الفصل الثالث عشر

بعد مرور يومَين آخرَين، وعند بزوغِ شمسِ الصباح، رأت هاري إيستن مرةً أخرى، وغيَّرَت مسارَهم قليلًا نحو الشمال؛ لأنها لم تستهدفُ دخول المدينة، ولكنها تودُّ مقابلةَ قوات جاك ديدام التي تتولَّى حماية جبهة المدينة. وسارَت يَحْدوها الأمل في أن تجدَ ما يدل على وجود جاك وسط قواته، وليس في اجتماعٍ دبلوماسي أو غزوة على الحدود. لم تستطع تخيُّلَ أنها قد تحاول شرحَ مهمتها لأيِّ شخص آخرَ غيره، ولا تعتقد أنَّ جاك سيظنُّ أن الجنون قد أصابها. لكنها تعتقد أنَّ أي شخص آخر — حتى ديكي، بل ديكي بالأخص — سيظنُّ أنها مجنونة. لكن حتى لو كان جاك في الحصن وصدَّق قصتها، فهل سيُساعدها؟ لم تعرف، ولم تجرؤ على التخمين. لكن هي وتيريم وسيناي، حتى مع تعزيزات والِد سيناي، لن يتمكَّنوا من إنجاز المهمة وحدهم.

على الرغم من ذلك، اعتقدَت أنَّ وجودَهم معها أفضلُ بكثيرٍ مما لو كانت بمفردها.

في الليلة الأولى، بعد أن انضمَّت إليها سيناي وتيريم، وبعد استقرار الحيوانات ونوم رفيقَيها، قطعَت هاري لنفسها غصنَ شجرة رفيعًا ومستقيمًا، وجرَّدَته بالسكين القصير الذي احتفظَت به في حذائها. وعندما واصلوا رحلتهم في ذلك المساء، ربطَت الغصن على نحوٍ طوليٍّ في سرج صنجولد، حيث أخذ يرتطم بساقها اليمنى وهي تمتطي حصانها، ولكن على الأقل لم يُشكِّل تهديدًا لأيٍّ من رفيقَيها، اللذين سارا على جانبَيها وهما يمتطيان حصانَيهما. وقد نظرا نحوه، لكنهما لم يقولا شيئًا. وعندما رأت إيستن تلوح في الأفق على ضوء الفجر أمامهم، توقَّفَت، وأخذَت سكينها مرةً أخرى، وقطعت بعنايةٍ عدة بوصاتٍ من حاشية سُترتها البيضاء، وفكَّت الغصن، وربطَت قطعة القماش المجعَّدة في أحدِ طرفَيه. ووضعَت الطرفَ الآخر تحت ساقها، ورفعته في وضعٍ مستقيم بيدٍ واحدة. «إنها علامةٌ على أننا جئنا قاصدين سلامًا»، هكذا أوضحَت لصديقَيها، على استحياء؛ فانفرجَت أساريرُهما وهزَّا رأسَيهما.

كان الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا. وقد عمَّ الهدوءُ المدينةَ وهم يسيرون بجوار حدودها، ولم يعترض طريقَهم أيُّ شيء، ولا حتى كلب، وهم يتَّجهون نحو الحصن. وجدت هاري نفسَها تُراقب من زوايا عينَيها، وتبحث عن أيِّ خيوط صغيرة عابرة من الضباب قد تتبعهم. كان من المفترض أن تنبح الكلاب. ولم ترَ أيَّ ضباب. لم تعرف ما إذا كان أيٌّ من رفيقَيها لديه القدرة على تبديد الضباب أم لا، وكانت تُدرك جيدًا أنها لا تعرف أبعاد قدرتها هي نفسها.

صعدوا المنحدر المؤدِّيَ إلى بوابة الحصن المغلقة، وكانت حوافرُ الخيول تُصدر أصوات ارتطام طفيفة على الأرض الرملية، وتتقافز الحصوات الصغيرة لأعلى تحت وطأة الارتطام، وفكَّرَت في المُهر القصير، الذي كان بلا شك نائمًا في إسطبله الآن يحلم بالتبن. نظرَت هاري إلى بوابة الحصن في دهشة، حسبما تتذكَّر، وكانت متأكِّدةً على نحوٍ معقول من أن تذكُّرَها صحيح، تُفتَح البوابة عند الفجر، مع انطلاق صوت بوق الإيقاظ، وتظل مفتوحةً حتى غروب الشمس. كانت البوابة الخشبية ذاتُ القضبان الحديدية، والمُثبَّتة في جدارٍ من الطوب الأصفر الباهت، أعلى من رأسها وهي جالسةٌ على صهوة صنجولد، وتنظر إلى أعلى؛ وكان إطارها أكثرَ ارتفاعًا أيضًا. فتوجَّهوا نحوها مباشرةً، ولم يستوقفهم أحد، ووقفوا أمامها، في حيرةٍ من أمرهم، وقد انعكسَت ظلالهم على الخشب الرمادي أمامهم بينما تُرفرف رايةُ هاري الصغيرة في طرَفِ ساريتها. صعدَت ناركنون إلى البوابة وراحت تتشمَّمُها. لم تخطر على بالِ هاري قطُّ احتماليةُ عدم تمكُّنِها من الدخول إلى القلعة. فتقدَّمت نحو البوابة وطرَقَت عليها بقبضتها. وعندما اصطدمت قبضتها بالحاجز الصلب، سرى وخزٌ في ذراعها، وأخبرتها همهمة من الكيلار في قاعدة جمجمتها أنها تستطيع المشي مخترقةً هذا الجدار إذا تحتَّم عليها ذلك، لتحقيق هدفها. في تلك اللحظة، أدركَت بالضبط كيف اختطفَها كورلاث من غرفة النوم التي لم تكن في الوقت الحالي بعيدةً جدًّا عن المكان الذي يقف فيه صنجولد، وفهمَت أيضًا أن الكيلار حتمًا ترى بعض الفائدة في مهمتها في حصنِ أرض الأغراب لدعمها بقوة؛ ولهذا لم تكن تعرف هل كان في هذا مدعاةٌ للسرور أو الأسفِ أو الخوف. وإن كان الخوف فمِن أجل مَن؟ شعبِها الجديد، أم أصدقائها القدامى؟ وانتابتها رجفةٌ من التعاطف الساخر لما شعر به ملكُ أرض التلال حتمًا، وهو يصعد سُلَّم القصر في منتصف الليل، ثم أمالت رأسَها إلى الوراء لتُحدِّق في جدار القلعة، وضربَت خاصرةَ حصانها برفق بباطن ساقها، لتُحرِّكه بعيدًا عن هذا الجدار.

ثم صاحت قائلةً: «منذ متى تُغلق هذه البوابة في وضح النهار؟» قالتها بلغة هوملاند التي أحسَّت أنها قد أصبحَت غريبةً على فمها، وتساءلت عمَّا إذا كانت قد نطقَت الكلمات كما لو كانت امرأةً من أهل التلال.

بكلماتها هذه، انفكَّت التعويذة، أيًّا ما كانت ماهيَّتها؛ وأغمضَ الفرسان الثلاثة أعينَهم فجأةً ثم فتحوها، كما لو أنَّ ضوء الشمس قد صار أشدَّ سطوعًا، وفُتِحَت نافذةٌ صغيرة بجانب البوابة وفوق رءوسهم؛ وأطلَّ منها رجلٌ ما بوجهه. وقال: «مِن أين أتيتَ، يا رجلَ أرض التلال، وماذا تريد منا؟» وهو ينظر نحو قطعة القماش البيضاء بارتياب.

قالت هاري وهي تبتسم: «لقد أتينا من أرض التلال، لكنني لستُ من أهلها، ونَودُّ التحدثَ مع الكولونيل ديدام.»

تجهَّمَ وجهُ الرجل. فظنَّت أنه لم يرُقْ له أنها تعرف اسم جاك. وأضافَ على مضض: «إنه لا يتحدَّث إلى أهل التلال — أو أولئك الذين يتشبَّهون بهم.» وعندئذٍ أطلَّت نحوهم عدةُ وجوه من فوق الجدار، لم تتعرَّف هاري على أيٍّ منهم، ووجدَت هذا أمرًا غريبًا؛ لأنها كانت تعرف وجوهَ جميع رجال ديدام تقريبًا. ولم يكن قد مضى على مغادرتها لهم أشهرٌ طويلة لدرجة أن يكون طاقمُ حراسة القلعة بأكمله قد تغيَّر. حدَّقَت في وجوههم، متسائلةً عمَّا إذا كانت عيناها أو ذاكرتُها قد خانتها.

عبَسَت لما استشفَّته من نبرةِ مُحاورها. وقالت وهي تُحاول أن تُقرِّر ما إذا كان ذِكر اسمها سيُثير مزيدًا من الجلَبة: «يمكنك أن تُبلغه برسالةٍ إذَن.»

قال الرجل عند النافذة بلهجةٍ غير مشجِّعة: «اسمع يا رجل أرض التلال …».

قال أحد الرجال الواقفين أعلى الجدار: «تمهَّل يا بيل، حبًّا للرَّب، إن الأوامر الجديدة لا تنصُّ على استخدام الوقاحة. إذا كنتَ لن تُبلغ الرسالة عنهم مثلما طلبوا، فسأفعل أنا — وسأكون على يقينٍ من أن أذكر السببَ الذي جعلَ رجلًا خارج ساعات الخدمة الرسمية مثلي يفعل ذلك.»

قالت هاري في تردُّد: «توم؟ هل أنت توم للويد؟»

ساد صمتٌ مُوتِّر وكاتمٌ للأنفاس، وتمتَم الرجل عند النافذة قائلًا: «إنَّ هذا سحر.» وجاء الصوتُ من أعلى السور مرةً أخرى، ببُطءٍ لكن بوضوح: «أجل أنا توم للويد، لكنك تعرفني وأنا لا أعرفك.»

قالت هاري بأسلوبٍ جاف: «هذا صحيح»، وأزاحت غطاءَ رأسها ونظرَت إليه. وأضافت: «لقد رقَصنا معًا في إحدى الحفلات، منذ بضعة أشهر: لقد انهالت العروضُ على أخي، دي … ريتشارد، من جميع أصدقائه طِوال القامة للموافقة على الرقص مع أخته الضخمة.»

قال توم: «هاري …» وانحنى فوق الجدار، وكتفاه بارزتان في مقابل الضوء، ووجهُه ويداه قد اعتراهما الشحوبُ فصارا في لون رمال الصحراء. وتابعَ: «أنتِ هاري، أليس كذلك؟»

قالت هاري، وهي تتعجَّب كيف بدا غريبًا أمام عينَيها، ولم تتعرَّف عليه قبل أن يتحدَّث: «أجل، وأنا أريد التحدث إلى الكولونيل ديدام. هل هو هنا؟» شعرَت هاري بخفقانِ قلبها الشديد من فرطِ التوتر.

قال توم بنبرةٍ مرتبكة: «أجل، إنه يقرأ جريدةً قديمة جاءته من الوطن مضى على صدورها ستةُ أشهر، ويتناول قهوته الآن، حسبما أظن. بيل، أيها البائس، افتح البوابة. إنها هاري كرو.»

كانت ساقا هاري مشدودتَين على خاصرةِ صنجولد، فرفع الحصانُ الكبير رأسَه لأعلى وارتجف.

قال بيل فجأةً: «إن هذا الشخص لا يُشبه هاري كرو. وماذا عن الاثنَين اللذَين معه … معها؟ وهذا النمر ذو اللون المضحِك؟»

قالت هاري بغضب: «إنهم أصدقائي. إمَّا أن تفتح البوابة أو على الأقل تُبلغ رسالتي.»

«لا يمكنني مبارحةُ موقعي، سيتولَّى رجلٌ آخرُ إبلاغَ الرسالة. لن أفتح البوابة لشخصٍ من أهل التلال. إنها مغلقةٌ بسبب أهل التلال. إنَّ توم متساهل للغاية. كيف أعرف أنكِ هاري كرو؟ إنكِ تَبْدين مثل شخصٍ قذر من أهل داريا، وتمتطين الحصان مثل أهل داريا، ولا يُمكنكِ حتى التحدُّثُ بشكل صحيح.»

بدأ نبضُ هاري يدقُّ في أذنَيها.

«تحَلَّ بالشفقة يا رجل …»

قال بيل: «لستَ أنت يا توم. نحن نعلم بالفعل أنك خارج ساعات الخدمة. أَحضِرْ رجلًا آخر في الخدمة.»

قالت هاري من بين أسنانِها: «لا تهتم. سأُقدِّم الرسالة بنفسي. أنا أعرف مقرَّ جاك.» وأسقطت فرع الشجرة على التراب، وأدركَت أنها ستفعل شيئًا غبيًّا للغاية، حيث أرجعَت صنجولد إلى الوراء بضع خطوات بعيدًا عن البوابة، ثم أدارت وجهَه باتجاهها مرةً أخرى، وركضَت نحوها.

قفزَ صنجولد قفزةً رائعة بعد أن استندَ إلى قائمتَيه الخلفيتَين، وكان لدى هاري سببٌ لتصبح ممتنَّةً لملاءمة سرجها على نحوٍ مثالي، ولكن بينما هو في الهواء بدا وكأنه يطفو، ونظر حوله، ونزل على الأرض بخفةٍ مثل ورقة شجر. وخطا خطوتَين ثم توقَّف، بينما حاولت هاري أن تبدوَ هادئةً وراقية، وكأنها تعرف ما كانت تفعله طَوال الوقت. انتهت القفزة في بضع ثوانٍ، ولم يتوقَّع أحدٌ شيئًا لا يُصدق مثلَ هذا، حتى من واحدٍ من أهل التلال، كان الرجال يصيحون الآن، وقد احتشَدوا حولها. لقد ظنَّت أن لا أحد سيُطلق عليها النار على نحوٍ خارج عن السيطرة، لكنها لم تكن متأكدةً تمامًا؛ ولذا انتظرَت، بدلًا من البحث عن جاك ديدام مثلما هدَّدَت. مَدَّ صنجولد رقبته وهَزَّ جسمَه. وقفزَت ناركنون فوق البوابة خلفهما — وصرخ بيل من الخوف والغضب — وهرولَت القطةُ نحو صنجولد وجلسَت تحت خاصرته.

لكنها لم تكن مضطرَّةً إلى البحث عن جاك في نهاية الأمر؛ لأن الضجَّة عند البوابة جعلَته يذهب نحوها مسرعًا بعد ثوانٍ قليلة من قفزة صنجولد. حيث التفَّ عبر الزاوية الضيقة لأحد المباني القاتمة المقابلة للمكان الذي يقف فيه صنجولد. فرفع الحصان ساقًا بعد أخرى؛ إذ لم يكن معتادًا على مثلِ هؤلاء البشر المتهورين الصاخبين، لكنه لا يزال مطيعًا لرغبات فارسته. فأعاد كلَّ حافر إلى موضعه في ثبات.

توقَّف جاك، وتفادى الاصطدام بهما بصعوبة. وبسطَ صنجولد أذنَيه نحو هذا الرجل من أهل أرض الأغراب ذي الرأس الأصلع والشعر الرمادي الذي وقف أمامه الآن، وهو ما زال متحفزًا، يُحدِّق: كانت عيناه تنتقلان من الحصان الذهبي الكبير إلى القطِّ المسترخي، صعودًا إلى مُمتطي الحصان، وقد تدلَّى فكُّه على نحوٍ واضح. كان غطاءُ رأس هاري لا يزال على كتفَيها، وشعرُها اللامع يتلألأ في ضوء شمس الصباح، فعرَفها على الفور، رغم أنه لم يرَ مثل هذا التعبير على وجهها من قبل. مرَّت لحظةٌ عجز خلالها عن التفكير في شيء، ثم تقدَّم إلى الأمام وهو يصيح: «هاري!» ورفعَ ذراعَيه نحوَها، فترجَّلَت عن حصانها على نحوٍ غير رشيق، وقد عادت مثلَ فتاة صغيرة مرةً أخرى، وارتسمَت على وجهها تعبيراتُ فتاة صغيرة، واندفعَت نحوه. فاحتضَنها وربت على ظهرها، كما لو كان يحتضن أحدَ رجاله بعد أن عادَ من مهمةٍ مستحيلة، وبعد مدةٍ طويلة من فقدان الأمل في عودته، ثم قبَّلها بودٍّ من فمها، وهو ما لم يكن ليفعله مع أحد رجاله، وعانقَته هاري ووضعَت ذراعَيها حول رقبته، وبعدها حاولت التراجُع لِما انتابها من شعور بالإحراج. فأمسَك كتفَيها للحظاتٍ أطولَ وحدَّق فيها، كانا طويلَي القامة، ونظرَ نحوهما توم للويد بأسًى، وراحَ يُفكِّر في أنهما متشابهان للغاية، رغم شعر الفتاة الأصفر وملابسِ أهل التلال التي ترتديها، وأدركَ — دون أن يُصرِّح بذلك لفظًا — أنَّ الفتاة التي رقَص معها منذ شهور، وفكَّر فيها وهو يُلمِّع حذاءَه الأسود، وجافاه النومُ عندما اختفَت، قد ضاعت إلى الأبد.

مسحَت هاري عينَيها سريعًا بطرَفِ قميصها، ثم عانقها توم أيضًا، بعد أن أكسَبه تصرفُ قائدِه الجُرأةَ على فِعل هذا، لكنه تراجعَ دون أن ينظر في عينَيها، وشعرَت هاري، حتى ولو كانت منشغلةً بالفعل، بالحيرة مدةً وجيزة من مظهر توم الذي بدا كما لو كان يودِّعُها، وخمَّنَت شيئًا ممَّا لم يخبرها به شقيقُها مطلقًا.

استيقظ أفرادُ الحصن كلهم، ووقفَ عشراتُ الرجال حولهم يُحدِّقون ويتساءلون فيما بينهم؛ كان البعضُ يرتدون الزيَّ العسكري، وبدا بعضُهم وكأنهم سقَطوا عن الفراش قبل دقيقةٍ بفِعل الصدمة المباغتة؛ كان عددٌ قليل منهم يحملون بنادقَ وينظرون حولهم بعنف. وصُوِّبَت بعضُ هذه البنادق إلى ناركنون، لكن القطة أدركَت بغريزتها أنَّ عليها ألَّا تتحرك، أو حتى تتثاءبَ فتَظهر أنيابُها ذاتُ المظهر الخَطِر. أخذَ جنودُ أرضِ الأغراب يتساءلون فيما بينهم، وكان هناك كثير من الاستهجان، ولكن في حين أنَّ فرحةَ قائدهم الواضحةَ بزائرتهم التي جاءت على نحوٍ مفاجئ مرتديةً زيَّ أهل التلال قد خفَّفَت من أيِّ مخاوفَ لحظيةٍ ربما راودَتهم؛ فقد اعتقدَت هاري أنهم بدَوا متوتِّرين وحَذِرين، شأنهم شأن الرجال الذين يعيشون طويلًا تحت وطأة الضغوط.

قال جاك: «ماذا عساني أن أسأل أولًا؟». ثم أردفَ سائلًا: «لماذا أنتِ هنا؟ أستطيعُ أن أستشفَّ من حصانك المكانَ الذي كنتِ فيه خلال الأشهر الماضية — يا إلهي، يا له من جَواد! — لكنني مذهولٌ تمامًا من كلِّ هذا الذكاء … وإنْ كنتُ لا أراني متفاجئًا إذا فكَّرتُ في الأمر. هل تعلمين أن القاعدة خرجَت على بَكْرة أبيها تبحث عنكِ عندما اختفيتِ؟ وإن كنتُ في واقع الأمر أشكُّ في أنكِ تعرفين أيَّ شيء من هذا القبيل؛ لقد رحت أبحثُ عنك بكل جهد مثل أي شخصٍ آخر متسلِّحًا مُوهِمًا نفسي بأملِ عودتكِ، لكن ما يأخذه أهلُ التلال بغرض الاحتفاظ به، إنْ هم اعتزَموا ذلك، يحتفظون به، وأعتقد أنهم يريدون الاحتفاظَ بكِ. كان الجميع على يقينٍ من أن أهل التلال لهم علاقةٌ باختفائك المفاجئ على هذا النحو، وإنْ كان ظنًّا مُستمَدًّا من الخرافة أكثرَ من كونه استنتاجًا عقلانيًّا، حيث لم نعثر على أثرٍ من أي نوع، كما لم تنتشر أيُّ شائعات في السوق أيضًا. وعانت أميليا، تلك السيدة المسكينة، من نوباتٍ هستيرية صعبة، وقضَم تشارلز أطرافَ شواربِه من فرط القلق النفسي، وأخذت السيدة بيترسون بناتها جنوبًا إلى أوتانج. وأحجمَ أخوكِ عن التحدُّث إلى الجميع، وأصابَ ثلاثةُ خيول بالإعياء حتى الموت، وهو يمتطيها واحدًا تلو الآخر، في غِمار رحلات بحثه عنكِ … وهو مَن اعتادَ العناية جيدًا بخيوله، طَوالَ خدمته في الجيش، وإلا فما كنتُ لأحضره هنا. لا أعتقد أنه قد لاحظ حتى عندما غادرَت كاسي بيترسون هذا المكان.»

احمرَّ وجه هاري خجلًا، ونظرَت إلى قدمَيها.

«أترين إذَن، إنه يهتمُّ لأمركِ — لقد كنتِ تتساءلين في نفسكِ، أليس كذلك؟ لم يكن يروق له قائدُه هنا طَوال الأسابيع التي استمرَّت فيها عملياتُ البحث؛ لأنني لم أستطع بطريقة أو بأخرى الانفعالَ مع الموقف بالقدر المناسب — أوه، كنتُ قلقًا عليكِ، لكنني كنتُ أيضًا … أحسدكِ.»

نظرَ إليها وهو يبتسم، متسائلًا عمَّا سيكون عليه ردُّ فعلها تجاه كلماته، متسائلًا عمَّا إذا كان قد أصابَ القولَ، مدركًا أن الحقيقة ليست دائمًا عُذرًا في ذاتها، وهو يعلم أنَّ ارتياحه لرؤيتها جعله يتحدَّث كثيرًا وبحريةٍ مُفرطة — وهو تصرُّفٌ طالما أوقعَه في مشاكلَ كثيرة مع قادتِه في الماضي. فنظرَت هاري إليه، وابتسمَت هي أيضًا، لكنها تذكَّرت الدُّوار الذي أصابَ فتاةَ أرض الأغراب بينما هي بمفردها في مخيَّم رجال أرض التلال، محاطةً بأناسٍ يتحدَّثون لغةً لا تستطيع التحدُّث بها، ولا تفهم آمالَهم، ولا تستطيع أن تُشاركهم أحلامَهم.

لقد كان أهلُ التلال أعداءً لشعبها منذ ثمانين عامًا وأكثر؛ لأنها وُلِدَت ونشأت كفتاةٍ من أرض الأغراب، كيف يمكن لجاك — حتى جاك — التحدثُ عن الحسد؟

تجمَّدَت ابتسامتُها، وارتفعَت سترتُها على ظهرها ورجلَيها؛ لأنها، بطريقةٍ ما، فقدَت وشاحها، وأبعدَت جونتوران عن سرج صنجولد، حتى تبدوَ — كما كانت تأمُل — أنها جاءت في مهمةٍ سلميَّة. فقدَت وشاحها. إنَّ فارس أرض التلال لا يفقد وشاحه أبدًا. ماذا كانت هي؟ دامالور-سول. ها. وضعَت يدها على كتف صنجولد، لكن عندما أدار رأسَه ليلمسها بأنفه لم تشعر بالراحة؛ لأنه عاش طَوال حياته في أرض التلال. وتمنَّت في مَرارة وأسًى أن يكون شقيقُها قد أخبرها عن توم للويد، قبل شهور. كان هذا شيئًا ربما تفهمه، وكان توم لطيفًا وصادقًا.

كظمَت غيظَها ونظرَت إلى جاك مرةً أخرى، ورأى الذكريات تلمع في عينَيها، وابتسم لها في أسًى، وهو يشعر بالأسف تجاه أيِّ ألم إضافي سبَّبَته لها كلماتُه الطائشة. فقال بهدوء: «يا بُنيَّتي، إنَّ الخيارات دائمًا صعبة. لكن ألا تعتقدين أنكِ أنجزتِ اختياراتكِ بالفعل؟»

مشَّطَت هاري غُرَّة حصانها بأصابعها، وقالت: «لم يكن هناك خيار مطلقًا. أنا أسير في الطريق الوحيد المفتوح أمامي، ومع ذلك يبدو لي في كثير من الأحيان أنني غيرُ لائقة على نحوٍ خطير لهذه المهمة.» ضحكَت قليلًا وبشيء من الرجفة. وتابعَت: «يبدو لي أيضًا أنه من الغريب جدًّا أن يضع القدَرُ مَسارًا دقيقًا على هذا النحو، ولا يمضي إلا وقتٌ قصير لإعداد الشخص الذي يتعيَّن عليه أن يسلكه.»

أومأ جاك برأسه. وابتسَم على نحوٍ خافت وهو يقول: «إنه ليس بنوع الأشياءِ التي تُسجَّل في التواريخ الرسمية، لكنني أظن أنَّ مِثل هذه الأفكار لطالما راودَت آخَرين، وقَعوا في شَرَكٍ مثلكِ.»

عادَت يدُ هاري إلى جانبها وابتسمَت مرةً أخرى. وقالت: «أيها الكولونيل، سأحاول ألا آخُذَ نفسي على محمل الجِدِّ.»

فقال: «وسأحاول ألَّا أتحدَّث كثيرًا.» تبادلا الابتسامة، وعرَفا أنهما صديقان، وكانت المعرفة مصدرَ ارتياح وسعادة وأمل لكلٍّ منهما، ولكن لأسبابٍ مختلفة. ثم نظر إليها جاك مرةً أخرى، كما لو كان يُلاحظ غبارَ السفر على ملابسها ووجهِها لأول مرة، وقال بنبرةٍ حماسية على نحوٍ متعمَّد: «يبدو أنكِ تحتاجين إلى الاستحمام … يا إلهي، هذا السيف: أنت تحملين شيئًا ثمينًا مملوكًا للملك على مقبض سيفك بمنتهى البساطة.»

قالت هاري وهي مُتجهِّمة: «ليس بمنتهى البساطة.»

قال جاك: «سأطرح الأسئلة لاحقًا، لكن آمُلُ أن تُجيبيني عنها. تناولي الطعام واحصلي على قسطٍ من الراحة، وبعدها أخبريني بما أرى أنه قصةٌ طويلة للغاية، ويجب أن تكون القصة الحقيقية، وإنْ كنتُ لا أعدكِ بأن أُصدِّقها.»

قالت هاري وهي تبتسم مرةً أخرى: «إذَن أنا لستُ الوحيدةَ التي لا تُصدق هذه القصةَ العجيبة. هل تسمح أيضًا لصديقَيَّ بالعبور من بوابتك المنيعة؟»

قال الكولونيل ديدام: «إنها ليست منيعةً كما ينبغي. أتمنَّى لو كنتُ قد وصلتُ قبل دقيقة ورأيتُ تلك القفزة. أنا لا أصدقُ أنكِ فعلتِها.»

قال توم: «لقد قفزَتها بالفعل، يا سيدي.»

قال جاك: «أنا أعلم أنها قفزَتها، أنا فقط لم أتوقَّع أنَّ لديها القدرةَ على فعلِ ذلك. لا شكَّ أن كلَّ قصتك ستكون مستحيلةً كتلك القفزة. ودعيني أبدأ فقط بسؤالٍ بسيط؛ ما هذا؟» وأشار إلى ناركنون، التي لم تتحرَّك بَعدُ.

فقالت: «إنها قطةُ صيد، فولستزا. لقد تعلقَت بي بعد مدة وجيزة من … مغادرتي من هنا.»

اعتبَرَت ناركنون أنَّ هذه هي اللحظةُ المناسبة، فوقفَت ببطء، وفتحَت عينَيها الخضراوين الكبيرتَين على اتساعهما، وطرفَت برموشها الذهبية الطويلة مرةً أو مرتَين وهي تنظر نحو جاك، وبدأت في التحرُّك باتجاهه، بينما يقف هو في مكانه بشجاعة. توقَّفت ناركنون على بُعدِ خطوة منه وبدأَت تُخرخِر، وضحكَ جاك وهو في حيرةٍ من أمره، عندها اتخذت القطةُ الخطوةَ الأخيرة وفركَت خَدَّها بظهر يَدِه. ربتَ عليها جاك، بنظرةِ رجلٍ اعتادَ خوض المخاطر، فخرخرَت ناركنون بنبرةٍ أعلى. فقال جاك: «أعتقدُ أنني أتعرَّض لمحاولاتٍ من التودُّد.»

قالت هاري: «تتمتع ناركنون بحاسةٍ ممتازة ترشدها إلى مَن ينبغي لها أن تُصادقهم. ولكن …»

«أجل، سوف ندعُ رفيقَيك يدخلان بالطريقة المعتادة. ارفع مِزلاج البوابة هناك، يا شيبسون، وبسرعة، قبل أن يقفز أيُّ شيءٍ آخرَ فوقها. لا أحبُّ الأوامر القائمة الجديدة، كما أنها ليست جيدةً حسبما يتَّضح.» ورفع جاك نظره عن ناركنون، التي مالت بثقلها الكامل على ساقَيه وهي تربت بذيلها على ظهر فخذَيه؛ لينظر مجدَّدًا إلى صنجولد. ويقول: «إنه حصانُ أرضِ تلالٍ حقيقيٌّ. هل يمكن لأحصنتهم جميعًا القفزُ فوق حصون أرض الأغراب قبل الإفطار؟»

«كلا. أو ربما يُمكنهم ذلك، لكن معظم فرسانهم لديهم عقلانيةٌ أكثر تكبح جِماح أيِّ رغبة لديهم في تجربةِ هذا الأمر. لا سيَّما بعد رحلةٍ مثل التي خُضناها.» ذهبَت عنها الحماسة التي اعترَتها عند رؤية جاك مجدَّدًا، والطمأنينة التي شعرَت بها من دفءِ ترحيبه بها، فتذكَّرَت أنها كانت منهَكة، وشعورها بالعودة إلى الوطن في مكانٍ لم يعد وطنُها أصابها بالقلق أكثر. وقالت: «أودُّ الاستحمامَ وتناوُلَ الطعام، كما أنَّ علينا جميعًا أن نحصل على قسطٍ من النوم. وبعدها سأروي لك بقيةَ قصتي، سأخبرك بما يجب أن أخبرك به، لكن … ليس لدينا كثير من الوقت.»

فقال: «أنتِ هنا لغرضٍ معيَّن، ويُمكنني أن أخمِّن شيئًا منه. سأحاول ألَّا أكون غبيًّا.»

فُتِحَت البوابة، وتقدَّم تيريم وسيناي بهدوءٍ عبْرَها، وتوقَّفا بجانب صنجولد، وترجَّلا عن حِصانَيهما. فعرَّفَتهما هاري إلى جاك وانحنى كلٌّ منهما ولمسَ جبهته بأصابعِه في احترام، لكن دون بسْطِ الأصابع الذي يشير إلى أن الشخص المواجِه لهما من مرتبةٍ أعلى. وعندما قالت بلغةِ أرض التلال: «وهذا هو الكولونيل ديدام، الذي نحن هنا طلبًا لمساعدته»، أبهجَتها الطريقة التي انحنى بها صديقُها من أرض الأغراب ولمسه لجبهته بأصابعه، وقد نظر نحوها ويرتسم على وجهه تساؤلٌ بسيط.

قال جاك وهو يتقدَّمهم نحوَ مقرِّه: «أنا آسف، لكني لا أتحدَّث سوى قليل من لغة أرض التلال. ولذا، يجدر بي أن أطلب منكِ أن تُخبريني بما يجب أن أسمعه بلغتي، وأن أعتذر إلى صديقَيكِ عن الوقاحة التي عاملتُهما بها.» نطقَ الجملة بلغة أرض التلال على نحوٍ سليم لكن بلهجةٍ ثقيلة على نحوٍ ما، فابتسَم كلٌّ من تيريم وسيناي.

قال تيريم، الذي كان يتمتَّع بسرعةِ ابن ملك كي يردَّ بعبارة دبلوماسية: «نحن نتفهَّم الحاجةَ إلى السرعة والوضوح، ولم يخطر ببالنا أن نعتبر ما قلته إهانة»؛ وأومأت سيناي برأسِها في بساطة.

أخلى جاك ديدام الطاولةَ الموضوعة في إحدى الغرفتَين الصغيرتَين المخصَّصتَين له، وكانت هذه الطاولة تُستخدَم في العادة طاولةَ طعام ومكتبًا للكتابة، بالإضافة إلى كونها سطحًا مناسبًا لوضع أيِّ شيء عليها؛ وأحضر جنديُّ الخدمة الخاصُّ به وجبةَ الإفطار لثلاثة أشخاص. فأكلَ الثلاثة طعامهم في نهَمٍ، وأحضر الرجل، وهو يبتسم، وجبةَ إفطار ثانيةً لثلاثة أشخاص. فقال ديدام: «اجعلها لأربعة يا تيد. فأنا أشعر بالجوع مجدَّدًا.»

عندما انتهَوا، وبينما تُحدِّق هاري في فنجان الشاي الخاصِّ بها، وقد أدركَت بقلقٍ مزعج أنها تُفضِّل شرب مشروب مالاك، ملأَ جاك غليونه وبدأ في نفثِ سُحبٍ كثيفة من الدخان تزحف في جميع أنحاء الغرفة وتنحدر في الزوايا. وقال: «حسنًا، أخبِريني فيمَ جئتِ تطلبين مساعدتي؟»

قالت هاري، وهي تُحدِّق في الأطراف البالية لحذائها المصنوع في أرض التلال: «إنَّ جيش الشمال سيأتي عبر الجبال … في وقتٍ قريب. قريب للغاية. ويُخيِّم جيش كورلاث في السهل أمام الفجوة الواسعة — بليدفي جاب، التي نُسميها — بوابة الشمال، كما تعلم، في جبال هورفيل …»

قال جاك وقد أحاطت به سحابةٌ من الدخان: «ممرُّ جامبور، في سلسلةِ جبال أوساندر. أجل.»

«نريد سَدَّ الثغرةِ أمام الزحف الشماليِّ الغربي، الطريق الصغير عبر الجبال فوق إهيستن — حيث يمكن أن يأتيَ تدفقٌ غيرُ مرغوب فيه من جنود الشمال …»

«ويُدمِّروا إيستن، ويُواصلوا طريقَهم لإزعاج كورلاث.»

أومأت هاري. وقالت: «ليس مجردَ إزعاج؛ إذ لا يوجد كثير من الجنود في جيش أرض التلال للقتال.»

قال جاك: «هذا يُفسِّر، بلا شك، السببَ في أنه لا يوجد سوى ثلاثةٍ منكم — وقطة ذات أسنانٍ طويلة — من أجل الزحف الشمالي الغربي، كما تُسمينه أنتِ.»

ابتسمَت هاري على نحوٍ خافت. وقالت: «لقد جئتُ بمفردي في البداية، ثم لحقوا هم بي.»

«سأتجرَّأ وأقول، إذَن، إنكِ لستِ هنا على وجه التحديد بموجبِ أوامرَ من كورلاث.»

«ليس تمامًا.»

«هل يعرف أين أنتِ؟»

فكَّرَت هاري في الأمر، وقالت بحذر: «أنا لم أخبره إلى أين أنا ذاهبةٌ قبل مغادرتي.» وقد زالَ عن ضلوعها ضغطُ الوشاح.

طرفَ ديدام بعينَيه ببطءٍ عدةَ مرات، وقال: «أظن أنني أستطيع أن أستنتجَ من ذلك أنه سيتمكَّن من تخمين المكان الذي ذهبتِ إليه. وهذان الغبيَّان المِسكينان قرَّرا أن يتشاركا المصيرَ مع خارجة على القانون؟ أنا متأثِّر بهذا.»

لزمَت هاري الصمتَ لدقيقة. فرغم كلِّ كلماتها الشجاعة إلى جاك عند بوابة القلعة، شعرَت أنَّ المسار الذي اعتقدَت أنها تسلكه قد أصبح ضبابيًّا، ثم تهاوى تحت قدمَيها بمجرد أن قفز صنجولد فوق الجدار. أصبح مِن الصعب عليها الآن أن تتذكَّر مَن كانت — دامالور-سول وبلا وشاح — ولماذا جاءت إلى هنا وإلى أين هي ذاهبة، وجالت الأفكار في رأسها، متعبةً وبلا هدف. تذكَّرَت لوث وهو يقول لها: «إنه ليس موقفًا يمكن أن تُحسَد عليه، أن يصبح المرء جسرًا، ولا سيَّما جسرًا مع رؤًى»، واعتقدَت أن الرؤية الواضحة اللطيفة ستُصبح نعمةً مفيدة في الواقع. فتنهَّدَت وفركَت عينَيها. وقالت: «لم يتقبَّل كورلاث رأي السير تشارلز بلطف على الإطلاق خلال اجتماعهما في ذلك اليوم، أليس كذلك؟»

ابتسمَ جاك ابتسامةً باهتة. وقال: «أجل، لم يتقبَّله بلطف على الإطلاق.»

عبَسَت هاري. وقالت: «ما زال مُصرًّا على أن يقطع أنفه نكايةً في وجهه، سيقود جيشه إلى الهلاك نكايةً فيكم؛ بسبب إصراره على تجاهُل تأمين الممرِّ الشمالي الغربي.»

قال جاك: «ريتجرز جاب. ربما هو لا ينظر إلى الأمر بهذه الطريقة، رغم ذلك. لقد أتى إلينا يعرض إنشاءَ تحالُف من الدعم المتبادَل، هذا صحيح، كما كان سيُقدِّم لنا فائدةً كُبرى من خلال إعطائنا النتائجَ التي توصَّل إليها جواسيسُه في الشمال — وهو الأمر الذي اختار السير تشارلز، بحِكمته الفائقة، عدمَ تصديقه. أفترضُ أن كورلاث هذا سوف يقضي الآن ببساطة على أكبرِ عددٍ من الشماليين يمكنه القضاء عليه، وفي النهاية سوف يتراجع ما تبقَّى من جيش أرض التلال إلى تلك الجبال الشرقية الواقعة تحت سيطرته. وسواءٌ اجتِيحَت السهول الغربية من قِبَل جنودٍ شماليِّين غير خاضعين للرقابة أم لا، فإن الأمر في النهاية لا يُمثِّل أهميةً كبيرة له بطريقةٍ أو بأخرى. إنَّ قرارنا بعدم المساعدة يعني فقط وصولَ بضع كتائب أخرى من جيش الشمال لمهاجمتهم في تلالهم، وهو أمرٌ مؤسِف، ولكنه لا يُمثِّل أولوية لنا.»

فقالت: «إذا حاول جيش هوملاند منْعَ جيش الشمال من التقدم للأمام …»

ردَّ جاك: «لم تكن هناك أيُّ فرصة لذلك على الإطلاق، يا عزيزتي، صدِّقيني. إنكِ تُحاولين أن تكوني منطقية، حسبما أظن، والمنطق لا يمتُّ للسلطة الحاكمة إلا بصِلةٍ طفيفة، ولا علاقةَ له على الإطلاق بالإدارة العسكرية.

كما أنكِ ما زلتِ تُفكرين مثل أهل هوملاند — أو أهل أرض الأغراب إذا كنتِ ترغبين في ذلك — على الرغم من كلِّ ما تعلمتِه من أساليبِ الفروسية من أهل التلال»، واستقرَّت عيناه على جونتوران، معلَّقًا في حزامه فوق ظهر كرسيِّ هاري. وتابع: «أنتِ تعلمين أن إيستن هنا، ويبدو لكِ أنه من المؤسِف أن نُدمَّر دون فرصة، ولحسن الحظ أنتِ لم تكوني هناك في ذلك اليوم أيضًا، ولم تسمعي السير تشارلز وقد تحوَّل إلى شخص لا يُطاق. إنَّ السير تشارلز رجلٌ طيب من نواحٍ كثيرة، لكن الأشياء الجديدة تُزعجه. وفكرة التحالف بين أرض التلال وأرض الأغراب هي فكرةٌ جديدة إلى حدٍّ أقربَ إلى الهرطقة.»

«كما أنكِ ما زلتِ تُفكرين مثل أهل هوملاند — أو أهل أرض الأغراب إذا كنتِ ترغبين في ذلك — على الرغم من كلِّ ما تعلمتِه من أساليب الفروسية من أهل التلال». علِقَت الكلماتُ أمام عينَي هاري كما لو كانت مُثبَتةً على لافتة ثم دُفِعَ بها إلى الأرض عند قدمَيها كمعيار لها. لم تنظر إلى أي شيء بينما تقول: «أنت تُمهِّد كي تُخبرني أنه ليس ثَمة ما يُمكن فعله.»

«كلا؛ لكني أمهِّد كي أخبركِ بأنه لا توجد إمكانيةٌ لفعلِ ما يجب فعلُه — أنا أتفق معك، أنَّ على بلدنا، أو بلدي على أي حال، التصدِّيَ بجدية للتهديد القادم من الشمال. إنه تهديدٌ حقيقي.» وفركَ وجهه بيده، وبدا مرهَقًا في هذه اللحظات. ثم تابعَ: «أنا سعيدٌ لأنكِ منحتِني هذه الفرصة، وإن كانت صغيرة. إنَّ التعليمات التي صدرَت لي، بالطبع، تمنعني من الانطلاق على نحوٍ طائش للاشتباك مع جيش الشمال عند ريتجرز جاب أو أي مكان آخر — فالموقف الرسمي، غيرُ المنطقي، هو أن هذه مسألةٌ قبائلية، وإذا بقينا بهدوء في بلدنا وبواباتُنا مغلقة؛ فستنكسر الموجة وتتدفق من حولنا. أعلم أنَّ هذا غيرُ منطقي، وهذا أيضًا ما علم به بعضُ الرجال الذين كانوا هنا منذ أكثرَ من بضعِ سنوات. لقد كنتُ أفكِّر بعمقٍ طَوال شهور — بين الحين والآخر منذ زيارةِ كورلاث غيرِ المتوقَّعة، وقد صدقتُ ما قاله لنا بأن جواسيسه قد عادوا من الشمال بمعلوماتٍ مفيدة — فيما إذا كان الأمر يستحقُّ التضحية براتبي التقاعدي لو خالفتُ التعليمات وفعلتُ أيَّ شيء حيالَ ذلك. أظن أنه يستحق إلى حَدٍّ ما؛ لأننا سنُقتَل حتمًا إذا بقينا في بلدنا دون مواجهة الموقف، وأنا أفضِّل أن أُقتَل وأنا أدافع عن بلدي بدلًا من نحر رقبتي وأنا نائمٌ في سريري. وأنتِ بالضبط الدافعُ الذي كنتُ أبحث عنه؛ كان من الصعب بعض الشيء تحديدُ أيُّ تنينٍ يجب أن يتعامل معه القديسُ جورج بمفرده، عندما يبدو أن هناك تنانينَ كثيرةً في كل مكان.»

نظرَت هاري إلى جاك، وقد أدركَت أنَّ تيريم وسيناي خلفها، وضغطَ كتفٌ من الفرو على قدمَيها تحت الطاولة. إنَّ الإحساس بالانتزاع من الوطن هو شيءٌ مادي تقريبًا، مثل ألم المعدة أو التهابِ الحلق، لكن كلمات جاك الآن خفَّفَت من حِدَّة الألم قليلًا. وربما يمكن للجسر أن يمتدَّ لاجتياز هذه الهوَّة، في نهاية الأمر. كانت لا تزال وحيدةً ولا تزال خائفة، لكن للمرة الأولى منذ أن ابتعَدَت عن معسكر كورلاث شعرَت أنَّ مهمتها لم تكن بالضرورة مجنونة؛ ولذا فإن اقتناعها بأنها ستهلك خلالها كان أقلَّ رعبًا. وربما لم يَعُد مُهمًّا إلى أيِّ عالَم تنتمي إذا كان العالَمان يسيران بالخُطا نفسِها.

والآن بعد أن صدَّقها جاك، يمكنها الاعتماد عليه؛ ولأن هريماد-سول كانت لا تزال بطلةَ لابرون، وبينما كانت سعيدةً بتيريم وسيناي، نظرا إليها، ولم يُعجبها الإحساسُ مطلقًا. علَّمَتها صداقتُها القديمة مع جاك أيُّ نوعٍ من الرجال هو، ولن يشعر على نحوٍ محرج بالرهبة من هريماد-سول وسيفها الأسطوري. كانت للبراجماتية الواقعية لنفسيةِ أهل أرض الأغراب فوائدُها.

لكن بينما خفَّت وطأةُ شعورها أنها تخوض مهمتها بمفردها، ألقَت كلماتُه بثقل جديد عليها: هل كانت تصوُّراتها خاطئةً إذَن؟ هل كانت في الواقع تُفكِّر كواحدةٍ من أهل هوملاند … وهل خانت إذَن ولاءها الجديد؟ فتحَت راحة يدها اليمنى، ونظرَت إلى الندبة البيضاء الصغيرة التي تمتدُّ عبرها. ما رأيُ كورلاث في فِرارها من جيشه؟ هل كانت مخاوف لوث عليها في محلِّها، وهل كانت عاجزةً عن رؤية الطريق الصحيح عندما تشعَّبَت بها الطرق؟

مَدَّ جاك يدَّه عبر الطاولة وجذبَ يدَها اليمنى تجاهه. وهو يقول: «هاري. ما هذا؟»

أغلقت أصابعها حتى اختفى ما شعرَت فجأةً أنه رمزُ خيانتها. وقالت: «إنه … أحد الطقوس التي خُضتُها. لقد حصلتُ على لقب فارس الملك.»

«يا إلهي. كيف — عذرًا — كيف تمكَّنتِ من فعل ذلك؟ لا يعني ذلك أنني شكَكتُ في صفاتكِ المتميِّزة، لكنني أعرف شيئًا عن ذلك التقليد — إن فرسان الملك هم النخبة …»

قالت هاري: «أجل.» نظرَ إليها جاك فقط، لكنها شعرت بجفافٍ في فمها. فازدرَدَت لُعابها وقالت: «إنهم يعتقدون أنه سيُصبح … أمرًا مفيدًا … أن يوجد لديهم دامالور-سول مرةً أخرى.»

قال جاك: «بطلة.»

فازدرَدَت لعابها مرةً أخرى. وقالت: «أجل. لقد قال كورلاث إنهم يخوضون هذه الحرب دون وجود ما يبثُّ فيهم الأمل، وشيء مثل دامالور-سول يُشبه الأملَ إلى حَدٍّ ما. لقد رأيتُ الليدي إيرين، هل تعرف شيئًا عن ماءِ الرؤية؟ ولذا، يعتقدون أنني بلا شكٍّ شخصٌ مهم أيضًا.»

حدَّق بها جاك مثل عالِم نبات يدرس نباتًا جديدًا. وقال: «إنها أمورٌ تُورَّث في المرء مجرى الدماء، بكلِّ تأكيد. على الرغم من أنَّ ريتشارد هو أمهرُ الرماة الذين رأيتهم على الإطلاق: ربما هي قدراتٌ انتقلت من الأم إلى الابنة.»

رفعَت هاري رأسها بحِدَّة ونظرت إلى صديقها القديم. وقالت: «ماذا؟»

قال جاك عابسًا: «لا بد أنكِ تعرفين. إنَّ جَدَّتكِ الكبرى — والدةَ والدةِ والدتك — كانت امرأةً من أهل التلال، من عِلْية القوم، على ما أعتقد. كان ذلك قبل أن نُنشئ قاعدةً آمنةً هنا، أو على الأقل كنا ما زلنا نُكافح للحفاظ على ما حصَلنا عليه. لقد كانت فضيحةً مروعة. لا أعرفُ الكثيرَ عنها، ويصبح وجه ريتشارد شاحبًا من إحساس الخزي الذي يعتريه عند التفكير في الأمر. من السهل أن يعتريَ الشحوبُ ديك الصغير تجاه بعض الأمور، لكنَّ إحساسًا غريبًا بالفخر أجبَره على إخباري، بصفتي قائدَه، حتى ألتمسَ له العذر إذا ذهب وهو يصرخ إلى أرض التلال بلدِ أسلافه، حسبما أظن. يبدو أن تلوُّث الأعراق الذي رآه القَدَرُ مناسبًا لتسليمه إياه يفترسُ عقلَه.» كان جاك يُراقبها من كثبٍ وهو يُثرثر، فتوقَّف فجأةً. ثم قال: «يا عزيزتي، لا بد أنك قد علمتِ بهذا الأمر؟»

كانت هاري لا تزال تجلس على كرسيِّها، وقد انتابها إحساسٌ أنها ستظلُّ جالسةً عليه إلى الأبد، وهي تُحدِّق في ذهولٍ جرَّاءَ القصة التي رواها لها جاك للتو. لا بد أنها بدَت غريبةً للغاية؛ لأن تيريم قال لها على نحوٍ ينمُّ على القلق: «هريماد-سول، ماذا أصابكِ؟ تبدين كما لو أنكِ قد رأيتِ شبحَ والدكِ. هل قال لكِ هذا الرجل شيئًا سيئًا؟»

نهضَت هاري وهزَّت رأسها، الذي شعرَت أنه ثقيلٌ ومتضخِّم. وقالت: «كلا؛ لقد أخبرني للتو شيئًا حيَّرني حتى وإن جعل كلَّ الأمور واضحة.»

قالت سيناي بهدوء: «سول، هل يمكننا أن نعرف ما هو؟»

حاولَت هاري أن تبتسم. وهي تقول: «لقد قال إنَّ جَدَّة أمي كانت من أهل التلال؛ ومن ثَم فإن دماء أرض التلال تجري في عروقي.»

نظرَ الاثنان إليها بالدهشة والذعر نفسِهما اللذَين تعلَّم حتمًا أنهما ما زالا واضحَين على وجهها. وقال تيريم: «لكننا نعلم أنكِ حتمًا واحدةٌ منا، وإلا فما كان لجنون الملك أن ينتقل إليكِ، والجميع يعلم أنه كذلك: هناك بالفعل حكاياتٌ رُويَت عن هريماد-سول في منافسات لابرون. كما أنَّ مياه الرؤية تُظهِر لكِ أشياءَ، وتتحدَّث الليدي إيرين إليكِ، وتتحوَّل عيناك إلى اللون الأصفر عندما تنتابُك بعضُ المشاعر القوية. وفي الواقع، إنها صفراءُ الآن.»

ضحكَت هاري ضحكةً قصيرة وخافتة، لكنها ضحكةٌ على أي حال، وقالت مخاطبةً جاك: «إن أصدقائي غير مندهشين من هذا الخبر، رغم أنه يجعل روحي ترتجفُ وقلبي ينبض بسرعةٍ كبيرة — من الخوف أو الفرح لستُ متأكِّدة تمامًا. كما يقولون إنهم علموا أنني امرأةٌ من أرض التلال من بداية الأمر.»

قال جاك على نحوٍ مؤيِّد: «ليس لديَّ أدنى شكٍّ في صحة هذا. تأكَّدي أنَّ كورلاث ما كان ليمنح شخصًا من أهل أرض الأغراب لقبَ فارس الملك، حتى لو أمرَته الليدي إيرين بذلك.»

قالت هاري: «ولكن لماذا لم يُخبرني أحدٌ قط؟» وهي مستغرقةٌ في التفكير وتحاول جمع أفكارها معًا في مكانٍ واحد حتى تتمكَّن من بحثها. ربما هي جسرٌ متين البناء أكثر مما تظن، وفكَّرَت في الدعامات والعوارض، وكادت تضحك؛ يا لها من صورةٍ نابعة من أرض الأغراب على نحوٍ صميم، بالتأكيد. وبما أنها وصفَت هذا الجزء من نفسها بأنه نابعٌ من أرض الأغراب، إذَن لديها الحرية في وصف أجزاءَ أخرى بأنها نابعةٌ من دامار، وشعرت أنها تتَّصف بها على نحوٍ طبيعي، كما لو كانت تتلاءم مع جسدها على نحوٍ أكثر أمانًا. كانت لا تزال غير متأكِّدة من مكونات شخصيتها، لكن يجدر بها على الأقل ألا تستاءَ لعدم معرفتها، والآن، ربما، لديها القِطَع المفقودة التي تحتاج إليها للبدء في مسيرتها نحو المعرفة.

قال جاك ببطء: «أظن أنَّ لديَّ فكرة عن ذلك. لقد ظننتُ أنكِ تعرفين، لكنني أتذكَّر الآن كيف تحدَّثنا أنا وريتشارد عنكِ عندما قرَّر جلْبَكِ إلى هنا — بدا أنه يظن أنَّ الأمر ستكون له عواقبُه عليكِ على نحوٍ ما …» ثم قطبَ حاجبَيه، وهو يحاول أن يتذكَّر بوضوح. وأضافَ: «لقد كان يعتقد أنك بوهيميةٌ للغاية على نحوٍ مؤكَّد، ومن الواضح أنه كان يعتقد أنَّ العيش في أرض والدةِ جَدتك سيؤدي إلى تفاقُم هذا الاتجاه داخلكِ. لكنني لم أعتقد قطُّ أنه سوف …»

قالت هاري وهي تبتسم بحزن: «يحميني من نفسي بإبقائي على جهلٍ بحقيقتي؟ حسنًا، لم أكن أعرف، لكنني لستُ متفاجئة. ربما غاضبة — كيف جرؤ على فعل ذلك؟ — لكن لستُ متفاجئة. لقد تحمَّل مسئولية الرجل تجاه أختِه الضعيفة على نحوٍ جاد، هذا ما فعله ديكي. اللعنة عليه. أين أخي الغالي؟ أتراه هنا؟»

كان جاك يبتسم لها، وهي جالسةٌ ومقبض سيفها يُلامس كتفها عندما أشارت. وقال: «كلا، إنه رجلٌ دبلوماسي، وهو أمرٌ يُظهِر بعضَ البراعة فيه، بالنسبة إليَّ وإلى السير تشارلز؛ ولذا أسنَدْنا إليه مهمةً تفاوضية. نحن نحتاج إلى بعض الرجال الإضافيِّين هنا؛ تحسبًا لخروج هذه المسألة القبائلية السخيفة عن السيطرة، وما يعتريني من عصبيةٍ شديدة في معالجة الأمور، في حين أن ريتشارد يمكن أن يبدوَ هادئًا ومتفاوضًا، وقد يكون له بعضُ التأثير.» نظرَ بحزن إلى الطاولة. وتابعَ: «أنا أجهد عقلي بالتفكير، بين الحين والآخر، وأتساءل عما كان سيحدث، إذا كان كورلاث قد أعطانا مزيدًا من التحذير بشأنِ ما يدور في ذهنه، إذا كان بوُسعنا أنا وبيترسون إبعاد تشارلز — حتى ولو قليلًا — عن هذه الورطة التي نحن فيها، ربما كانت سيقلُّ تأزُّمُها وتعقيدها، ولو بقدر قليل. لكنه ليس مَطلَبًا يسهل تحقيقه، حسبما نقول نحن بلغة الدبلوماسيين.»

كانت هاري تُفكِّر، فيما يخصُّ هذه المسألة، لماذا لم تخبرني أمي أو أبي عن ميراثي الغامض؟ لا بد أنهما كانا يعرفان؛ لأنهما أخبرا أخي البائس … بالفعل، لا بد أنه كان أمرًا معروفًا إلى حَدٍّ ما؛ هذا يُفسِّر لماذا لم نكن قَط نتصرَّف مثل بقية العائلات، الذين كنت أظن دائمًا أننا مثلهم؛ فنحن لم نُقِم النوع المتعارفَ عليه من حفلات العشاء، وكنا نقضي كثيرًا من الوقت في امتطاء صهوات الخيول. وشعرَت على نحوٍ مفاجئ بمشاعر الخوف والقلق والانزعاج، وتلاشَت آخِرُ ذرةِ شك لديها حول ما إذا كانت قد تصرَّفَت بحكمةٍ عندما اختارت أرض التلال وفضَّلَتها على البلد الذي تربَّت فيه، لكنها أحبَّت عائلتها ووطنها، ولم تكن تشعر بمرارة.

تحوَّلَت بانتباهها إلى جاك عندما بدأ في التحدُّث مرةً أخرى: «لقد أصبحَت الأمور مقلقةً بعضَ الشيء هنا مؤخرًا. هناك شيءٌ ما، أو ربما أشياء، تحوم حول المدينة والقلعة، وقد خرج رجالي مرتَين للاستطلاع، ووجدوا علاماتٍ تدل على وقوع معارك. وفي مرةٍ وجدوا جثة.» ارتسم على وجهه تعبيرٌ يدل على القلق. وتابعَ: «كانت جثةَ كائنٍ يشبه البشر، وإن كان صاحبها قد بدا بشريًّا عن بُعد.»

قالت هاري بهدوء: «لقد قِيلَ لي إنَّ كثيرًا من أفراد جيش الشمال هم كائناتٌ تُشبه البشر.»

ظلَّ جاك صامتًا قليلًا، ثم قال: «لا أظن أنَّ عددَ تلك الكائنات كبير. يمكنني المخاطرةُ بحياتي، لكني لا أريد المخاطرة بحياة أيِّ جندي من جنودي؛ إذ سنُخالف بذلك التعليمات، لكنَّ معي هنا عددًا قليلًا من الرجال الذين أعرفهم ممَّن لديهم نفس شعوري تجاه أهل الشمال. سأعرضُ عليهم الأمر.»

قالت هاري: «إذَن، كم عددهم ومتى ستُصبحون مستعدِّين؟»

«عددُهم ليس كبيرًا، ولن نُصبح مستعدين على نحوٍ سريع. أولئك الذين سيذهبون منا كانوا يهتزُّون مثل الأسهم على أقواسها طَوال أسابيعَ عديدة، سنشعر بالامتنان لإتاحة الفرصة لنا للانطلاق إلى الأمام. اسمعي: يمكنكِ أنت وصديقاكِ الاستحمامُ والحصولُ على قسطٍ من النوم، وسنُصبح مستعدين للانطلاق عند غروب الشمس.»

هناك شيءٌ غامضٌ يُزعج هاري منذ أن دخلَت الحصن على هذا النحو المتهوِّر؛ وفي البداية فسَّرت الأمر على أنه ارتباك؛ بسبب وقوع نظرها على أشخاصٍ من أهل أرض الأغراب منذ أن توقَّفَت عن التصرُّف كواحدةٍ منهم، والانعكاسات المضطربة التي جلَبها لها هذا الاعتراف. لكن الإحساس بأنها ليست على صواب تمامًا، وبنفحةٍ من شيءٍ مزعج، أو اهتزازٍ في التصرُّفات؛ زادَ مع الحصول على بعضِ الاسترخاء. نظرَت حولها الآن، وهي قادرة على التفكير في هذا الاضطراب المُقيِّد، والتركيز على سببه إذا كانت قدرةُ الكيلار الخاصة بها ستشير إلى الطريق. تقلَّبَت على جانب ثم الآخر، كان الأمر أسوأَ بكثيرٍ في هذه المساحة الصغيرة المغلقة داخل غرفة جاك. وبعد أن وضعت يدَها على الحجر الأزرق في مقبض جونتوران فهمَت أخيرًا ما هو. وقالت: «شيءٌ واحد أخير.»

قال جاك: «ماذا تودِّين أن تقولي؟» لكن الأمر استغرقَ من هاري بعضَ الوقت كي تَصوغ الكلمات.

«يجب … ألا تستخدموا أسلحةً نارية. بنادقَ أو مسدساتٍ أو أيًّا كان ما تستخدمونه. سيكون لذلك عواقبُ سيئة.» وارتجفَت بالقرب من بنادقِ صيدِ جاك المعلَّقة على الحائط، ومسدسَيْن على أحزمةٍ مُثبَّتة على ظهرِ كرسيٍّ شاغر.

نقرَ جاك بأصابعه على الطاولة. وقال: «إنها ليست شائعاتٍ فحسب، إذَن؟»

هزَّت هاري رأسها. وقالت: «ليست شائعاتٍ فحسب. إنه ليس شيئًا رأيتُه عن الأسلحة، لكنني أعرف. أعرفُ شيئًا عمَّا يفعلونه أو عن حقيقةِ أهل التلال — وحتى لو تمكَّنَّا من التوقُّف عمَّا نفعله أيًّا ما كان، وأنا لا أستطيع؛ لأنني عادةً لا أعرف ما أفعله من الأساس — أعرفُ أيضًا أنه، أيًّا ما كان الأمر، سوف يأتي مع أولئك الذين سنُواجههم. ووجود أسلحتك في هذه الغرفة …» ولوَّحَت بإحدى يدَيها، بينما الأخرى ما زالت ممسِكةً بالجوهرة الزرقاء، ثم تابعَت: «… يجعلني أشعر بالتوتر. إنه من نوع الأشياء الذي أتعلَّم الانتباهَ إليه.»

أصبحَت الغرفة فجأةً أصغرَ وأكثر قتامةً مما كانت عليه قبل أن تتحدَّث هاري، وحدَّق بها جاك، ورأى صديقته الشابَّة، ورأى بوضوح تقريبًا مظاهرَ الشيء الذي اكتسبَته في أرض التلال، ثم سقط شعاعٌ مفاجئ من ضوء الشمس عبر النافذة، فتلألأَت الجوهرة الزرقاء في مقبض سيفها بينما انزلقَت يدُها عنها، وأضاءَ خدُّها وشعرُها باللون الأزرق. لكنَّ أمارات العِبء الذي يُثقلها قد تلاشت. فقال جاك في نفسه، سأتبعُ هذه الطفلة، ربما كي ألقى حتفي، لكنني سأتبعها، وسأصبح فخورًا بهذه الفرصة.

«حسنًا. أنا أصدقُكِ. إنه لَأمرٌ يبعث على السرور أن اكتشفَ أن الحواديت المفضَّلة التي يرويها النِّسوة العجائز قد اتضَح أنها ضربٌ من الحقيقة. أنتِ لن تحتاجي إلى جنودِ المشاة على أيِّ حال، وفُرساننا معتادون على استخدام سيوفهم.»

قالت هاري: «والآن، هل يمكنني الاستحمام؟» ومن ثَم طُلِبَ من تيد توفيرُ متطلبات الاستحمام والأسِرَّة المطلوبة، واستخدمت هي وسيناي حمامَ جاك أولًا، وغمرَت هاري نفسها بامتنان في الماء داخل حوضٍ معدني طويل، وغطسَت حتى غطَّى الماءُ وجهَها، ونظرَت إلى عالَمٍ دائري متذبذِب. وكان عليها أن ترفع رأسها في النهاية لتتنفَّس، وانفتحَ العالَمُ مجدَّدًا. حلَّت سيناي جدائلَ شعرها الداكن الطويل ومشَّطته، وقد تخطَّى رُكبتَيها في موجاتٍ مسترسلة، نظرت هاري نحوها بحسد. كان شعرها طويلًا جدًّا أيضًا، لكن يصعب السيطرة عليه تحت غطاء، وكانت أجزاءٌ صغيرة منه دائمًا ما تَعْلق في الأشياء وتتقطَّع؛ فبينما كان شعر سيناي يُحيط بوجهها بسلاسة ويتدلَّى بسلاسة في عُقدةٍ على مؤخرة رقبتها، كان لدى هاري دائمًا خصلاتٌ مجعَّدة نافرة، تجمح في جميع الاتجاهات. ربطت سيناي شعرها الأملس مرةً أخرى بينما تخرج هاري من الحوض، وهي تقطر ماءً. فنزلَت سيناي إلى الماء بتنهيدة الامتنان الخاصةِ بها، وارتدَت هاري قميصَ النوم الضخم الذي وضعه تيد لها ودخلَت وهي تتعثَّر إلى غرفة نوم جاك، حيث وُضِعَ سريران خفيفان من أَسِرَّة المعسكرات بجوار السرير الكبير. وأنهَت ناركنون تفقُّدَ جميعِ أركان غرفة جاك، بينما يُراقبها جاك وتيد بحذر، بعد أن أنهت هاري حمامها بقليل، ولكن عندما حاولت القطةُ أن تُقوقع نفسها بجوار سيدتها على السرير، كانت هاري قد استغرقَت في النوم بعمق لدرجة أنها لم تُفسح المجال لها، واضطُرَّت ناركنون إلى النوم على قدمَيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤