الفصل العاشر

عانت هاري من الأرَق في تلك الليلة، فراحَت تستمع إلى الصوت العَذْب الصادر عن الماء في انسيابه على الدرجات الحجَرية الثلاث، وظلَّت مِرارًا تمدُّ يدَها لتلمس مقبضَ السيف الأزرق الذي كان بجانبها، حيث وضعَته بعناية على بِساطٍ صغير باللون الأزرق والأخضر والذهبي كانت وجَدَته في ركنِ إحدى القاعات في طريق عودتها إلى قصرها الفسيفسائي بعد الوليمة. فأخذَته، وطوَتْه، ودسَّته تحت ذراعها، ونظرَت بغضب إلى الخادمةِ التي كانت تُرشدها إلى الطريق. خفَضَت المرأة عينَيها، لكنها لم تبدُ منزعجةً بدرجةٍ مبالَغ فيها. مَن ذا الذي سيبخلُ ببساطٍ صغير على دامالور-سول؟ هكذا قالت هريماد-سول لنفسِها بمرح.

لكن في كل مرة تلمسُ السيف الأزرق، كان الأمرُ كما لو أنَّ صدمةً تسري في أوصالها، وراحت تُصْغي إلى الليل الهادئ، مستمعةً لأصداءِ الأصوات التي تردَّدَت وتلاشَت منذ مئات السنين. جعَل اضطرابُها ناركنون تُخرخر نحوَها، على الرغم من أن القطة لم تعرض مغادرةَ السرير والنوم في مكانٍ آخر. وأخيرًا طوَت هاري يدَيها بثباتٍ تحت ذقنها ونامت، وفي نومها رأت إيرين-سول مرةً أخرى، وابتسمَت إيرين لها. وقالت: «سيُفيدك جونتوران، على ما أعتقد، يا صغيرتي، مثلَما أفادني. يمكنكِ أن تشعري بذلك من الطريقة التي يتعلَّق بها في يدِك، أليس كذلك؟» أومأتْ هاري، في حُلمها. فتابعَت إيرين: «إن جونتوران أقدمُ مني بكثير، لقد مُنحت إياه بثقل سنواته والأسطورة التي يحملها بالفعل. لم أعرف قَط كلَّ ما قد يقود حاملُه إليه — وهكذا، تعلَّمت الكثير.

إن جونتوران لديه إحساسُه الخاص بالشرف، يا صغيرتي. لكنه ليس بشرًا، ولا يجب أن تَثقي به كإنسان؛ تذكَّري ذلك. إنه صديقٌ حقيقي، لكنه صديقٌ له أفكار خاصة به، وأفكارُ الآخَرين خطرة.»

توقفَت إيرين، وبدأ الحلم يتلاشى، كان وجهُها شاحبًا، وشِبهَ متخيل، مثل سحابة في فجر الصيف، وشعرها هو شروق الشمس. ثم قالت: «أتمنى أن يُحالفكِ كلُّ الحظ، الذي حالفَني.»

استيقظَت هاري، ووجدَت السيف يلمع باللون الأزرق في ضوءٍ يبدو أنه أتى من الجدران الفسيفسائية الزرقاء، ومن الجوهرة الزرقاء في المقبض، وحتى من المياه الفِضِّية لجدول الماء.

مرَّت عدةُ أيام، خرج خلالها بعضُ فرسان الملك في مُهمَّات، لكنَّ أحدَث فارسة منهم لم تخرج. حيث أمضَت ساعاتٍ طويلةً في قصر الفسيفساء، تُحدق في الهواء الذي كان مُعلَّقًا، أو هكذا بدا لها، مثل بساطٍ جداري مطرَّز من حولها؛ وفي ذلك البِساط، نُسِج كلُّ التاريخ — تاريخها، وتاريخ هوملاند، وكذلك تاريخ دامار. في بعض الأحيان كانت ترى بريقًا ساطعًا ضئيلًا كأنَّ شخصًا ما يُرسل شعره الكثيف الطويل الأحمر الناريَّ للخلف، وكانت أحيانًا ترى بريقَ جوهرة زرقاء — لكن ذلك بلا شكٍّ لم يكن سوى انعكاس بالصدفة من الجدرانِ اللامعة المحيطة بها.

لكنها نامَت أغلبَ الوقت. كان ماثين مُحقًّا بشأن السورجونال. فقد ظلَّت عدةَ أيام راضيةً أنها تنام، وتستيقظُ فلا تفعل شيئًا على وجه الخصوص، وتنام مرةً أخرى. واستمتعَت ناركنون بهذا بقدرِ ما استمتعَت هي. فقالت هاري للقطة: «أنا متأكدةٌ من أن ماثين لم يضَعْ أيًّا من ذلك الشيء في العصيدة؛ لا يوجد لديكِ عذر.»

في صباح اليوم الرابع، جاء إليها ماثين فوجَدها تسير من نافورة إلى نافورة ومن جدار إلى جدار. وقال: «هذا ليس قفصًا ليحبسَكِ، يا هري.»

استدارَت فزعةً لأنها كانت مستغرقةً في أفكارِها ولم تُحسَّ باقترابه. ثم ابتسمَت. وقالت: «لم أشعر بأنني محبوسة. لقد … نِمتُ كثيرًا، مثلما حذَّرتني. لقد بدأت اليوم فقط في … التفكير مرةً أخرى.»

في المُقابل ابتسَم لها ماثين. وقال: «هل هو مرهقٌ للغاية، هذا التفكير؟»

أجابت: «لماذا اختِرتُ كي أُمنَح لقب فارس الملك؟ لا يوجد سببٌ يجعل كورلاث يمنحه فتاةً من الأغراب، حتى لو كانت لابرون مينتا. إن فرسانه هم أفضلُ ما لديه. فلماذا؟»

انزوَت ابتسامةُ ماثين. وقال: «لقد أخبرتُكِ، من مدةٍ طويلة … من مدة طويلة، منذ أكثرَ من أسبوع. من مصلحتِنا أن يُصبح لدينا دامالور-سول. من مصلحتنا أن يُصبح لدينا شيءٌ نتطلَّع إليه، من أجل الأمل. ربما تُحققين أنتِ أيضًا لنفسكِ بعضَ المجد.»

نخرت هاري. وقالت: «هل صنعت لابرون فارسًا من فرسان الملك من قبل؟»

استغرق ماثين وقتًا طويلًا للإجابة. ثم قال: «كلا. أنتِ أولُ مَن يتحمَّل هذا العبء.»

«وأنا فتاةٌ من الأغراب أيضًا.»

«أنتم الأغراب بشرٌ مثلنا، على أي حال — لكن أهل الشمال ليسوا كذلك. ليس من المستحيل أن يكون لدى بعضِ الأغراب … هبة، كيلار، مثلُ قدرة الكيلار لدينا، مثلما لديكِ أنتِ؛ فأنتِ لديكِ قدرةُ الكيلار. هناك شيءٌ فيكِ نُقدِّره، ونعلم أنه موجود؛ لأن الليدي إيرين قد اختارَتكِ بنفسها. وقد منحَكِ كورلاث لقبَ فارسةِ الملك كي … كي يستفيدَ من أيٍّ ما كان ذلك الشيءُ الذي تحملينه في دمائكِ التي تنتمي للأغراب، وجعلَكِ من أهل دامار، حتى ضدَّ إرادتكِ.»

هزَّت هاري رأسها ببطء. وقالت: «ليس ضد إرادتي. على الأقل لم يَعُد الأمر كذلك. لكنني لا أفهم.»

«أجل، وأنا أيضًا لا أفهم. ولا حتى كورلاث. إنه …» توقَّف ماثين عن الحديث.

فنظرَت هاري إليه بحدَّة. وقالت: «إنه ماذا؟»

ارتسمَت الابتسامة الخافتة على وجه ماثين مرةً أخرى. وقال: «إنه لم يَخطَفْك بمحضِ إرادته. لقد طلبَت الكيلار الخاصةُ به أن يفعل ذلك.»

ابتسمَت هاري. وقالت: «أجل، لقد خمَّنتُ ذلك، وقد أخبرني هو مرة — بشيء من هذا القبيل. فقد رأيتُ الاضطراب على وجهه مرارًا، في تلك الأيام الأولى.»

كان وجه ماثين خاليًا من التعبيرات عندما رفعَت عينَيها مرةً أخرى إلى عينَيه.

وقال: «لم تُشاهدي الاضطرابَ على وجهه منذ ذلك الحين.»

قالت: «كلا»، واتجهَت عيناها لا إراديًّا نحو الجدران الفسيفسائية حولها.

قال ماثين: «أنتِ رمزٌ، سحرٌ، بالنسبة إلينا، ابنة الفرسان وفارس الملك ودامالور-سول.»

قالت هاري بنبرةٍ لا تخلو من الاستياء: «تقصد تميمةَ حظ»، وهي لا تزال تنظر إلى الجدران الفسيفسائية. ثم سألت بخجل، وهي غيرُ متأكدة من دوافعها: «هل لدى كورلاث عائلة؟ إنني أرى هنا، في القلعة، الخدم، و… نحن … فرسان الملك، لكن لا أحد آخر. هل هذا فقط بسبب أنهم معزولون، أم لأنني معزولة؟»

هزَّ ماثين رأسه. وقال: «إنكِ تتطلَّعين إلى كل ما هو موجودٌ هنا لرؤيته. في زمن إيرين، كانت عائلةُ الملك تملأ هذا المكان، اضطُرَّ البعض إلى أن يعيش في المدينة، أو اختار ذلك، من أجل الخصوصية. لكن الملوك في زمنِنا هذا … لقد تزوَّج والدُ كورلاث في سنٍّ متأخرة، وكورلاث هو الطفل الوحيد الباقي على قيد الحياة من زوجته الملكة؛ لأنها كانت سيدةً ضعيفة. وكورلاث نفسه لم يتزوج.» ابتسم ماثين ابتسامةً باهتة. وتابع: «يجب على الملوك أن يتزوَّجوا في سنٍّ مبكرة وأن يُنجبوا ورثةً مبكرًا؛ حتى لا يُصبح هذا الأمر مصدرَ قلقٍ لشعوبهم. لم يحظَ أحدٌ منذ أجيالٍ بقدرةِ كيلار قوية مثلِ التي حَظِيَ بها كورلاث؛ هذا هو السبب في أن القوم المنتشرين على طول حدودنا وفي المَكامن السرية في تلالنا، الذين لم يعترفوا بأيِّ ملكٍ من دامار لسنوات عديدة، يحتشدون الآن تحت إمرةِ كورلاث. وحتى حيثما لا يذهب هو بنفسه فإنَّ مَرسوليه ينشرون الأمر.»

بعد أن تركَها ماثين، فكَّرَت هاري في أخذِ قيلولة أخرى، لكنها قرَّرَت عدمَ فعلِ هذا. بدلًا من ذلك، امتطتْ صهوةَ صنجولد وخرجَت تتجوَّل، وتنازلَت ناركنون ورافقَتْهما. ومن ثَم وجدَت في الجزء الخلفي من القلعة الحجرية وراء الإسطبلات الحجرية ساحةَ تدريب، ممتدَّة حتى جوانب التل، من أجل أولئك الذين يرغبون في التدرُّب على الفروسية والحرب. كانت مهجورة، كما لو أن خطر جيش الشمال كان قريبًا للغاية، لدرجةٍ لا تسمح بتخصيص وقت للتدرُّب. لكنها ركضَت ببطءٍ حول الميدان الخالي، حيث كان صنجولد يتقدَّم أو يتراجع عندما يصلون إلى كل حافة، وقرَّرَت التدرُّبَ على أي حال؛ هي التي فازت بمنافَساتِ لابرون، التي لم تُمسك سيفًا طَوال حياتها حتى قبل أسابيعَ قليلة، والتي أصبحَت فجأةً من فرسان الملك، شعَرَت، على نحوٍ جامح قليلًا، أنها بحاجة إلى كل التدريبات التي يمكن أن تحصل عليها.

كانت تضعُ حزام سيف جونتوران حول خصرها، مع قليلٍ من الاستحياء، لكنها شعرَت بطريقةٍ ما أنه لن يكون من التهذيب أن تتركَه في حجرتها. واستلَّتْه من غِمده وتساءلَت عمَّا إذا كان السيف القديم قد استُخدم من الأساس في تقطيعِ هياكلَ من القشِّ والهجوم على بلاطاتٍ خشبية متقلقلة. ركضَت بتسورنين للقفز فوقَ أعمدةٍ موضوعة على الأرض، وأكوامٍ من الحجارة وجذوعِ الأخشاب، وذَهابًا وإيابًا على مرتفعاتٍ مغطَّاة بالأعشاب، وفوق خنادق. شعرَت بقليلٍ من السخافة، لكن تسورنين أوضحَ أنه مستمتعٌ بالأمر تمامًا، أيًّا كانت طبيعتُه ومهما كان متواضعًا، كما كان جونتوران يُصيب الهدف دائمًا.

أعادت هاري تسورنين إلى الإسطبل ونزعَت عنه السَّرْج بنفسِها، متجاهلةً عن عمد سائسةَ الخيل ذاتَ الملابس البنية وهي تتجوَّل بالقرب منها. كان وجهُها هو أولَ وجهٍ بشَري تراه منذ أن خرجَت على صهوة حِصانها. كانت الإسطبلات في حجم القلعة نفسِه؛ كبيرةً ومتَّسعة، والأكشاك الواسعة بحجمِ حقولٍ صغيرة. هناك أكثرُ من مائة كشك — لم تتمكَّن هاري من إحصائها عندما حاولَت تحديدَ عددها في رأسها — في الحظيرة التي كان صنجولد مُقيمًا فيها، وحظيرتان أُخرَيان بالحجم نفسِه على جانبَيها. كان إسطبل صنجولد شبهَ ممتلئ؛ حيث برزَت أنوفٌ فضولية ملساءُ لخيولٍ أخرى نحوَهما أثناء مغادرتهما وعودتهما. لم ترَ هاري رجالًا أو نساءً آخَرين من سُيَّاس الخيول؛ لا بد أنهم سيظهرون مرةً أخرى، هكذا قالت لنفسها، في مرحلةٍ ما لرعايةِ الخيول. ما لم تكن خيولُ أرض التلال قد دُرِّبَت على الاعتناء بنفسها — وهذا لن يُفاجئَني. كان الصمتُ غريبًا. فقد تردَّد صَدى حوافرِ تسورنين في جميع أنحاء ميدان التدريب، وعندما شكرَت هي المرأةَ ذات الملابس البُنية وقالت لا، وأنها لم تكن بحاجة إلى شيء، بدا صوتها غريبًا في أذنَيها.

خلال الأيام القليلة التالية، راحت تتدرَّب على صهوة حصانها مِرارًا وتَكرارًا، وتقضي بضع ساعات تقتل هياكل القشِّ المصمَّمة على هيئةِ رجال بسيفِ قاتلة التنانين، ثم تخرج بِضع ساعات من الحلقة الحجرية للقلعة، إلى المدينة الحجرية، عبر الطرق الممهَّدة. كان أغلبُ مَن تراهم نساءً وأطفالًا صغارًا، ولكن عددهم قليل في أغلب الأحيان. كانت النساء تُراقبها بخجل، ويبتسمن بحماسة إذا ابتسمَت هي لهنَّ أولًا، والأطفال يريدون مداعبةَ صنجولد، الذي كان طيبًا للغاية ويسمح لهم بذلك، وناركنون، التي عادةً ما تُراوغهم، وفي بعض الأحيان كانوا يُحضرون لها الزهور. لكن المدينة كانت فارغةً مثل القلعة؛ هناك بعضٌ من الناس، لكن بأعدادٍ أقلَّ كثيرًا مما قد تتَّسع لها أسوارُها. كانت تعرف أن أحد أسبابِ هذا أن الجيش كان يحتشد في أماكنَ أخرى — في ساحات لابرون، قُبالة المدينة؛ حيث يأتي الرسلُ ويذهبون بسرعة، وتجلَّى حشدُ القوات ثقيلًا في الأجواء. ولكن السبب الأكبر هو أنه مِثلما قلَّ عددُ أفراد أسرة الملك، قلَّ كذلك عدد شعب الملك، فلم يبقَ سوى عددٍ قليل من أهل دامار.

فكرَت مرةً أخرى في الأشياء الغريبة المتزايدة في حياتها مؤخرًا؛ وكانت تتمنَّى، إذا كانت ستهبُ حياتها لدامار، مثلما يبدو أنها ستفعل، ألَّا تحصل على أوقاتِ توقُّفٍ طويلة من الخمول تُضطرُّ خلالها أن تُفكر في كل الأمور التي حدثَت لها.

كانت إحدى الشابَّات اللواتي ساعَدْنها في الاستحمام تُحضر لها طعامها، في الحجرة الأمامية الزرقاءِ ذات النافورة، أو في الخارج تحت أشعَّة الشمس حيث تتراقصُ النافورة الأخرى، وقد تمكَّنَت من إقناعها هي والنساء الأُخريات المرسَلات لخدمتها أنها، على الأقل ما دامت لم تَعُد هناك مآدبُ تتطلَّب استعداداتٍ خاصة، ستستحمُّ بنفسها. على مدار ثلاثةِ أيام أخرى تاليةٍ ظلَّت تنام وتشاهدُ وميضَ الهواء، وتمتطي تسورنين، وتلعب مع ناركنون. لقد صار هناك صداقةٌ بين الحصان وقطةِ الصيد الآن، وكان أحدُهما يُطارد الآخرَ حول حواجزِ ميدان التدريب، حيث يتمايل ذيلُ ناركنون وتنبسط للخلف أُذنا صنجولد في غضبٍ مصطنَع. وفي مرةٍ اختبأَت القطةُ الكبيرة خلف مرتفَعٍ عُشبي، حيث لم تتمكَّن هاري وصنجولد من رؤيتها، وبينما كانا يسيران بالقرب منها قفزَت نحوَهما، لتطيرَ من فوق صهوة صنجولد بينما هاري تمتطيه. فأخفضَت هاري رأسها وانحرَف صنجولد، ثم استدارَت ناركنون وعادت إليهما وقد رجَعَت أذناها إلى الوراء، وجعلت شواربُها تهتزُّ فيما كان من الواضح أنه ضحكةُ قطة.

وكانت هاري تُلمِّع سيف جونتوران، وتُحاول ألَّا تستسلمَ للتفكير والقلَق، كما كانت تنظر كثيرًا إلى الندبة البيضاء الصغيرة في راحةِ يدها. لكن مع كل تأمُّلاتها التي لا مفرَّ منها، وجدَت أن نوعًا من السلام الداخلي قد حلَّ بها ووجد طريقَه إلى قلبها. لم يكن مثلَ أيِّ شيء عرَفَته من قبل، ولم تجد له تسميةً إلا في ذلك اليوم الثالث؛ القَدَر. ولكنها كانت تتمنَّى ألا يكون شأنُ الحرب مستغرِقًا للجميع؛ حتى تجدَ من تتحدث معه.

في اليوم الرابع عندما أحضرَت الخادمة وجبتها لوقتِ ما بعد الظهر، جاء كورلاث معها، وكان جليًّا أن حضوره كان متوقَّعًا، وإن لم يكن من قِبَل هاري؛ إذ قد وُضعَت كأسان وطبَقان على الصينية، وطعامٌ أكثرُ بكثير ممَّا يمكن أن تأكله بمفردها. كانت جالسةً على المقاعد الحجرية بجانب النافورة تحت أشعةِ الشمس، تُراقب جزيئات ألوان الطيف التي تُلقيها القطراتُ المتساقطة في الهواء، وكانت ناركنون تَلعَق وجهَ هاري بلسانها الخشن، وتُحاول هاري ألا تُمانِع. تُحاول ألا تُمانع مع استغراقها في تركيزٍ جعَلها لم تُدرك إلى أن رفعَت ناظرَيها، وهي لا تزال منبهرةً بالألوان الدقيقة المعقَّدة، أنه قد حضَر، وظلت جالسةً، تنظر نحوه وعيناها ترمشان، بينما وضعَت المرأةُ الصينيةَ وغادرَت المكان.

قال كورلاث: «هل تسمحين لي بأن آكُل معكِ؟» وأحسَّت هاري أنه يشعر بعدم ارتياح.

فقالت: «بالطبع. هذا … إحم … يُشرفني.» ودفَعَت رأسَ ناركنون بعيدًا، وكانت على وشك أن تنهض واقفةً، لكن كورلاث جلس بجانبها في صمت؛ لذا استقرَّت مرةً أخرى في جلستها، ممتنَّةً لأن عظامَها قررَت عدم إصدار صرير. أعطاها طبقًا وأخذ طبقَه، وجلس يُحدِّق في النافورة مثلما تفعل من قبل، وتساءلَت، بينما تُراقبه، عمَّا إذا كان يشعر بأيٍّ من السكينة الغريبة التي تسلَّلَت إليها بالمظهر نفسِه، وإذا كان سيُسميها بالتسمية نفسِها التي قد اكتشفَتها.

ثم قالت: «ثمانية أيام»، فتوقفَت عيناه عن النظر إلى رَذاذ الماء وتلاقَت بعينَيها. فكرَّرَت: «ثمانية أيام. أنت قد قلتَ أقل من أسبوعين.»

أجاب: «أجل. لقد بدأنا العدَّ التنازلي الآن.» وأصدر حركةً كاسحة سريعة بيده اليمنى، فقالت هاري فجأةً: «أرِني يدَك.»

بدا كورلاث في حيرةٍ من أمره لحظةً، لكنه بعد ذلك مدَّ يده اليمنى، وراحتَها لأعلى. كانت توجد علامةٌ شاحبة واحدة قصيرة مستقيمة عبرها، من الواضح أنها جديدة، وكثير من الندبات البيضاء الصغيرة، لم يكن عليها أن تعدَّها لتعرف أنها ثماني عشرةَ ندبة، وأن التاسعة عشرة هي الأحدث، والأطول. تفرَّسَت في اليد لحظةً، وهي تحتويها بيدها، ولم تُفكر في أنها كانت تتفرَّس في يدِ ملك، ثم نظرَت إلى راحةِ يدها اليمنى. فرأت خطًّا مستقيمًا صغيرًا واحدًا.

أطبق يدَه وأراحها على ركبتِه. وقالت هاري: «إنها لا تتلاشى. الندبات القديمة لا تختفي.»

قال كورلاث: «أجل. بسبب الدواء الملطف الأصفر، الذي نضعُه قبل أن نُجريَ القطع، إنه مصنوعٌ من عُشب يُسمى كوريم — أي: إلى الأبد.»

تفرَّسَت في راحة يدِها مرةً أخرى للحظة. قطعَت الندبة الخطوطَ التي قد يُسميها عرَّافٌ خطَّ عمرها وخطَّ قلبها، وتساءلَت عمَّا قد يراه العرافون الداماريُّون في يدِها. ثم رفعَت نظرها إلى كورلاث، الذي وضَع قطعةَ خبزٍ في فمه بشرودِ ذهن وبدأ يمضغ، بينما عاد يُحدق في النافورة. ازدرَد وقال: «ثَمة قصةٌ عن أحدِ فرسان جَدِّي: كانت الحدود الشمالية مضطربةً حينئذٍ، لكنه مجرد اضطراب، ومضى هذا الرجل شمالًا ليرى ما يُمكن أن يجمعَه من معلومات. لكنه أُسِر، وتبيَّنوا أنه من دامار، لكنه علم أنهم سيعثرون عليه قبل أن يفعلوا ذلك بقليل، فجرَح يده حتى لا يجدوا العلامةَ ويحتجزوه مقابلَ فدية … أو يُعذبوه؛ لأن أهل الشمال، إن أرادوا، يُمكنهم التعذيب بسحرٍ مخترِق متقَن لا يستطيع أيُّ عقل مقاومته.»

قالت هاري في نفسها: إذا كان أهل الشمال يعرفون علامةَ فرسان الملك، فسيتأخَّرون قليلًا في التساؤل بشأن جاسوس قُبِض عليه بيد مجروحة.

تابع كورلاث بعد لحظة: «كان قد سافر مرتديًا زيَّ تاجر؛ لذلك عندما علم بأنهم سيجدونه، حرَّر فرسَه وصرفَها إلى الوطن، وخلع حذاءه، وبدأ في تسلقِ الواجهة القريبة العمودية لأحدِ التلال الذي يُمثل الحدودَ بين أرضنا وأرضهم. وعندما وجدوه كان يَهذي بسببِ ضربة شمس، ويداه وقدماه ممزقةٌ مثل أوراق الخريف. فقرَّروا أنهم لم يُصيبوا جائزةً على الإطلاق، وبعد أن ضربوه قليلًا أطلقوا سراحه. وعاد لتسلقِ الجبل بيدَيه وقدميه مرةً أخرى؛ لأنه تذكر ذلك القدر فقط ممَّا كان يفعله، وفوق القمة، داخل حدود دامار مباشرةً، كانت فرسُه تنتظره، وأعادته إلى الوطن. تعافى من ضربة الشمس، لكنه لم يحمل سيفًا مجددًا قَط.»

ابتلعَت هاري قطعةَ خبزٍ لم تكن تريد النزول في معدتِها، وساد الصمتُ قليلًا. ثم قالت في النهاية: «ماذا حدث للفرس؟»

قال كورلاث، ولكن كما لو كان يتتبع خاطرةً خاصةً به: «أم حصانكِ تسورنين تنحدر من سُلالة فرسِه. عاشت الفرسُ حتى كادَت تبلغ الثلاثين، وكانت تلدُ مُهرًا كل عام حتى نهاية حياتها. وكثيرٌ من أفضل خيولنا ينحدرُ من سلالتها.» نظر إليها كورلاث، بعد أن عاد بأفكاره من حيث كان.

«سلالةُ تلك الفرسةِ تُسمى نالان — أي المُخلص. يمكنكِ رؤيتُها في سلسلةِ نسَبِ تسورنين.»

سألته هاري بتلطف: «وهل يوجد اسمٌ لسلالة ملوك دامار؟»

قال كورلاث: «إن اسم أبي، واسم أبيه، واسمي، هو جولكونوث؛ أي: حجر.»

نظرَت هاري إلى يده اليمنى المستقرَّة بسكون على ركبته. توقَّف هُنيهةً ثم أضاف كما لو كان ما سيقوله غيرَ ذي أهمية: «ثَمة أسماء أخرى للملك. أحدُها هو تيودورسوند. أي: اليد المجروحة.»

«هل يترك دواءُ الكوريم ندباتٍ على جِباه الخدم، ووجوهِ الصيادين والسيَّاس أيضًا؟» فأجاب كورلاث: «أجل.»

ساد الصمت مرةً أخرى، وتساءلتْ هاري عن عدد الأسئلة الأخرى التي قد تتمكَّن من أن تظفر بإجابات لها. فقالت: «في مرة في الجبال قبل المنافسات، قال لي ماثين إنه يمكنه أن يُعلِّمَني ثلاثَ طرق لإشعال النار، لكنك تعرف طريقةً رابعة. ولم يُخبرني ما هي تلك الطريقة.»

ضحك كورلاث: «سأُعلمكِ إياها يومًا ما، إن شئتِ. لكن ليس اليوم. اليوم سوف تُسبب لكِ صداعًا.»

هزَّت هاري رأسها بغضب، وذهَب شعورها بالرضا. وقالت: «سئمتُ من تلقِّي شرحٍ لنصف الأشياء فقط. إما أن أكون دامالور-سول، عندما يكون ذلك مناسبًا، وإما أن أصمت وأنعزل في ركنٍ ما، وأتصرف بتهذيب حتى يحينَ وقتُ إخراجي وعرضي على القوات مرةً أخرى. هل اخترت ماثين كي يُعلمني لأنه كَتوم؟»

بدا كورلاث مرتبكًا قليلًا، وتذكَّرَت هاري، وهي تشعر بالذنب، أن ماثين كان قد أخبرَها قدرًا كبيرًا من المعلومات، مع أنه — هكذا دافعَت عن نفسها — لم يكن كافيًا. لم يكن كافيًا على الإطلاق. لكنها لم تستطع التوقُّف عن تذكُّر إجابته عندما سألته عن سببِ اختياره لتدريبها.

قال كورلاث: «اخترتُ ماثين لأنني ارتأيتُ أنه سيُعلمكِ على أفضلِ نحو؛ فلا يوجد مَن هو أفضل منه، وهو صبورٌ ولا يَكل.»

وطيِّب؛ هكذا قالت هاري لنفسها، لكنها لن تُقاطع بينما مِن الممكن أن تتعلم شيئًا.

«نحن أهلَ أرض التلال … أظن أننا جميعًا، مثلما تقولين، كَتومون، لكن هل تظنِّين أنكِ تعلَّمتِ القليل جدًّا منا؟» ونظر إليها كورلاث بأسًى.

قالت، وهي تشعر بالخجل من نفسها: «كلا.» وساد الصمتُ برهة، ثم قالت: «هل يمكنك، من فضلك، أن تخبرني لماذا لم يقصَّ عليَّ ماثين أيًّا من الأساطير حول الليدي إيرين؟ إن تلك الأساطير جزءٌ من حياتكم تتشاركونه جميعًا — والسيف الذي أعطيتَنيه هو سيفُها — والأساطير، عجبًا، هي بِضع أساطيرَ يُتغنَّى بها حتى في مهرجانات الربيع في الغرب، حيث يمكن أن يسمعَها «الأغراب».»

نقَر كورلاث بأصابعه، واحد-اثنان-ثلاثة، واحد-اثنان-ثلاثة، على حافة النافورة. ثم قال: «إيرين جزءٌ من قدَركِ، يا هَريماد-سول. ويُرى أنه مما يجلب الشؤمَ أن يحدث … تدخلٌ في القدر. سيشعر ماثين أنه كان يُسيء إليكِ، إن تحدثَ إليكِ كثيرًا عن إيرين، وأنا … أجد الآن، أنني أشعر الشعور نفسَه.» واستمرَّ في النقر بأصابعه. ثم أضاف: «لو أنكِ كنتِ قد نشأتِ … هنا، كنتِ ستسمعينها. ولكنك لم تنشَئي هنا. ولو كنتِ سَمعتِها، فربما ما كنتِ ستُصبحين ما أنتِ عليه الآن.»

ثم أضاف: «أنا آسف.» ثم استدار ونظر إليها. وقال: «بعد أن نُحارب جيش الشمال، وبعد أن تُقرر الآلهة من منَّا سيُصبح المنتصر، إذا بقينا أنا وأنتِ على قيد الحياة، سوف أحكي لكِ كلَّ القصص التي أعرفُها عن إيرين قاتلةِ التنانين.» حاول أن يبتسم. وأضاف: «يمكنني حتى أن أُغنيَ بعضًا منها.»

«أشكرك.»

أصبحَت ابتسامة كورلاث أكثرَ وضوحًا. وقال: «يوجد عددٌ كبير جدًّا منها؛ قد لا ترغبين في سماعها جميعًا.»

قالت هاري بحزم: «أودُّ حقًّا أن أسمع جميعَها.»

أبعدَ كورلاث يده عن الحافة الحجرية وبدأ في تقطيع قطعةِ خبز إلى فُتاتٍ على طبقه. وقال: «أما عن السؤال الأول، فراقبي هذا.» ومن ثَم رمش بضعَ مرات، وأغمض عينيه، وسرَت رجفةٌ في أوصاله، ثم فتح عينيه مجددًا وأخرج منهما وهجًا أصفرَ حارًّا على الكومة الصغيرة من فتات الخبز، فاشتعلت فيها النيران، وطقطقَت بشدةٍ بضعَ دقائق، ثم تحولَت إلى رمادٍ أسود.

قالت هاري: «عجبًا.» ورفع كورلاث ناظرَيه؛ كانت عيناه بُنيتَين. تبادلا التحديق. ووجدَت هاري نفسها تقول بسرعة، بصوتٍ مرتفع أكثرَ من اللازم قليلًا: «ما هذا المكان … هنا …؟» وأشاحت بعينيها بعيدًا، وأشارت بيدها إلى الجدران الفسيفسائية. وتابعَت: «لم أرَ شيئًا مثلَه في أي مكان في المدينة.»

هز كورلاث رأسه، وقال: «ولن ترَي.» ثم نهض ببطء واقفًا، ونظر حوله، وقَعَّر يدَه المليئة بالندوب تحت النافورة، وشرب منها. وأضاف: «بناه أبي لأمي بعد أن تزوَّجها مباشرةً. كانت مولعةً باللون الأزرق، وأظن أنه أراد أن يخبرها بأنه لم يكن يبالي بأنها لن تحمل مطلقًا «السيف الأزرق»، أعظم كنزٍ لعائلته، سيف المرأة.» نظر إليها بغموض، لكنَّ عينَيه لم تُركز عليها. ثم استدار وترَكها، مُغادرًا عبر الباب إلى القلعة.

بعد يومَين تحرَّك الجيش خارجًا من المدينة. ومضى كورلاث ومعه فرسانُه مُمتطين خيولَهم على الطريق المركزي الواسع من القلعة إلى بوابات المدينة، وخلفهم الخدم والخادمات والصيادون والسُّيَّاس، وخيول الأمتعة، واصطفَّ سكان المدينة في الشوارع وراقَبوهم في صمتٍ وهم يرحلون، لكنَّ كثيرين رفَعوا أيديَهم على جباههم وضمُّوا أصابعَ قبضتهم ثم بسَطوها أثناءَ مرورهم على ظهور الخيل. لم ترَ هاري من قبلُ أناسًا كُثرًا كأولئك، كان بعضُهم لاجئين من قرى شمال دامار، ومزارعين من الأراضي الخضراء قبل بليدفي جاب. وانطلقوا إلى السهل حيث كان الجيش، الذي لم تكن هاري قد رأته؛ لأنها لم تُغادر المدينة منذ دخلَتها، مُصطفًّا أمامهم، وخلفها سمعَت صوتًا لم يسمعه أيُّ شخص من دامار منذ أجيال؛ بوابات المدينة الحجرية تُغلَق بتثاقل وحزن.

كان تسورنين مضطربًا. ففي ذلك الوقت، بينما كانت كتائبُ جيش أرض التلال مصطفَّة، بدا السهلُ مكانًا مختلفًا عن السهل الذي كانت هاري قد قاتلَت فيه على صهوة تسورنين بهراوات غليظة وسيوفٍ حادَّة. كان تسورنين مُدرَّبًا تدريبًا جيدًا للغاية منذ صِغَره على أن يفعل ما هو أكثرُ من الحركة باضطراب قليلًا في مكانه، لكن كتفه، عندما مرَّرَت هاري يدها عليه، كانت أسخنَ مما تستدعيه حرارةُ الجو المعتدلة في الصباح. كانت عضلاتُه تحت جلده الذهبي متصلِّبة، شعرَت بأنها لو نقرَت ببراجمها على طرَف كتفه فسوف يرنُّ مثل الحديد.

وقفَت هاري في شيء من الارتباك وسط مجموعةِ فرسان الملك، على بُعد مسافةٍ قصيرة إلى داخل السهل من طرَف نهاية الطريق الواسع الممتدِّ من المدينة. وقد ربضوا فوق ربوةٍ صغيرة، فكانوا يرقبون بقيةَ كتائب الجيش من أعلى، وشعرَت هاري بلا مُبرِّر بأنها لافتةٌ للنظر أمام الجميع. وهمسَت قائلةً لتسورنين: «لماذا لم يكن لونك كستنائيًّا داكنًا أو أيَّ لونٍ آخر؟» فحنى رأسه الذهبي. كانت ترتدي خوذةً وثيقة فوق شعرها المربوط، وحذاءً طويلًا جديدًا، ودروعًا ملفوفة ومثبتة بعناية في موضعها من أجل المعركة، وشعرَت بسيف جونتوران يتدلَّى في ترقُّب على ركبتها. لم تكن عشرةُ أيام كافيةً لها كي تعتادَ على حالها الجديد بعد أن أصبحَت من فرسان الملك، رغم أنها تدربَت بقوة مع تسورنين وهما وحدهما في ميدان التدريب على المجسَّمات الخشبية الصلبة التي تُجسم مقاتلي العدو، ورغم أن فرسان الملك أنفسَهم — وعلى وجه التحديد واحدٌ أو اثنان منهم هما ماثين، والشابُّ إيناث الذي يُعَد مرحًا للغاية بالنسبة إلى كونه فارسًا من فرسان الملك — قد قارَبوا الصفوف وأحاطوا بها وتقبَّلوها كواحدة منهم، لم تستطع هي أن تُصدقَ أنهم لم يتساءلوا ولو قليلًا عن وجودها وسطهم.

نفر صنجولد على نحوٍ يدل على نفاد الصبر، وبدأ يحفر حفرةً في الأرض بإحدى قائمتيه الأماميتَين. فلمسَت مرفقَه بطرَفِ حذائها، فتوقَّف، لكن بعد برهةٍ خفضَ رأسه ونفر مرةً أخرى بقوةٍ أكبر، وشعرَت به يتحرَّك حركةً خفيفة في مكانه لينظر فيما إذا كانت قد تسمح له بحفرِ حفرة صغيرة فقط. نظرَت هاري حولها، فوجدَت الخيول الأخرى تُبدي علاماتٍ تدل على التوتر هي الأخرى. وقف ماثين بجانبها، وكانت حبَّات العرق تلمع حول خاصرة ويندرايدر التي وقفَت ثابتة، على عكس تسورنين الذي يَصغرُها في العمر. أمَّا فايرهارت حصانُ كورلاث فكان يقف على قائمتَيه الخلفيتين مرةً أخرى، وكان بإمكان الملك أن يُنزله كيفَما يريد، لكن هاري ظنَّت نوعًا ما أنَّ الحصان يُعبر عن مِزاجه ومزاجِ فارسه في الوقت ذاتِه. وبحسبِ ما أمكن لهاري أن ترى، كانت ناركنون هي الوحيدةَ وسط هذا الجمع التي تُحافظ على هدوئها. حيث جلسَت أمام صنجولد، تمامًا بما يتجاوز نطاقَ نبشِه بقائمته الأمامية، وهي تلعق صدرها وتُمشط شواربها.

زحفَ الجيش باتجاه الغرب. وعبَروا سلسلةَ جبالٍ منخفضةً شديدةَ الانحدار بين المدينة والسهل الصحراوي الذي يمتدُّ بعيدًا، حتى الأبواب الخلفية لقصر الأغراب في إيستن. توقَّفوا في المسار الذي سلَكه هاري وماثين، واجتازوا الطرق الضيقة في صفٍّ واحد طويل لا نهاية له، حتى وصلوا إلى حافة الصحراء في نهاية اليوم التالي. وبعد الحافة توجَّهوا شمالًا.

إن كل الجواسيس — أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة؛ إذ إن أهل الشمال قد أوقَعوا ببعضهم — الذين أرسلهم كورلاث في السنوات الأخيرة قد عادوا في الشهور القليلة الماضية، على وجه السرعة، وجميعهم يحمل الخبر نفسَه: لقد انتهى الانتظار، وبدأ جيش الشمال في التحرُّك. وكان آخرُ جاسوس منهم قد عاد منذ أقلَّ من ستة أيام، وقد استغرق وقتًا طويلًا في العودة لأن أمره قد انكشف، واضطُرَّ إلى المراوغة والهرب والاختلاط مع القوم ليُفلت من طرقهم السحرية الغريبة في تتبُّعه. وكان حديثه بأن جيشهم قادمٌ وراءه على بُعد مسيرة بضعة أيام فقط، وأنه يتكوَّن من عدة آلاف. وقد تأخر الرجل وتأخَّر حتى اللحظاتِ الأخيرة؛ من أجل الحصول على إحصاءٍ أكثرَ دقةً لعددهم الإجمالي، ومع ذلك، كما قال، حتى مع بدءِ زحف الجيش جنوبًا، ظل المئاتُ والمئات ينضمُّون إليه وبدَوا كما لو أنهم جاءوا من العدم. فكَّرَت هاري في نفسها حول مجيئهم من العدم، وتساءلت عمَّا إذا كانت العبارة أكثرَ من مجردِ أسلوب حديث. كانت قد انضمَّت إلى مجلس الفرسان الذي سمع حديثَ الرجل، وبدا أن ضوء الشموع قد ألقى بظلالٍ أكثرَ عندما انتهى منه. ومع ذلك، لم يكن هناك شيءٌ يمكن فعله؛ لقد احتشَد بالفعل الجيشُ الذي سيُدافع عن دامار، ووُضعَت بالفعل الخططُ اللازمة لمواجهة جيش الشمال.

ولم يكن هناك جاسوس على يقينٍ من هُوية قائد جيش الشمال الرهيب. لم يجرُؤ أيُّ شخص من أهل دامار على الاقتراب إلى هذا الحد، حيث قيل إنه يشمُّ رائحة الدم الأجنبي بطريقةٍ خارقة.

كان هناك المئات من الرجال والنساء الذين يمتطون الخيولَ تحت إمرة كورلاث الآن، وبينما هم يزحفون والتلالُ الشرقية عن يمينهم، بدا عددُهم كبيرًا للغاية. وسينضمُّ بضع مئاتٍ آخرين بينما يشقُّ الجيش الجنوبي طريقَه إلى السهل الواسع قِبَل الفجوة. لكن هذا هو كلُّ العدد المتوفر.

قال إيناث، وهو يسير خلفها ممتطيًا حصانَه، على نحوٍ يشير إلى رغبته في فتحِ حوار معها: «إن أقلَّ من نصف جيش الشمال سيأتي راكبًا، لن يمتطيَ كثير منهم خيولًا. وقلةٌ قليلة من خيولهم يمكنها مواجهةُ أضعفِ خيولنا. يمكن للمرء على الأقل مضاعفةُ عددِ أفراد جيشنا، فقط لقوة خيولنا؛ لأنها خيولٌ دامارية، وستُقاتل من أجل دامار بضراوةٍ مثلنا نحن البشر؛ لأننا وحدنا مَن نتحدث عنها.»

قالت هاري بصوتٍ مكتوم قليلًا: «أجل.»

كانوا يتوقفون مدةً قصيرة في أوقات الظهيرة، ويُرْخون الأحزمة للسماح للخيول بالتنفُّس، ويأكلون الخبز واللحم الجافَّ والماء. وفي الليل كانوا يُخيِّمون خلف قممِ الصخور الطينية والشجيرات، ويشعلون النيران بدرجةٍ كافية لغليِ اللحم الجاف الرهيب كي يُصبح مناسبًا أكثرَ قليلًا للأكل، ويلتفون في بطانياتهم وينامون حيث يجلسون. وكان معهم عددٌ قليل من قطط الصيد ونحو عشَرةِ كلاب، لكنهم حاليًّا لم يتمكَّنوا من توفير الوقت لاستخدامها. واصلت ناركنون تتبُّع هاري، وكما فعلَت مرةً من قبل، بدأت الصيد بمفردها، وجلبَت بعض صيدها المروَّع تُلقي به على وسادةِ هاري. ومع مرور الأيام أصبح وعاءُ الحساء الخاصُّ بماثين معروفًا لدى الجميع بأنه الوحيد الذي يحتوي على لحومٍ طازجة بشكلٍ موثوق، وازدادت شهرته للغاية.

كانت الليالي صافيةً وهادئة، ولم يتنبَّأ مُحلِّلو الطقس بينهم بعواصفَ مفاجئة، وقد اشتهرَت حافات تلال دامار بطقسها غيرِ المتوقَّع، حيث قد تجد العواصفُ الجبلية المكدَّسة على المنحدرات الشديدةِ الانحدار طريقَها فجأةً إلى الأراضي المسطَّحة، فيمكن لها أن تثورَ وتهيج كما تشاء.

لم يكن كورلاث يحاول أن يُهاجم على الفور مركزَ الجبال الشمالية وفجوةَ بليدفي جاب. وبعد أن عبَر جيشُ أرض التلال سلسلةَ الجبال الضيقة التي تقع خلفها المدينة، شق الجيشُ طريقه حول منحنى الجبال، وزحف مسرعًا عبر العشب الرمليِّ الرطب والصخور المتكسِّرة عند أقدامهم. جعلهم هذا يزحفون باتجاه الشمال تقريبًا في البداية، ثم بعد ذلك في منحنًى نحو الغرب تزداد درجة انحنائه، فكانت الشمس تتحرَّك في السماء قِبَلهم. وكثيرًا ما حدث في بعض الصباحات، عندما يكون الضباب لا يزال يلفُّهم، هابطًا من على أكتاف الجبال إلى معسكرهم، أنْ كانت مجموعةٌ صغيرة تمتطي خيولها — أو حتى شخصٌ واحد على صهوةِ جَواده — تلوح أمامَ المعسكر خارجةً من العدم، ولكن يبدو أن كورلاث كان يتوقَّعهم دائمًا، وكانوا يعرفون دائمًا ما سيقولونه للحرَّاس حتى يتمكَّنوا من المرور، وبهذه الطريقة زاد عددُ المنضمِّين للجيش قليلًا. ومن حين لآخَر كانت هاري تسمع صوتَ امرأةٍ بين الغرباء المنضمِّين لهم؛ مما جعَلها سعيدة، وغالبًا ما كانت تحكُّ إصبعَها على الجوهرة الزرقاء في مقبض جونتوران، وتُفكر في السيف الذي لا يمكن لأيِّ رجل أن يحمله. قال لها ماثين مرةً: «لم نكن نظنُّ أننا سنرى كثيرًا من النساء هنا — لا يتذكر أيُّ رجل منا سوى عددٍ قليل منهنَّ ممَّن قد قاتلن معنا، على الرغم من أن الأمر كان مختلفًا في عهد إيرين. لكني أعتقد أن العديد من الآباء يسمحون لبناتهم بالانضمام إلينا ممَّن لم يُفكروا في ذلك إلى أن سمعوا عن هريماد-سول، وأن جونتوران ذاهبٌ إلى الحرب مرةً أخرى.»

التقَت هاري بالعديد من هؤلاء النساء؛ خاصةً بعد أن تحدثَ إليها ماثين، فقد بدأتْ تشعر بعد ذلك تجاههنَّ بشيءٍ قليل من المسئولية يَشوبها القلق. وقد رأت سيناي عدةَ مرات — ورأت أيضًا أنها كانت ترتدي وشاحًا مَخيطًا كما لو كانت تتفاخرُ به. وسألت هريماد-سول عن أسماء النساء عندما كانت تسنحُ لها الفرصة، وكنَّ يُجِبنها بجدِّية، وكثيرًا ما منحنها لفتةَ الاحترام بوضع ظهر اليد على الجبهة، ولم يسأَلْها أحدٌ قَط عن اسمها، حتى عندما لم تكن تحمل جونتوران، وكان من المفترض أنها تبدو — حسبما ظنَّت — مثل أي جنديٍّ أشعثَ آخر.

ومعظم الذين جاءوا متأخِّرين على هذا النحو للانضمام إلى جيش كورلاث؛ لم يحملوا سيفًا ولم يرتدوا وشاحًا، كان هؤلاء رجالًا ونساءً أمضَوا حياتَهم في قُراهم، في مَزارعهم ومتاجرهم الخاصة، ولم يحضروا مطلقًا منافسات لابرون، ولم يشعروا بالافتقار إلى ذلك.

في إحدى الأمسيات، ساروا في أحدِ الوديان المنخفضة حيث ينتظرهم ما يقربُ من مائةٍ من الغرباء، جميعهم يمتطون الخيول، ومعهم عدةُ خيولٍ لحمل الأمتعة ووحوش صيد، فتقدَّم كورلاث نحوَهم مع صيحةِ ترحيبٍ حار، وصوتٍ هو أقربُ إلى السعادة من أيِّ صوت سمعَته هاري منه منذ أن بدَءوا مسيرتهم شمالًا. تقدَّم فارسٌ كان على رأس المجموعة لمقابلته، وأمسَك أحدُهما بكتف الآخَر بينما اصطدمَت خيولهما بعضُها ببعض بشكلٍ غير مريح وتفرَّسَت بأعينها بعضها البعض. ثم انفصل رجلٌ ثالث عن المجموعة الجديدة وانضمَّ إلى كورلاث وصديقه. فقال ماثين في أذن هاري: «هذا مورفوث وابنُه، تيريم. كان مورفوث أحدَ أصدقاء الملك القديم، على الرغم من أنه لا يكبر ملكَنا بأكثرَ من عشر سنوات. كان من الممكن أن يُصبح من فرسان الملك لو رغب، لكنه اختار بدلًا من ذلك البقاءَ في قريته والاعتناءَ بأراضيه، وقد أحسَن في الاعتناء بها أيضًا. بعضُ أفضلِ خيولنا الآن تأتي من مَزارعه، وكذلك تأتي الحبوبُ لإطعام المزيد.»

قالت إيناث من على جانبها الآخَر: «نحن فرسان الملك، كما ربما قد لاحظتَ، معظمُنا مُفلسون أو ممَّن ليس لديهم ما يَرثونه من آبائهم — أو جوَّالة تستعصي حالتُهم على العلاج مثل ماثين هنا — لكن بإمكان مورفوث الآن إحضار ثمانين رجلًا معه عندما يأتي للانضمام لجيش ملكه.» بدا صوتُ إيناث مَشوبًا بالأسى بعضَ الشيء، وذلك مع كل ما به من اعتزازٍ طائش. وجدَت هاري نفسها تتذكَّر كلماتِ والدها لها — وقد بدا ذلك منذ عقود: «أنتِ لا تملكين قرشًا واحدًا.»

كان تيريم في عمرِ هاري، وعندما جاء هو ووالدُه للجلوس بجانب حلقة نيران الملك، جاء إليها وغاص في مجلسِه بجانبها، وقد طوى ساقَيه الطويلتين مثلما يفعل كلُّ أهل أرض التلال. نظرَت إلى تيريم ونظر هو إليها؛ كانت نظرتُه إليها حماسيةً وتحمل بعضَ التوقير، مما جعَلها تشعر بالإحراج. وقال: «لقد أحرزتُ المركز الأول في منافسات لابرون قبل ثلاث سنوات. ولكن عندما واجهتُ كورلاث، كنت قد انهزمتُ ووقع وشاحي على الأرض قبل أن أُحكِمَ قبضتي على سيفي.» ثم ضرب مقبض سيفِه في الأرض، فصلصلَ عندما انغرَس فيها. وتابع: «أعطاني والدي سيفَ تيكسون هذا على أيِّ حال، وقال إنه لم يسبق لأحدٍ أن استطاع أن يُحكِم قبضتَه على سيفه في مواجهة كورلاث. لكنك استطعتَ فعل ذلك.» ولمعَت عيناه في ضوء النار.

مررَت هاري إصبعها على الشقِّ في وشاحها الذي أُصلح بعناية وهي تتأمَّل الأمر، وهو الوشاح الذي ارتدَتْه تحت الإرشاد الموعود لماثين. وقالت: «لم أكن أعرفُ أنه هو … لم أظنَّه هو مطلقًا. وقد سمح لي أن أتبارزَ بالسيف معه، وعندما أدركَت مقدارَ ما هو مسموحٌ به، أصابني … الجنون.» توقفَت برهةً. ثم أضافت: «وقد فوجئَت أيضًا.» ثم عبَسَت، وتذكَّرَت الصداع الرهيب الذي كانت تُعاني منه معظمَ ذلك اليوم، ثم الترنُّح الرديء الذي بدا أنه بدأ يُصيب رأسها، حيث كان الصداع، وسرى كرجفةٍ عبر جسدها، عندما رأت وجهه خلف الوشاح الذي أزاحته هي للتو. ورغم ذلك، لم يُطلق عليها أحدٌ لفظ باجا؛ أي الجزار، بسبب الجرح الذي صنعته في زاوية فمِ كورلاث. نظرت نحو عينَي الشابِّ بشيءٍ من الأسى وقالت: «لم تكن تجرِبةً ممتعة مثلما قد تظن.»

أطلق تيريم نخرةً خالطَت ضحكته وقال: «أجل، أنا أُصدقك»، ونظرَت هاري على الجانب الآخر حيث جلس كورلاث مع والد تيريم فوجدَته يُراقبها. وتساءلَت عمَّا إذا كان قد سمع ما قالته للتو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤