك القدامى قد عادوا مرةً أخرى ليتجسَّدوا في شخصية كورلاث. أنت تعلم أنه بدأ في لمِّ شمل بعض القبائل البعيدة؛ تلك التي لا يبدو أنها تدينُ لأي شخص بأيِّ ولاء مُعين، والتي تعيش على نوع من قَطْع الطرق يُهاجم أيَّ شخص يكون في المتناول.»

قال السير تشارلز: «أجل، أعلم.»

«إذن ربما قد سمعت أيضًا جانبًا من الروايات الأخرى التي بدَءوا يَرْوونها عنه. أتخيَّل أنه يمكن أن يأمر البرق فيمتثل إذا أراد.»

قالت الليدي أميليا: «هل هذا هو الرجل الذي سيأتي إلى هنا اليوم؟» وحتى هي بدَت الآن خائفةً بعض الشيء.

«أجل، يا أميليا، نعم، للأسف.»

تمتم السير تشارلز: «إذا كان بارعًا للغاية هكذا، فماذا يريد منا؟»

ضحك ديدام. وقال: «ابتهجْ يا تشارلز. لا تكن عابسًا. لا أظنُّ أن حتى الساحر يمكنه جعلُ نصفِ مليون من أهل الشمال يختفون مثل قطراتِ مطر في المحيط. نحن بالتأكيد بحاجة إليه ليُبقيَ على ممراتِ جباله مغلقة. وربما قد قرَّر أنه بحاجة إلينا؛ ربما لإتمام هذه المهمة.»

نهضَت الليدي أميليا، وتبِعَتها هاري على مضض. «سنتركُكم لمناقشة الأمر. هل هناك … هل هناك أيُّ شيء يمكنني فعلُه؛ يمكنني الترتيب له؟ أخشى أنني أعرف القليل جدًّا عن استضافة زعماء القبائل من السكان الأصليين. هل تعتقد أنه سيرغب في تناول الغداء؟» مدَّت يديها ونظرَت حول المائدة. كبتَت هاري ابتسامةً عند تصور تقديم الليدي أميليا الضئيلة الحجم المُراعية لقواعد الذوق للسندوتشات، مع تهذيب الأطراف بدقَّة، وعصير الليمون لهذا الملك البربري. وسألت نفسَها: كيف سيبدو؟ قالت في نفسها: لم أرَ قط أيًّا من الأحرار، سكَّان التلال. كل السكان الأصليين في القاعدة، حتى التجَّار من أماكن بعيدة، يبدون خاضعين و… متكتِّمين بعض الشيء.

قال السير تشارلز: «أوه، هراء. أتمنى لو كنت أعرف ما يريد؛ غداءً أو أيَّ شيء آخر. إن جزءًا مما يجعل كلَّ هذا معقدًا للغاية هو أننا نعلم أن سكان التلال الأحرارَ لديهم ميثاقُ شرفٍ شديدُ التعقيد — لكننا نكاد لا نعرف شيئًا عن مضمونه.»

غمغم ديدام: «نكاد.»

«يمكن أن نُسيء إليهم بشدةٍ دون حتى أن نعرفه. أنا لا أعرف ما إذا كان كورلاث سيأتي بمفرده، أو مع مجموعةٍ مختارة من صفوةِ رجاله الذين يبلغون ألفًا، والمدجَّجين جميعهم بالسلاح، ويحملون سهامَ البرق في جيوبهم الخلفية.»

قال ديدام: «لا تبدأ يا تشارلز.»

«لقد دعَوْناه هنا …»

قال ديدام بهدوء عندما سكت السير تشارلز: «… لأن الحصن لم يُبْنَ لاستقبال ضيوف الشرف.»

أضاف السير تشارلز بحزن: «ولا يبدو المكان هنا عدائيًّا إلى حدٍّ كبير.» ضحك ديدام. فقال السير تشارلز: «ولكن الساعة الرابعة صباحًا.»

«أعتقد أننا يجب أن نكون ممتنِّين لأنه خطر له أن يُعطينا أيَّ تحذير من الأساس. لا أعتقد أن هذا من نوعية الأشياء التي اعتاد التفكيرَ فيها.» نهض الكولونيل، وسرعان ما أخذ ريتشارد مكانَه خلفه. كان السير تشارلز لا يزال يَذْرع الغرفة والكوبُ في يده، بينما كانت تستعدُّ السيدتان للمغادرة. قال الكولونيل ديدام: «أعتذر عن إفساد صباحكم بلا داعٍ. أعتقد أنه سيصل في وقتٍ ما وأننا سنتعامل معه، لكنني لا أعتقد أنكم يجب أن تُكلفوا أنفسكم أيَّ عناء. قالت رسالته فقط إنه يرغب في مقابلة مفوض المقاطعة الهوملاندي — ليست هذه عبارتَه بالضبط، ولكن هذه هي الفكرة — والجنرال المسئول عن الحصن. ومع ذلك، سيتعيَّن عليه أن يتعامل معي؛ فليس لدينا رتبةُ جنرال. لا يهتمُّ ملوك التلال بالأطباق الذهبية والمخمل الأحمر على أيِّ حال، على ما أظن. آمُل أن يكون هذا اجتماعَ عمل.»

غمغم السير تشارلز لكوبِ الشاي الخاص به: «آمُل ذلك أيضًا.»

قال الكولونيل: «وفي الوقت الحالي، لا يسَعُنا سوى الانتظارِ والترقب. تناول مزيدًا من هذا الشاي الممتاز يا تشارلز. لا بد أن ما بداخل كوبك قد أصبح باردًا جدًّا الآن.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤