الفصل الحادي عشر

أقام الجيشُ أولَ معسكر على نحوٍ ملائم في الوادي المنخفض الذي التقَوْا فيه مع مورفوث. وقد خرجَت جميع حيوانات الصيد في تلك الليلة، وتناول الجميع، وليس عددًا قليلًا من فرسان الملك فحسب، لحومًا طازجة طيبة على العشاء. ونُصِبَت خيمةُ زوتار الملكية، وكان من الواضح أنها تخصُّ الملك؛ لأنها كانت الكُبرى، لكن هذه الخيمة كانت عادية، ذاتَ لون بنِّي ضارب إلى الرمادي باهت، وكان الباب مجردَ ستار خيمة، وفي الداخل عددٌ قليل من الأبسطة، وخطاطيفُ على أعمدة جانبية من أجل المصابيح، لكن هذا كان كل شيء، مع أن الراية ذات اللونين الأبيض والأسود كانت لا تزال تُرفرف بشجاعةٍ من قمة السقف. وقد نامت هي والملك ومورفوث ومعظم فرسان الملك — من بينهم إيناث وماثين — في داخلها؛ لكنها ظلَّت مستيقظةً وقتًا طويلًا تستمع إلى تنفس الآخرين. لا يمكن للمرء أن يسمع الشخص الذي بجواره وهو يتنفس إلا إذا كان هناك سقفٌ فوقهما لإبقاء الضوضاء بالداخل. لقد افتقدَت النجوم.

وفي صباح اليوم التالي، كان هناك إفطارٌ على مائدةٍ طويلة شبيهة بالمائدة التي رأتها عندما قابلَت الفرسانَ لأول مرة؛ كانوا جميعًا هناك مرةً أخرى، مع عددٍ قليل من الأشخاص الذين انضمُّوا إليهم خلال الأيام القليلة الماضية. ومن ثَم شرح كورلاث ما هم مُقبلون عليه في الحال: كيف سيصعدون إلى الجبال مرةً أخرى — كانت السلسلة أوسعَ عند المكان الذي يصبح فيه المنحنى الغربي أكثرَ حدة — ليصلوا إلى الهضبة المرتفعة حيث تقعُ بحيرة الأحلام، وحيث يعيش لوث. تساءلت هاري بينها وبين نفسها: لوث؟ لن يتسلَّق معظمُ الجيش كلَّ الطريق إلى مكان اللِّقاء، بل سيختفي داخل الغابة في مجموعاتٍ صغيرة ويحاول أن يُصبح غيرَ مرئي؛ إذ يعتقد كورلاث وفرسانُ الاستطلاع، حتى الآن على الأقل، أنهم لم يُرصَدوا بعد. أغلقت هاري عينيها وفتحَتهما وتساءلت عمَّا إذا كان ضبابُ الصباح الذي بدا كأنه يستمرُّ طوال اليوم كلَّ يوم كنوعٍ من الضباب الباهت كان في نهاية الأمر أكثرَ من نمطٍ لطقسٍ محلي غريب. إن لوث نفسه — هكذا أخبرها ماثين خلال مرحلة فاصلة أحضر بعدها الخدمُ مشروب المالاك الساخن — لديه طرق حتى كورلاث لم يفهمها بخصوص التنبُّؤ بالأشياء، وكان كورلاث يرغب في مقابلته والتحدث معه. لكن لوث لم يترك أرضه مطلقًا؛ لذا كان من الضروري الذَّهابُ إليه هناك. وقال ماثين، بينما يهز كتفَيه على نحوٍ غير متوازن مثلما يفعل أهل التلال: «يدَّعي لوث أن هواء الأراضي المنخفضة يُربكه. وهو أمرٌ لا نُدركه نحن.» ثم التقط كوبَه.

قالت هاري: «أجل، ولكن من هو لوث هذا؟»

نظر ماثين نحوها وقد ارتسم على وجهه تعبيرُه الغامض. وقال: «لا أحد يعلم. إن لوث … هو شخص يعيش في الجبال، ويرى أشياءَ … أشياءَ تُشبه ما يراه البعضُ منا عندما نتذوق الميلدتار. إنه يوجد هناك منذ وقتٍ طويل جدًّا. لا أحد يستطيع أن يتذكر متى جاء لوث، أو متى لم يكن يعيش على جبله.»

«وبحيرة الأحلام؟»

حدَّق ماثين في كوبه. وقال: «هناك نبعٌ يصبُّ في بحيرة الأحلام، وهناك توجد مياه الرؤية؛ ولكن في بعض الأحيان يكون ماءُ النبع مجردَ ماء عادي، ولا أحد يعرف السبب؛ على الرغم من اعتقادنا أن لوث يعرف. إن الماء المشروبَ من بحيرة الأحلام لا يُعطي الرؤية، كما يفعل الميلدتار الحقيقي، لكنه ليس تمامًا مثل ماء … الشرب.»

تنهَّدَت هاري.

شرح كورلاث بإيجاز للقادمين الجددِ ما كان الجيش ينوي القيامَ به. لا بد أن جيش الشمال، بحكم الضرورة، سيختار الممرَّ الواسع الوحيد في الجبال المؤدي إلى السهل المركزي الكبير ثم صحراء دامار الجرداء، فقد كان الفجوة الوحيدة الكبيرة بما يكفي لاستيعاب أعدادِ جيشٍ ما. وتقع الفجوةُ إلى الغرب قليلًا من نقطةِ انتصاف امتداد الجبال عند المنحنى الذي تلتقي فيه الجبالُ الممتدة من الشمال إلى الجنوب، سلسلة جبال إيلديك، بجبال هورفيل الممتدَّة من الشرق إلى الغرب. عندما يكتمل تجمُّع كلِّ عناصر جيش كورلاث الصغير في الوادي المنخفض عند نقطةِ التقاء السلسلتَين، سينطلق بأقصى سرعةٍ يمكن للخيول تحمُّلُها نحوَ مدخل ذلك الممر، ويستعدُّ للاشتباك مع العدو وسط القُرى الخالية والحقول المهجورة في دامار.

ثم ساد الصمت؛ لأن الجميع في خيمة الملك كانوا يعلمون أن جيش كورلاث لا يمكن أن يُحقق انتصارًا على جيش الشمال، ولا من المحتمل أن يتمكَّن من مقاومته إلى الحد الذي يُجبر الغزاةَ على الإقرار بأن دامار لا تستحقُّ العناء، ويجبرهم على العودة إلى بلادهم. أفضلُ ما يمكن أن يأمُلَه المدافعون، وهو ما كانوا يأمُلونه بالفعل، هو إحداث ما يكفي من المتاعب والخَسارة بحيث لا يتبقى لدى الجيش الشمالي القوةُ الكافية للاستيلاء على كل دامار في قبضةٍ مُحكَمة وحاسمة تمامًا مثلما يودُّ ثورا، وأن تختبئَ جيوب المقاومة في التلال، أو تحت كيلار المدينة. إذا نجحوا للغاية، فستستحقُّ المعركة ما سيتكبَّدونه؛ لأنهم سيكونون قد صنَعوا لأنفسهم مستقبلًا.

ابتلعَت هاري مشروبها بتوتُّر. وسمعَت، شاعرةً ببعض الدُّوار، ما راح كورلاث يقوله عن التلال السفحية التي يؤدِّي إليها الممرُّ الجبلي، والمكان الذي سيتمركز فيه الجيش، واسترجعت أقصى ما أسعفَتها به الذاكرةُ عن الجغرافيا الدامارية؛ إذ ساورَها إحساسٌ غير سارٍّ أن شيئًا ما قد أُغفل، شيئًا لا ينبغي أن يُغفل. كان كورلاث يقول إنهم سيُقررون على نحوٍ أكثر تحديدًا بمجرد وصولهم، لكن بدا أنه كان على علمٍ بكل حجَر وكتلةِ عُشب هناك، والموقع الدقيق لكلِّ مزرعة، وكذلك من كانوا يستمعون إليه، ولم يستلزم الأمرُ أن يلجأ أحدٌ إلى الخريطة. عبَسَت هي في تركيز. أمكنها تقريبًا أن تتصوَّر خريطة داريا التي في القصر؛ كانت تفتقر للغاية إلى التفاصيل عند الطرَف الشرقي، وبصعوبة أظهرَت الجبال حيث تقع مدينة الملك — المدينة نفسها كانت واحدةً من أساطير جاك ديدام الأصلية — لكنها كانت دقيقةً للغاية بالنسبة للجانب الغربي. … أه!

كان كورلاث قد صمَت. وقال مورفوث شيئًا ثم ساد صمتٌ آخر، فقالت هاري، على استحياء ولكن في إصرار: «سولا، ماذا عن الممر الواقع في الجهة الشمالية الغربية من … من قاعدة الأغراب؟ إنه ضيق، لكنه ليس ضيقًا لدرجة ألَّا … ألَّا يستطيع جيشُ الشمال أن يُرسل كتيبةً من خلاله لتُحاصرنا من الخلف.»

عبس كورلاث. وقال: «فليأخذوا مدينة الأغراب؛ فربما ينشغلون بها بما يكفي؛ ممَّا يؤدي إلى تعطيلهم. كما أن الأغراب سيحاولون إيقافَهم عندما يصلون إلى عتبة الممر.»

ساد صمتٌ ثقيل جدًّا لدرجة أن هاري شعرَت أن اختراقه بالكلمات يُشبه إحداثَ ثقوب في بحيرةٍ متجمِّدة. فقالت: «سيُفلحون أكثرَ في محاولة صدِّ هجوم جنود الشمال إذا حُذِّروا.» لم تصنع كلماتُها ثقبًا كبيرًا؛ إذ تكاثف الجليد بنحوٍ واضح. لم تكن تريد أن تفعل شيئًا بارزًا مثل وضعِ يدها على مقبض سيفها، لكنها ضغطَت عليه بمرفقها خِلسةً، وشدَّت ظهرها.

قال كورلاث: «لقد حُذِّروا»، ورفعَت هاري عينيها نحو عينيه فرأت المدَّ الذهبي يتصاعد فيهما، وتساءلَت عمَّا كلفَته تلك المحادثةُ غيرُ المثمرة في القصر. ومع ذلك، فهو لم يحرق القصرَ بذلك الوهج الذهبي الذي ينبعث من عينيه، وهو ما تعتقد أنه كان قادرًا عليه؛ ومن ثَم فقد طرفَت بعينيها في الحال تجاهه وقالت: «الكولونيل ديدام سيُصغي إليك. فإنك لم تكن تعلم أن جيش الشمال قد بدأ الزحف … آنذاك، لكنك تعلم ذلك بيقينٍ الآن. إن الممرَّ ضيق، وهو بإمكانه صدُّ أيِّ هجوم عليه من أجل حماية ظهر جيشك بكل تأكيد — ولكن ليس إذا توفَّر لدى جيش الشمال الوقتُ للمجيء والذَّهاب إلى حيث يريدون.» كان صوتها يرتفع من الخوف وربما الغضب؛ هل كان هناك أيُّ شيء سوى الكبرياء العنيدة، والجلالة الساخطة للحاكم المطلق لأرضه الصغيرة، هي المسيطرة على كورلاث، وتدفعه لإضاعةِ فرصة لكسب مزيد من الوقت؟ ما مدى ضآلةِ معرفتها به في نهاية الأمر، ومدى ضآلة معرفتها بدامار، هي التي لم تستطِع تخيُّلَ كلِّ ورقة صفراء من نبات الكورف أمام الممر الكبير في الجبال. ومع ذلك استطاعت أن ترى — ألم ترَه حقًّا؟ — التهديد الذي يُمثله هذا الممرُّ الضيق الثاني، وهو تهديدٌ اختار الملك وقائد الجيش تجاهله. لم تستطع أن تفهمَ ذلك؛ فقد وُلدت من شعبٍ مختلف، وهي تفهم الأشياء على نحوٍ مختلف.

قال كورلاث: «كلا»؛ فرنَّت الكلمة مثل ضربةٍ بالفأس، وأصبحت عيناه صفراوَين مثل التوباز. حدَّقَت هاري مرةً أخرى في وجهه — يا له من شخصٍ قاسٍ — حتى وهي تعرف ما يمكن أن يفعله بها، حتى عندما تفصَّد العرَق من جلدها مع محاولةِ تثبيتِ نظرها على عينيه. ضغطت بكوعها بشدة على جونتوران، وانغرست الحافة الصُّلبة للجوهرة الزرقاء في ضلوعها ومنحتها الشجاعة. عندئذٍ أبعد عينَيه عنها ووجَّههما صوب ستار الخيمة وصاح، رغم أنه نادرًا ما كان يَصيح، فأحضر الخدمُ مشروب مالاك طازَجًا ومعه الفاكهة. بدأ الجليد يتفتَّت، على نحوٍ متوتر، وحدَّقت هاري في كوبها ورفضَت الاستمرار في الحديث، وأنصتَت إلى قلبها وهو ينبض، وتساءلت عمَّا إذا كانت خائنة؛ وإذا كان الأمر كذلك، فمن خانت؟

في صباح اليوم التالي، بدأ خمسةٌ وثلاثون فارسًا مختارًا، مع كورلاث على رأسهم وهاري، التي كانت لا تزال عابسةً إلى حدٍّ ما، بينهم، في صعود الطريق إلى حيث يعيش لوث. فضَّ بقيةُ الجيش المعسكر أولًا، وتخفَّوا خلف الشُّجيرات عند سفح الجبال، آخِذين معهم حيوانات الصيد وخيولَ حملِ الأمتعة. انتظر كورلاث والفرقة الصغيرة معه حتى النهاية، وراقبوهم وهم يذهبون، ليحكُموا إن كان تَخفِّيهم فعَّالًا؛ ولِيَروا إن كانت هناك أيُّ مسارات واضحة للغاية مقطوعة في الشجيرات. طارت بعضُ الطيور هاربةً من أعشاشها، لكن هذه كانت العلامةَ الوحيدة على عبورهم. لا بد أن كورلاث وأيَّ شخص آخر لديه موهبةُ التنبُّؤ بالطقس كانوا راضين، وراحت هاري تجول بناظرَيها، وهي تتحسَّس بأصابعَ باردةٍ عمودَها الفقري على الرغم من الحرارة؛ إذ كان الضباب الذي ظل ملازمًا لهم قد أخذ يتبدَّد برفق. فأصبحَت السماء زرقاءَ وصافية. وصدَح طائرُ بريتي بالغناء، فرفعَت هاري عينيها لمشاهدةِ الطائر البني الصغير وهو يطير بجموح في مسارٍ متعرِّج فوق رءوسهم. حثَّ كورلاث حصانه الكستنائي الكبير على التقدُّم، وتبعه أربعةٌ وثلاثون فارسًا، وقطة صيد عنيدة.

سارت هاري بتلكُّؤ بالقرب من ذيل الموكب. لم تنَم في الليلة السابقة بسبب التفكير في الممرِّ الشمالي الغربي وجاك ديدام، وتعبيرات وجه ديدام بينما يُراقب كورلاث وهو يُغادر القصر مندفعًا، وتعبيرات وجه كورلاث وهو يقول: «فليأخذوا مدينة الأغراب؛ فربما ينشغلون بها.»

من المؤكد أنه كان هناك سببٌ لعدم اعتقاد أيٍّ من أهل التلال أنَّ تلك الفجوة المؤدية إلى دامار تستحقُّ الاهتمام؟ لكن إذا كان هناك سبب، فما ذلك السبب؟ ربما سيذكر هذا المدعوُّ لوث كلامًا منطقيًّا. ربما كُرته البلورية أو شيءٌ من ذلك القبيل، ستقول: «احذروا الممرَّ الشمالي الغربي! احذروا!»

لكن من الوارد ألا يحدثَ ذلك. إذَن، يا هاري، ماذا تنتوين أن تفعَلي حيال ذلك؟

لم تكن تعرف. ركزَت على أذنَي صنجولد، النحيفتين المتحفزتين، وهما تحدَّان جانبَي المسار أمامها، بينما تقدَّم الحصان إيناث بكِفلَيه الرماديَّين الداكنين سائرًا أمامها. مع تقدمهم عبر الطريق اختفَت الشجيرات وظهرت الأشجار، ثم أشجار أكبرُ حجمًا، ثم توغَّلوا في غابةٍ كثيفة عتيقة، حيث كانت حتى رائحةُ الهواء بداخلها عتيقة. وبحلول نهاية وقتِ ما بعد الظهر، ترجَّل جميع الفُرسان عن صهواتِ خيولهم، وساروا مع خيولهم التي غطَّاها العرق الداكنُ على منحدرٍ حادٍّ وغير مستوٍ. وراحت هاري تلهث، لكنها حاولت أن تفعل ذلك بهدوء. ربما لم يتنفَّس كورلاث بصعوبة على الإطلاق. وبدَت فتحتا أنفِ تسورنين حمراوَين، لكن أذنَيه كانتا منتبهتَين كعادته، وفي بعض الأحيان كان يفرك أنفه بلطف على مؤخرة رقبتها؛ تحسبًا لاحتمالِ عدم تفكيرها فيه للحظات. كانت ناركنون تتجوَّل بجانبهم مثلَ ظلٍّ مرقَّط. وكانت الأشجار طويلةً وضخمة لدرجة أن هاري، وهي تُشاهدها، شعرت أنها ليست سوى قطةِ منزل، وأنها عندما تأتي طلبًا لبعض المداعبة، كانت ستلتفُّ حول كاحلَي هاري، وستحملها هاري بيدٍ واحدة وتضعها على كتفها.

كانت الأشجارُ عالية جدًّا فوق الرءوس لدرجة أن الشفق أسفلَها كان أشبهَ ربما بالغروب التامِّ للشمس، ولكن ربما كان ذلك بسبب ظلِّ الأوراق، وكانت الصحبة صامتة؛ إذ لم يتكلَّم أحد، وقد كتمَت أوراقُ الشجر والحشائش صوتَ وقْعِ أقدامهم. سمحَت هاري لنفسها بالتساؤل عن المسار، كبديل لدوائرَ لا نهائية من الأفكار في ذهنها حول الممرِّ الشمالي الغربي؛ لقد ظلَّ سالكًا بما فيه الكفاية بحيث لم يُضطَرَّ أحدٌ إلى الانحناء تحت الأغصان المنخفضة، أو المعاناة في الخوض عبر الأدغال الزاحفة، ولكن لا أحد يسلكه إلا قليلًا حتى إن الحشائش تحت أقدامهم كانت كثيفةً ومستوية. وما زالت مستويةً بعد أن داس فوقها ثلاثون من الخيل وثلاثون من المشاة البشريين؛ هكذا قال لنفسه الشخصُ الحادي والثلاثون من المشاة، وهو يفركها بفضولٍ بقدم واحدة. إنها حشائشُ قوية. ربما يؤدي لوث دورَ عالمِ نبات في أوقات فراغه.

بحلول الليل، كانت هاري لا تزال تمشي فقط لأنها ظلَّت تُمسك بقبضتها حفنةً كبيرة من عُرف صنجولد. حاولَت إراحةَ ذراعها على ظهره، لكنَّ ظهره كان مرتفعًا جدًّا فلم تشعر براحة، وظلَّت يدها المتعرقةُ تنزلق عبر شعره الناعم. حتى رأسه كان منخفضًا قليلًا، وكانت هاري تعلم أنها لا تزال وسط الموكب فقط لسماعها الصريرَ الناعم للسروج الأخرى، والوميض العرضي في الظلام أمامها مباشرةً حين كان حصان إيناث يُحرك ذيله.

وبينما هي تسير أغلقَت عينيها ولمعَت ألوانُ الإرهاق عبر جفونها. ثم بدأت في تصنيف نفسها إلى أنماط؛ ممَّا أزعجها، لكنها كانت متعبةً للغاية كي تفتحَ عينَيها وتصرفها. حيث رأت فارسًا أحمرَ الشعر على حصانٍ أبيض. كان الحصان عجوزًا، أبيضَ من تقدُّم العمر، وعظام وجهه بارزة جدًّا ورفيعة، حسبَت أن قدمه اليمنى الخلفية قصيرةٌ قليلًا، لكن رقبته كانت مقوَّسةً وذيله مرتفعًا. كان منكبا الفارس ثابتتَين بشكلٍ يوحي بالعزيمة، وبدَت ساقاه على جانبَي الحصان ثابتتَين، وليستا مضطربتين. كان هناك احمرارٌ دخاني في الأفق وراءهم، قرمزي لا يُشبه الفجر أو الغروب؛ كانوا متَّجهين نحوه، وومض الضوء من سلسلةٍ حول رقبة الفارس والخوذة المربوطة بالسرج، وشعر الفارس، وخاصرة الحصان. تساءلت هاري إلى أين هم ذاهبون، ومن أين أتَوا. كان يمكن أن يكون الريفُ هو دامار. كان يمكن أن يكون أيَّ مكان تقريبًا.

أدركَت أن هناك ضوءًا يسطع من خلال جفنَيها، كان يُشعل النار في الحصان الأبيض. فأسرع الحصان في خبَبِه، في موجةٍ متلألئة ساطعة من الحركة. فتحَت هاري عينيها وهي تشعر بدُوار. كانوا يقتربون من أرضٍ خالية مضاءة بالمشاعل؛ استطاعت أن ترى كورلاث وقد توقَّف، يتحدث إلى رجلٍ طويل القامة مثله، لكنه أشدُّ نحافةً، كان شعر الرجل أشقر. اقتحم إيناث الدائرةَ المضيئة، وتبعَته هاري، وهي تُحاول عدم التعثر، متعبة للغاية لدرجة أنها لم تستطع حتى سحْبَ يدِها من عُرف صنجولد للحفاظ على كبريائها. نظرَت حولها قليلًا، وكانت الوجوه التي استطاعَت أن تراها بالقرب منها شاحبةً ومنهَكة. وعلى عكس المتوقَّع، جعلها هذا تستعيد قوتها، فأنزلَت يدها وبسطَت كتفَيها. أدار صنجولد رأسه لإراحةِ ذقنه على كتفها. فغمغمَت: «من يطمئنُّ من هنا؟» وجلسَت ناركنون على الفور على قدمَي هاري وصدمَت يدها برأسها كما لو أنها تقول: أنا.

كان شخصٌ ما يعرف الطريق، فبينما انتهى كورلاث من التحدثِ مع الرجل ذي الشعر الأشقر، كان بقيةُ الفرسان يتبعون شخصًا آخرَ إلى … مكانٍ ما للاستراحة فيه، حسبما تمنَّت هاري بشدة. واسترَقَت نظرةً سريعة نحو كورلاث وهي تمرُّ به، وشعرت بالراحة بسبب الهالات الموجودة تحت عينيه وعظام وجْنتَيه. ربما كانت فقط بسبب ضوء المشعل.

عندما استيقظَت هاري، كانت الشمس قد توسَّطَت كبدَ السماء، ولمدةِ دقيقة لم يكن لديها أدنى فكرةٍ أين كانت. كان أولُ ما طرأ على ذهنها أن وجبة الإفطار قد فاتتها، وأن والدها سيُمازحها بشأن سهرِها حتى وقتٍ متأخر. ثم تذكَّرَت، برجفةٍ اعتادَتها لقلبها، أنها كانت في داريا مع ريتشارد — كلا، في دامار، مع صنجولد، وناركنون، التي تمدَّدَت عند قدمَيها. وكورلاث وجونتوران. كانت يدُها قد استقرَّت بخفة على مقبض سيفها مرةً أخرى وهي نائمة، وخلال الاضطراب الأول عند الاستيقاظ؛ الآن تعرفَت أصابعُها على ما لمسَته. فارتجفَت وتنهَّدَت وجلسَت منتصِبةً.

كانت في قاعةٍ ضيقة طويلة بها نحوُ عشرةِ أسِرَّة منخفضة للغاية، وقد سمحَت النوافذُ العالية والضيقة ولكن المتقاربة بدخولِ فيضان من ضوء الشمس. بصعوبةٍ تذكَّرَت مجيئَها إلى هنا، بعد أن رأت تسورنين مربوطًا وقد أزيل السرج عن صهوته وهو سعيدٌ بإناءِ حبوب وكومةٍ من القش وُضعا أمامه، فأوَتْ إلى سريرها ونامت قبل أن تلمسه. معظمُ الأسرَّة الأخرى في الغرفة كانت لا تزال مشغولة. كانت القاعة مبنيَّة من كتلٍ كبيرة من حجرٍ غير مصقول باللونين الرمادي والأبيض، كانت تعتقد أنه نوع الحجر نفسه المستخدَم في مدينة كورلاث. كانت القاعة باردةً، لكن رائحتها جيدةٌ ونفَّاذة، مثل أوراق الشجر النضرة.

كانت هناك أبوابٌ عند كل طرَف من الأطراف الضيقة للغرفة، وعند وقوفها أمام السرير، أمكَنها النظرُ عبر أيٍّ منها. كانت حجارة الأرضية باردةً تحت قدمَيها. فجلسَت مجددًا على حافة السرير — إنه سريرٌ حقيقي بالفعل؛ هكذا قالت لنفسها — ونظرَت إلى وسادتها للحظة. ثم تنهدَت بأسفٍ وارتدَت حذاءها الطويل. فتحَت ناركنون عينًا واحدة وأغلقتها مرةً أخرى. بدَت الحُجرات على كل جانبٍ مثل الحجرة التي كانت فيها إلى حدٍّ كبير، ومليئة بأجساد لا تزال نائمةً وملفوفة في بطانيات داكنة. كان هناك بابٌ آخر في منتصفِ الحائط المقابل للنوافذ. وهذا ما خرجَت منه.

ووجدَت هنا قاعةً شاسعة، أكثرَ ارتفاعًا من الأشجار العتيقة في الغابة التي قطعَتها سيرًا مرهقةً، مع نوافذَ تصل لأعلى الجدران لتنفتحَ فوق الأسطح الأدنى ارتفاعًا لممرَّات النوم. وعند أحد طرَفَي هذه القاعة، توجد مدفأةٌ كانت ستبدو ضخمةً في أي حجرةٍ أقلَّ اتساعًا، أما هنا فقد بدَت صغيرةً للغاية. كان أمامها عدةُ كراسيَّ خشبية ضخمة، وخلف الكراسي مائدةٌ طويلة ذات قواعدَ مائلة غليظة، وكانت بقيةُ القاعة فارغةً. وكان يوجد في الجهة المقابلة لجدار المدفأة أبواب، وقد فُتحت ليدخلَ ضوءُ الشمس وزقزقة العصافير وحفيف الأوراق. رفعَت ناظرَيها إلى السقف. والغريب أنه لم ينشأ إحساسٌ بالضيق من الأحجار والفراغ، بل سادَت السكينة، هدوء الهجوع.

وقفَت لحظةً، وهي راضيةٌ لمجرد أنها أصبحَت أقلَّ تعبًا ممَّا كانت عليه في الليلة السابقة، مستمتعةً بإحساس الاسترخاء. لأول مرة منذ المواجهة مع كورلاث، تركها التفكيرُ في الممر الشمالي الغربي تستمتع بحريَّة، دون أن تبذل مجهودًا في تجنبه، حتى علمُها بالحرب القادمة، بدورها في معركتها الأولى، لم يُزعجها في الوقت الحاضر. بالنسبة إلى المعركة فقد كانت تعرف أن هذا أمرٌ سيُزعجها لاحقًا — عمَّا قريب، لكنها ستنتبه له لاحقًا. أما الآن فقد ظلَّت تبتسم. لكنها شعرَت بتيبسٍ في فمِها.

أنزلت نظرَها عن السقف ووجَّهَته مرةً أخرى نحو المدفأة. كان حصولها على النوم والهدوء أمرًا جيدًا، لكنها شمَّت رائحةَ طعام، وكانت جائعة.

كان الرجل ذو الشعر الأشقر الذي وقف يتحدث مع كورلاث في الليلة السابقة جالسًا على أحد الكراسيِّ الخشبية الكبيرة، وهي لم تَلحَظْه إلا بعد أن اقتربَت منه تمامًا. كان وقعُ أقدامها خفيضًا للغاية؛ فلم تتردَّد أصداء ثقيلةٌ عبر القاعة لتقاطع زقزقة العصافير. ثم توقفَت. كانت هناك نارُ طبخ صغيرة، باتساع شبرَين تقريبًا، مشتعلةٌ في مقدمة تجويفِ أرض المدفأة. وقد تدلَّى فوقها من سلسلةِ قِدْر فضي كبير، وعلى كرسي قريب وُضعت كومةٌ من الأطباق الفضية العميقة، وكومةٌ من الملاعق الفضية اللامعة.

قال الرجل ذو الشعر الأشقر: «تناولي إفطارك. لقد تناولتُ إفطاري، كُلي بقدرِ ما تريدين. يتملَّكُني الزهوُ لكون الطعام شهيًّا للغاية، وإن كنتُ أعترف بأنني لستُ معتادًا كثيرًا على الطهو للعديد من الأشخاص، حيث يبدأ المرء في نسيان عددِ حبات البطاطس التي وضعَها في القِدر بالفعل بعد أول مجموعة.» جلسَت مع طبقها، وشعرَت أن المقدمات الرسمية ليست مرغوبةً، وأنه سيشعر بالسخرية إذا حاولَت أن تكون مهذبةً بشكل تقليدي، كما أنها كانت جائعةً للغاية. وبينما هي جالسة، أحضر قِربةً من الجانب الآخر من كرسيِّه وصبَّ في إبريقٍ عند قدميه. وقال وهو يُناولها إياه: «حليب الماعز.» كانت هناك بقعٌ بنية من البهارات تطفو فيه. فابتسَمَت، ولكن من دون تيبسٍ هذه المرة.

ظلَّت تنظر إليه وهي تأكل، وبينما كانت متأكدةً من أنه يعرف أنها تُراقبه، ثبَّت هو عينَيه على اللهيب وهو يتراقص ضعيفًا تحت القِدْر، كما لو أن السماح لها بالنظر نحوه بكل حريةٍ كان مجاملةً فعلها بالإضافة إلى إشباع جوعها.

كانت تعلم أنه طويلُ القامة، ورغم أنه جالس، فقد بدا أطول؛ لأنه نحيفٌ للغاية. كانت ذراعاه ممدودتَين بعيدًا عن جانبيه لتستقرَّا على ذراعَي الكرسي، لكن أصابعه الطويلة امتدَّت حتى جاوزت المقدمة الملتفَّة لمسند الذراعين، وكانت رُكبتاه على بُعد عدة بوصات من قاعدة الكرسي الطويلة. كان يرتدي سترةً خضراء داكنة، وقميصًا بُنيًّا تحتها، بأكمام طويلة كاملة مربوطةٍ عند الرُّسغين بشرائطَ ذهبية. وكان ينتعل حذاءً طويلًا باهتًا يصل فوق ركبتَيه مباشرةً، حيث تنسدل السترةُ فوقه. وكانت السترة مفتوحةً من الجانبَين حتى الخصر، وكان السروال الضيق تحتها ذهبيًّا بلون الشرائط. ولم يكن يرتدي وشاحًا، بل شريطٌ رفيع من القماش، أزرقُ داكنٌ متقاطع على صدره، وملفوفٌ لفةً واحدة خفيفة حول خصره. وينتهي طرَفُه بشُرَّابةٍ من الخيوط الذهبية والزرقاء الداكنة. كما كان يرتدي حول رقبته سلسلةً بها حجرٌ ضخم ذو لونٍ أحمر داكن.

علَت وجهَه علاماتُ تفكيرٍ عميق وهو يحدق في النار. كان أنفُه طويلًا مستقيمًا وشفتاه رفيعتَين؛ وعيناه زرقاوين ذواتَي جفنَين ثقيلين. وكان شعره مجعدًا وذا لونٍ ذهبي لامع، ينسدلُ على ياقته وأذنيه على الرغم من أن وجهه كان حليقًا تمامًا. قالت هاري لنفسها إنه ينبغي أن يبدوَ شابًّا. لكنه لم يبدُ شابًّا. كما أنه لم يبدُ عجوزًا.

التفت إليها وهي تضع طبقها وكوبها وابتسم. ثم قال: «حسنًا؟ هل وضعتِ كميةً مناسبة من البطاطس؟»

كانت بطاطسُ التلال ذهبيةً وأشهى كثيرًا من البطاطس الباهتة في هوملاند، التي كانت هاري تأكلها بطاعةٍ ولكن دون حماسة عندما كانت طفلة، وهي ممتزجةٌ هنا كما ينبغي مع السمك الأبيض الخفيف الذي كان أساسَ الحساء. كانت هذه هي المرةَ الأولى التي تأكل فيها أسماكًا طازَجةً منذ أن غادرَت وطنها، حيث كانت كثيرًا ما تعود إلى المنزل بطعام العشاء بعد قضاءِ بضع ساعات بجوار بِركة ماء أو جدولٍ في مزرعة والدها، وقد ابتهجَت الآن لملاحظةِ أنَّ تذكُّر هذه الحقيقة لم يُسبب موجاتٍ مضطربةً من العاطفة حول ماضيها أو مستقبلها. فقد قالت بهدوء: «أجل.»

التقَت عيناهما، وسألها، كما لو كان صديقًا قديمًا أو والدها: «هل أنتِ سعيدة؟»

فكَّرَت في الأمر، وهي تُبعد نظراتها عنه وتوجهها نحو طَرْف جونتوران، وهي تسند ظهرها على كرسيِّها؛ لأنها، دون أن تفكر في الأمر بطريقة أو بأخرى، علقَت جونتوران حول وسطها بمجردِ أن نهضَت من سريرها. ثم قالت: «كلا، ليس بالضبط. لكنني لا أعتقد أنني أرغب في الشكوى من التعاسة.» توقفَت دقيقةً واحدة، وهي تُراجع الأفكار التي راودَتها باستمرارٍ طوال أسابيعَ منذ أن تركَت حياتها القديمة مثل صُرةٍ معلقة فوق غارب فايرهارت. وأردفَت قائلةً: «إن الأمر هو أنني لا أستطيع أن أرى ما أفعله أو لماذا، ومن المقلِق دائمًا أن يعيش المرء لحظةً بلحظة. أوه، أعلم — لا يُدرك المرء أبدًا ما سيأتي أو ما كان. لكنني أرى أقل حتى من ذلك. يبدو الأمرُ كأنك معصوبُ العينين في حين لا يكون أيُّ شخص آخر في الحجرة كذلك. لا أحد يستطيع أن يرى ما هو خارج الحجرة — لكن يمكن لأيِّ شخص آخر رؤيةُ الحجرة. أودُّ أن أزيلَ العصابة عن عيني.»

ابتسم الرجل. وقال: «إنها أمنيةٌ معقولة. لا أحد يعيش أكثر من بضع لحظات على هذه الحالة أو تلك — حتى أولئك المحظوظين أو غير المحظوظين الذين يمكنهم رؤيةُ كيف سينكشف المستقبل، وربما يشعرون أن اللحظة تمرُّ بصعوبة شديدة. لكن ربما من المريح أن يكون لديكِ بعضُ الإحساس ﺑ … احتمالية الخيارات؟»

قالت وهي تتنهَّد: «أجل»، وضغطَت بإصبعها على مقبض جونتوران، وفكَّرَت في الفارس ذي الشعر الأحمر على الحصان الأبيض. لقد بدا كأنه يعرف إلى أين هو ذاهب، وإن كان عليها أن تقرَّ بأنه بدا أيضًا كأنَّ المعرفة لم تمنحه أيَّ سعادة.

قال الرجل ذو الشعر الأشقر: «ليس هو. الليدي إيرين. يجب أن تبدَئي في التعرُّف عليها، كما تعلمين؛ لقد رأيتِها كثيرًا.»

نظرَت نحوه في دهشة.

فقال مستأنفًا كلامه: «أنتِ تحملين سيفها، وذاهبةٌ نحو قدَرٍ ليس تمامًا من اختيارك. ليس من المفاجئ أن تختار هي بطريقةٍ ما الذهابَ معك. إنها تعرف الكثير عن القدر.»

ليس من المفاجئ. لكنها ما زالت متفاجئة. وهي تُفضل أن تُفاجَأ، في الواقع. لقد سمحت لنفسها — مدةً وجيزةً فقط — بالتفكير في وطنها، حيث التلالُ المنخفضة العُشبية الواسعة والأنهار الزرقاء، عندما كان السيف الوحيد الذي عرَفَته هو السيفَ الصغير الذي كان لدى أبيها، الذي لم يكن حادًّا، وكانت ممنوعةً من لمسه؛ وحيث كانت الرمالُ موجودةً فقط على شاطئ البحر. وهنا وجدَت نفسها مرةً أخرى تُحدق في قِدر فضي فوق نار صغيرة.

«أخشى أنني لا أستطيع أن أُطمئنكِ كثيرًا بالتنبؤات؛ إنه لَمن دواعي سروري أن أُطمئِنَ أي شخص بالتنبؤات، ودائمًا ما أستمتع بهذا قدرَ الإمكان؛ لأنه لا يحدث كثيرًا. لكنَّ ما يمكنني أن أخبركِ به أقلُّ حتى مما أستطيع في المعتاد أن أخبرَ به أيَّ شخص، وهذا يجرح كبريائي.» ومن ثَم أغلق يده حول الحجر الداكن المعلق في رقبته، الذي توهَّج من بين أصابعه كالنار.

نظرَت إليه في دهشة.

فقال: «لقد بدأتِ بالفعل في رؤية صعوبة الخيارات التي ستُضطَرين قريبًا إلى اتخاذها، ولن يكون الاختيار أسهلَ وأنتِ لا تعرفين سبب حتمية الاختيار.» اكتسب صوته نغمًا رتيبًا، وصار الضوء الأحمر للحجر ينبض مثل القلب، وأصبحَت الجفون الثقيلة شبهَ مغلقة.

«استمدِّي القوة من هدفكِ الخاص؛ لأنكِ ستعرفين ما يجب عليكِ فعلُه، إذا سمحتِ لنفسك، فثِقي بحصانكِ والقطة التي تتبعكِ؛ لأنه لا يوجد أحدٌ أفضل منهما، وإنهما يُحبانك، وثِقي بسيفك، فهو يمتلك قوةَ قرون ويكرهُ ما تكرهين. وثقي بالليدي إيرين، التي تزوركِ لطمأنتكِ، سواءٌ أصدَّقتِ ذلك الآن أم لا، وثقي في صداقاتكِ. سوف تحتاجين إلى أصدقاء؛ لأنَّ ثمة عالمَين يلتقيان بداخلكِ. لا يوجد أحدٌ معكِ في كلا الجانبَين؛ لذلك يجب أن تتعلَّمي، أن تستشيري نفسكِ، ولا تخافي ما هو غريب، إذا كنتِ تعلمين أنه صحيح أيضًا.» ثم فتح عينَيه. وأضاف: «إنه ليس موقفًا يُحسَد المرءُ عليه، أن يصبح جسرًا، وخاصةً جسرًا ذا رؤًى. أعلم ذلك.»

فقالت: «أنت لوث، بالطبع.»

«بالطبع. لقد طلبتُ من كورلاث على وجه الخصوص أن يجلبكِ إلى هنا — على الرغم من أنه كان يُحضر دائمًا فرسانَه فقط. وأنا أعلم أنكِ قد مُنحتِ لقبَ فارس الملك. إنني لا أطلبُ إحضارَ أيِّ شخص في الغالب؛ لذا يجدر بهذا أن يسرَّكِ.»

قالت بلا انتباه: «أستطيع أن أرى العالمَين الواقعة بينهما، على الرغم من أنني ما زلت لا أفهم لماذا اختار الثاني أن ينتفضَ ويخطفني …»

قاطعها لوث ليقول: «اسألي الكولونيل ديدام في المرة القادمة التي ترَينه فيها.»

«في المرة القادمة …؟ لكن …» قالت، في حيرة، وقد خرجَت من دائرة أفكارها.

قال لوث برفق: «كنتِ على وشك أن تسأليني سؤالًا مهمًّا بالنسبة إليكِ، إذ كنتِ تُحاولين ترتيبَ أفكاركِ، عندما قاطعتُكِ، وإن كنتُ لن أتمكَّن من الإجابة عنه. قلتُ لكِ إنني لا أستطيع أن أجعلَكِ تشعرين بالطمأنينة في غالبِ الأحيان.»

سألته: «ما هما عالماك؟» وكادت أن تمحوَ السؤال وهي تُتابع: «لكن إذا لم تستطع الإجابة عنه، فلماذا أسأل؟ هل يمكنك سَماعُ كلِّ ما أفكر فيه؟»

أجاب: «كلا. فقط تلك الأفكار الشبيهة بالسِّهام التي تنطلق بعنفٍ حاد. لديك عقلٌ منظَّم على نحوٍ أفضل من معظم الناس. يُشعرني معظمُ الناس بالكدر عند التحدُّث إليهم؛ لأنهم لا يملكون أيَّ سيطرة على تفكيرهم على الإطلاق، فهي وابلٌ مستمر، مثل التعرُّض لهجومٍ من مجموعةٍ متشابكة من الشجيرات الشائكة، أو أن تصعد على ساقَيك مجموعةٌ كبيرة من الهِرَرة، لتغرسَ فيك مخالبَها في كل خطوة. قد تكون قراءةُ عقل المرء وسيلةً وقائية فعَّالة كذلك، فمَن يُمكنه تبينُ الشوكة الفردية؟»

ضحكت هاري لا إراديًّا. ثم قالت: «قال إيناث إنك تعيش حيث تعيش، في مكانٍ مرتفع وبعيدٍ عن كل شيء؛ لأن هواء الأراضي المنخفضة يُغشِّي ذهنك.»

قال: «هذا صحيح إلى حدٍّ ما. إنه لأمرٌ محرج بعضَ الشيء أن أُجبَر على لعب دور العرَّاف الغامض الذي يعيش في مكانٍ ناءٍ بالجبل، لكنني وجدتُ أنه أمرٌ ضروري.

إن كورلاث، على سبيل المثال، عندما يكون لديه شيءٌ في ذهنه، سيستطيع أن يُزعجني به إذا كنتُ قريبًا منه. وهو كثيرًا ما يطلب مني أن آتيَ لأُقيم في سجنه الذي يُسميه مدينة، قائلًا إنني قد أُحبها لأنها مصنوعةٌ من نفس الحجر مثل هذا …» وأشار لأعلى. ثم أضاف: «كلا، شكرًا.» وابتسم. وتابع: «إنه لا يحبُّ الأسوار الحجرية لمدينته؛ ولذلك فهو لا يفهم لماذا أحبَّ أسواري؛ فهما تبدوان متشابهتَين بالنسبة إليه. لكنه يعرفني جيدًا لذا لا يُلحُّ في طلبه، ولا يشعر بالإهانة لرفضي.»

قالت هاري بأسف: «إذا كنتَ لا تجد كورلاث مزعجًا إلا وهو قريب، فإنني لا أتعاطف معك»، فضحك الرجل.

وقال: «نحن العرَّافين لدينا وسائلُ أخرى للمقاومة، لكنني سأحرص على إخباره أنكِ قلت ذلك.»

فانتبهَت. وقالت: «أُفضل ألا تفعلَ ذلك، إذا كنت لا تُمانع. أخشى أننا — لسنا على وِفاق أنا وهو حاليًّا.»

نقَر لوث بأصابعه على مسند الكرسي الخشبي. وقال: «أجل، لقد ساورني ذلك، وإنني آسفٌ له؛ لأن كلًّا منكما بحاجة إلى الآخَر.» واستمرَّ في النقر أكثر. ثم تابع: «أو بالأحرى هو مَن يحتاج إليكِ، وإنه لفي صالحكِ أن تُؤمني به.» وفرك لوث جبهته. ثم أضاف: «لكنني أقرُّ لكِ بأنه أحيانًا ما يكون عنيدًا.» وصمت لحظةً. ثم قال: «كانت إيرين مثله بعضَ الشيء، لكنها كانت أيضًا مثلك بعضَ الشيء. كانت إيرين عزيزةً جدًّا عليَّ.» وابتسم ابتسامةً خافتة. ثم أضاف: «المُعلمون دائمًا ما يفخرون بالطلاب الذين يمضون لإنجازِ أشياء عظيمة.»

قالت هاري: «إيرين؟ إيرين؟ الليدي إيرين صاحبة هذا السيف؟» وضربَت مقبض جونتوران.

قال لوث بلطفٍ: «أجل. هي نفسُها، إيرين ذاتُ الشعر الأحمر التي تُزعجك بالرُّؤى. لقد سألتْني عن العالمَين اللذين لديَّ؛ يمكنكِ القول إنهما الماضي والحاضر.»

بعد لحظةٍ باردة طويلة قالت هاري: «لماذا طلبت من كورلاث أن يُحضرني إلى هنا؟»

«لقد أخبرتكِ بذلك بالتأكيد. لأنني علمتُ أنه بحاجة إليكِ؛ وأردت معرفةَ ما إذا كنتِ من النوع الذي ينهارُ بسهولة.»

أخذَت هاري نفَسًا عميقًا. وسألته: «وهل أنا كذلك؟»

قال: «أعتقد أنكِ ستؤدِّين مهمتَك على نحوٍ جيد للغاية.» ثم ابتسَم. وقال: «وهذه إجابةٌ مباشرةٌ أكثر بكثير مما يحقُّ لأي شخص يتشاور مع عرَّاف أن يتوقع. لا بد أن أتوقفَ عن الشعور بالذنب تجاهكِ.»

أمضى كورلاث وفرسانه يومَين في قاعة لوث؛ كانت الخيولُ ترعى في مرجٍ واسع، وهو الامتداد الواسع الوحيد من الأرض الخضراء المضاءة بنور الشمس في نطاقِ مسيرة يومٍ واحد من الوادي المليء بالأشجار، حيث أقام لوث منزله. وجدَت هاري صنجولد يرمح عبر المرج، رافعًا رأسه وذيله لأعلى، في الصباح الأول، وقد بدا عليه أنه قد نسي مشقةَ صعود الطريق إلى أعلى الجبل. إذ ركض إلى حيث كانت هاري واقفة متَّكئة على سور الإسطبل المفتوح، حيث لا يزال عددٌ قليل من الخيول باقيةً في الداخل، مستغرقةً في تبنها. قالت هاري دون تركيز وهي تُفكر في حديثها مع لوث: «إنك تجعلني أشعر بالتعب. يجب أن تحصل على بعض الراحة، لا أن تتقافز مثل المُهر البري.» دفع تسورنين أنفَه تحت ذقنها، في تحدٍّ. فتابعَت: «هل تدرك أنه سيتعيَّن علينا أن نُعيد الكَرة قريبًا؟ وبعد ذلك نُتابع زحفنا ونستمر في السير – ونستمر ونستمر؟ يجب أن تُوفر قوتك.» فلثم صنجولد شعرَها.

خرج بقيةُ فرسان الملك والفرسان الخمسة عشر الآخَرون ببطءٍ من المنزل الحجري العالي. حاولت هاري أن تتبيَّن، بينما تُراقبهم، إذا كان أيٌّ منهم قد أجرى محادثاتٍ محيرةً مع مُضيفهم، لكنها لم تستطع التخمين، ولم يبدُ الأمر من النوع الذي قد يسأل عنه المرء. لقد بدَوْا جميعًا شبهَ مستيقظين، كما لو أن الرحلة حتى الآن — كان هذا أولَ توقفٍ حقيقي منذ مغادرتهم المدينة — التي رافقَها الهدوءُ العذب لمنطقة لوث قد حالت دون شعور جمع المحاربين، المتمرِّسين على امتطاء الخيول، بأي شيء سوى النعاس اللطيف. وقد ابتسَموا بعضهم لبعض واتَّكَئوا على سيوفهم، بل اعتنَوا بخيولهم العزيزة بلا مبالاةٍ، كما لو كانوا يعرفون أن الخيول ليست بحاجة إلى العناية هنا. أما ناركنون، فلم تتحرك أبدًا من سريرها، على حدِّ علم هاري؛ لقد تمددَت فقط عندما تركَتها هاري، وسمحت على مضضٍ أن تُزاح إلى جانبٍ واحد عندما دخلَت هاري مرةً أخرى. شعرَت هاري بالدهشة، على الرغم من إحساسها بالأجواء اللطيفة نفسِها حولَها؛ أيًّا ما كان، فقد كان عليها أقل.

كما تجول كورلاث نفسُه بطريقته البالغةِ النشاط المعتادة، إذا كان هناك أيُّ إحساس بالراحة يحاول أن يستقرَّ بداخله، فقد كان يجد صعوبةً في ذلك؛ لأن حالة كورلاث لم تكن مختلفةً عمَّا كانت عليه في أيِّ وقت مضى، رغم أنه لم يبدُ متفاجئًا بحالةِ أتباعه. ظلَّت هاري بعيدةً عن طريقه، وإذا كان قد لاحظ ذلك، فهو لم يُبدِ أيَّ إشارة. لقد كان في الغالب يتحدَّث إلى لوث — لاحظَت هاري باهتمام، في المرَّات التي رأتهما معًا فيها، أن كورلاث بدا كأنه يتحدثُ أكثرَ بكثيرٍ من رفيقه — أو يُغمغم متحدثًا لنفسه. ولم يكن من الممكن أن تنمَّ تلك الغمغمات على البهجة؛ لأنه كان عابسًا أغلبَ الوقت.

كان الجو خلال اليومَين لطيفًا وصحوًا، دافئًا بما يكفي أثناء النهار لجعل الاستحمام في البِركة على حافة مرج الخيول ممتعًا، وباردًا بدرجةٍ كافية في الليل لجعل الأغطية الموجودة على الأسرَّة في غرف النوم مُريحة. لم تُوقَد المشاعل التي شكلَت حلقةً خارج البوابات الأمامية للقاعة مرةً أخرى؛ كان لوث راغبًا في الترحيب بضيوفه، لكنه لم يعتبر المزيد من الإضاءة أمرًا ضروريًّا.

في ظهيرة اليوم الثاني، تبعت هاري الجدول الذي كان يَفيض من بِركة الاستحمام، وبعد قدرٍ معيَّن من محاولات تفادي الفروع الملتوية والتعثر فوق الروابي المتوارية، خرجَت من بين الأشجار المتشابكة إلى شاطئٍ فضِّي هادئ يحدُّ بحيرةً واسعة. بحيرة الأحلام. كان الجدول يتوقفُ عن خريره عندما يُغادر حافة الغابة، وينسابُ في صمتٍ فوق الرمال الفضية ليصبَّ في مياه البحيرة. ذهبَت هاري إلى حافتها وجلسَت تنظر إلى الماء. وشعرَت بصوتِ خطوات إلى جانبها؛ فنظرَت إلى الأعلى لتجدَ لوث. الذي قال: «هناك طريقٌ سهل يؤدي إلى هنا. كان يجب أن تسألي.» وانحنى وأزال غُصنًا صغيرًا من بينِ شعرها، وآخرَ من ظهر سترتها. ثم جلس بجانبها. وأضاف: «سأُريك طريق العودة.»

قالت هاري، وهي تُخرج ورقةَ شجر من عنقِ قميصها التحتاني: «هل تعيش هنا بمفردك؟»

أجاب: «كلا، لكن رفاقي في المنزل أكثرُ خجلًا مني، ويميلون إلى الانسحاب والاختباء وسط الأشجار المتشابكة عند توقُّع وصول زُوَّار. وهناك عددٌ كبير من الزوار، يأتون بين الحين والآخر.»

قالت هاري وهي تبتسم: «إنك عرَّاف مشهور.»

بادلها لوث الابتسام، لكن وهو يَحيد برأسه جانبًا. وقال: «أجل، أظن أنه ربما يكون نوعًا من الفزع الخاص ذلك الذي يجعل رفاقي يبتعدون في مثلِ هذه الأوقات؛ فهم أيضًا لديهم بعضٌ من قدرة الكيلار والرؤية.»

لم يبدُ أنه ميَّال للاسترسال؛ لذلك قالت هاري: «هل كلُّ مَن يأتي إلى هنا يتصرف وكأنه شبه نائم؟»

«كلا مجددًا؛ أنا وأصدقائي بشكلٍ عام منتبهون للغاية. لكن أجل، يجد معظمُ الزوار أنه مكانٌ يبعث على النوم — وهي سمعةٌ أدعمها؛ لأنها تجعل أفكارَهم ناعسةً أيضًا؛ ومن ثَم يسهل مُراوغتها.»

قالت هاري: «تدعمها؟»

قال لوث: «أنتِ لستِ ممَّن يستسلمون للنعاس بسهولة، أليس كذلك؟ إن مصدر ميلدتار يشوب كلَّ الماء هنا، والهواء الذي يمرُّ فوق بحيرة الأحلام يحمل معه شيئًا يبعث على النعاس. فقط أولئك الذين يحملون كثيرًا من الكيلار بداخلهم لا يجدون ذلك الأثرَ الخفيف لمياه الرؤية باعثًا على النعاس الخفيف. مثلكِ. ومثل كورلاث.»

التقطَت هاري، عندئذٍ، فكرةً طرأَت على ذهنها، وخبَّأَتها في أعماقِ ذاكرتها؛ حتى لا يتمكنَ لوث من قراءتها.

قال لوث: «حسنًا. هذا ما ظننتُه عنكِ، فأنتِ تتعلمين بسرعة. لم أستطع قراءةَ تلك الفكرة.»

ابتسمت هاري ابتسامةً باهتة.

قال لوث وهو ينظر في وجهها: «لكنني أشك، رغم ذلك، أنكِ قد تشعرين بالراحة أكثرَ إذا سألتِني عن تلك الفكرة»، لكنها التفتَت بعيدًا.

قال لوث بلطف: «كورلاث، أليس كذلك؟»

هزَّت هاري رأسَها، ليس لتُنكر ذلك، ولكن كما لو كانت تستطيع أن تنفض مخاوفَها لتتحرَّر منها؛ لكن لوث لم يَقُل المزيد. نهضَت في نهاية الأمر، وهي تُحدق عبر البحيرة، ولم تستطِع رؤية شاطئها الآخَر. فقالت: «إنها كبيرةٌ للغاية.»

نهض لوث ليقف بجانبها. وقال: «كلا، ليست كبيرةً جدًّا، لكنها بحيرةٌ من نوعٍ خاص، ومن الصعب رؤيتها. حتى بالنسبة إليَّ.» وظل صامتًا لحظة، وهو ينظر عبر المياه. ثم أضاف: «أعتقد أن سبب بقائي في هذا الوادي غيرِ المأهول بالذات من بينِ جميع الوديان غيرِ المأهولة في أرض التلال؛ هو أنه يُريحني من خلالِ تذكيري بأشياءَ لا أستطيع فِعلَها. فإنني لا أستطيع رؤية الضفة الأخرى لبحيرةِ الأحلام.» ثم التفتَ مبتعدًا. وقال: «تعالَي؛ سأريكِ الطريق. إلا إذا كنتِ تُفضلين العودةَ من الطريق نفسِه الذي أتيتِ عبْرَه، والاشتباكَ مع الأشجار المسكينة التي اعتادت على عدم الإزعاج.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤