الفصل الخامس عشر

استدار صنجولد وهُرِع يصعد الواديَ إلى البوابة، وقفز برشاقةٍ عبر الشق، ورأت هاري ناركنون تندفع أمامها وهي تنزلق أو تسقط من على السرج إلى ذراعَي جاك. وقع جونتوران على الأرض مُحدِثًا صوتَ قعقعة. قال جاك: «براندي»، ووضع شيئًا بين أسنانها، فشربَت منه جرعةً كبيرة، وكمَّمَت فمها، ودفعَت الشيء بعيدًا.

قال جاك: «أحسنت»، لكنَّ نبرة اللطف كانت مصطنَعة، وكِلاهما يعرف ذلك. ثم أضاف: «هل أُصبتِ بجروح؟»

هزَّت هاري رأسها على نحوٍ يفتقد الاتزان. وقالت: «كلا، وأنت؟»

«كلا.»

نظرَت هاري حولها وقالت: «ولكن؟» كانت ناركنون بجانبها، مغطَّاةً بالدماء، لكن بدا أن القليل منه فقط هو دمُها. كانت خاصرتها ترتفع وتنخفض وهي تلهث وعيناها الخضراوان غائرتان، لكنها جلست بطريقتها المحدَّدة المعتادة، وبينما كانت هاري تُراقبها، بدأت تُحاول ببطء وثباتٍ أن تَلعق جسدَها كي تنظفه. وقف الرماة وقد فرغَت الكنانة المعلَّقة على ظهر كلٍّ منهم من السهام، وأخذوا ينظفون خناجرَهم الطويلة. كان عددهم أقلَّ ممَّا كان عليه عندما أرسلَتهم إلى جانبَي غابة الوادي قبل أقلَّ من ساعة، وكان أكثرُ من نصف قططهم قد مات. ورأت هاري كينتار، وقد لفَّت قطعة قماش حول ساعدها، لكنها تسير على قدمَيها. ورأت سيناي وتيريم. كان حصان تيريم ينزف من جُرحٍ في جانبه، ووقفت سيناي عند رأسه، وقد وضعَت يدها على غُرتِه، تهمس له، ووضع تيريم دهانًا باهتَ اللون على الجرح. كانت الجروح الوحيدة التي رأتها طفيفة، ولم يَعُد أيُّ شخص أصيب بجروحٍ بليغة إلى البوابة.

«هل هؤلاء هم كلُّ من تبقَّى منا الآن؟»

أومأ جاك برأسه. وقال: «أخشى ذلك.»

لقد تبقى فقط نصفُ عدد المدافعين الجنوبيين الذين احتشَدوا عند بوابةِ مدامر في الصباح، وقد كسا الشحوبُ وجوهَهم؛ لأن الرياح الشمالية الغربية لم تكن جيدةً لاستنشاقها.

كانت الأطراف غيرُ المصابة خَدِرةً وبطيئة، وكانت رهبةٌ مزعجةٌ تكتنف العقول، ولا علاقة لتلك الرهبة بمخاطرِ المعركة المهدِّدة بالموت. قالت كينتار، وهي تربط ذراعَ رامٍ آخر: «من المعروف عن ثورا أنه يحبُّ إراقة الدماء ببطء، وفي إمكانه ألَّا يُسرع؛ لأنه لا شيء يمكن أن يقفَ في مواجهته. لكنك وجَّهت له ضربةً لم يتوقعها؛ لأنك مزَّقت رايتَه.»

قالت هاري في ذهول: «ثورا؟»

أومأتْ كينتار برأسها، وأوقف كلٌّ من تيريم وسيناي ما كانا يفعلانه ونظَرا إليها. وقالت كينتار: «لقد عرَفتُه في الحال. فهو يضحك أثناء المعركة، ودائمًا ما يركب حصانًا فحلًا أبيضَ اللون يحبُّ إراقة الدماء بقدرِ ما يُحبها فارسه.

في اعتقادك، لماذا لم يتبقَّ منا سوى عددٍ قليل جدًّا بعد اشتباكٍ قصير لهذا الحد؟ نحن مقاتلون أقوياء، ونقاتل بقوةِ مَن لا أمل له إلى جانب ذلك؛ لأنهم يفوقوننا عددًا على نحوٍ رهيب. لكن أيَّ شخص يُبارز الفارس الأبيض يموت من الضربة الأولى.»

قال تيريم: «ليس أيَّ شخص. ليس هريماد-سول.»

أومأت كينتار بجديَّة. وقالت: «لماذا تعتقد أننا نتبعُها؟»

قالت هاري، وهي تضع ذراعها اليسرى عبر سرج صنجولد كي تستطيعَ أن تتمالك نفسها للوقوف: «أنا لم أمُت فقط لأنه اختار عدمَ قتلي. إذ لا يمكنني مُضاهاته، حتى لضربةٍ واحدة.» أدار صنجولد رأسه، ومدَّت هاري يدها بثباتٍ لتضع أصابعها على خَطْمِه الناعم. وأراحتهم هناك لحظةً، وتسلل قليلٌ من الدفء إلى يدها الواهنة. فتابعَت: «وربما صمدتُ قليلًا لأنني أمتطي حصانًا أفضلَ من حصانه.»

وعندئذٍ تصاعد صوتُ ضجيج، في مكانٍ ما خلفهم، بالقرب من مدخل الدرب، ثم ضحك أحدُ رجال جاك، وانحسر الضجيج. نظرَت هاري مستفسرةً في اتجاه الضحك، فرأت شخصًا نحيفًا طويلَ القامة يندفع مُتقدِّمًا داخل الساحة الجرداء، يجرُّ حصانًا منهَكًا.

قالت هاري: «ديكي!» واحمرَّت وجْنتاها خجلًا؛ لأنها تعرف كيف كان يكره اسمَ الطفولة القديم ذاك. ثم شرَعَت تقول على نحوٍ وديع: «ريتشارد»، لكنه كان قد وصل إليها وأحاطها بذراعَيه. فعانقَته بدورها، على الرغم من أن ذراعها اليمنى لا تزال تؤلمها، وكانت اليُسرى أضعفَ مما ينبغي. ثم انتهى من عناقها وأفلتَها في النهاية من بين ذراعيه، وقد اغرورقَت عيناها بالدموع، ولم تستطع معرفةَ ما إذا كان اللمعانُ في عينيه بسبب دموعها، أم دموعه.

وقال لجاك، وإن كان يُحدق في أخته، ويُمسك ذراعيها وكأنها قد تختفي إذا ترَكها: «لقد عُدتُ بعد يومين من مغادرتك، يا سيدي. ولم أُوفَّق في مهمتي، مثلما توقَّعت.»

فغمغَم جاك.

«وقد أخبروني بما حدث، وإلى أين أنت ذاهب — ومَن كان برفقتك — فأخذتُ حصانًا نشيطًا وتبعتُك.» ثم ابتسم أخيرًا. وقال: «هاري، أيتها الملعونة، لقد اعتقدنا جميعًا أنكِ قد لقيتِ حتْفَك.»

فهزَّت رأسها. وقالت: «كلا، أنا على قيد الحياة كما ترى.» وابتسمَت له. وتابعت: «حتى الآن، على الأقل.»

ترك ريتشارد يدَيه تسقطان. كان الجيش الذي تكتنفه الكآبةُ متناثرًا أدنى منهم، وقد بدأت الرياحُ الشمالية تعوي من حولهم مرةً أخرى وتلسع أعينَهم وأعناقهم، وقد هدأَت بعد أن هزم تسورنين فحلَ الساحر بقليل وأوقعَت ناركنون الرايةَ ذات اللون الأحمر والأبيض.

قال جاك متدبِّرًا: «أخذَت حصانًا آخر؟». كان ريتشارد قد ترك لجامَ حصانه عندما وصل إلى هاري، فوقف الجواد مرهقًا وصامدًا حيث توقَّف. وتابع جاك: «هذا يُشبه حصان بيل ستابس.»

التفتَ ريتشارد إلى قائده وابتسم. وهو يقول: «إنه هو. لطالما لم يستحقَّه بيل، وكنتُ أنا بحاجة إلى حصانٍ سريع؛ لألحقَ بكم قبل أن ينتهيَ الأمر.»

قال جاك بلطف: «لقد وصَمتَ للتو سجلَّ خدمتك الناصعَ البياض بسرقة الخيول؟»

ارتسمت الجديَّة على ريتشارد. وقال: «إن شئتَ القول. أنت تعلم أن جميعنا ممَّن أتى إلى هنا — وربطنا مصيرَنا بمصير أهل دامار القدامى — قد انتهت خدمتُنا في نظر حكومةِ جلالة الملكة. وأنت كنت تعلم ذلك تمامًا عندما قرَّرت المجيء.»

حدَّقت هاري في جاك، على الرغم من أنها كانت تعرف هذا في أعماق ذهنها طَوال الوقت. وقالت: «هل هذا صحيح؟»

هزَّ جاك كتفيه. وقال: «أجل، هذا صحيح. هذا هو السبب في أن العشرين جُنديًّا الذين حضَروا جميعًا هم من قدامى المحاربين المخضرمين — فليس لدينا الكثيرُ لنخسرَه. لكن يا ريتشارد، أنت …»

أومأ ريتشارد إيماءةً مفاجئة بذراعه. وقال: «كنتُ أعرف ما أفعله. ولا مناصَ من القِصاص، على ما أعتقد — على الرغم من مقاومتي لذلك في السنوات القليلة الماضية.» ثم نظر إلى أخته. وتابع: «لقد كان مجيئُكِ إلى داريا — دامار — وحبُّكِ لها، وحبُّك للصحراء، على الرغم من أنك لا تعرفين شيئًا عنها … كنتُ أستطيع ملاحظة ذلك. لقد كنت على القدر نفسِه من السوء مثل الكولونيل ديدام — أستميحك عذرًا يا سيدي — بحلول نهاية الشهر الأول. وهذا ما جعلني أشعرُ بالخجل. وأنا … أنا لم أستطع التحدثَ عن ذلك …»

أدركَت هاري أنها كانت تتلقَّى اعتذارًا، فأومأت برأسها. لم يَعُد الأمر مهمًّا. فهو قد عاد، وهذا ما يهم.

تابع ريتشارد ببطء: «ثم، بعد اختفائك طَوال تلك الأشهُر الطويلة الماضية، فكَّرت كثيرًا — حتى إنني اعتقدتُ أنك ما زلتِ على قيد الحياة — وأشعرَتني هذه الفكرة بالخيانة. أتعلمين، لقد جئتُ إلى هنا، إلى الفجوة، دون الحاجة إلى التفكير في الأمر. لقد علمتُ أيَّ طريقٍ سأسلك من بينِ كل تلك المسارات الصغيرة الجنونية في الطريق إلى هنا. لطالما علمتُ أيَّها سأسلك.»

قالت هاري: «لا مناصَ من القصاص. لماذا لم تُخبرني قطُّ أن هناك دماءً من أهل هيلز تختلطُ بأصولنا؟»

بدا ريتشارد مندهشًا. ثم قال: «لقد أخبرني أبي. وأنا … أنا ظننتُ أنه قد أخبرك. ولم أرغب في الحديث عن ذلك. كان ثَمة الكثيرُ ممَّا لم أرغب في الحديث عنه.»

قالت هاري: «علمتُ منذ أسبوع فقط، عندما أخبرني جاك.»

ساد الصمتُ برهةً، ثم بدأ ريتشارد يضحك. وهو يقول: «يا إلهي. إذَن لا بد أن حصولك على لقب فارس الملك كان بمنزلةِ صدمة لك. لقد كان صادمًا بما يكفي بالنسبة إليَّ، عندما أخبرَني توم لويد.» ثم أمسك بيدها اليمنى وقلبها لينظر إلى راحتها. وتابع: «كنتُ فخورًا بك. في تلك اللحظة علمتُ أنه يتوجب عليَّ أن أتبعك — ليس فقط لرؤية أختي مرةً أخرى. لكن كي أستعيدَ شيئًا ما. أو كي أعترفَ بامتلاكه منذ البداية.»

هبَّت رياح الشمال على شعورهم ورموشهم، تتنصَّت على حديثهم. وتساءلت هاري سُدًى ما إذا كانت الريح تفهمُ لغة هوملاند.»

كانت كينتار قد غادرَتهم، وقد عادت الآن فقالت: «سيدتي. يستعدُّ جنودُ الشمال للهجوم علينا مرةً أخرى.»

استدار ريتشارد ليستقبلَ وجه أخته، وأرجع كتفَيه للخلف كما لو كان يستعدُّ لتلقِّي ضربة. وقال على نحوٍ ركيك بلغةِ أهل أرض التلال: «طوع أمرك، يا سول.» ثم تابع بلغةِ هوملاند: «نظرًا إلى أني قد أتيتُ متأخرًا، ربما ترغبين مني أن أشنَّ غارةً جريئة بمفردي.»

فنخر جاك بأنفه.

وابتسمَت هاري رغمًا عنها. وقالت: «كلا، لن يكون ذلك ضروريًّا. سنُنظم صفوفنا عبر الفجوة، هنا، وعلى الهضبة.» وصمتَت لحظةً. ثم تابعَت: «لا يمكنني المخاطرة بمن تبقَّى منا بالذَّهاب إلى الوادي مرةً أخرى …»

ثم رفعت صوتها وهي تقول: «نحن هنا لإبطاء تقدُّم جيشِ الشمال. سنبذل قُصارى جهدنا. لكن قدراتنا لا تُكافئهم — أقلُّ بكثير مما توقَّعت. لا أتوقع أن يُقاتل أيٌّ منكم حتى … النهاية. لقد انتصَف اليوم؛ إذا تمكَّنَّا من صدهم حتى هذا المساء، فسيتعيَّن عليهم الانتظارُ حتى الصباح للمحاولة مرةً أخرى.» أغمضَت هاري عينيها، وفكَّرَت في نفسها، هكذا آمُل. حتى الأرواح الشريرة يمكنها الرؤية بشكلٍ أفضل في ضوء النهار — تُرى هل هذا صحيح؟ ورأت كورلاث وجيشه يخوضون الضباب أمام ناظرَيها، وهم يشتبكون مع حشدٍ من جنود الشمال يفوقهم عددًا بما يقرب من ثلاثة أضعاف. كانت الكتلة السوداء التي ملأَت الواديَ دون بوابة مدامر؛ ضِعفَ حجم الجيش الذي يسعى إلى اجتياز فجوة بليدفي جاب. وقد استحال لونُ خَطْم حصانِ كورلاث أحمرَ وهو يقفز ويصول، وغطَّت الدماء سيفَ كورلاث. ميزَت هاري فايرهارت أولًا، لكن استغرق الأمرُ منها لحظةً كي تُميز فارسه؛ لأن وشاح كورلاث كان بلونٍ مغاير. ورأت ماثين، الذي كشر في شراسةٍ وهو يُقاتل في أعقابِ كورلاث. فقالت: «إذا تمكنَّا من صدهم لمدة يوم، فقد حقَّقنا … شيئًا كبيرًا. ومن سيتبقَّى منكم الليلة … يمكن لهم أن يتفرَّقوا. يمكن أن يختفوا في هذه التلال؛ ويَعودوا إلى كورلاث إذا استطاعوا.»

قالت سيناي: «لماذا تتحدَّثين بهذه الصيغة سيدتي؟ ألن تكوني معنا؟ هل أنتِ واثقةٌ إلى هذا الحد أنكِ ستَلقَين حتفك؟»

وقال تيريم بصوتٍ خفيض للغاية: «هل تسعَيْن إلى الموت؟»

تنهَّدَت هاري. وحاولت تلطيفَ حديثها: «لا أستطيع المغادرة. إن صدَّ هذا الهجوم، هنا، كان فكرتي الكبرى. لا أستطيع المغادرة. ولكن ذلك المدعو، هناك أسفلَ الوادي، سيتكفَّلُ بذلك، عندما نلتقي في المرة القادمة.»

قال جاك: «هذا موقفٌ نبيل للغاية منك، يا عزيزتي، لكننا، حسبما أعتقد، سنقفُ إلى جوار هريماد-سول. يمكننا أن نصمدَ هنا … ربما لثلاثة أيام، إذا كان ثورا مُغرَمًا جدًّا بالموت البطيء. ثلاثة أيام قد تمنح ملكَك كورلاث وقتًا كافيًا لالتقاطِ الأنفاس، وهناك احتمالٌ أن يُصدق السير تشارلز الرسالةَ التي أرسلتها إليه، وسيجد جيشُ الشمال أن جيش الغرباء أكثرُ إزعاجًا مما توقَّعوا جرَّاء بضعةِ أيام أخرى من الاستعداد. سنصمدُ هنا.» وقد نطق آخِرَ كلمتين بلغة أرض التلال، فكرَّرَتها سيناي وتيريم وكينتار، «سنصمدُ هنا.»

وقال تيريم بتفاؤله المعتاد: «لا يمكنك أن تطلبي منا الاستسلامَ بهذه السهولة، بعد أن وصلنا إلى هذا الحد، يا هريماد-سول.»

رمشَت هاري بعينها. ومدَّت نظرها عبر الوادي، كانت جحافلُ جيش الشمال قد بدأت تتقدم مرةً أخرى. فقالت بخشونة: «حسنًا، أقترح على الجميع تناوُلَ شيءٍ ما والاستراحةَ بضع دقائق؛ لأن ثورا بدأ الزحف. و… شكرًا لكم.» وابتسمَت. ثم أضافت: «ربما سنصمدُ ثلاثةَ أيام.»

قال جاك: «وفكِّري في الأغاني التي سيُغنونها عنا.»

ومن ثَم ناولها قطعةً من اللحم في قرصِ خبزٍ جاف، وبدأت في مضغِه وهي شاردة. كانت ذراعها اليمنى عديمةَ الجدوى تقريبًا، لكن كان بإمكانها بسطُ يدها اليسرى وضمُّها، وثنيُ كوعها، وتحريكُ كتفها. حدَّقَت في الجبال من حولها. كان ارتفاع القمم التي تحيط بالبوابة فوق الهضبة المسطَّحة حيث كانت تقف؛ يبلغ ربما أربعةَ أضعافِ ارتفاع قامة رجل، ثم ترتفع الجبال من خلفهم مرةً أخرى، وعلى بُعد مسافةٍ قصيرة من البوابة الحجَرية، تُغطي بعضُ الأشجار الصغيرة الأرضَ الشديدة الانحدار وتتناثرُ باتجاه الوادي أدناها. نظرَت هاري حولها نحو الجانب الشجري حيث وقف الرماة.

وجدَت أنها قد انتهَت من طعامها. فقالت: «سأعود بعد قليل.» نظر إليها جاك وريتشارد بتساؤل. فقالت: «لن أتأخَّر وسأعود في توقيتٍ مناسب كي نصدَّ موجة الهجوم الثانيةَ من أصدقائنا.» والتقطَت جونتوران ومسحَته في رعونة وتسرُّع ووضعته في غمده، وبدأت تتسلَّق ببطء على الجانب الغربي من البوابة. كان بإمكانها استخدامُ يدها اليسرى فقط، وحتى قبضتها لم تكن قوية.

قال جاك بحدة: «هاري، ماذا حدث لذراعك؟»

انتظرَت حتى وقفَت على القمة المنخفضة، ثم أجابته: «أظن أنَّ به عضلةً مشدودة. لا تقلق.» والتفتَت عندما فتح جاك فمه يوشك أن يقول شيئًا، ومن أمام عصبتها الصغيرة، اختفَت حول صخرة ناتئة.

حاول ريتشارد أن يتبعها، لكن تيريم وقف أمامه بينما قال جاك: «كلا. إذا أرادَت أن نتركها وشأنها، فسنتركها وشأنها. لا يروق لي ذلك أيضًا، لكنها — أو الشيء الذي يسيطر على روحها — ما زالت تعرف المزيد عن هذا الأمر أكثرَ من بقيتنا. أو هكذا أعتقد.»

هز ريتشارد كتفَيه، لكنَّ عينيه بقيتا تُراقبان المكان الذي اختفت فيه أختُه.

قال تيريم في ابتهاج: «لقد وعَدت بالفعل أننا سنموت معًا.»

فرَك جاك وجهه على نحوٍ يدل على الإرهاق. وقال: «أنا لا أُفكر في الموت حاليًّا.» ونظر نحو الوادي، وببطءٍ وضع منظار التجسُّس أمام عينه. فرأى مزيدًا من الجنود، بعضهم يمتطي خيولًا غريبةَ المظهر وبعضهم يسير ببطء على أقدامهم الثقيلة، يتدفَّقون في الوادي؛ بأعدادٍ لا تُحصى. ومن ثَم صعدوا المنحدرَ نحو البوابة، ذلك المنحدر الذي صدَّت هريماد-سول هجومَهم عليه ودفعَتهم عنه قبل أقلَّ من ساعة. لم يَعُد بإمكانه رؤيةُ النصف السفلي من الأرض الصخرية التي يقف عليها بسبب المخلوقات التي تمشي عليه. فأبعدَ المنظار. وقال: «مهما انطوى عليه ذلك من حماقة.»

أخذ ريتشارد المنظارَ من يد جاك ونظر فيه. فرأى فحل ثورا الأبيض بالقرب من المقدِّمة، لكن لم يكن هناك حاملُ راية.

واصلَت هاري مشيها المتعسِّر؛ ثم وطئت قدماها شيئًا مثل دربٍ أو سبيلِ طرائد، فسلَكَته بامتنان. وأصبحَت في موضعٍ أعلى من الأشجار، ونظرَت إلى أسفل. كان الوادي أدنى منها يعجُّ بأجسادٍ صغيرة تزحف، أما بالقرب منها، لكن على مسافةٍ لا تزال بعيدة — لم أكن أدرك أنني قد وصلتُ إلى هذا الحد، هكذا قالت لنفسها، في دهشة — فكانت هناك مساحةٌ صغيرة مسطحة خلف شقٍّ في الصخر، حيث تنتظرُها عصبتُها. فنظرَت إلى الأسفل في فتور؛ وراودتها فكرةُ أنها أصبحَت بعيدةً للغاية، ويجب أن تعود على الفور، لكن يبدو أن ثَمة شيئًا يجب أن تفعله أولًا. تسللَت يدها اليمنى الخدِرة إلى أعلى غمدِ جونتوران حتى شعرت بالمقبض واستقرَّت على الحجر المثبَّت في أعلاه، وأحسَّت أنها كانت تلهث لالتقاط أنفاسها. فتمتمَت: «أيتها الليدي إيرين»، فتذبذبَ المشهد أمامها، وطرفَت بعينها، وفجأةً استطاعت أن ترى كما يرى النسر، فميَّزَت الفحلَ الأبيض الذي يمتطيه ثورا، والشرائط الحمراء على غرَّته والدم الأحمر الجاف على رقبته وخاصرته، ورأت وُجوهَ مَن يتبعونه بعيونهم الحمراء والخضراء والسوداء، والوحوش الغريبة التي يمتطيها كثيرٌ منهم بدلًا من الخيول، وحوشٌ لها مخالبُ في أقدامها وألسنةٌ مشقوقة. ورأت رياحَ الشمال تتلاعب بشعر أخيها، وأدركَت فجأةً أنها لا تشعر بأي رياح على القمة الجرداء لهذا الجبل، وشعرَت بوخزةِ ألم من قاعدة رقبتها تمتدُّ إلى ذراعها اليمنى، فأمسكَت يدُها بمقبض السيف وشهَرَته. ثم رفعَته ببطءٍ فوق رأسها، ووجَّهَته إلى الأعلى، كما لو كانت تشقُّ الغيوم التي جلبها ثورا، وترميها على رأسه في شظايا ذات حافات حادَّة. زادت حدةُ الألم في رقبتها وماجت به أفكارُها، فصاحت في الهواء: «كورلاث، ساعدني.»

نظر أفراد المجموعة الصغيرة التي تقف على الهضبة خلف البوابة إلى الأعلى فجأةً عندما اندلع بريقٌ من الضوء فوقهم وتناثر مثل الماء، ورأَوا هريماد-سول تقف على قمةٍ خلفهم، قمةٍ لم تكن موجودةً من قبل، وقد أحاطت برأسِها وكتفيها نيرانٌ زرقاءُ وبيضاء. رفعَت هاري ذراعَها اليمنى، وبرق جونتوران بشدةٍ لدرجة أنهم لم يتمكَّنوا من النظر إليه؛ وسدَّدَت هريماد-سول طعناتٍ نحو السماء مِرارًا وتَكرارًا، وصرخَت بكلماتٍ شعَر كلٌّ منهم أنه سمعها بوضوح لكن لا يمكنهم تَكرارها أو فهمُها، لكن كينتار وجاك عرَفا أنها تتحدث بلغة أرض التلال القديمة، لغة الآلهة. بدأت النار الزرقاء تتساقط من الحجَر المثبَّت على مقبض السيف وتناثرَت على الأرض، وبدَت كأنها تدور حول قدَمَي هاري، وتناثرَت أجزاءٌ منها وطفَت في الهواء، ودارت الأجزاء الصغيرة وتلألأت مثل قطع المنشور، وألقت بأقواسِ قزح صغيرةً من على جوانب الجبال، وإن كان اللون الأزرق يغلب عليها أكثرَ من معظم أقواسِ قزح المعتادة.

وفي الوادي سمعوا صرخاتٍ جشَّاء، لكن يبدو أن الأصوات لم تصل إلى السيف الأزرق أو المرأة التي تحمله، حيث سقطَت مرةً أخرى في الوادي مثل الأسماك التي قفزَت عاليًا للغاية، وهي تحاول النجاة بحياتها. وسمعوا الفحلَ الأبيض يُصدِر صُراخًا، وسمعوا صوتًا مروعًا كانوا يعرفون أنه صوتُ ثورا، لكن لم يلتفت أحدٌ لينظر؛ إذ حدَّق الجميع نحو الأعلى. حتى الخيول وقفت برءوسٍ مرفوعة وآذانٍ منتصبة يوجِّهون أنظارهم نحوَ ما ينظر إليه فرسانهم؛ وناركنون، التي لم تتبع هاري على الرغم من أنها كانت تستطيع ذلك، وقفَت جامدةً مثل صخرة، ولم يتحرَّك منها سوى ذيلِها المتأرجح، وتقافز صنجولد في مكانه، وهو ينظر نحو الصخور التي لا يستطيع تسلقها. وقد سقط الضوء الأزرقُ في عينيه وفمه وأنفه، حتى بدا كأنه شبح حصان.

بدأ منحدر التل يتحرك. وبدأ الحصى الصغير، ثم الحصى الأكبرُ حجمًا، ثم الصخور والجلاميد الضخمة تتساقط في الوادي. واستمرَّ صوتُ المرأة الواضحُ، وتدفقَت الكلمات غيرُ المفهومة على مسامعِ جنود أهل التلال والأغراب مع تدفق الضوءِ الأزرق البراق، ثم ارتفع ضجيجُ انهيار الجبال، وسقط كثيرون جاثين وراقدين على صدورهم؛ لأنهم لم يتمكَّنوا من الحفاظ على اتِّزان أقدامهم. ولم يعودوا قادرين على الرؤية بأعينهم، وإن كانت أدمغتُهم قد اتَّقدَت من سطوع الضوء، ولم يعودوا يسمعون بآذانهم؛ لأن هدير الصخور المتساقطة أصمَّها، ومع ذلك سمعوا في أذهانهم الكلماتِ جالبة الضوء الأزرق وهي تتواصل.

ثم انتهى كلُّ شيء. هزت الخيول نفسها، ووجد بعضُها صعوبةً شديدة كي تقف على أقدامها؛ إذ أخذَت تتصبَّب عرقًا. وانقلب البشر حيث كانوا يرقدون، ونظروا إلى السماء التي أصبحَت زرقاء وصافية، وارتجفوا، وأخذوا يقفون في حذر. نظر جاك لأعلى أولًا، ولم يكن ثَمَّ أثرٌ لهاري. في البداية اعتقد أن السبب هو أن عينَيه لا تزالان متأثرتَين من الضوء، لكن كان بإمكانه تحديدُ شكل قمم الجبال من حوله، وتحديدُ المكان الذي كانت هاري تقف فيه، لكن المكان الذي كانت تقف به هاري لم يعد موجودًا. وكان على يقينٍ من أنه ينظر في الاتجاه الصحيح. وفي حيرة، نظر حوله ليتحقَّق من ذلك ممَّن هم حوله؛ التقَت عيناه بعينَي ريتشارد، وكان يشعر بالحيرة نفسِها. والتفتا معًا لينظرا إلى الوادي.

لكن لم يكن ثَمَّ وادٍ. كان الغبار يتصاعد من ركام الحجارة المتكسِّرة والأشجار المقتلعة، وقد انشقَّت واجهة المنحدر الصخريِّ خلف البوابة نفسِها، ولم تعد البوابة بعد الآن ممرًّا عبر الجبال. وقفوا على الحافة، ينظرون إلى أسفل، ثم على امتداد البصر؛ لم تكن ثَمة علامةٌ تدل على الحياة في أيِّ مكان. الأشياء الوحيدة التي تحركَت كانت سُحبًا من الغبار. كان الغبار ذا حاشيةٍ زرقاء بشكل يُثير الفضول، وكان يتلألأ في ضوء الشمس. ثم بدأ نسيمٌ خفيف في الهبوب. أتى النسيم من خلال ثغرةٍ واسعة في الجبل لم تكن موجودةً من قبل؛ وبدأ النسيم يستكشف المشهدَ الجديد في اندهاش. وعلى الحافة التي كانت فيما مضى بوابة، التفتَ الناس والحيوانات قليلًا يستقبلونها وهم في قلق وإرهاق. كانت رائحته طيبة، رائحة نباتات خضراء صغيرة.

قال جاك: «لقد انتهت رياح الشمال.»

قال ريتشارد: «أجل. هذا النسيم يهبُّ من الجنوب والشرق.»

وقفوا لحظةً يستجمعون أفكارهم.

فقال ريتشارد: «يجب أن نبحث عن هاري. أليس كذلك؟» وقد بدا صوتُه طفوليًّا للغاية.

قال جاك: «أجل.»

قال شقيق هاري، على نحوٍ ينمُّ على عدم اليقين: «هاري هي مَن فعلَت هذا، أليس كذلك؟»

ابتسم جاك ابتسامةً طفيفة. وقال: «أجل. أو ربما كان أيَّ شخص آخر. يا تيريم»، وتابع بلغة أهل التلال: «نودُّ البحث عن هريماد-سول. ربما هي منهَكة للغاية … وغير قادرة على العودة إلينا بمفردها. هل ستأتي معنا؟»

قال تيريم: «أجل»، وانضمَّت إليهم سيناي، بينما كان الباقون ينتظرون الأوامر. تبعهم صنجولد إلى أسفل الجدار الصخريِّ الذي اختفت هاري وراءه، وصهل في إثرهم قلقًا، ثم شبَّ وضرب الصخر بحافِرَيه فيما أخذوا يتسلَّقون مبتعدين عنه. فقال له جاك: «سنُعيدها. تحلَّ بالصبر.» وتسلقَت ناركنون معهم.

بدا أن أربعتهم يتحركون ببطءٍ شديد، أو ربما تحركَت أقدامهم بوتيرةٍ متأنية، لكن عقولهم لم تستطع مواكبةَ ذلك. وبدلًا من أن تتردد ناركنون حولهم كما تفعل عادةً، كانت تُهرول خلفهم وتتوقف عندما يتوقفون. شعر جاك بصعوبة كبيرة في تشكيل أفكاره وكأنها ناقمةٌ عليه، وعندما هز رأسه، بدا أن مخه ينقلب بشكلٍ مضطرب، كشخصٍ لا يُجيد السباحة في المياه العميقة. آلمَتْه عيناه في محجرَيهما، وكان لا يزال يرى هاري وسيفها مرفوعًا والنار الزرقاء حولها، رغم أن الصورة أصبحَت ذكرى الآن، وركَّزت عيناه على الشجيرات والأتربة والصخور والغبار الأزرق.

توقفوا جميعًا عند وصولهم إلى منحدرٍ تنمو فيه الأشجار من فوقهم. وقال ريتشارد: «هذا لا يمكن أن يكون الموضعَ الصحيح. لقد رأيناها على صخرةٍ جرداء.»

نظر جاك نحو الشمس. وقال: «إنه صحيح، رغم ذلك، أو على الأقلِّ هذا هو الاتجاه الصحيح. إذا لم تكن الشمس قد تحركَت، وهو ما لا أضمنه … فربما نمَت هذه الأشجار بينما كانت الجبال تتساقط.»

بدأ جاك في التسلق مرةً أخرى كما لو كان متأكدًا من أنه يعرف الطريق، وتبعه تيريم وسيناي؛ لأنهما كانا أقلَّ صدمةً من جاك وريتشارد مما فعلته هريماد-سول، ولم يتوقَّعا أن يخضع المكان هنا بالقرب من الموضع الذي مُورسَت فيه طقوس السحر وقدرة الكيلار للقوانين الفيزيائية المعتادة. كانا قد نظرا نحو الشمس أيضًا، وعرَفا أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح. وتبعهم ريتشارد في المؤخرة. شعر بالشيخوخة، وطقطقت عظامه، وجعلته ناركنون غيرَ مرتاح. كان يعرف معلومات عن قطط الصيد في دامار، لكنه لم يقابلها من قبل.

كان هناك مسارٌ صغير، كما لو قد صنعَته حيواناتٌ صغيرة ذاتُ حوافر، عند أعلى المنحدر، فتبعه جاك يحدوه الأمل؛ وبعد بضع دقائق فقط اقتحموا ما بين الأشجار الكثيفة ووصلوا إلى فُرجة صغيرة خالية من الأشجار بها عشبٌ أخضرُ نضر، وهو أول عشب نضر رأَوه منذ غادروا قرية سيناي. استلْقَت هاري منهارةً بالقرب من إحدى حافات الفرجة العشبية، وإلى جوارها جونتوران على العشب، وقد أصبح لونه رماديًّا باهتًا، وأعتمت الجوهرة الزرقاء المثبتة على مقبضه. استلقت هاري وتكوَّمَت على جانبها، وكانت كلتا يدَيها تُلامس السيف؛ حيث سقطَت اليد اليسرى فوق المقبض في إرهاق، وأمسكت اليمنى بالنصل أسفلَ الواقي مباشرةً. كان جاك هو أولَ من دخل إلى الفرجة العشبية، وهو الوحيد الذي رأى — أو ظنَّ أنه رأى — جسدًا ما بين الأشجار خلف هاري مباشرةً؛ تراءى له أنه رأى لمعانَ شعرٍ أحمر. لكنه رمش بعينيه حتى يتمكن من التحديق مرةً أخرى بقوةٍ أكبر، وتحسَّس مُنصُلَه؛ وعندما نظر مرةً أخرى، اختفت هيئة الجسد. بعد ذلك لم يتأكد قَط ممَّا إذا كان قد رأى أيَّ شيء سوى سقوطٍ غريب لظلِّ الأوراق، على الرغم من أنه كان يعرف أساطيرَ أرض التلال، وكان يعرف مَن امتشقَت سيف جونتوران قبل صديقته الشابة.

قال ريتشارد: «هاري»، وركض إلى الأمام، وجثا على ركبتَيه بجانبها. أما الآخران، اللذان كانا يتحلَّيان بإيمانٍ أكبر بقليل بسحر أرض التلال — أو اللذان فهما بشكلٍ أفضل قليلًا أن ما حدث أيًّا ما كان قد انتهى الآن، على خيرٍ أو شر — فقد تقدَّما ببطءٍ أكثر. نظر جاك حوله. لم يكن هناك شيءٌ يُشبه الربوة الحجرية التي وقفَت عليها هاري في أيِّ مكان بالقرب منهم، وارتفعَت الأشجار — الأشجار الحقيقية، وليست الشجيراتِ الرماديةَ والمتقزمة التي رأَوها حول البوابة، وفي الوادي الذي لم يَعُد له وجود — باسقةً فوق رءوسهم، وهي تُصدر حفيفًا هادئًا بسبب النسيم العليل القادم من الشرق، وخلف الفجِّ العشبي الصغير، لم يكن هناك سوى مزيد من الأشجار، ومزيد من الخضرة الحلوة؛ لأنه مهما كانت المسافة التي يمكن أن تمتدَّ إليها العين، لا يسطع ضوء الشمس على مساحةٍ خالية كهذه في أيِّ مكان يتجاوز ذلك.

كانت هاري تحلم بشيءٍ ما، لكن ديكي كان يُناديها. كانت إيرين منحنيةً عليها، تبتسم الابتسامة الظريفة التي تعرفها هاري جيدًا الآن؛ كانت ابتسامةَ إعجاب، لكنها تميل أكثرَ نحو التفهُّم. تحدثَت إيرين معها للمرة الثانية؛ كان لديها صوتٌ لطيف منخفض لكنه حاد. وقالت: «هذا ما كانت ستفعله فتاةٌ من الأغراب على حصانٍ من أرض التلال عندما تشعر بالغضب؛ نوعًا ما مثلَ شيءٍ فعلتُه أنا مرةً. لكن ليس من العدل أن يحظى الأبطال بكل المغامرات وكلِّ الفخر وحدهم، سيتغنَّى الناس ببطولات عصبتِك قرونًا قادمةً، وسيتذكر أحفادُ أحفادِ جاك وريتشارد وسيناي وتيريم وأحفادُك بوابةَ مدامر وكيف سقطَت الجبال وسحقَت جيش ثورا. لقد اكتشفت أن أولئك الذين في الوطن لم يُعجبهم عدمُ المشاركة في المغامرات — لم أتعلم الكثير، لكنني تعلمتُ ذلك، وإذا تمكَّن أحدهم من التعلم من أخطائي …»

قالت هاري على نحوٍ حزين: «كورلاث.» وأجابتها إيرين بلطف: «كورلاث بانتظارك.» أرادت هاري أن تقول: هذا ما أخشاه. لكن ديكي كان يُنادي عليها. لا يمكن أن يكونَ ديكي؛ فهي لم ترَه منذ …

فتحَت هاري عينيها. لم تكن ذكرى الماضي القريب لديها سليمة، لكنها أدركَت أنها استعانت بإيرين، وطلبت من كورلاث المساعدة في أيِّ شيء قد تُرسله لها سيدة جونتوران السابقة، وأن شيئًا ما قد حدث، وأن إيرين تحدثَت معها عن ذلك … وكورلاث … هنا آلمَها رأسها. وقالت: «ريتشارد.»

جلس الثلاثة الآخرون بجانبها وقد تنفَّسوا الصُّعَداء، وساد صمتٌ لا يبدو أن أحدًا يعرف كيف يكسره. وضعَت ناركنون كفَّها على صدر هاري وبدأت تَلْعق وجهها، إن لسان قطة الصيد أكثرُ خشونةً من لسان قطة المنزل. ظنَّت هاري أن بشرتها سوف تتجعَّد وتتقشر، لكن لم تكن لديها القوةُ لدفعِها بعيدًا. أخيرًا قالت هاري، بصوتٍ خفيض وضعيف: «ليس لأنني أشعر برغبةٍ عارمة في التحرُّك الآن، لكن أليس لدينا بعضُ الأعمال العاجلة إلى حدٍّ ما في الوادي؟ أم إنه قد مرَّت ثلاثةُ أيام بينما أنا … و…»

قال ريتشارد: «لم يَعُد هناك وادٍ.»

قال جاك: «إن جنود جيش الشمال يرقدون الآن تحت كومةٍ كبيرة جدًّا من الصخور، التي كانت في السابق سلسلةَ جبال. يبدو أنك قد هدمتَها فوق رءوسهم، وأنا أُحييك يا هريماد-سول.» ولمس جبهته وحرَّك أصابعه بالطريقة نفسِها التي يُبدي بها أهلُ التلال التبجيلَ لملكهم.

ابتسمَت هاري في وهن. وقالت: «إنَّ ما فعلناه يُعد إثمًا ومخالفًا للأوامر، كما تعلم. وسأتسبَّب في تعرُّضِك لمحاكمةٍ عسكرية.»

استفسر جاك في دماثة: «على يد الأغراب أم أهل التلال؟» ثم أضاف: «هل يمكنك الوقوف؟»

أجابت هاري: «إنني أستجمع شجاعتي لمعرفة ذلك.» ومن ثَم انقلبَت على ظهرها — وقد أخذت ناركنون الآن تقضم شعرها في حنان — ورفعت نفسَها واستندَت إلى مرفقٍ واحد؛ والآن ساندَها سيناي وريتشارد على كلا الجانبَين كي تنهض، وترنحت وهي تقف على قدمَيها. وبدَت سُترتها الجلدية صلبةً مثل الحديد. فقالت: «أشعر وكأنني حبة بطاطس هُرِسَت لتوها.» انحنت ناركنون على ركبتها وخرخرَت في غضب.

قال تيريم في تردد: «هلا حملناك؟» وهو مذبذبٌ بين إبداء الاحترام وأخذ الحذر.

قالت هاري: «ليس بعد، شكرًا لك. ولكن يمكنك أن تناولني جونتوران. لا أظن أن بمقدوري الانحناءَ الآن.»

كان الحوار السابق بلغة أهل التلال؛ لذلك من المحتمل أن ريتشارد لم يفهمه. لكن بالنسبة إلى الثلاثة الآخَرين، كانت هناك لحظةٌ قصيرة ولكن واضحة عندما لم يتحرك أحدٌ منهم، وفكَّروا جميعهم في النار الزرقاء على قمة الجبل، وسرى خدرٌ في أكفِّ الجميع. ثم اتخذ جاك خطوةً للأمام وانحنى والتقط نصل هريماد-سول، الذي عاد لونُه إلى الفضي تمامًا الآن، وتلألأ على نحوٍ خافت في ضوء الشمس، وقدم لها المقبض. فسرى وميضٌ طفيف من النار البيضاء على حدِّ السيف الأزرق، وأحاط بأصابع جاك. التقت عينا جاك وهاري؛ لأنه فقط عندما كان الوقت قد فات لإيقافِ كلماتها، أدركَت ما كانت تطلبه — أو ما يمكن أنها تطلبه. قالت هاري: «شكرًا. ربما كان ينبغي عليَّ أن أنحنيَ وألتقطه بنفسي؛ لأكتشف إن كان بإمكاني ذلك.» وأعادت السيفَ إلى غِمده. نظر جاك إلى يده البيضاء المتوهجة، وفرك كفَّه على فخذه. وسرى وخزٌ في تلك اليد، وتدفَّق عبر ذراعه، وارتعش له دماغُه لحظةً. ولم يكن ذلك شعورًا سيئًا.

عندما قبضت بأصابعها على جونتوران، أدركَت هاري أن جسدها يعمل على نحوٍ سليم، وأنها سيُمكنها المشي. أبقت هاري يدها على مقبض جونتوران، وخطَت خطوةً إلى الأمام. وقالت: «سنتوقف حيث نحن الليلة. وغدًا سنعود لننضمَّ إلى كورلاث.» وأغمضَت عينيها لحظةً، فدار العالم بها، ثم استقر. وأضافت: «إنهم أكثرُ بُعدًا إلى الغرب ممَّا يُتوقع منهم. سنصل إليهم في غضونِ ستة أيام إذا ما أسرعنا. إذا ما استطعنا الإسراع.» ثم قطَّبَت جبهتها، وعيناها ما زالتا مغمضتَين. وتابعَت: «إنهم يهزمون جنودَ الشمال ويُجبرونهم على التراجع؛ إنهم ينتصرون.» وفتحت عينيها مرةً أخرى. وكرَّرَت: «إنهم ينتصرون»، واستعاد خدَّاها لونَهما، فابتسم لها أصدقاؤها الثلاثة.

أصبحت هاري أشدَّ قوةً على المشي، وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى الواجهة الصخرية عند البوابة أصبحَت تُجيده، كانت لا تزال تُبقي عينَيها على قدميها، لكنها انزلقَت واندفعت هبوطًا بمفردها، بينما حاول جاك وريتشارد — اللذان سبَقاها — جاهدَين ألا يمدَّا أيديَهما لمساعدتها. وعندما وصلَت إلى السفح، وكانت عصبتها تقف حولها، وكان تسورنين يدقُّ على كتفها بغضب، يسألها لماذا ذهبَت إلى مكانٍ لم يتمكن من الذَّهاب إليه أيضًا، وكان أهل التلال يُحركون أصابعهم تحيةً لها، لمست كينتار جبهتَها في تأنٍّ وحرَّكَت أصابعها، وتبعها جميع الرماة. ونظر نحوَها رجالُ جاك الأغراب ثم انحنَوا لها، ووجَّهوا مقابضَ سيوفهم نحوها، وأدركَت كم كانوا هادئين. كانوا هادئين للغاية. فالتفتَت لتنظر إلى الوادي.

هنا شحب وجهها، ومدَّ جاك وريتشارد يدَيهما ليُسنداها. وقالت: «يا إلهي. كان ذلك جسيمًا … بعض الشيء، أليس كذلك؟» كان عُباب الغبار لا يزال يحوم فوق الأنقاض القاحلة التي ينظرون إليها، وكان كثيفًا للغاية بحيث لم يتمكَّنوا من رؤية ما خلفه. وكانت ثَمة خيوطٌ زرقاء منسوجة خلاله وفوقَه، كما لو أن شبكةً تُثبت تلك الخيوط في مكانها. سطعَت الشمس لامعةً فوق الضباب الأزرق، وآذَت العيون. دخل الغبارُ في عيونهم وأنوفهم وحلوقهم وهم يتنفَّسون، وفي أفواههم وهم يتكلَّمون، وأصبحَت أصواتهم خشنةً بفعله.

قالت هاري: «يا كينتار. هل يمكن لسقوطِ كثير من الصخور على شخصٍ مثل ثورا أن يوقفه؟»

هزت كينتار كتفَيها. وقالت: «أيتها السول، لا أعتقد أنْ سبَق تجرِبةُ ذلك.»

وابتسمَت هاري في وهن.

وقال تيريم: «على الأقل سيوقف جيشه. إن قلةً منهم فقط لديهم كيلار خاصٌّ بهم.»

قالت سيناي: «لم يكونوا بحاجةٍ إلى الكيلار قَط؛ لأن ثورا كان دائمًا أقوى.»

قال جاك: «هناك ما هو أكثرُ من الصخور في ذلك الوادي. هناك شيءٌ ما يضغط على الصخور لأسفل.» وحدَّق النظر بالوادي، حيث أزعجَت البقعُ الزرقاء طرَفَي عينيه.

ظلت كينتار وسيناي وتيريم صامتين؛ فهم يعرفون أساطيرَ الساحر الشمالي. ثم قالت كينتار في النهاية: «من الممكن أنه سيظلُّ هنا. لكن يمكننا القول إننا قد انتصرنا اليوم.»

قال تيريم بحزم: «لقد انتصرَت هريماد-سول اليوم»، وابتهج وجهُ سيناي، وصاحت: «هريماد-سول!» وسحبَت كينتار خنجرها ونقرَت على صدرها بالمقبض، ثم هزَّت طرفَه فوق رأسها. وصاحت: «هريماد-سول!» وردَّد خلفها الرماةُ الآخرون: «هريماد-سول!» وسحَبوا خناجرهم وأدَّوا الإيماءات نفسَها، ثم صاح جنود سيناي الصيحة نفسَها. وراح رجالُ جاك، بعد أن تخلَّصوا من اندهاشهم الذي يَشوبه الخوف، يصفقون ويضربون الأرض بأقدامهم، كما لو أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون غير ذلك؛ وكان ريتشارد هو مَن صاح قائلًا: «أنجهاراد!» وعلى إثره صاح الجنود الأغرابُ قائلين: «أنجهاراد!» أيضًا، وأصدر بعضُهم صفيرًا، كما لو أن هاري قد غنَّت للتو أغنيةً في الأوبرا. وعندما توقَّفوا أخيرًا، كان الجميع يبتسمون ويشعرون بالارتياح مرةً أخرى، كما لو كانت الانهيارات الأرضية والزلازل التي سبَّبَتها المرأةُ بمفردها عملًا بطوليًّا عاديًّا في الحرب، أو على الأقل في قيادة الجيوش. ثم تنفَّس الجميع الصُّعداءَ واستقرُّوا، وأشعلوا النيران لطهوِ العشاء، وظهرَت ناركنون، وهي تجرُّ غزالًا بُنيًّا أكبرَ منها في الحجم، وبدا أنها مزهوَّةٌ للغاية بنفسها. وكان غروب الشمس في ذلك المساء فوق الجبال بلونٍ أزرق بنفسجي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤