الفصل الرابع

حدَّقَت خارج نافذة غرفة نومها نحو الصحراء التي يُضيئها ضوء القمر. لقد تحركَت الظلال عبر الرمال الباهتة، من وهدةٍ مظلَّلة إلى المجموعة التالية من الشجيرات الجافة. كادت أن تدَّعيَ بأن للظلال اتجاهًا وقصدًا. وهي لعبة كثيرًا ما تلعبها. كان يجب أن تكون نائمةً في السرير بحلول ذلك الوقت؛ لقد سمعَت الساعةَ وهي تدقُّ معلنةً الثانية بعد منتصف الليل. كان موقع وصوت الساعة الكبيرة الموضوعة في القاعة الأمامية يسمحان بسماع دقاتها في جميع أنحاء القصر الضخم الذي تتردَّد نغماتها عبره — ربما حتى في حجرات الخدم، على الرغم من أنها لم تُتَح قَط لها الفرصةُ لمعرفة ذلك، ولم تجرؤ مطلقًا على السؤال عنه. كثيرًا ما تساءلَت عما إذا كان مقصودًا أم مصادفة — وبغضِّ النظر عن السبب، لماذا لم يجرِ تغييره؟ — أن يُحدد موقع الساعة بحيث يفرض معرفةَ مرور الوقت على كل فردٍ في القصر، كلَّ ساعة من كل يوم. فمن سيريد معرفة الوقت عندما لا يستطيع النوم؟

كانت تُعاني من الأرق بشدة عندما وصلت لتوِّها من موطنها. لم يخطر ببالها قَط أنها لن تُصبح قادرةً على النوم بدون سماع صوتِ الرياح عبر أشجار البلوط خارج غرفة نومها في موطنها؛ لقد نامت جيدًا على متن السفينة، عندما كان من المفترض أن تكون المخاوفُ بشأن مستقبلها أكبر. لكن صوت هواء الصحراء المتواصل أبقاها مستيقظةً ليلةً بعد ليلة. كان به شيءٌ ما يشبه للغاية الكلام، ولم يُشبه مطلقًا التمتمةَ المريحة لأوراق البلوط.

لكن معظم ذلك كان قد تلاشى في الأسابيع القليلة الأولى لها هنا. مرَّت عليها ليالٍ سيئةٌ بين الحينِ والآخر منذ ذلك الوقت. قالت في نفسها: سيئة؟ لماذا سيئة؟ نادرًا ما أشعر بأنها كذلك في اليوم التالي، إلا بسبب نوع من الانزعاج الأخلاقي الذي يبدو أنه ينبع من الشعور بأنه كان عليَّ أن أُمضيَ كلَّ تلك الساعات الصامتة وأنا نائمة.

لكن الأسبوع الماضي كان سيئًا للغاية — حيث ساده الأرق للغاية — على نحوٍ لم تعهده من قبل. إذ أمضَت آخِرَ ليلتين مُتكوِّمةً في مقعدِ نافذة غرفة نومها؛ لقد وصلَت إلى المرحلة التي لم تستطِع عندها حتى تحمُّلَ النظرِ إلى سريرها. أمس، عندما جاءت آني لإيقاظها، وجدَتها ما زالت بالقرب من النافذة، حيث غفَت قُرب الفجر؛ ونظرًا إلى أنها كانت خادمةً هادئة راشدة، فقد أفشَت الأمر. من الواضح أنها ذكرَت الأمر لليدي أميليا، التي، على الرغم من كل الاستنفار والمناوشات التي حدثَت في الأسبوع الماضي، قد وجدَت وقتًا للتوقُّف عند غرفة هاري وقت النوم تمامًا، والثرثرةِ معها، وحثِّها على شرب بعض الحليب الدافئ اللطيف (حليب! هكذا قالت هاري في نفسها باشمئزاز؛ إذ إنها قد توقَّفَت عن شربه إلى الأبد في سنِّ الثانية عشرة، مع أول كوب شاي تتناوله كفتاةٍ ناضجة)، وجعلها تتعهد بمحاولة النوم — كما لو كان لهذا أيُّ علاقة به — وسؤالها عمَّا إذا كانت متأكدةً من أنها على ما يُرام.

فأجابت هاري: «أنا بخير، يا سيدتي.»

نظرَت إليها الليدي أميليا بقلق. وقالت: «أنتِ لا تُقلقين نفسك بخصوص، أومم، ما حدث الأسبوعَ الماضي، أليس كذلك؟»

هزَّت هاري رأسها وابتسمَت قليلًا. وقالت: «كلا، حقًّا، أنا بصحةٍ ممتازة.» فكرَت في نهاية محادثةٍ سَمِعَتها، منذ يومين، عندما غادر ديدام وبيترسون غرفة مكتب السير تشارلز دون أن يُلاحظا وجودها في الرواق خلفهم. إذ كان بيترسون يقول: «… لا يعجبني الأمر مطلقًا.»

مرَّر ديدام يده فوق قمة رأسه شبهِ الحليق، وقال على نحوٍ شبه ساخر: «أتعلم، على الرغم من ذلك، إذا جاء أحدُ سكان التلال هؤلاء، في غضون شهر أو عام من الآن، على صهوة حِصان مُجهَد من الركض وصرخ قائلًا: «المَمر! لقد اجتاحونا!» فسأغلق الحصن وأذهب لتَحرِّي الأمر مع أكبرِ عددٍ ممكن من الرجال، وأقلق بشأن الإبلاغ عنه لاحقًا.» ثم أغلق الباب الأماميَّ خلفهما، وواصلت هاري سيرها وهي تُفكر طريقها.

قالت الليدي أميليا: «أتمنى ألا تكوني مريضةً لأي سبب، يا بُنيتي؛ تبدو عيناك لامعتَين للغاية.» وصمتَت ثم قالت بنبرةِ صوتٍ كانت توحي بأنها غيرُ متأكدة من أن هذا القدر من الطمأنة يعتبر أمرًا حكيمًا؛ لأنه ربما يؤدي إلى تفاقُم حالةٍ عصبية بدلًا من تهدئتها: «يجب أن تفهمي، يا عزيزتي، أنه إذا كان هناك أيُّ خطر حقيقي، فسيُبعدوننا أنا وأنت في الوقت المناسب.»

نظرَت إليها هاري، في دهشة. أخطأت الليدي أميليا قراءةَ نظرتها، وربتَت على يدها. قائلةً: «لا يجب أن تُضايقي نفسك. إن السير تشارلز والكولونيل ديدام سيهتمَّان بأمرنا.»

أمس تمكَّنَت هاري من محاصرةِ جاك عندما عاد ليعقد مع السير تشارلز اجتماعًا مغلقًا ساعاتٍ طويلةً غامضة. فقد كمنَت هاري في غرفة الطعام حتى خرج جاك، وكان يبدو عليه التعب. فابتهج عندما رآها، وحيَّاها قائلًا: «صباح الخير يا عزيزتي. إنني أرى بريقًا في عينَيك، أيُّ جزء من شئون دامار الغامضة ترغبين في انتزاعه مني اليوم؟»

ردَّت هاري على الفور: «ما الذي قلتَه بالضبط لكورلاث في ذلك الصباح، قبل أن يُغادر؟»

ضحك جاك. وقال: «أنتِ مندفعة للغاية، أليس كذلك؟» ثم استعاد رصانتَه، ونظر إليها في حيرة. وتابع: «لا أعلم إن كان ينبغي عليَّ أن أُخبرك …»

«لكن …»

«لكنني سأفعل. في أيام حروب دامار الأهلية، كان الرجل يتعهَّد بالولاء، لملكه، أو للمُطالب بالزعامة الذي يرغب في دعمه. لقد كان زمنًا خطيرًا وغير مستقرٍّ على وجه التحديد؛ ومن ثَم فإن التعهُّد بالولاء لزعيم المرء كان يعني الكثير جدًّا — أكثر، على سبيل المثال، من أداء ضبَّاط مَلِكتنا اليمين لها، كما يجب أن نفعل جميعًا. لا تزال العبارة لها أهميةٌ كبيرة في تقاليد سكان التلال … لكن التعهُّد بالولاء لكورلاث هو أمر، أوممم، غيرُ احترافي بعض الشيء من جانبي، بصفتي مواطنًا من هوملاند يحمي حدودَ هوملاند من كورلاث. وهو مخاطرةٌ محسوبة من جانبي. …» ثم هز كتفيه. وتابع: «كنتُ آمُل أن أشير إلى أنه ليس كلُّ أهل هوملاند … غيرَ متعاطفين مع سكان التلال الأحرار، أيًّا ما كان الموقف الرسمي.»

رقدَت هاري في سريرها البغيض بعد أن تركَتها الليدي أميليا، وغلبها النُّعاس، بطريقةٍ أو بأخرى، حتى منتصف الليل؛ ولكن بعد ذلك أيقظها الظلامُ والسكون، وعادت مرةً أخرى إلى مقعدها بجانب النافذة لتُراقب الليل وهو يمر.

أصبحَت الساعة الثانيةَ والنصف. كم كانت السماء سوداءَ حول النجوم! قُرب الأفق كانت هناك ومضاتٌ خاطفة طويلة في الظلام، غيرُ مناسبة للنجوم، وكانت تلك هي الجبال، وكان لون الصحراء بدرجات الرمادي.

دون أن تُدرك ذلك، انجرفَت إلى النوم.

هناك كان يقف القصر، جامدًا وأسودَ اللون في ضوء القمر. كان سيبقى فاران وإيناث هنا مع الخيول؛ لم يكن آمنًا أخذُها إلى مسافة أقربَ من هذا. كان سيقطع هو بقيةَ الطريق سيرًا على الأقدام. آمنًا! ابتسم ابتسامة عريضة بمرارةٍ خلف غطاء الرأس الرمادي الذي سحَبه على وجهه، وانسلَّ وسط الظلال. كان عليهم خوضُ المغامرة، أيًّا ما كانت العواقب.

قال فاران متوسلًا وهو يكاد يبكي: «سولا، لا داعي لفعل هذا من أجل فتاة من الأغراب»، فاحمرَّ وجهُ كورلاث تحت بشرته المسمرَّة بسبب الشمس. كانت هناك أحداثٌ رومانسية في الماضي تضمَّنَت الركض عبر الصحراء ليلًا، لكنه لم يخطف قط أيَّ امرأة لم يُتأكَّد من موافقتها على مِثل هذه الخطة مسبقًا. كان والد كورلاث عاشقًا سيئَ السمعة للنساء، ولا يزال الإخوةُ غيرُ الأشقاء والأخوات غير الشقيقات للملك الحاليِّ يَظهرون من حينٍ لآخر، ولم يعلم أحدٌ بوجودهم؛ الأمر الذي أبقى الموضوع في أذهان الجميع. اعتقد كورلاث في بعض الأحيان أن سياسته الخاصة في التصرف في مثلِ هذه الأمور جعلَت شعبه يشعر بالتوتر؛ فقط لأنه لم يعرف ما كان يحدث — أو إن كان هناك أيُّ شيء يحدث من الأساس. حتى بعض الوقت الآن، لم يكن هناك شيءٌ يحدث، ولكن بحق الآلهة، هل كان فرسانه يتوقَّعون حقًّا أن يندفع ويجعلَ من نفسه أحمقَ من أجل فتاة من الأغراب — والآن من بين جميع الأوقات؟

ولكن، من ناحية أخرى، لم يستطِع هو شرح أسبابه جيدًا — حتى لنفسه — على الرغم من أن إصرارَه على الأمر كان راسخًا، مثلما أدرك على نحوٍ حزين في اللحظة التي خرَجَت فيها الكلمات من فمه. لكنه كان يكره أن يرى شعبه غيرَ سعيد — لأنه كان ملكًا صالحًا، وليس لأنه ملكٌ متوتر — وهكذا، في حين أنه كان من حقه أن يأمر بفعلِ ذلك دون مناقشة، فقد أعطى أكبرَ قدرٍ ممكن من الإجابة.

حيث قال ببطء: «هذا شأنٌ من شئون الدولة»؛ لأنه لم يستطع حمل نفسه على القول إن الكيلار الخاصةَ به كانت تهتمُّ بفتاةٍ من هوملاند، حتى إلى فرسانه، الذين كانوا أعزَّ أصدقائه بالإضافة إلى رعاياه الأكثرِ ثقةً. وأضاف: «ستصبح الفتاةُ أسيرةً مكرَّمة، وستُعامَل بكل تكريم، من قِبلي وقِبلكم.»

لم يفهم أحدٌ الأمر، لكنهم هدَءوا بعض الشيء؛ ومن ثَم تجنَّبوا التفكير في القانون غير المكتوب لبلدهم الذي ينصُّ على أن خطف امرأةٍ يُعد سلبًا لشرفها؛ سواء أكانت قد سُلبت بالفعل أيَّ شيء آخر يتجاوز بضع ساعات غيرَ مريحة فوق مقدمة حصانِ شخصٍ ما، أم لا. كان الأمر على نحوٍ عامٍّ يُعد شرفًا للرجل أو المرأة من سكان التلال؛ أن يُغوِيَه أحدُ أفراد العائلة المالكة — وهذا هو السبب في استمرار ظهور الكيلار، التي هي في الأصل هبةٌ ملَكية، في أماكنَ غريبة — وإن كان شرفًا غيرَ مريح إلى حدٍّ ما، فمَن يمكن أن يصبح مرتاحًا تمامًا مع عاشقٍ لا يجب أن تلتقيَ عيناه بعينَي المرء أبدًا؟ وأهل هوملاند كانوا مختلفين، كما يعلم الجميع، فمن يعرف كيف يمكن أن يُصبح ردُّ فعلهم؟

قال فاران بصوتٍ متهدِّج: «سولا»، فسكت كورلاث واستدار قليلًا نحوه ليُشير إلى أنه كان سيستمع لما سيقوله. وتابع: «سولا، ماذا سيحدث عندما يكتشف الأغراب أنها اختفت؟»

«ماذا سيحدث؟»

«سيأتون للمُطالبة بإعادتها.»

«هذا إذا كانوا سيعرفون إلى أين ذهبت.»

«لكن … كيف لهم ألا يعرفوا؟»

ابتسم كورلاث بتجهُّم. وقال: «لأننا لن نُخبرهم.» إن فاران، بناءً على رغبته، ليس أحدَ أولئك الذين رافقوا ملكَه إلى الاجتماع مع الأغراب؛ كان فورلوي وإيناث والآخرون الذين ذهَبوا يتصنَّعون الابتسامات لتتوافَق مع ابتسامة الملك. لم يستطع الأغرابُ رؤيةَ ما حدث في حضورهم. «ستُغادرون هذا المكان حالًا، وترتحلون، ببطءٍ نحو الجبال، وتُقيمون مخيَّمًا مرةً أخرى حيث يُلامس نبع ليك السطح. هناك سوف تنتظرونني. سأعود من الطريق الذي أتينا عبره، سرًّا، في غضون ثلاثة أيام، حتى لا تختفيَ الفتاة بعد وقتٍ قصير جدًّا من مشاهدة سكان التلال في قاعدة الأغراب. ثم سآخذ الفتاةَ من سريرها وهي نائمةٌ في القصر الكبير، وأعود إليكم.»

ساد صمتٌ تأمُّلي؛ وفي النهاية قال فاران: «سأذهب معك، يا سولا. إن حِصاني سريع.» كان صوته لا يزال حزينًا، لكن التهدُّج اختفى، وبينما كان ينظر إلى وجوه الفرسان الستةِ الذين حضَروا مع كورلاث اجتماعَ مفوَّضِ الأغراب، بدأ يشعر بالفضول. فهو لم يرَ أحدًا من الأغراب قط، حتى من مسافةٍ بعيدة، ولم تقع عيناه على بلدةٍ تابعة للأغراب قط.

بعد ثلاثة أيام غيرِ مريحة في المخيَّم النائي، انطلق كورلاث وفاران وإيناث بسرعة باتجاه بلدة الأغراب. قال كورلاث في نفسه: لا يمكنهم رؤيتنا حتى في وضح النهار عندما نركض نحوهم مرتدين عباءاتٍ تُرفرف وممتطين خيولًا تصهل. سنزحف مثل اللصوص إلى منزلٍ فارغ، متظاهرين أنَّ له مالكًا لأننا لا نستطيع أن نُصدق تمامًا أن الأمر سيكون بهذه السهولة.

ركع فاران وإيناث على ركبتيهما في موضعيهما، ولم ينظرا بينما كان يتركهما ملكهما؛ لأنهما يعلمان أنهما لن يُشاهدا أكثرَ ممَّا يريدهما أن يُشاهدا. انتظرت الخيول في صمتٍ مثلما فعل الرجلان، لكن حصان الملك ذا اللون المميز راقبَه وهو يذهب. كان الصوت الوحيد هو همس الريح عبر الشجيرات المنخفضة وغرَّات الخيول الطويلة.

وصل كورلاث إلى القصر دون صعوبة؛ لم يتوقع أيًّا منها. تجاهله الحراس، أو على نحوٍ غامض اعتبروه صديقًا. كانت هناك عدةُ أشياء من الفراء باللونَين الأسود والبني مستلقية في الأنحاء وقد أخذت تغطُّ بكآبةٍ في النوم في حديقة القصر. لم تكن تحبُّ كلاب الأغراب الحدود الشمالية الشرقية لداريا، وكلابُ سكان التلال، التي كانت ستستيقظ في الحال وتشاهده بصمت، ليست على وفاقٍ مع الأغراب. اجتاز الإسطبلات، لكن السُّيَّاس كانوا يغطُّون في النوم مثل الكلاب. لم يستطع أن يرى في الظلام، ولكن حتى في الأماكن التي لم يكن يساعد فيها ضوءُ القمر، كان يعرف مكان الأشياء.

وصل إلى جدار القصر ووضع يدَه عليه. واعتمادًا على نوع الحالة المِزاجية التي كانت عليها الكيلار؛ كان يمكنه بين الحين والآخَرِ المشيُ عبر الجدران، دون أن يهدمها أولًا، أو على الأقل الرؤية من خلالها. وهنا مرةً أخرى، في بعض الأحيان كان لا يستطيع ذلك. سيصبح الأمرُ مزعجًا إذا اضطُرَّ إلى الاقتحام مثل اللص العادي الذي يشعر أنه قد أصبح مثله، والتجوُّل من غرفةٍ إلى أخرى وهو ينظر إلى الوجوه على الوسائد. كان هناك احتمالٌ حتى ولو بعيد أن يقبض عليه.

كلا. لم تكن هذه لتُصبح واحدةً من تلك الأوقات: كانت الكيلار معه — نظرًا إلى أنها وضعَته في هذه المعضلة، هكذا قال لنفسه، فهي على الأقل كانت ستُساعده وتُخرجه منها — وعلم تقريبًا في الحال أين كانت توجد الفتاة. كانت لحظته السيئة الوحيدة عندما دقَّت تلك الساعة اللعينة في الردهة الأمامية مثل نداء للموتى، وبدا وكأنها صعدت السلالمَ خلفه مثل الأيدي الشاحبة الباردة.

كانت متكوِّمة، ومنحنيةً ونائمة على رفٍّ مبطَّن ممتدٍّ من نافذةٍ مقوَّسة، وللحظةٍ شعر بالشفَقة تجاهها وتردَّد. قال لنفسه على نحوٍ شبهِ غاضب: بماذا ستُفيدني الشفقة؟ فأنا لستُ هنا باختياري. لكنه لفَّ العباءة حولها بحنانٍ لا داعيَ له وهو يهمس ببضع كلمات فوق رأسها؛ للتأكُّد من أنها ستظلُّ نائمة.

جاهدَت هاري للخروج من بعضٍ من أغرب الأحلام التي رأتها على الإطلاق لتجدَ نفسها في واقعٍ قاتم وضبابي مليءٍ بالمطبَّات والهزات. هل كانت مريضة؟ لم تستطع فهم ما كان يحدث لها، باستثناءِ أنه أمرٌ غير مريح للغاية، ولم تكن من صفاتها صعوبةُ الاستيقاظ.

فتحت عينيها فكانت الرؤيةُ ضبابية، ورأت شيئًا يُشبه الفجر خلف شيء يُشبه التلال، رغم أنها بعيدة جدًّا عنها. … كان موضعها، حسبما أدركَت حينها، يتدلَّى جانبًا عبر أعلى كاهلِ حصان بينما تنزلق قدماها على كتفه مع كلِّ خطوة — إذ لم يكن الوضع مريحًا بالنسبة إليه أكثرَ منها — وكان يُبقيها جالسةً في وضع مستقيم؛ ذراعٌ تلفُّ نفسها حول وسطها، وتُثبت ذراعَيها عند جانبيها، وبدا رأسها وكأنه يرتدُّ على كتفِ إنسان.

الفكرة الوحيدة التي كانت واضحةً في ذهنها، ولم تكن واضحةً للغاية، هي أنها تُجيد تمامًا ركوب الخيل بنفسها، وتستاءُ من معاملتها كصُرة أو طفل؛ لذلك قاومت. رفعَت رأسها مع شهقةٍ وهزَّت وجهها بعيدًا عن غطاء الرأس العميق الذي يلتفُّ حوله؛ وحاولت أن تبسطَ جسدها أكثرَ قليلًا، وتمدَّه أكثر قليلًا إلى الأمام.

تسبب هذا في كبح الفارس لحصانه فجأة؛ إلا أنها أدركت أنه لا يوجد زِمام. أمسكها الفارسُ بقوةٍ أكبر قليلًا، وحينها كان هناك رجلان آخران على ظهرَي حِصانين بجانبها، فنزلا من على صهوةِ حِصانيهما ثم توجَّها نحوها على الفور. كانا يرتديان ملابسَ سكان التلال، مع أغطية للرأس مسحوبةٍ إلى أسفل على وجهَيهما؛ وعلى نحوٍ مفاجئ تمامًا، وهي لم تفهم بعدُ ما كان يحدث لها، شعرَت بالخوف. إذ سلَّمها الفارسُ الذي يُمسكها إلى الرجلَين بالأسفل؛ ولاحظَت أن لون الكتف الذي كان يضربه كعباها كان بنيًّا لامعًا مائلًا إلى الحُمرة، وأن غُرَّته طويلةٌ وسوداء. ثم عندما أمسكها الرجلان من ذراعَيها، لامسَت قدماها الأرض، وفقدَت وعيها مرةً أخرى.

استيقظت مرةً أخرى عند الشفق، لكن هذه المرة جاء التوهُّج الأحمر من الاتجاه المعاكس. هذه المرةَ استيقظَت وهي تشعر بأنها قد استعادت حالتها الطبيعية إلى حدٍّ كبير؛ أو هكذا اعتقدَت، لكن المكان المحيط بها كان بعيدَ الاحتمال لدرجة أنها لم تكن متأكدةً من استعادتها لكامل وعيها. جلسَت واكتشفت أنها تستطيع ذلك؛ كانت تجلس على بطانية، ولا تزال ملفوفةً في عباءةٍ سوداء ذاتِ غطاءِ رأس غير خاصة بها، وتحتها اكتشفَت أنها لا تزال ترتدي رداءَ النوم والروب فوقه. كانت حافيةَ القدمين؛ أمضت دقيقة أو دقيقتين وهي تُعاني من الدوار في محاولة لتذكُّر ما إذا كان نعلها قد اختفى أو إذا لم تكن قد ارتدَته قَط — الليلة الماضية، أو أيًّا ما كان الوقت — فتمالكَت نفسها، ونظرت حولها.

كانت في مكانٍ أشبهَ بوادٍ صغير، وخلفها كثيبٌ رملي مغطًّى بشجيرات قصيرة. فوقها شيءٌ أشبهُ بسقفِ خيمة، مثبَّت بأوتاد على شكل مربع، لكنَّ جانبًا واحدًا منه فقط مُنسدِل. بينما كانت تُظهر الجوانبُ الثلاثة الأخرى إطلالةً على الكثيب الرملي، والغروب، إذا كان هذا ما هو عليه الأمر، وثلاثةُ رجال يجلسون القُرفُصاءَ حول حلقةِ نار صغيرة بلا دخان، مُقامةٍ أمام الذراع المقابلة للكثيب نفسِه. حول حافتها كان بإمكانها رؤيةُ التلال السوداء تتلاشى وسط الضوء الأخير، وثلاثة خيول. كانت هناك ثلاثُ كتلٍ ربما هي سروجٌ بالقرب منها، لكن الخيول — التي كان أحدها رماديًّا، والثاني كستنائيًّا، والثالث بُنيًّا مائلًا إلى الحُمرة — لم تكن مقيَّدةً بأي نحو.

كانت قد نظرَت فقط إلى هذه الأشياء عبر نظرةٍ سريعة أُولى، ولم تبدأ بعدُ في التفكير مَليًّا بشأنها، عندما وقف أحدُ الرجال الجالسين حول النار واتجه نحوها. بدا أن الاثنين الآخرَين لم يُعيرا الأمرَ انتباهًا؛ إذ ظلَّا جالِسَين القرفصاءَ يُحدقان في القلب الأحمر الصغير للنار. جثا الرجلُ الثالث بالقرب منها وقدَّم لها كوبًا به شيء يتصاعد منه البخار، فأخذَته على الفور دون تفكير؛ لأن إيماءةَ الرجل كانت أمرًا. ثم أمسكَت به ونظرَت إليه. وأيًّا كان نوعه، فقد كان ذا لونٍ بني، ورائحته لذيذة؛ فاستفاقت معدتُها على الفور، وشعرت بالجوع.

نظرت إلى الكوب، ثم إلى الرجل؛ كان ملفوفًا في عباءةٍ ولم تستطع رؤيةَ وجهه. بعد لحظةٍ أشار مرةً أخرى، إلى الكوب الذي كانت تحمله، وقال: «اشربيه.»

لعقَت شفتَيها وتساءلت في نفسها كيف سيبدو صوتُها عندما تتحدَّث. وقالت: «أُفضل عدم النوم أكثرَ من هذا.» فصدرَت منها تلك الجملة بصوتٍ جيد جدًّا.

ساد الصمت مرةً أخرى، ولكن ما إذا كان ذلك بسبب عدم فَهمه لها — إذ كانت لهجته غريبةً وثقيلة، على الرغم من سهولة التعرُّف على كلماته التي ينطقها بلغة هوملاند — أو أنه كان يختار إجابته بعناية، لم تستطع التحديد. وفي النهاية قال: «لن يجعلَكِ هذا المشروبُ تنامين.»

أدركَت أنها أشدُّ شعورًا بالعطش من أن تهتمَّ بما إذا كانت تُصدقه أم لا، وشربَته كلَّه. فوجدَت أن مذاقه جيدٌ مثل رائحته، والذي، حسبما ظنَّت، يجعله أكثرَ تميزًا من القهوة. ثم أدركَت أنها أصبحت الآن جائعةً للغاية.

«هناك طعامٌ إذا كنتِ ترغبين في الأكل.»

أومأت برأسها، فأحضَر لها على الفور طبقًا من الطعام ومزيدًا من المشروب البنيِّ الساخن. ثم جلس مرةً أخرى، وكأنه ينوي مشاهدةَ كلِّ قضمة أو رشفة تحصل عليها. فنظرَت إليه، أو بالأحرى إلى الظل تحت غِطاء الرأس؛ ثم نقلَت انتباهها إلى طبقها. وفي الطبق، بجانب الكتلة التي يتصاعد منها البخارُ لما اعتبرَته يخنة، كانت هناك ملعقةٌ غريبة الشكل؛ إذ كانت ذاتَ مقبضٍ مقوَّس للغاية، وتجويفٍ شبه مسطَّح. فالتقطَتها.

قال: «تمهَّلي. إن النوم الذي حصَلتِ عليه يجعل بعضَ الناس يشعرون بالغثيان.»

إذَن لقد كنت مخدَّرة، هكذا قالت لنفسها. شعرَت بارتياحٍ غريب لهذا الأمر، كما لو أصبح لديها الآن عذرٌ لعدم تذكُّرِها شيئًا على الإطلاق حول كيفيةِ وصولها إلى حيث كانت. ومن ثَم أكَلَت ما أُعطيَ لها، وشعرَت بأنه جيدٌ للغاية، على الرغم من أن اللحم لم يكن مألوفًا لها؛ لكن شعورها بالتحسُّن جعل كلَّ أسئلتها حول مكان وجودها، ولماذا أتت إلى هنا — والأسوأ — ماذا بعد ذلك، تبرز في ذهنها على نحوٍ غير مرحَّب به. تردَّدَت، وهي تنظر إلى طبقها الفارغ الآن. كان لونه رماديًّا فاتحًا، وفي وسطه رمزٌ أسود. سألت نفسها عمَّا إذا كان هذا الرمز يعني أيَّ شيء. الصحة والعمر المديد؟ أم تعويذة ضدَّ الانكسار أو الضياع؟ أم تمثيل رمزي مفاده الدعوة بالموت للأغراب؟

سأل الرجل الجالس بجانبها: «هل تحسَّنَت حالتك؟»

قالت: «سأصبح … حسنًا … أفضلَ إذا أمكنني رؤيةُ وجهك»، وهي تحاول أن تُعبر بوضوح عن شعورها وسط التردُّد المعقول، والجُبن المروِّع، والتأدُّب مع خاطفها.

ألقى بغطاءِ رأسه للخلف، وأدار رأسه بحيث أصبح وجهه مَرئيًّا بوضوحٍ مقابل الضوء الباهت خلفه.

فقالت بنحوٍ لا إرادي: «يا إلهي»؛ إذ وجدَت أمامها كورلاث.

سألها: «هل تعرَّفتِ عليَّ إذَن؟» وعند إيماءتها المنذهلة — التي دلَّت على قولها: أجَل، جلالةَ الملك، لكن لسانها كان وكأنه ملتصقٌ بأسنانها من فرط الذهول — قال: «حسنًا»، ثم نهض. بدَت في حالةِ صدمة؛ كان يتمنى أن يقول شيئًا لطمأنتِها، ولكن إذا لم يستطع أن يشرح لرجاله سببَ إقدامه على ما كان يفعله، فقد علم أنه لن يتمكَّن من قولِ أي شيء لها. شاهدها وهي تستجمع كرامتَها وتُحاول إحلالها محلَّ تعابيرِ وجهها المصدومة. لم تقل شيئًا آخر، فالتقط طبقَها وكوبها وأعادهما بجانب النار، حيث فركَهما إيناث بالرمال وأخذَهما بعيدًا.

كانت هاري مشغولةً للغاية بأفكارها الخاصة بحيث لم تشكَّ في تعاطفِ خاطفها معها. رأته كشخص يلتفُّ في عباءة، وشاهدَته ينضمُّ إلى رجُلَيه عند النار، اللذَين لم ينظر أيٌّ منهما في اتجاهها. أخمَد أحدُهما النار ووضع أوانيَ الطهي في حقيبة، وسرجَ الآخرُ الخيول. وقف كورلاث يُحدق في التلال، وذراعاه مطويَّتان، وعباءته تُرفرف وسط نسيم المساء، اختفى كل الضوء تقريبًا، وسرعان ما لم تتمكَّن من تمييزِ هيئته الثابتة مقابل خلفية التلال السوداء.

ومن ثَم نهضَت، وهي تهتزُّ بعض الشيء، حيث لم تكن قد استعادت قدَماها بعدُ ثباتَهما، ولا رأسُها توازُنَه. سارت بضع خطوات، وكانت الرمال دافئةً تحت قدمَيها، ولكن ليس بنحوٍ لا يُطاق. مرَّ الرجلان — وهما لا يزالان ينظران إليها — بجانبها، واحدًا على كل جانب، وفكَّكا الخيمة، وطوَياها، ووضعاها بعيدًا بسرعةٍ شديدة بحيث بدا الأمر وكأنه سحر، وبعد تثبيتِ الحقيبة الأخيرة في حزام السَّرج، التفتَ كورلاث، دون أن ينطق أيَّ كلمة. وتبعه الحصانُ البنيُّ المائل للحمرة.

قال لها بجِدِّية: «هذا أيسفاهل. يمكنك مُناداته ربما … فايرهارت.» نظرَت إلى الحِصان الكبير، غيرَ متأكدةٍ من الردِّ المطلوب؛ شعرَت أن الرَّبت على هذا الحيوان الضخم سيُعدُّ نوعًا من التجرُّؤ. ولكي تفعل شيئًا، بسَطَت له راحةَ يدها، وشعرَت بالسعادة على نحوٍ أحمق عندما قوَّس رقبته وأخفض أنفَه حتى دغدغَت أنفاسُه يدها. ثم رفع رأسه مرةً أخرى ووجَّه أذنيه نحو كورلاث، شعرَت هاري أنها مرَّت للتو بما يُشبه طقس الانضمام إلى المجموعة، وتساءلت عمَّا إذا كانت قد اجتازته بنجاح أم لا.

اقترب منهم الرجلان الآخران، وتبِعَهما الحصانان الآخران. فقالت في نفسها: هل أنا على وشك أن أتدلَّى فوق قربوس السَّرج مثل جوالِ طعام مرةً أخرى؟ هل يصعب القيامُ بعملية التدلِّي عندما يكون الجوالُ المعنيُّ قائمًا وينظر إليك؟

أدارت رأسها بعيدًا، وعلى الفور وجدَت الرجلَين الآخرين ينظران بإمعان في الرمال حول حذاءيهما. كانت جميعُ الأمتعة مربوطةً خلف سرجَي حصانيهما، وبدا الوادي الصغير الذي كانا يقفان فيه خاليًا ومنبسطًا كما لو أنه لم يكن على الإطلاق موقعَ مخيَّم. أدارت رأسها نحو كورلاث مرةً أخرى. وقالت بخضوع: «يمكنني امتطاءُ الخيل — على الأقلِّ قليلًا»، رغم أنها كانت تعتبر فارسةً ممتازة في موطنها. وأضافت: «هل تعتقد أنني يمكن أن أجلس … ووجهي إلى الأمام؟»

أومأ كورلاث برأسه بالموافقة وترك غُرَّة الحصان. وعدَّل كتلة الصوف المغطَّاة بالجلد في مقدمةِ السرج، ثم التفتَ إليها. وقال: «هل يُمكنك امتطاءُ صهوته دون مساعدة؟»

نظرَت إلى ارتفاع ظهرِ الحصان، وقالت لنفسها: ثماني عشرة قبضةً لو كان قصيرًا، وقد يكون ذلك على أقلِّ تقدير. فقالت: «لستُ متأكدة.»

وعندئذٍ، وعلى نحوٍ أثار رعبَ الرجلين الآخرين، وحيرةَ فايرهارت، ومفاجأةَ هاري نفسِها، جثا كورلاث على الرمال وشبَّك لها كفَّيه. وضعَت قدمها الملطَّخة ببعض الرمال على كفَّيه، وقُذفت لأعلى بسهولة كما لو كانت فراشةً أو بتلة زهرة. أزعجها هذا قليلًا. ثم امتطى الحصانَ خلفها بالطريقة الرشيقة البسيطة نفسِها التي رأتها في فِناء القصر. وتحرَّك الحصانان الآخران وراكباهما ليقفا بجانبهما، واتجهوا جميعًا نحو التلال، وساروا بالخُطا المتمهِّلة نفسِها، ولم تلحَظ هاري أيَّ كلمة أو إيماءة تأمرهما بفعل ذلك.

استمرَّت رحلتهم طوال الليل — وتراوحت حركة الخيول ما بين المشي والسير بخطًا متمهلة والركض السريع لوقت قصير — وأصيبت هاري بالإرهاق الشديد قبل أن يبدأ خطُّ التلال أمامهم في الظهور عبر السماء التي كانت تتحوَّل إلى اللَّون الرَّمادي. توقَّفوا مرةً واحدة فقط؛ حيث أرجحَت هاري ساقَها من أعلى كاهل الحصان، وانزلقَت إلى الأرض قبل أن يُقدَّم لها أيُّ عرض للمساعدة، وبينما لم تَنثنِ حيث وقفَت، كانت هناك لحظةٌ عصيبة عندما ظنَّت أن هذا قد يحدث لها، وتناثرَت الرمال تحتها مثل حركة حصانٍ يركض. وقد أُعطيَت بعض الخبز، وبعض الفاكهة الخضراء الغريبة، وشيئًا لتشربه؛ ثم ألقى كورلاث بها على السرج مرةً أخرى بينما عض رَجلاه على شفاهَيهما من الغيظ وأشاحا بنظرَيهما. تشبَّثَت يداها بالغُرة الطويلة لفايرهارت، وشدَّت ظهرها، وأخذَت ترمش بعينيها، وأرادت أن تظلَّ مستيقظة. لقد قالت إنها تستطيع امتطاءَ الخيول، وهي لم تكن تريد أن تُحمَل … إلى حيث هم ذاهبون … لكنها ما كانت لتُفكر في ذلك. فقط فكَّرتْ في الجلوس بنحوٍ مستقيم.

وفي مرةٍ عندما خفضوا سرعتَهم إلى المشي، أعطاها كورلاث كيسًا جلديًّا وقال: «لقد اقتربنا من وجهتِنا الآن»، وقد كان وقعُ الكلمات لطيفًا، وليس موحيًا بالازدراء. كانت تتمنى لو أنَّ بإمكانها رؤيةَ وجهه، لكنه كان أمرًا مُحرجًا أن تلتفتَ لتنظر إلى شخصٍ يجلس خلف كتفِها مباشرة؛ لذلك لم تفعل ذلك. ألهبَت محتوياتُ الكيس فمَها وجعلَتها تلهث، لكنها جلسَت على نحوٍ أكثر استقامةً من أجل ذلك.

ثم عندما حدقَت في خطِّ التلال، وأغمضَت عينيها بقوةٍ وفتحَتهما مرةً أخرى، وتأكَّدَت من أن السماء بدأت تتحوَّل إلى لونٍ أكثر شحوبًا، وأنها لم تكن تتخيَّل أشياء؛ راحت الخيول الثلاثة تمشي ببطء، ثم توقفَت، وآذانُها إلى الأمام. وأشار كورلاث، أو بالنسبة إلى هاري، بدا أن يدًا وذراعًا بلا جسدٍ قد امتدَّتا بجوار خدِّها الأيمن. وقال: «هناك.» اتبعَت الخطَّ الذي أشارَت إليه إصبعُه، لكنها لم ترَ سوى أمواج من الرمال. قفزَت الخيولُ إلى الأمام في حركةٍ أفزعَتها بسبب سرعتها في نهايةِ رحلة كهذه، وهزَّت عظامها بقوةٍ صدمةُ ضربِ حوافر فايرهارت للأرض. وعندما رفعَت عينيها بعيدًا عن ارتفاع الغرة السوداء وهبوطِها على يدَيها؛ رأت وميضَ أشكالٍ بيضاء ورمادية، كانت منتظمةً جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون كُثبانًا رمليَّة. وأشرقَت الشمس بأشعَّتِها الذهبية فوق التلال، بينما اندفعَت الخيول الثلاثة إلى داخل المخيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤