الفصل السادس

تذكَّرَت المزيد عن ذلك اليوم. لقد جلسَت على كومةٍ من الوسائد تبعد قليلًا عن المائدة الطويلة بينما كان يتحدث الملك ورجاله؛ ولم تعلم إن كانوا قد تحدثوا عنها أم لا، لكنها لاحظَت أن أحدًا غير كورلاث لم يسمح لعينَيه مطلقًا بالنظر نحوها. وقد اختفى الشعور الذي كان لديها في وقتٍ سابق، قبل أن تتذوق ماءَ الرؤية، بأن التقارب بين الملك ورجاله يدعمها على نحوٍ ما؛ فقد كانت تشعر بالضياع والوحدة البائسة، وقرَّرَت أنه عندما يصبح هناك ثمانية عشر شخصًا يتظاهرون بأن المرء ليس موجودًا داخلَ مكانٍ مغلق صغير، فإن هذا أمرٌ أسوأ من شخصين يتظاهران بأن المرء ليس موجودًا في الخارج تحت السماء. تراقصَت الظلال بنحوٍ غريب عبر الخيمة، وبدَت الأصوات مكتومة. كان هناك رنينٌ في أذنيها — رنين لا يُشبه ذلك الناتج عن إحساس الخوف المعتاد نتيجةَ تدفق الدماء بشدةٍ عبر جسد المرء، ولكنه رنينٌ حقيقي مثل ذلك الذي يصدر عن أجراسٍ بعيدة. حتى إنه كان بإمكانها تمييزُ النغمات تقريبًا. أم إنها كانت نغماتٍ بشرية، النبرات المتغيرة لشخصٍ يتحدث، في مكانٍ بعيد؟ يبدو أن الطعم الذي لا يزال عالقًا على لسانها قد غلف عقلها أيضًا. وقد كانت متعبة، متعبةً للغاية …

عندما غادر فرسانُ كورلاث، وقف ينظر إلى جائزته التي اقتنصَها. لقد استغرقَت في النوم، ولا عجب في ذلك؛ لقد كانت تبتسم قليلًا خلال نومها، لكنها ابتسامة حزينة، جعلته غير سعيد. فعلى الرغم من التكريم الرسمي الذي منَحه لها، حيث أجلسها عن يساره، وسخَّر خدمه الخاصَّ لخدمتها مثلما يخدمونه، تجهَّم وجهه؛ فقد كان يعلم جيدًا أنه باختطافها من أهلها قد فعل شيئًا يدفعه إلى الخجَل، حتى لو لم يكن لديه أيُّ بديل؛ حتى لو كانت هي وقدرة الكيلار التي لديها ستُفيد بلده الحبيب، على نحوٍ لم كان ليجلبه بخلاف ذلك. ربما كان يمكنها أن تتعلم أن ترى شيئًا مما جعل أرضَ التلال وشعبها عزيزَين عليه كإنسان، وليس كمَلِك … ربما ستربطها هبتُها بهم. ربما ستكرههم بسببِ إبعادها عن أرضها وعائلتها. ومن ثَم تنهَّد. لم ترغب زوجةُ فورلوي الشابةُ في أن تكره أرض التلال، لكن ذلك لم يساعدها.

استيقظَت هاري في الظلام. لم تعرف أين هي؛ لم يكن الشيئان الموجودان تحتها يُشبهان الوسادةَ والمرتبة، ولم تكن رائحةُ الهواء تشبه على الإطلاق رائحةَ هواء القصر، أو هواء هوملاند. شعرَت لحظةً بتصاعدِ خوفٍ هستيري بداخلها، وكانت واعيةً فقط بمحاولاتها كبْحَه، لم تستطع التفكير، حتى من أجل تحديدِ سببِ رغبتها في كبتِ الهلَع؛ لقد خنَقَت كبرياؤها خوفَها على نحوٍ تلقائي بأفضلِ ما استطاع. بعد ذلك، رقدَت وهي مُجهَدة، وبدأت تتذكَّر المكان الذي هي موجودة فيه، وأدركَت أن رائحة الهواء هي رائحة أنواع الخشب الغريبة المصنوعة منها الصناديق المنحوتة الموجودة في خيمة ملك أرض التلال. ولكن بينما هي راقدةٌ على ظهرها تُحدق في الظلام، بدأت الدموع تنساب من عينيها وتتدحرج على خدَّيها وتُبلل شعرها، وكانت متعبةً للغاية لدرجة أنها لم تستطع مقاومتها. لقد انسابت حتى على نحوٍ أسرع، إلى أن التفَّت ودفنَت وجهها في الوسائد الخشنة لإخفاء صوت البكاء الذي لم تتمكَّن من إيقافه.

كان كورلاث نومه خفيفًا. وبينما كان مستلقيًا في الجانب الآخَر من الخيمة، فتح عينيه والتفَّ مستندًا إلى أحد مرفقيه، ونظر دون أن يتمكَّن من الرؤية بوضوحٍ نحو الركن المظلم حيث ترقد أسيرته من الأغراب. وبعد مدةٍ طويلة من تمكُّن هاري من النوم مرةً أخرى بعد أن أنهكَها البكاء، ظل ملكُ أرض التلال مستلقيًا دون نوم، يواجه الحزنَ الذي تسبَّب فيه ولم يستطع تخفيفه.

عندما استيقظَت هاري مرةً أخرى، كان باب الخيمة الذهبي اللون قد رُفع، وسطعَت أشعة الشمس على البُسط الثقيلة السميكة، وامتدَّت نحو عينيها وأيقظتها. ومن ثَم جلسَت. كان لا يزال هناك عددٌ من الوسائد السميكة تحتها وحولها؛ حيث ترَك النمط المطرز للوسادة أثرًا على ظهر يدها التي أسندَت خدَّها إليها. وأخذت تتثاءب وتتمطَّى، وعلى نحوٍ حذر تنفض عن عضلاتها مخاوفَ منتصفِ الليل. اقترب منها أحدُ الرجال الذين كانت لديهم علامةٌ على جبينهم، ونزل على ركبته، ووضع أمامها طاولةً صغيرة مع إبريق وحوض ومناشف وفُرش.

لم ترَ أيَّ أثر لكورلاث. وبدت الخيمة كما كانت عندما دخلَتها في اليوم السابق لأول مرة، وقد أُزيلت أجزاءُ المائدة المنخفضة، ورفع المِصباح المتدلِّي من القمة مرة أخرى.

عندما انتهت من غَسل وجهها، قُدم لها وعاءٌ به حبوب غير مألوفة، كانت ساخنةً ويتصاعد منها البخار مثل العصيدة التي يتناولها أهلُ هوملاند، ولكنها لم تكن من أيِّ نوعِ حبوب تعرفه. كان مذاقها جيدًا، وفوجئَت عندما تناولت كلَّ الكمية بشهيةٍ جيدة. وبعد أن وضعَت الملعقة، جاء أحد الخدم مرةً أخرى، وانحنى، وأشار إلى أنها ينبغي أن تخرج. شعرت أن ثيابها غيرُ مهندمة؛ إذ كانت ترتدي الملابس نفسَها التي نامت فيها، لكنها حاولَت بأفضلِ ما تستطيع أن تبسط تجاعيدَها، ولاحظت أنها لم تتجعَّد على نحوٍ سيئ مثل ملابس أهل هوملاند، ورفعَت ذقنها، وسارت إلى الخارج لتجد رجلًا آخر يقف ومعه حذاءٌ كي ترتديَه، ومقعد قابل للطي كي تجلس عليه وهي تربطه. لقد شعرت كما لو كانت حمقاء، أُطلقت، وإن كان هذا ضد رغبتها، في مجتمعٍ منظم للغاية يرغب الآن في أن تتبع هي أيضًا طريقتَه في التنظيم: مثل حبة الرمال التي تدخل في قوقعة المحار. ماذا لو كانت الحبة لا تريد أن تُصبح لؤلؤة؟ هل حدث من قبلُ أن طُلب منها الخروج بهدوء والعودة لموقعها القديم كجزء من قاع المحيط؟

هل كانت تريد العودة؟ ما الذي كان يجب عليها أن تعود إليه؟

ولكن ما الذي كان يظنُّه ديكي عن سبب غيابها؟ لم يعد لديها مزيد من الدموع في الوقت الحاضر، لكنَّ جفنَيها كانا متيبسَين كما لو كانا مِصراعَين، وحلقها كان يؤلمها.

كان الناس يتحرَّكون على عجلٍ عبر المساحة المكشوفة أمام خيمة الملك، وبينما كانت تُراقب ما حولها، بدأ أصحاب الخيام البعيدة في تفكيكها. وبدا أنها تتفكَّك إلى أسفلَ من تلقاء نفسها، كان كل شيء رشيقًا وهادئًا. إذا كان أيُّ شخص يُلقي أيَّ لعنة طويلة على تَمنُّع الجمادات، فقد كان يهمس بها فقط لنفسه. كان يجب أن يرى شقيقُها هذا. وابتسمت في ألم.

أخذت عيناها تضيقان؛ إذ كانت عيناها تتكيَّفان ببطء مع ضوء الشمس الساطع. السماء فوقها زرقاء صافية تمامًا، بدرجة اللون الأزرق المعدني الفاتح. إنه الصباح مرةً أخرى؛ لقد نامت يومًا كاملًا تقريبًا. إلى اليسار، ارتفعت سلسلةٌ صغيرة من الكثبان الرملية، على نحوٍ تدريجي جعلها لم تُدرك ارتفاعها إلا من خلال حقيقة أن خطَّ الأفق بالنسبة إليها، من حيث كانت تقف، كان هو قممَها. في مكانٍ ما بهذا الاتجاه كان يوجد حصنُ الجنرال ماندي، والقصر، وشقيقها — وعلى مسافةٍ أبعد، أبعدَ كثيرًا، في الاتجاه نفسِه، عبر الصحراء والجبال، والسهول والبحار، كان يوجد وطنها. شعرت بالرمال تحت قدمَيها، التي لم تكن تُشبه الأرضَ المتماسكة المليئة بالينابيع في وطنها، كما أن الحذاء الرقيق الغريب الذي ترتديه لا يُشبه أحذيتَها التي كانت ترتديها في الوطن، وقد كان الوزنُ الفضفاض الغريب لردائها يضغط على كتفَيها.

كانت خيمة الملك تُفكَّك أيضًا. في البداية، لُفَّت الجوانب وثُبِّتت، ورأت بدهشةٍ أن السجاد والمصابيح والصناديق والوسائد قد أُزيلت بالفعل من الداخل، وكلُّ ما تبقى هو الرمال وقد مُهِّدت وفُرِّغت على نحوٍ غريب ممَّا كان موضوعًا فوقها. تساءلت عمَّا إذا كانوا سيُدحرجونها كمسند إضافي إذا لم تكن قد استيقظَت، أو ما إذا كانوا سيحزمون كلَّ ما حولها، تاركين إياها على جزيرةٍ صغيرة من الوسائد في بحرٍ من الرمال الخالية. وقد طُوِيت أعمدة الأركان والأعمدة الطويلة عند المركز على نفسها على نحوٍ ما، وهبط السقف على الأرض على النحو المتَّزِن نفسِه الذي أُعجبت به في الخيام الصغيرة. ووجدَت عشَرةً من الخدم يعملون على لفِّ أجزاء الخيمة وطيِّها وربطها. إذ انحنَوا عليها بجِدٍّ وهم يعملون، فأصبحَت الخيمة الكبيرة بعد عدة دقائق فقط مُعبَّأةً داخل عشر حُزَمٍ أنيقة ذات لون أبيض وأسود، يمكن حمل أيٍّ منها على ذراع أحد الرجال. ومن ثَم ساروا نحوَ صفٍّ من الخيول التي وقفَت بصبر، بينما تكدَّسَت على سروجها ذاتِ الإطار العالي صناديقُ وحُزَمٌ مثل تلك التي وُضعت فيها أجزاءُ خيمةِ الملك. لاحظت مدى الترتيب الدقيق لكل حمولة، حيث رُبطت كلُّ قطعة منفصلةً، واختُبرت من أجل التوازن قبل وضعِ القطعة التالية. وفي النهاية فُحص كلُّ شيء من أجل تحقيق الراحة، وتُرك الحصان مع تربيتة على الأنف أو الرقبة.

كانت الخيول هي الحيواناتِ الأكثرَ شيوعًا في المخيم، وكان عددها أكثرَ بكثير من عدد الناس. حتى خيول حمل الأمتعة كانت مرتفعةً وجميلة، لكن كان بإمكان هاري أن تميز خيولَ الركوب؛ لأنها أرقى وأكثر كبرياء، ويتلألأ جلدُها مثل الجواهر. وهناك أيضًا كلاب: كلاب مرتفعة ذات أرجلٍ طويلة ورءوسٍ جميلة صغيرة طويلة وعيون داكنة مستديرة، وفِراءٍ حريري طويل لحمايتها من الشمس. وقد رُبط بعضها في أزواج، وقد قُسم الجميع إلى مجموعاتٍ منفصلة من ثلاثة حيوانات أو أربعة. وقد كانت كلاب صيدٍ تعتمد على حاسة البصر أكثرَ من حاسة الشم، حسبما ظنَّت هاري. وقد تجوَّلَت المجموعات بحُريةٍ مثل الخيول غير المقيَّدة، لكنها لم تُظهر ميلًا أكثرَ من الخيول للتجوُّل خارج المخيم. وقد لاحظَت باهتمام أن عددًا قليلًا من خيول حمل الأمتعة قد رُبطت في أزواج، مثل الكلاب، وظنت أنها ربما كانت طريقةَ تدريب، حيث يُربط الحيوان الأصغر سنًّا مع الأكبر سنًّا، الذي يمكن أن يُعلمه حُسنَ السلوك.

كانت هناك قطط أيضًا. لكنها ليست من النوع المنزلي الصغير الذي يمكن للمرء وضعُه على حجره؛ فقد كانت هزيلةً وطويلة الأرجُل مثل الكلاب. وكانت ذات عيونٍ خضراء أو ذهبية أو فِضية، وفراء منقَّط باللون البني والكهرماني والأسود. وقد بدَت إحداها شبهَ منقطة، باللون الأسود على البني، في حين بدَت التالية شبهَ مخططة، باللون البني المصفر على الأسود. وقد وُضع في أعناق بعضها أطواقٌ من الجلد مثبَّتٌ عليها قطع فِضية أو نحاسية، ولكن لم توضع عليها أي مقاود، وكانت كلٌّ منها تتجوَّل على نحوٍ منفرد، متجاهلةً أيَّ قطط أو كلاب أو خيول أخرى قد تُصادفها. جاءت إحداها إلى هاري حيث تقف، فأمسكَت أنفاسها وتذكَّرَت النمور والفهود. ونظرت القطةُ نحوها بلا مبالاة، ثم دفعَت رأسها تحت يدها. مرَّت لحظةٌ قبل أن تتمالك هاري نفسها بما يكفي لإدراك أن يدَها ترتجف لأن القطة كانت تهتزُّ وهي تُخرخر. فربتَت عليها بحذر، فخرخرَت بصوتٍ أعلى. كان الفراء قصيرًا وناعمًا وسميكًا للغاية؛ عندما حاولت، برقَّة، أن تُمشطه بيدها، لم تستطع رؤية الجلد. كانت القطة لديها رموشٌ شقراء طويلة للغاية، وقد نظرَت نحوها عبرها، وعيناها الخضراوان نصف مغلقتَين. تساءلت كيف تعايشَت جميعُ هذه الحيوانات معًا: هل نشبَت بينها يومًا أيُّ معارك؟ وهل سرقَت القططُ الكبيرة يومًا أحدَ الببغاوات ذات اللونين الأخضر والأزرق التي تقف على بعض أكتاف سكان التلال؟

فُكِّكت جميع الخيام، واندهشت من أعداد الحيوانات والأشخاص التي ظهرت أمامها. تساءلت عمَّا إذا كان الموجودون بالمخيَّم جميعهم من الرجال باستثنائها، واسترجعَت محاولةَ الخدم مساعدتها بينما كانت تستحمُّ في مساء اليوم السابق. لم تستطع أن تُحدد، الآن، من خلال النظر؛ لأن الجميع كان يرتدي رداءً مشابهًا لما ترتديه، ومعظمُهم يرتدون أغطيةَ رأس، وعددٌ قليل منهم فقط ذَوُو لِحًى.

ناداها صوتٌ كانت تعرفه: «سيدتي»، فالتفتَت ورأت كورلاث، يتبعه فايرهارت.

فقالت، وهي تشعر بتورُّدِ خدَّيها لمناداة ملك أرض التلال لها ﺑ «سيدتي»: «هل هذه رحلة طويلة أخرى؟»

«أجل، إنها رحلةٌ طويلة أخرى، لكننا لا نحتاج إلى السفر على نحوٍ سريع.» أومأت برأسها، وظهرَت ثم اختفت ابتسامةٌ على وجه الملك، بسرعةٍ شديدة لدرجة أنها لم تلحَظْها؛ لأنه أدرك أنها لن تتوسَّل، ولن تطرح أسئلة. وقال: «ستحتاجين إلى هذا»، وأعطاها غطاءَ رأسٍ مثل الذي كان يرتديه هو وجميعُ الآخرين. راحت تُقلِّبه في يديها وهي لا تعرف كيف تستخدمه؛ لأنه ليس أكثرَ من أنبوبٍ طويل من قماش ناعم ضيق الطرف، وليست طريقة ارتدائه واضحةً بالنسبة إلى شخص لم يسبق أن رأى له مثيلًا من قبل. أخذه منها مرةً أخرى وألبسها إياه، ثم أخرج وشاحًا وأوضحَ لها كيفيةَ لفِّه في مكانه. وقال: «سيُصبح الأمر أسهلَ مع الممارسة.» فقالت: «شكرًا لك.»

تحدَّث صوتٌ آخرُ خلفهما، فالتفتَ كلاهما؛ حيث كان يقف رجلٌ مع حصان آخَر خلفه. كان هذا الرجل يرتدي ملابسَ بُنية اللون، عبارة عن بنطالٍ ضيق وقميص فضفاض يصل إلى الركبة فوق حذائه الطويل، ويحمل علامةً بيضاء صغيرة على خدِّه الأيمن، فأخبرها كورلاث أن هذه هي ملابسُ رجال الخيول، أو السُّيَّاس، وكان رجالُ الصيد، الذين يهتمُّون بالقطط والكلاب، يرتدون ملابسَ مماثلة، لكن أحزمتهم حمراء، ويضعون أوشحةً حمراء فوق أغطيةِ رءوسهم، وتوجد علامتهم البيضاء الدالةُ على تخصصهم فوق الخدِّ الأيسر.

قالت هاري بتردُّد: «لقد … لقد ظننتُ أن كلَّ سكان التلال يرتدون أوشحةَ خصر.»

أجاب كورلاث ببساطة: «كلا، فقط أولئك الذين قد يحملون السيوف.»

التفتَ الرجل ذو الرداء البني إلى الحصان الذي أحضره لهما. وقال كورلاث: «هذا الحصان اسمه رولينين أو ريد ويند»؛ كان حِصانًا آخر ذا لون بني محمر، وإن لم يكن برَّاقًا للغاية مثل فايرهارت. وأضاف: «في الوقت الحاضر، سوف تمتطينه.»

فكَّرَت، بعصبيةٍ قليلًا، في مَغزى عبارةِ «في الوقت الحاضر». لقد كانت سعيدةً بفكرة عدم الارتحال على أعلى سرجِ حصانِ شخصٍ آخر، لكن عندما نظرَت إلى الحصان المرتفع، ونظر هو نحوها بلطفٍ، استجمعَت شجاعتها وقالت: «أنا … أنا معتادة على الشكيمة واللجام.» ثم قالت لنفسها: أنا معتادة على الرِّكاب أيضًا، لكن على الأرجح سأتمكَّن من التعامل مع الأمر دونها، على الأقل إذا لم يحدث أيُّ شيء مفاجئ للغاية. يبدو أنه حصانٌ لطيف يسهل التحكم في خطواته. يا إلهي!

قال كورلاث بصوته الغامض: «أجل»، ونظرَت هاري إليه في إحباط. فأضاف: «سوف يُعلمك ريد ويند كيف نركب نحن سكَّان التلال الخيل.»

ترددَت دقيقةً، لكنها لم تستطع التفكيرَ في أي شيء آخر لتقوله ولن يُعتبر مُهينًا للغاية، مثل «أنا خائفة». لذلك عندما استند الرجل ذو الرداء البني إلى ركبةٍ واحدة وشبَّك كفَّيه كي تضع قدمَها عليهما، وضعَتها؛ ومن ثَم رُفعت بلطفٍ كي تجلس على السرج. لم يكن هناك زِمام. نظرَت إلى يديها كما لو كانتا ينبغي أن تكونا في مكانٍ آخَر، وفركَتهما مدةً وجيزةً أسفل الساقين، ثم وضعتهما على القربوس الأمامي المستدير مثل أرنبَين منذهلين أُحضرا إلى المنزل بعد صيدهما. انتفضَت أذنا ريد ويند للخلف باتجاهها، وعدل وضع ظهره تحتها. أحاطت جذعُه بساقَيها على نحوٍ لطيف وانتظرت، وهي تُلقي السمع، ضغطَت بلطفٍ فخطا إلى الأمام بجِدِّية، ثم خفَّفَت الضغط فتوقَّف. بدا أنهما سينسجمان معًا.

امتطى كورلاث صهوةَ حِصانه بينما كانت هي تُرتب يديها، وقالت لنفسها على نحوٍ غاضب: أظن أنهم سيتوقعون مني أن أتعلم امتطاءَ الحصان دون مساعدة أيضًا، عندما نظرَت إلى أعلى عبر أذنَي ريد ويند المطيعة، تحرَّك فايرهارت، فتبعه ريد ويند على نحوٍ تلقائي.

استمرَّت رحلتهم عدةَ أيام. وكانت تعتزم عدَّ الأيام، لكن لم يكن ذهنها حاضرًا على نحوٍ فوري كي تبحثَ عن قطعةٍ من الجلد أو الصخر لتُسجل عليها عددَ الأيام أثناء الرحلة، وعندما وصل العدد إلى نحو أربعة أو خمسة أو ستة لم يَعُد بإمكانها تحديدُ العدد بدقة. واستمرَّت أيام الرحلة بعضَ الوقت بعد وصول عددها إلى أربعة أو خمسة أو ستة؛ ومن ثَم شعرَت بأن كل عضلة في جسدها تصرخ من الألم وتحتجُّ بسبب المجهود غير المعتاد، بعد أشهر من المعيشة الناعمة في القصر وعلى متن السفينة. ورغم ذلك كانت ممتنَّةً تجاه هذا الإرهاق؛ لأنه سيجعلها تغطُّ في نومٍ عميق بدون أحلام. وقد أُصيب جسدها بتقرُّحات عند موضع جلوسها على السرج، لكنها كانت تعَضُّ على أسنانها من الألم وتتجاهلها، وبدلًا من أن تزداد التقرحاتُ سوءًا كما توقَّعَت، خفَّت حِدَّتها ثم اختفت تمامًا، ومعها الأوجاعُ والآلام. وعادت مهارتها القديمة في التحكم بالحصان باستخدام السرج، ولم تشعر بافتقاد الرِّكاب إلا عندما تُحاول الامتطاء — فهي لم تزَل بحاجة إلى شخصٍ ما ليساعدها على الارتقاء لأعلى كي تمتطيَ صهوة الحصان كلَّ يوم — وعلى نحوٍ بطيء تعلمَت توجيهَ حصانها الصَّبور من دون زمام. وأصبح بإمكانها ربطُ حذائها بساقَيها وكذلك غطاءُ رأسها ببراعة — تقريبًا — كما لو كانت تفعل هذه الأشياء طَوال حياتها. وتعلمَت أن تأكل باستخدام أصابعها على نحوٍ لبق. كما التقت بأربع من النساء اللائي كنَّ جزءًا من مخيم السفر الخاص بكورلاث، وجميعهن كنَّ يرتدين أوشحةَ الخصر.

وقد عرَفَت اسم القطة الودودة: ناركنون. وغالبًا ما كانت تجدها جالسةً بجوار قدميها تسعى لأن تُبقيها دافئةً عندما تستيقظ في الصباح. إن ناركنون أيضًا، على الرغم من كل تاريخها كحيوانٍ آكلٍ للحوم، كانت تُحب العصيدة.

استمرَّت هاري في تناول وجبة المساء على مائدة الملك، برفقة الفرسان الثمانية عشرة وكورلاث، واستمرَّت في الجلوس على يسار الملك، واستمرَّت في الحصول على خدمةٍ مهذبة من جانب الخدم والتعرُّض للتجاهل التامِّ من جانب الفرسان. وقد بدأت تُدرك، أو على الأقل تشكُّ، أن كورلاث كان يُبقيها بالقرب منه؛ ليس فقط لأنَّ أهل أرض التلال غيرُ معتادين على التعامل مع أسرى الأعداء، ولكن أيضًا لأنه كان يأمُل في أن يجعلها تشعر بأنها ضيفةٌ مكرَّمة؛ إذ كان سريعًا في الإجابة عن أسئلتها، ربما جزئيًّا لأنها لم تُسئ استخدامَ هذا الامتياز، وغالبًا ما يتَّسم أسلوبه بالتواضع عندما يُقدم لها شيئًا: عباءةً جديدة، أو قطعةً من الفاكهة من نوعٍ لم ترَه من قبل. إنه يريدني أن أحبَّ العيش هنا؛ هكذا قالت لنفسها.

وكانت لا تزال تنام في خيمة الملك، لكن الآن وضعت ستائر بنحوٍ متواضع عند الركن الذي تنام فيه، وعندما كانت تستيقظ في الصباح وتُزيح الستائر إلى الوراء، كانت تجد أن كورلاث قد غادر الخيمة بالفعل. كما تجد أحد الخدم بانتظارها، حيث يُحضر لها المناشفَ والماء ووجبة الإفطار. لقد تزايد إعجابُها بالعصيدة، وهم في بعض الأحيان يصنعونها على شكلِ كعكٍ مسطَّح صغير، ويَقْلونها، ويضعون العسل فوقها. كان العسل منتجًا من زهور لم ترَ أو تشمَّ مثلها من قبل، وقد جعلها العبيرُ الغريب الغني الخاص به تحظى بلحظاتٍ حالمة.

لم تسأل كورلاث قَط عن سبب وجودها هنا، أو ماذا سيكون مستقبلها.

في كل صباح، بعد الإفطار، أثناء تفكيك خيام المخيَّم، أو إذا كانوا سيُقيمون يومًا إضافيًّا بينما تأتي الرسل من أماكنَ مجهولة للتحدث مع الملك، كانت تمتطي صهوةَ ريد ويند، ومثلما أخبرها كورلاث، تُعلم نفسها، أو تدعُ الحصان يُعلمها، طريقةَ أهل التلال في امتطاء الخيل. بعد درسِ امتطاء الخيل، إذا لم يواصلوا الارتحال في ذلك اليوم، كانت تتجوَّل في المخيم، وتشاهد العمل الذي يقومون به؛ حيث كان يخضع كلُّ شيء للتهوية والغسيل أو التنفيض أو التمشيط، كما كانت جميعُ الحيوانات تُنظف بالفُرش حتى تبرق. لم يحاول أيُّ أحد، سواءٌ كان حصانًا أو كلبًا أو قطة أو إنسانًا، منْعَ فتاة الأغراب من التجوُّل في أي مكان على وجه الخصوص، أو مشاهدةِ أي شيء على وجه الخصوص، بل سُمح لها في بعض الأحيان بالتقاط مِحسَّة أو مِمسحة أو مِنفضة، ولكن من الواضح أنه قد سُمح لها بذلك من باب اللطف؛ لأنه ليست هناك حاجة إلى مساعدتها على الإطلاق. لكنها ممتنَّة لهذا اللطف. وقد كانت تتحدَّث باستخدام الكلمات القليلة التي تعرفها من لغة سكان التلال: «هل يمكنني؟» و«شكرًا لك»، وكان سكان التلال يبتسمون لها ويقولون ببطءٍ وحرص: «هذا من دواعي سرورنا.» في بعض الأحيان كانت تشاهد خروجَ حملات الصيد؛ حيث تصطاد الكلابُ في مجموعاتها، والقطط بمفردها أو أحيانًا في أزواج. لم يبدُ أن هناك أيَّ ترتيب فيما يتعلق بأولئك الذين كانوا يخرجون معهم، بخلاف وجود رجلٍ واحد على الأقل من الصيادين، ولم تُشاهدهم يعودون مطلقًا دون اصطيادِ طرائد: أرانب صحراوية، أو حيوان الأوروبوج الحفار الصغير — أخبرها كورلاث بالأسماء — أو حيوان الداندي الضخم ذي القرنين الذي لا بد من تعليقه على قضيبٍ خشبي، وحملِه بين حِصانَين.

كان الحنين إلى الوطن يُعاودها في نوباتٍ غير متوقَّعة قوية للغاية، لدرجة أن ريد ويند، الذي يُعد حصانًا عجوزًا مخلصًا وفقًا لمعايير سكان التلال، ويمكن الوثوق به للأطفال والبُلهاء، كان يشعر بتوقُّفها عن الحركة على ظهره، فيرمي برأسه على نحوٍ غير مريح ويتقافز. إنها لم تَعُد تبكي إلى أن يغلبها النوم منذ أن فعلَت ذلك في أول ليلة لها في خيمة الملك وفكَّرَت بعناية وعقلانية، ووجدت أنه من الصعب تحديدُ ما كانت تحنُّ إليه بالضبط: لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن تركَت هوملاند، وهي لم تشعر بأنها تفتقد إقامتها في القصر في إيستن التي لم تتجاوز مدتُها بضعةَ أشهُر. تذكرَت وجهَي السير تشارلز والليدي أميليا وقد راودها شعورٌ مفاجئ بالحزن، كما كانت تفتقد شقيقها بشدة، وكانت قلقةً بشأن ما قد يظنُّه بشأن أخته المفقودة. واكتشفَت أنها أيضًا تفتقد قدرة جاك ديدام على فهم الأمور بحكمة وصبر؛ لكنها فكرَت فيه مع نوعٍ غريب من المسالمة، كما لو أن شعوره تجاه بلده الحاليِّ سيتجاوز الاستحالة المفترضة لما حدث لها، وسيعلم أنها على ما يُرام. إن هذا التأثر نتيجةَ اغترابها كان يُراودها غالبًا في الأوقات التي تشعر فيها بالارتياح خلال هذه المغامرة الغريبة التي وقعَت في خِضمِّها. وقد تجد نفسها، بينما تحدق في خطِّ التلال الممتدِّ أمامهم، الذي يقترب كلَّ يوم، وتراقب كيف تُناطح حافاتُها السماءَ على نحوٍ حاد، وتمتطي ريد ويند الذي يتبع خطواتِ فايرهارت، مع الرياح الصحراوية التي تلفح خدَّها والشمس المسلَّطة على كتفيها ورأسها المقنَّع، أنها تشعر على نحوٍ مفاجئ بالشيء الذي وصفَته بالحنين إلى الوطن. وقد يُراودها وهي جالسةٌ على مائدة الملك، متربِّعة، تتناول جُبنَها المفضَّل، الحلو البنيَّ الهش، وتستمع بلهفة إلى المحادثة التي ما زالت لا تستطيع أن تفهمها، باستثناء كلمة أو عبارة عارضة.

أنا أفتقد ما ليس لديَّ؛ هكذا قالت لنفسها في وقتٍ متأخر من إحدى الليالي، وهي تتقلَّب على وسائدها. ليس للأمر علاقةٌ بما يجب أن أشعر بالحنين إليه؛ سيتفهَّم هذا جاك، أقدم كولونيل لا يزال في الخدمة، وهو ينظر عبر الصحراء في أرض التلال. إن الأمر هو أنني لا أنتمي إلى هنا. لا يهمُّ أن الشمس تسفع بشرتي لتُصبح في مثلِ لون بشرتهم الداكن، وأن باستطاعتي امتطاءَ صهوة حصان طوال اليوم دون شكوى. بل لا يهمُّ أن ماء رؤيتهم يؤثر فيَّ مثلما يؤثر في عددٍ قليل منهم فقط. من المذهل فقط أنه يؤثر في واحدةٍ ليست من سكان التلال، لكن هذا لن يجعلها تُصبح واحدةً من سكان التلال.

إنها لَسخريةٌ مريرة أن يرقد المرء مستيقظًا وهو يتمنَّى شيئًا لا يمكن الحصول عليه، بعد أن كان منذ وقتٍ ليس ببعيدٍ يرقد مستيقظًا وهو يتمنى الشيءَ المعاكس الذي قد فقده للتو. ليس هذا النوع من التكيُّف مفيدًا للغاية؛ هكذا قالت لنفسها. ثم أضافت على نحوٍ يائس، لكن أي نوع من التكيف — أو القدرة الاستثنائية — سيكون مفيدًا بالنسبة إليَّ؟ تتبعَت ذكريات حياتها حتى مرحلة الطفولة، ولأول مرةٍ منذ سنوات عديدة، تذكرَت نوبات الغضب التي عانت منها في وقتٍ مبكر للغاية من طفولتها، لدرجة أنه كان من الصعب تذكرها بوضوح، لكنها تذكرت أنها كانت تُخيفها هي نفسها، على نحوٍ مبهَم، وهي لا تزال طفلةً في سريرها؛ إذ كانت تدرك أن هناك شيئًا خطأً بشأنها. لقد أخافت تلك النوباتُ اثنتَين من المُربيات وتسببَت في مغادرتهما البيت، لكن والدتها هي التي تعاملَت في النهاية مع الأمر على نحوٍ ناجح، في تجهُّم، وتحملتها وتحملَت نوباتها. لقد جلبَت تلك الذكرى الانتباهَ إلى ذكرى أخرى قد تجاهلتها أيضًا منذ سنواتٍ عديدة؛ ذكرى، أو معرفة، الشيء الخطأ التي نشأتْ بعد مرور نوبات الغضب، ومع تلك المعرفة نما أيضًا نوعٌ غريب من السيطرة غير العضلية. لقد فكَّرَت في ذلك الوقت، مع أول لهفة للطفل تجاه اقتراب مرحلة البلوغ، أن هذا نوعٌ من السيطرة قد تعلَّمه الجميع، لكن الآن، وهي ترقد وسط الصحراء المظلمة، لم تكن متأكدةً للغاية من ذلك. كان هناك شيءٌ ما في حياتها الجديدة، التي لا تزال غيرَ مفسَّرة وغير متوقعة في أرض التلال، لمس وحاول استعادةَ هذا الشعور القديم المهمل من ضبط النفس، وشيءٌ بداخلها يحاول بحماسةٍ الإمساكَ بالدرس، لكنه لم يستطع — حتى الآن — الإمساكَ به تمامًا أو الاستفادةَ منه. وقد أصبحَت هناك، أيضًا، واقعيةٌ لحياتها الجديدة كانت حياتها القديمة تفتقر إليها، وأدركَت على نحوٍ صادم أنها لم تحبَّ أو تكره بنحوٍ حقيقي من قبل؛ لأنها لم ترَ مطلقًا العالمَ الذي اعتادت على العيش فيه من كثبٍ بما يكفي كي يُثير العاطفة فيها. لكن هذا العالم بالفعل كان أكثرَ وضوحًا بالنسبة إليها، على نحوٍ مبهج، أكثرَ وضوحًا بنحوٍ مرعب، من البلد الأخضر الحلو، الذي تتذكَّرُه بمودةٍ ولكن على نحوٍ غير واضح، والذي عاشت فيه ما مضى من حياتها.

ليس لديها كثير من الشهية لتناول الإفطار في صباح اليوم التالي، فأعطت وجبتها إلى ناركنون، التي تجشَّأتْ في سرورٍ بعد أكلِها وعادت للنوم مرةً أخرى حتى أخرجها الخدمُ وهم يُفككون خيمة الملك. كانوا على مقربة من التلال السفحية بحلول الوقت الذي توقَّفوا فيه في ذلك المساء. كانت الشجيرات القصيرة حولهم قد بدأتْ في إنتاج الأوراق الحقيقية غير المنتظمة، التي كانت خضراءَ اللون. ولأول مرة، كان هناك جدولُ ماءٍ مكشوفٌ يسري بجوار مخيَّمهم، بدلًا من الينابيع الصحراوية السرِّية الصغيرة، وحصَلتْ هاري على حمَّام حقيقي في الحوض الفضي الكبير لأول مرةٍ منذ أولِ أمسية لها في المخيم؛ لأنه ليس هناك غيرُ قليل من الماء لتخزينه منذ ذلك الحين. هذه المرةَ ترك الخدمُ مناشفَ ورداءً أصفر نظيفًا من أجلها، وتركوها بمفردها، بمجرد أن انتهَوا من مَلْء الحوض.

لقد نصَبوا مخيمًا خلف قمة تمتد نحو ما كان بالتأكيد هو نفسُه تلًّا. نُصِبت الخيام حول مساحةٍ خالية في الوسط، مع خيمة الملك عند إحدى حافاتها. ودائمًا ما كانت توقد حلقةُ نار في تلك المساحة الخالية خلال المساء، ولكن في هذه الليلة أُشعلت حلقة النار وزُوِّدَت بالحطب حتى تأجَّجَت وتصاعدَت ألسنتها حتى أصبحت أعلى من قامة رجل، ومع انتهاء الجميع من مهامهم، تجمَّعوا وجلسوا حولها حتى شكَّلوا دائرة. تحوَّل الفراء الشاحب للكلاب إلى اللون الأحمر ولون القرفة في ضوء النار، وأصبح الفراء الداكن للقطط أكثرَ غموضًا من أي وقتٍ مضى. وقد رُفع جدار خيمة الملك الذي يواجه حلقة النار، وجلسَت هاري والملك وفرسانه عند الحافة المفتوحة يُحدقون في النار مع الباقين.

وبعد مدة لم يعد مزيد من الأشخاص الذين أخْفَت الظلمةُ تفاصيلَ ملامحهم يأتون للانضمام إلى الدائرة؛ إذ سقطَت ظلال النار وانتشرَت على الجوانب، وطفَت بحيث لم تتمكَّن هاري من تخمينِ عدد الأشخاص الموجودين هناك. ثم بدأَت النار نفسُها تخبو حتى أصبحت مثل نار التخييم الجميلة التي كانت هي وشقيقها يُشعِلونها بين الحين والآخر في حديقتهم عندما كانا طفلَين، حينما يسمح الطقس ومِزاجُ والديهما بذلك.

ثم بدأ الغناء. كان هناك العديد من الآلات الوترية مثل العود، والعديد من المزامير الخشبية للعزف المصاحب والتناغم. لقد أدركَت أنها أغانٍ شعبية، حتى وإن لم تتمكَّن من فهم الكلمات، وتمنَّت مرةً أخرى لو أن بإمكانها فهْمَ لغتِهم، وتململَت فوق البساط الذي تجلس عليه، ونظرَت نحو كورلاث. فنظر نحوها، مُقاطعًا ما تشعر به من إحباط، وعلى الرغم من أنه ليس هناك شيءٌ مشجِّع بنحوٍ خاص في تلك النظرة، فليس هناك أيضًا شيءٌ غير مشجِّع بنحوٍ خاص بشأنها؛ مثلما هو الحال مع نظراته نحوها الآن، ومثلما كان من المعتاد أيضًا، كانت هناك لمحةٌ من الحزن، أو الخجل، في نظرته. لقد فقَد، أو حسبما كانت تظن أنه كان أرجحَ أكثر، تعلُّمَ أن يكبح الحيرة الحانقة بعض الشيء التي شاهدَتها في الليلة التي شربَت فيها ماء الرؤية. فنهضت وذهبت إليه وجلسَت بجانبه، وضمَّت رُكبتَيها لأعلى وأسندت ذقنها إليها وحدقَت في النار، واستمعت إلى الكلمات التي لم تستطع فهمها. لقد كانت تعلم أنه لا بد من وجود شخصٍ آخَر على الأقل في المخيم يستطيع التحدث بلغة هوملاند، غير الرجل الذي أدَّى مهمةَ المترجم لكورلاث — على نحوٍ غير ضروري، كما كان بيترسون يعتقد — في القصر، لكنها لم تعرف قَط من كان هذا الرجل. شخص آخر ربما يمكنه التحدثُ معها، ويُعلمها مزيدًا من كلماتِ لغة أرض التلال، كي يمكنها التحدثُ إلى مَن حولها — وربما تتمكَّن من ترجمة كلمات الأغاني التي يُغنُّونها الآن. لكنه شخصٌ اختار ألا يجعلها تعرف هُويته، شخصٌ لم يحب مهارته كثيرًا بحيث يشعر بالشفقة على عزلتها؛ فهي امرأةٌ من الأغراب لا تنتمي إلى الصحراء وإلى أرض التلال.

كان كورلاث يراقب وجهَها بينما تعصف هذه الأفكارُ بعقلها، وربما قد تمكَّن من قراءةِ شيءٍ منها؛ إذ قال دون أن يستحثَّه أحد: «إنهم يُغنُّون عن الماضي، منذ مئات السنين الماضية، عندما كانت حيازة قدرة الكيلار شائعةً للغاية بحيث كان يكاد يعتقد أنها هبة، تمامًا مثلما يعتقد أن طول الأنف هبة.

وقد أصبح مَن يحوزون هبة الكيلار أقلَّ بكثيرٍ ممن حازوها في ذلك الوقت. أنا … نحن … نعتقد أننا سنتعلم عمَّا قريب بأقصى تكلفة يمكن أن نتكبدها قيمةَ ما فقدناه.»

قال لنفسه، بضجَر، بينما كان ينظر نحوها وهو غيرُ قادر على تفسير تعبيراتها: ما الذي تراه؟ كيف نبدو أمامها؟ ومع وجود لمحة من الغضب، أضاف: لماذا هو مُقدَّر أنني يجب أن آمُلَ في فهم امرأة من الأغراب؟ لماذا يجب أن تكون واحدةٌ من الأغراب هي مَن تحمل هبةً ثمينة للغاية كهذه؟ هبة قد تختار أن ترفضها أو … أو أن تستخدمها ضدنا، نحن الذين نحتاج إلى القوة بشدة؟

عانقَت هاري ركبتيها على نحوٍ أقرب، وللحظةٍ رأت مرةً أخرى صفًّا صغيرًا برَّاقًا من الفرسان يسيرون بخطًا متمهلةٍ صاعدين طريقًا عبر جبل. إذَن أنا أمتلك الهبة، هكذا قالت لنفسها، ولكن ما الفائدة من رؤية رؤًى غيرِ قابلة للتفسير؟ انتبهَت لما حولها عندما قال كورلاث: «نحن نُغني لأننا عُدنا إلى تِلالنا؛ إن الليلة هي الليلة الأولى التي ننام فيها مرةً أخرى في ظلِّها.

استمعي. سوف يُغنون أغنية شعبية عن الليدي إيرين، قاتلة التنانين.»

استمعَت هاري، استمعَت بإمعان، بكل عضلات ظهرها وفخذَيها، كما لو كانت لغة الأغنية تُشبه حصانًا جامحًا تحاول ترويضه، وعبر ضوء النار، ظهر شخصٌ ما، تتمايل هيئته مع تراقصِ ألسنة النيران ووميضِها، وبدا شعره كما لو كان هو نفسه نارًا. كان شخصًا طويلًا ذا كتفين عريضتَين مع وجهٍ شاحب، وفي يده اليمنى يحمل سيفًا طويلًا رفيعًا يتلألأ باللون الأزرق. حدقَت هاري حتى شعرت بأن عينيها جافتان مثل الرمال، ثم استطاعت أن تتبيَّن ملامح وجه ذلك الشخص، لتجد أنه وجهُ امرأة، وأنه يبتسم لها. لكنها لم تكن ابتسامةً عادية، بل ابتسامة عريضة، الابتسامة العريضة الحانية الحزينة لأختٍ كبيرة، وأصاب رأسَ هاري دوارٌ من الحب واليأس. ثم هزت المرأة رأسها برفق، فاشتعل شعرها وتموَّج حولها، ومدَّت يدها اليسرى الفارغة، فوجدَت هاري نفسها جاثيةً على يديها وركبتيها، تُحاول الوصول إلى يدها. لكن عصفة من الريح هبَّت من العدم وضربت النار كما لو كانت كلبًا جامحًا، فاختفت المرأة. سقطت هاري حيث كانت جاثية، ولامس وجهُها الأرض. فجلس كلبٌ حقيقي وراح يعوي.

حملَها كورلاث بلطف كما لو كانت طفلة، سقطت بعد خطواتها الأولى، ووجدت أنَّ هناك دموعًا تنساب على وجهها. فنهض، وهو يحملها بين ذراعَيه، ولم تهتمَّ إلا بأن الليدي إيرين، ذاتَ الشعر الناري وقاتلة التنانين، قد أتت إليها ثم تركَتها مرةً أخرى، وحيدة أكثرَ مما كانت عليه من قبل. فألقت ذِراعَيها حول رقبة ملك أرض التلال، ودفنَت وجهها في كتفه وانتحبَت. وشعر كورلاث، بينما كان يحملها، ودموعها تنسابُ على رقبته، بأنَّ استياءه يتذبذبُ ويخفت ويختفي، وشعر بالشفقة بدلًا من ذلك على فتاة الأغراب، مثلما شعر بالشفقة تجاهها عندما تذوَّقَت الميلدتار. لقد كانت الهبة أمرًا صعبًا بالقدر الكافي بالنسبة إليه، وهو الذي يحملها منذ صِغَره، ويعرف دائمًا أنها موجودةٌ وقد دُرِّب منذ الطفولة على استخدامها، أو على الأقل تقبُّلها. كان لديه والده ليُخبره بما يمكن توقُّعُه، ولم يسخر منه والده عندما بكى مثلما تبكي فتاةُ الأغراب الآن، لكنه، في الواقع، احتضَنه وهدَّأ من روعه، وخفَّف من نوبات الصداع التي كانت تتسبَّب بها الكيلار. ومن ثَم كان سيُساعد هو هذه الفتاةَ الآن، بقدرِ ما يمكنه، مهما بدا لها لصًّا وغريبًا عنها. كان سيبذل قُصارى جهده.

استيقظت هاري في صباح اليوم التالي في ركنها المعتاد من الخيمة، خلف الستائر المعتادة، ولا يزال وجهها ملطخًا بالأتربة والدموع، وتذكَّرَت ما فعلته وليس ما رأته، وشعرت بالخجل الشديد وابتلعَت ريقها بصعوبة، وتساءلت عمَّا إذا كانت لديها الجرأة على إظهار نفسها خارج ستائرها، حتى لكي تغتسلَ بالماء. لم تستطع التفكيرَ في رؤية كورلاث مرةً أخرى على الإطلاق. وقالت لنفسها: لا بد أنه قد ألقى عليَّ تعويذةً جعلت النوم يغلبني مرة أخرى، كما فعَل عندما اختطفني لأول مرة؛ إذ أجبرَني على النوم كطفل جامح لأنني تصرفتُ كطفل جامح. لم تُبالِ ناركنون بكل هذا؛ إذ سارت على ساقَي هاري وفركَت رأسها على وجه هاري المتسخ، فرمشَت هاري بشدة وراحت تُداعبها بقوة.

ومن ثَم أزاحت ستائرَها بجهد، وغسلَت وجهها، وتناولت إفطارها كما لو كانت تتناول رقائقَ خشب، وهي صامتةٌ وقد خلا وجهها من أيِّ تعبير. قاطع صوتٌ ما تأملاتِها الحزينة، فنظرَت إلى أعلى متفاجئةً، وازدادت مفاجأتُها برؤية أحد الفرسان: الرجل المتجهِّم القصير العريض المنكبَين الذي لاحظَته خلال أول وجبة لها في خيمة الملك، الرجل الوحيد الذي تذوَّق ماءَ الرؤية ولم يبدُ عليه أيُّ تأثر. تحدث إليها مرةً أخرى. وأيًّا ما كانت الكلمات التي قالها، فقد كان وقعُها على أذنيها مثل عبارة «صباح الخير»؛ لذا قالت: «صباح الخير.» ارتسم تعبيرٌ ما على وجهه واختفى سريعًا، وظل ينظر إليها حتى بدأت تتساءل عمَّا إن كانت «صباح الخير» بلُغتِهم تبدو كأنها إهانةٌ فظيعة، وكان يفكر الآن فيما إذا كان سيقتلها على الفور أو يغفر لها جهلها. ربما كان فقط يفكر مَليًّا في أفضل السبل للتعامل مع طفلة جامحة.

لكنه تحدثَ إليها مرة أخرى، ببُطء، وبصبر، فانصرف ذهنها عن التفكير في خجلها ممَّا حدث في الليلة السابقة. وقسم كلماته إلى مقاطع؛ ومن ثَم أخذَت نفسًا عميقًا وقالتها له مرةً أخرى. هذه المرة بالتأكيد تحوَّل التعبير الخاطف على وجهه إلى ما يُشبه ابتسامة، على الرغم من أنها لم تكن لتراها قَط لو لم تكن تنظر إلى وجهِه عن قرب. صحَّح لها طريقةَ النطق، وقالت العبارةَ مرةً أخرى، ويبدو أنها قالتها هذه المرةَ بنحوٍ صحيح؛ بعد ذلك انحنى، ووضع يده على صدره، وقال: «ماثين.»

قالت له: «ماثين»، وكانت تعرف اسمه بالفعل حيث كان يُناديه كورلاث به وهو يُجيب. ثم مدَّ يده حتى كادت أطرافُ أصابعه أن تلمس عظمتَي الترقوة لديها. فقالت: «هاري»، معتقدةً أن النسخة المكوَّنة من مقطعين من اسمها المستحيل ستبقيهما على حدٍّ سواء بعيدًا عن المتاعب، ولم يكن ريتشارد هناك كي يعترض. قال: «هري؟» وقد اندهش بعضَ الشيء، فأومأتْ برأسها، وانحنَت له انحناءةً بسيطة.

لا بدَّ أنه كان يومًا متعبًا بالنسبة إلى ماثين. كانت تعلم أنه واحدٌ من الفرسان الثمانية عشرة، ومع ذلك لم يفعل شيئًا حتى غروب الشمس سوى اصطحابِها في جولةٍ حول المخيم ولمس أشياء مختلفة ونُطق أسمائها. كما تعلمَت بعض الأفعال المفيدة المتعددة الاستخدام، والأسماء — أو على الأقل سمعَت الأسماء وحاولت أن تتذكَّرها — الخاصة بنحو نصف الرجال الذين يجلسون حول مائدة كورلاث. كانت بالفعل تعرف فاران وإيناث؛ لأنها التقطت اسمَيهما عندما كان كورلاث ينادي عليهما، تمامًا كما فعلت مع اسم ماثين. نظر الاثنان نحو عينَيها بينما كان يُعرِّفها ماثين بهما، وانحنيا بهدوء لتحيتها، كما لو لم تكن لها أيُّ علاقة بالكومة الغريبة التي اختطفها ملكُهما من بلدة الأغراب برفقتهما قبل بضعة أسابيع؛ كما لو كانوا يرَونها لأول مرة. كان فورلوي هو الرجل ذا الندبة على ذقنه، ودابسيم هو الفارس الذي يمتطي الفرَسة السوداء التي تفوز في السباقات التي تُجرى غالبًا في المساء، إلى أن يمنعها الفرسان الآخرون من الركض.

لم ترَ كورلاث في ذلك اليوم، ولا اليوم التالي. بقي المخيم حيث كان، في ظلِّ تلال أرض التلال، على الرغم من أن نار المخيم المسائية عادت صغيرةَ الحجم مرةً أخرى، ولم يَعُد هناك غناء. وقد كانت تخرج فِرق الصيد كلَّ يوم، لتعود محمَّلةً بمجموعةٍ متنوعة من الطرائد البرية التي توفِّرها الصحراء. وعلمت هاري أن ناركنون تصطاد بمفردها، وكانت تشتهر بعدم السماح لأيِّ حيوان آخر أن يقترب منها، وكانت تعقد أحيانًا صداقات مع البشر، لكنها تنتقي تلك الصداقات بعناية. لذا شعرَت هاري بالإطراء. ومع مرور الأيام، أصبحَت الوجوه والخاصرات العِجاف لدى الرجال وحيوانات الصيد أكثرَ سمنةً بعض الشيء، لكن ناركنون لم تزَل تتوسَّل من أجل الحصول على وجبتها من العصيدة.

وفي كلِّ صباح كان يأتي ماثين إلى هاري بعد الإفطار. وبحلول نهاية اليوم الثالث، أصبحَت تنطق جُملًا، بسيطة، مُجهِدة، لا تتبع قواعدَ اللغة، لكنها وجدت أن بعض كلمات لغة سكَّان التلال تتسلَّل إلى حصيلتها اللغوية الخاصة بلغة هوملاند وتستقرُّ هناك، وأصبح القلَّة، بالإضافة إلى ماثين الذين حاولَت التحدثَ إليهم، يتوقَّفون للاستماع إليها والإجابة عنها. لم تَعُد غيرَ مرئية، وكان هذا هو أفضلَ ما في الأمر.

أصبحَت معجبةً بالخصائص المتفردة في اللغة التي كانت تتعلمها؛ كان هناك، على سبيل المثال، عددٌ من أنواع الخيام. فهناك خيمة الملك الكبرى، ذات الأعمدة الداخلية الكثيرة التي تحملها، وتُسمى زوتار، وهي الوحيدة في المخيم المتنقِّل هذا. وهناك الخيام الأصغر حجمًا، التي يستخدمها معظم الناس، وتُسمى باركاش، وهناك خيامٌ تُستخدم كإسطبلات للحيوانات وتُسمى بيتوين. وهناك العديد من المصطلحات التي لم تستطِع إدراكها تمامًا حتى الآن، والتي تُشير إلى كيفية صنع الخيمة، وعدد أركانها، والموادِّ التي صُنِعت منها، وما إلى ذلك. وهناك دالجوت، وهي خيمةٌ رخيصة، رديئة الصنع، لكن ليس هناك خيام دالجوت في مخيَّم الملك، وعند الإشارة إلى خيمةِ رجلٍ آخر بأنها دالجوت، وهي ليست كذلك، فإن هذا يعتبر إهانةً كبيرة.

استيقظَت في وقتٍ أبكر من المعتاد في صباح اليوم الرابع من غياب كورلاث، وعلى الرغم من احتجاجات ناركنون، خرجَت من الخيمة للتحديق في آخِر فلول الليل الرمادية جهةَ الشرق التي تُبشر باقتراب فجر الصحراء السريع. وسمعت أغنيةَ قنبرة الصحراء، وهو طائرٌ صغير لونه بني أرقط يُطلق عليه سكان التلال اسم بريتي. كان المخيم يعجُّ بالحركة بالفعل، وقد حيَّاها العديد من الرجال الذين استطاعت تذكُّر أسمائهم باسم هري-سول. لقد سمعَت هذا الاسم في اليومين الأخيرين، وتساءلت عمَّا إذا كان مصطلح احترام أو تعريف أو وسيلة لتحويرِ اسمٍ أدركَت أنه لم يلْقَ استحسانًا تامًّا.

مع سطوع الضوء المبكر على الجبال، رأت الأشجار والتلال الصخرية تبرز من الظلال وتؤكِّد تفرُّدها. ولم تلحظ أن كورلاث وثلاثةً من مُرافقيه قد عادوا إلا بعد أن أصبحوا في مركز المخيم ممتطين خيولهم.

التفتَت إليه عند سماع صوته، لكن انتباهها تشتَّتَ في الحال. كان كورلاث لا يزال جالسًا على صهوة فايرهارت، الذي وقف ثابتًا كصخرةٍ حمراء كبيرة، ووقف بجانبهما حصانٌ آخر، بلا فارسٍ فوقه، ذو صهوةٍ مرتفعة كفايرهارت، وفحلٌ مثله، ولكن لونه ذهبي، مثل لون ألسنة اللهب التي كانت تتراقص متصاعدةً من حلقة النار الكبرى قبل ثلاث ليالٍ. سارت نحوهم في صمت، بقدميها الحافيتَين على الأرض الرملية التي لا تزال باردة، لكن الحصان الذهبي أدار رأسه ونظر إليها. وسمعت كورلاث يُغمغم بشيءٍ ما وهي تقترب، وبسبب كلماته اتخذ الحصانُ خطوةً نحوها، وخفض رأسه حتى أصبح بإمكانها أن تنظر في عينه الهادئة ذات اللون البنيِّ الماهوجني. رفعَت يديها وقرَّبَتهما منه، فشعرت بأنفاسه الدافئة، ولمس أنفه الناعم أصابعها.

نادى كورلاث بصوت عالٍ فظهر أحدُ السُّياس في الحال، وهو يحمل سرجًا من الجلد الذهبي الأدكن قليلًا من لون الحصان، مع خياطةٍ ذات لون أحمر، ووضعه بعناية على ظهر الحصان الذهبي. تجاهله الحصان، وحتى لم يرجف جلده الذهبي أثناء وضع السرج في مكانه، لكنه لعق أصابعَ هاري، وأمال خدَّه على كتفها.

قال كورلاث: «لقد أحضرتُه من أجلك»، فرفعَت عينَيها ووجدَته ينظر نحوها، وأضاف مبتسمًا: «يبدو أن اختياري صائب.»

انتهى الرجل ذو الرِّداء البني من وضع السرج، ووقف ينظر نحوَها مترقبًا. قال كورلاث: «هيا، سنُجرب خطواته.» لم تدرك أن كورلاث قد تحدَّث معها بلغة أرض التلال إلا بعد أن أُجلِسَت على السرج، وشعرَت برجفة الحصان الكبير تحتها، بينما تُحاول ساقاها إيجادَ مكانيهما مقابل الجانبين الطويلين المرنين للسرج.

لقد كان صباحًا رائعًا؛ أكثرَ روعةً من أي صباح مرَّ عليها منذ أن استيقظَت لتجد نفسها كومةً مضطربة، مُلقاةً على الجانب المحجوب عن الريح لأحد الكثبان الرملية الخشنة — أكثرَ روعةً من أي صباح منذ أن أبحرَت قادمةً من الوطن. ترجم لها كورلاث اسم الحصان بلغتها وقال: «إن اسمه هو صنجولد.»

قالت: «صنجولد.» فقال: «تسورنين.»

انطلق كورلاث على صهوةِ فايرهارت إلى الأمام في خطوةٍ متمهلة طويلة، كما لو كانا سيقفزان نحو الفجر، وبمجرد أن أحكمَت ساقَيها على جانبَي الحصان الذهبي الكبير اندفع إلى الأمام كي يتبعهما. كانت، خلال الدقائق القليلة الأولى، خائفةً من افتقارها إلى المهارة، ومن قوة الحصان الكبير، لكنها وجدَت أنهما قد فهم كلٌّ منهما الآخَر. شعرت ببعض الامتنان، وبعضِ الخجل، من الوقت والصبر اللذَين قدَّمهما لها ريد ويند الطيب، وشعرَت في الوقت نفسه بعدم الارتياح تقريبًا لأن الأمر كان بسيطًا للغاية، وأنها فهمَت بسهولة. لكنها كانت مأخوذةً للغاية بجماله لدرجة أنها لم ترغب أن تشكَّ فيه مدةً طويلة. لو أنها فكَّرَت في الأمر من الأساس، فقد أخرجَته من رأسها في الحال: ألا تستحقُّ شيئًا من أجل كل معاناتها، الجسدية والنفسية، خلال الأسابيع الماضية؟ لم يكن بإمكانها التفكيرُ في شيءٍ أفضل من شعورها بغُرة صنجولد وهي تلمس يديها.

عندما أصبحَت الشمس فوق رأسها تقريبًا، وأشعَّتها الباهرة تبهر عينيها عندما تنعكس عن رقبة تسورنين البراقة، وبدأت معدتها الخاوية تفرض نفسها كي تُنبهها إلى جوعها على الرغم من كل شيء، قال كورلاث: «هذا يكفي»، وأدار فايرهارت للخلف نحو المخيَّم. انتظر صنجولد إشارتها، فوقفت لحظة، تنظر أولًا إلى قوائم فايرهارت التي تُهرول بعيدًا عنهما، ثم لأعلى، حيث يتمايل صقرٌ بُني عبر تيار هواء صاعد، عاليًا فوق رأسها. ومن أجل اختبار مدى قوتها، وكَزَت حصانها بركبتها كي يستديرَ نصفَ استدارة إلى اليسار وأطلقت له العِنان ليعدو، وبمجرد أن وصل إلى ذروة سرعته، أعادته إلى السير على مهل، واستدارت دورةً واحدة، ثم انطلقت خلف كورلاث، الذي توقَّف ليشاهد تصرفها الغريب. ومن ثَم توقفا بجانب فايرهارت وفارسه، فأومأ كلٌّ من الفحلَين برأسَيهما إلى الآخَر. توقعَت هاري محاضرةً عن تصرفها الغريب، أو شيئًا من هذا القبيل، وأخفضَت عينيها ونظرَت نحو أعلى كاهل صنجولد؛ لكن كورلاث لم يَقُل شيئًا. نظرَت لأعلى مرةً أخرى عندما سمعَت صليل معدن على معدن؛ كان كورلاث قد سحب السيفَ المعلق على جانبه.

راحَت تُراقبه، في اندهاش، وهو شاهرٌ سيفَه، ومُسدِّدُه إلى أعلى، وقد سطعَت الشمس على نصلِه بشدة. تذكرَت أنه هذا الصباح، بينما كان يدخل إلى المخيم، كان يحمله، وهي المرة الأولى التي تراه فيها مُسلحًا بأيِّ شيء مخيفٍ عدا خنجر طويل، أو سكين قصير نحيف مثل الذي يحمله جميعُ سكان التلال من أجل تقطيع الطعام وأداء أيِّ مهامَّ بسيطة تحتاج إلى شيءٍ نصله حادٌّ. وقد نسيَت ذلك الأمرَ بمجرد أن رأت صنجولد، والآن بعد أن رأت ذلك عن قُربٍ أكثر قررَت أنه لا يُعجبها كثيرًا. من الواضح أنه كان سيفَ حرب، وبدا أنه يصعب استخدامه في أيِّ شيء سوى المبارزة والطعن.

أمسَك كورلاث السيف بيده اليسرى وناوله لها، موجهًا المقبضَ نحوها. وقال: «خُذي هذا.» فأمسكَته، بحذر، وعندما تركه كورلاث، لم يسقط من يدها، ويجعلها تسقط من على السرج، لكنه كان ثقيلًا. فقال: «ارفَعيه.» وبينما كانت تُحاول، أضاف: «أنت لم تُمسكي بسيفٍ من قبل.»

فقالت: «أجل.» ورفعَته كما لو كان ثعبانًا سيرتكز على ذيله ويلدغها. أبعد كورلاث حِصانه أيسفاهل كي لا يُصيبه أذًى بينما هي تُجرب بذراعها وكتفها هذا الشيء الجديد عليها. ومن ثَم أرجحَته في نصف قوس قصير، فدبَّت الحماسة في جسد تسورنين على نحوٍ مفاجئ، وتقافز إلى الأمام على ساقيه الخلفيَّتَين، وهو يصهل. فقالت: «أوه»، بينما كان يهبط على الأرض مرةً أخرى، وقد انتصبَت أذناه إلى الخلف باتجاهها، وقد أصبحَت جميع عضلاته مشدودة.

قال كورلاث بهدوء: «صنجولد حصانُ حرب. إنكِ تُذكِّرينه بأمور الحرب.»

التفتَت نحوه ونظرَت في سخط، فاقترب إلى جانبها وأخذ السيف. كان هناك بصيصٌ من المرح في عينه وهو يردُّ نظرتها الساخطة؛ ومن ثَم التفَّا عائدَين نحو المخيم معًا. قال شيئًا لم تستطع سماعَه على نحوٍ جيد، وبينما كانت تلتفتُ إليه كي تطلبَ منه تَكراره، قفز فايرهارت إلى الأمام واندفع مهرولًا، ثم انطلق يركض بأقصى سرعةٍ على نحوٍ مفاجئ. وبعد أن شعرَت بالصدمة لحظةً، فهمَت التحدي، فانطلق صنجولد في إثرهما، واستطاع اللحاق بهما بحيث أصبح وجهها قريبًا من ذيل فايرهارت، ثم اقترب أنف صنجولد حتى أصبح بجوار قدمَي كورلاث، وبعد ذلك كانا قد اقتربا من الوصول إلى داخل المخيم، فهدَّأ الحصانان من سرعتها وتحوَّلا إلى الخبَب، ثم إلى المشي. وقد أصبحَت فتحات أنفيهما حمراءَ اللون أثناء التنفُّس، ووجَّه صنجولد وجْهَه بعيدًا عن المخيم، وهو يرغب في مزيد من الركض، لكن هاري قالت: «لا أعتقد ذلك»، فأصدر صنجولد نفرةً طفيفة وتبع فايرهارت في طاعة. ولم تُدرك أنها لا تزال حافيةَ القدمين إلا بعد أن ترجَّلَت عن صهوة الحصان.

تناول كورلاث وهاري الإفطارَ معًا، على مربعٍ واحد من المائدة الطويلة. لم تتحدَّث هاري إلا مع ناركنون، التي كانت شبهَ متجهِّمة، وانصبَّ اهتمام كورلاث على الرجال الذين جاءوا للتحدث معه، عن الأشياء البسيطة التي حدَثَت على نحوٍ خاطئ في غيابه، وعن الرسائل التي تلقَّوها من أجله، وفهمَت هاري كثيرًا مما قالوه، وتساءلت عمَّا إذا كان كورلاث يهتمُّ بأنه لم يَعُد من الآمن تمامًا التحدثُ عن أسرار في وجود أسيرته التي تنتمي للأغراب. بعد أن أكَلا، دخل رجلٌ من الخدم إلى الزوتار وسلَّم الملك حُزمةً طويلة رفيعة ملفوفة في قماش كتَّان. ثم انحنى وانصرف، ففتحها كورلاث وأمسك سيفًا آخر. كان هذا أصغرَ بنحوٍ ملحوظ مِن الذي يضعه حول وسطه، لكن هاري ظلَّت تنظر نحوه في نفور. مسح كورلاث الغِمدَ على نحوٍ سريع بقطعة الكتان ثم قدَّم لها، مرةً أخرى، المقبض. فأخذَته على مضَض، وبدلًا من سحبِه من غِمده بسلاسة، سحبَته بنحوٍ أخرق، بحيث خرج مع صوتِ دويٍّ سخيف.

قال كورلاث: «يجب عليك أن تُتقني فعل هذا بطريقةٍ أفضل من ذلك»، وكانت متأكدةً من أنه يجد الأمرَ مُسليًا.

قالت: «لماذا؟» وقد بدأ الغضب يتصاعد من مكانٍ ما بداخلها ويشقُّ طريقه إلى السطح. فتابعَت: «لماذا؟ ما لي والسيوف و…» ترددَت في إكمال السؤال لأنها قد أحبَّت صنجولد بالفعل — ثم أضافت: «خيول الحرب؟»

اقترب منها خطوةً أو خطوتين وقد غرسَت سنَّ السيف على نحوٍ غير مقصود في الأبسطة المتراكمة، وذراعها ممدود، كما لو كانت تُحافظ على الشيء غير المرغوب فيه عند أبعدِ نقطة عنها؛ ونظر، على نحوٍ متعاطف، في عينيها.

وقال: «إن هذا بسبب ما رأيتِه. عندما تذوَّقتِ ماء الرؤية، رأيتِ جماعتَين مقاتلتين على وشك الاشتباك، لقد سمعتُكِ أنا وكلُّ فرساني وأنت تصفين ما كنتِ ترَينه — باللغة القديمة لأسلافنا هنا، اللغة المستخدمة عندما كانت دامار أرضًا واحدة، أرضًا عظيمةً وخضراء، قبل أن …»

قالت في نفسها: قبل أن يحتلَّها شعبي، لكنها ما كانت لتقولَ ذلك بصوتٍ عالٍ إذا لم يقله هو.

وتابع: «وبعد عدةِ أيام من رؤية المخيم بأكمله الليدي إيرين خرجَت من النار كي تُقدم لك التحية، وهي تحمل السيف الأزرق، جونتوران، الذي استعادَت به تاج البطل وهزمَت جيوش الشمال.» تردَّد. ثم تابع: «لم يرَ أحدٌ إيرين منذ أيام والد والدي؛ ومع ذلك، فقد اعتنَت دائمًا ببلادها على نحوٍ جيد، منذ أن امتطَت صهوة حِصانها وخرجَت لأول مرة لمواجهة التنين الأسود، قبل أن يصل جونتوران إلى يدها، وتتحدث عنها أعزُّ أساطيرنا.»

انفجرَت فقاعاتُ الغضب اللامعة في عينيها واختفَت. فأحنت رأسها، وثنَت كوعها وجلبَت السيف تحت عينيها. ولمع أمامهما بريقُ حدِّه الطويل الذي يحمل طابعَ الشر. كان ذا مقبضٍ فِضي، شبه عادي، مع بعض زخارف رشيقة باهتة على الجزء السفلي من واقي اليد، عند نقطة التقائه مع المقبض. حدَّقت فيها على نحوٍ غير مسرور: حيث بدا تصميها مناسبًا أكثرَ لمقعد كنيسة وليس لسيف. بدأ معصمها يهتزُّ تحت تأثير الوزن غير المعتاد.

قال على نحوٍ لطيف بقدر استطاعته: «هنا، أي شخص يُمنح هبةَ الرؤية يُصدق ما يراه؛ إذ يُعتقد أنه بمنزلة إرشاد، وتوجيه، ومساعدةٍ أرسلتْها الآلهة، أو أبطالُ ماضينا الرائع، الذين ما زالوا يهتمُّون بما يحدث لأحفادهم. إن الأطفال الآن عندما يبلغون العاشرةَ من عمرهم يبدءون في ارتشاف ماء الرؤية؛ على أمل أن يُخبَروا بالمهنة التي تُلائمهم أكثر. لا يرى كثيرون منهم شيئًا، بسبب، كما أخبرتُك، أن الماء لا يُحدِث تأثيرًا في كثيرٍ من الناس؛ ومن ثَم يُسمح لاعتباراتٍ أكثر بساطةً مثل النسَب والتوفر أن تحسم القرار. ولكن كل الكهَنة لدينا رأَوا رؤية الكهنوت وهم في سنِّ العاشرة، وكل فارس من فرساني رأى نفسه يحمل سيفًا … وسيختار كثيرٌ منهم فقط لونَ حصان الحرب الذي رأَوا أنفسهم يمتطونه في الرؤية.»

قاطعَته على نحوٍ متوتر قائلةً: «لكن هذا لا علاقة له بي. فأنا من الأغراب، ولستُ من أهل أرض التلال على الإطلاق. إذا كانت الحرب هي ما رأيتُها، فإن شعبي يخشى الحربَ أيضًا؛ ليس من الغريب أنه حتى أنا أشعر بذلك. هذا الشيء الذي فعلته بي، أنا …» توقفَت عن الحديث؛ لأنها سمعَت نفسها تتحدث؛ قالت «الأغراب» على نحوٍ غريزي، وكانت تتحدثُ بسرعة بلغة سكان التلال التي بدأتْ تتعلمُها — أو هكذا ظنَّت، والآن على نحوٍ يائس لم تكن متأكدة — قبل أيام قليلة، ولم تُتقنها بعد. وصدرَت عنها تنهيدةٌ كانت ستُصبح نحيبًا لو كان عمرها أصغرَ بعام واحد، لكنها لم تُصبح كذلك. وقفت، وهي ترتجف، بينما تُمسك بالسيف، في انتظار أن يتحدث إليها أيضًا، كي يُخبرها بمصيرها المريع.

أمسك كورلاث بمعصمها الأيمن في يده وجعلها تستديرُ حتى أصبحَت تقف بجانبه؛ وأعاد ترتيبَ أصابعها حول مقبض السيف، ولفَّ إبهامها تحته. شعرت في الحال، على نحوٍ متعب، أن هذه هي الطريقة التي من المفترض أن يُمسك بها، وتساءلَت عمَّا إن كانت القدرة على استخدام السيف، مثلها مثل امتطاء حصان حرب والتحدث بلغةٍ غريبة عنها، كانت فجأةً ستستشري في دمِها مثل المرض.

قال كورلاث من فوق كتفها، ويده اليمنى لا تزال تدعم معصمَها: «سيدتي، أعلم أن الأمر صعبٌ عليك. ربما قد يجعله ما سأقوله لك أسهل؛ لقد منحتِ شعبي الأملَ بحضورك، بالرُّؤى التي تستطيعين رؤيتَها، بكونكِ أحدَ الأغراب. هذا هو الأمل الأول الذي لدينا منذ أن عرَّفَنا أن جيش الشمال سيغزونا. نحن بحاجة إلى هذا الأمل، يا سيدتي. إنه تقريبًا كل ما لدينا.»

أفلتَت يدَها من قبضته حتى تتمكَّن من الالتفاف والنظر إليه. كانت تُحدق في وجهه، وهي مفزوعة، فنظر برفق في وجهها. وتقطب جبينُه ببطء. ثم قال: «ماذا يُسمونك … هري؟ هذا لا يمكن أن يكون اسمَك.»

عبَسَت. وقالت: «كلا. إنه …» لم تعرف الكلمةَ المقابلة في لغة سكان التلال لكلمة اسمٍ مستعار، ويبدو أن حاستها السادسة الغامضة لم ترغب في توفيره لها. وتابعَت: «إنه اسمٌ مختصر. أنا لا أحبُّ اسمي الحقيقي.»

«وما هو؟»

سادت لحظةُ صمت. ثم قالت في النهاية: «أنجهاراد.»

أخذ يُجرب نطق الاسم بضع مرات. ثم قال: «سوف ندعوك هريماد. هريماد-سول؛ لأنكِ من رُتبةٍ رفيعة. قليلةٌ هي الرُّؤى التي يمكن أن يراها الآخرون أيضًا على نحوٍ واضح للغاية، مثلما رأى الجميع إيرين-سول تتصاعد من النار.

حاولي أن تتحلَّي بالإيمان حتى بهذه الأشياء الغريبة بالنسبة إليك. لقد أخبرَتني الكيلار الخاصة بي أن أحضرك إلى هنا، والكيلار الخاصة بك تتحدَّث من خلالك الآن. سيدتي، أنا لا أعرف عن مصيرك أكثرَ من ذلك، لكنني أعتقد، مثلما يعتقد كلُّ الناس في هذا المخيم، أن مصيرك مهمٌّ بالنسبة إلينا. كما أن إيرين، التي طالما كانت صديقةَ شعبِها، قد منحتك حمايتها.»

هذا لا يجعل من إيرين صديقتي، هكذا قالت لنفسها في انزعاج، ولكن عندما تذكرَت ابتسامةَ الأخت الكبرى العريضة التي منحَتها لها إيرين، لم تستطع أن تُفكر فيها على نحوٍ سيِّئ. وقد أخبرَت كورلاث الكيلار الخاصة به أن يُحضرني إلى هنا. يا إلهي! أظن أن هذا يُفسر شيئًا ما. هريماد. هاري المجنونة. أتمنى أن تبقى إيرين طويلًا بما يكفي للتحدث معي — وإخباري بما يجري. رفعَت نظرها إليه وحاولَت أن تبتسم. لقد كان جهدًا شجاعًا؛ ذلك الذي بذلَته حتى يرتسمَ على وجهها ما يُشبه ابتسامة. لكن عينَي كورلاث البنيَّتَين ذواتَي النقاط الذهبية رأتا أكثرَ من مجرد الشجاعة، وشعر بالتعاطف معها، ثم ابتعد عنها وصفق يدَيه، فأحضر أحدُ الخدم المشروب البنيَّ الساخن الذي تذوقَته هاري لأول مرة خلف تلٍّ رملي خشن، وهي حافية القدمين وفي روبها الهوملاندي، الذي تعلمَت منذ ذلك الحين أن اسمه مالاك.

في ذلك المساء، تناول كورلاث والفرسان وهريماد-سول عشاءً رائعًا مكونًا من العديد من الأطباق، وتعرَّفَت هاري للمرة الأولى على المستردة بطريقة سكان التلال المصنوعة من بذور الجيكتال، التي لم تُلهب فمَها ولسانها فحسب، بل حلْقَها وبطانة المعدة، ثم رفع الجزء الأمامي من الزوتار إلى أعلى، حيث جلس في الخارج جزءٌ كبير من بقية المخيم على أبسطة أمام طاولاتٍ منخفضة صغيرة وهم يأكلون أيضًا، تحت ضوء القمر والنجوم البيضاء. بدأت هاري في عصبيةٍ تشدُّ أكمامها وتعبث بنهايات حِزامها مع اقتراب نهاية الوجبة؛ كان هناك توترٌ يُحلق فوق المخيم، وهو أمرٌ لم يعجبها، وتمنَّت ألَّا يظهر الكيس الجلدي الذي يحمل بداخله ماءَ الرؤية في هذه الليلة. وبالفعل لم يظهر، لكنها شكَّت في أن كورلاث قد لاحظ عصبيتها على نحوٍ يشوبه القلق.

دار الحديث بسرعةٍ كبيرة بالنسبة إليها بحيث لم تُمكِّنها من استيعاب كلِّ ما قيل — أو ربما كانت حاستها السادسة قد أجهدت نفسها وكانت الآن تستريح — لكنها فهمَت أن الغرض من الرحلة التي قاموا بها هو اكتشافُ مدى استعداد القُرى الجبلية الصغيرة العديدة، في الشمال والجنوب والشرق من الصحراء المركزية الكبيرة، لصدِّ هجمات جيش الشمال، وكم عدد الخيول والأسلحة والمحاربين، والإمدادات ونقل الإمدادات، التي يمكن لكلٍّ منها أن تُقدمه. لم تكن رحلةً مبهجة للغاية، خاصةً الجولة الغربية السريعة داخل أراضي الأغراب، حيث رفض رجلٌ عجوز عنيد ومتكبر الاستماعَ إلى الحقيقة، لكن كورلاث كان قد توقَّع ما وجده، وأدرك — حسبما كان يظن — أنه ليس من الجيد أن يجعل هذا الأمرَ يفتُّ في عضُدِه. لقد أصبَحوا بالقرب من نهاية رحلتهم الآن: في أرض التلال أمامهم، على الرغم من أن الوصول إليها سيستغرق عدة أيام، كانت هناك مدينة كورلاث، التي يوجد بها قصرُه، ويتمركز جيشٌ متأهِّب. ظنَّت هاري على نحوٍ ما، من الطريقة التي أشاروا بها إليها، أن «المدينة» هي المدينة الوحيدة في مملكة كورلاث، وأن شعبه ليس مُهتمًّا كثيرًا ببناء المدن وصيانتها والعيش فيها، باستثناء مدينة الملك، التي تتمتع بميزةِ كونها ممتلئةً بالكيلار. لكن سكان التلال كانوا مجتمعًا مستقلًّا، لقد فضَّلوا الاحتفاظ بقطع الأرض الصغيرة الخاصة بهم وزِراعتها، حيث لم تَرُق لهم المدن ولا المناصب في الجيش النظامي.

ولأنها قد سمعَت الكلمة كثيرًا، بدأت هاري تفهم على نحوٍ أفضلَ ما كانت تشير إليه كلمة كيلار. إنها شيء مثل السحر، والتفسير المحدد للكيلار في إنسانٍ معيَّن كان هو أنها هبة. والكيلار أيضًا كان شيئًا مثل تعويذة أو سحر، عالقة في الهواء في أماكنَ قليلة في أرض التلال، وأحد تلك الأماكن هي مدينة الملك، حيث قد تحدثُ أشياءُ معينة، ويحظر حدوثُ أشياء أخرى، بطرق مختلفة تمامًا عن القوانين الفيزيائية المعتادة. وعندما يفقدون كلَّ الأماكن الأخرى، يمكن لسكان التلال اللجوء إلى داخل المدينة؛ فإذا استولى جيشُ الشمال على كل شيءٍ آخر أو دمر، يمكن لعدد قليل أن يستمرَّ في العيش داخل المدينة؛ لأن بداخلها بعضًا من قوة دامار القديمة.

ومن ثَم بدأت في تخيُّل المدينة، والتطلع لرؤيتها. وحولها كان يتحدث الملك والفرسان عن إصلاحاتٍ يتعين إجراؤها، وأعمالِ حدادة جديدة يتعين القيامُ بها، وأفضل الحدادين — دهوجوس — وأفضل مُصنعي الجلود — باريزي — في أرض التلال. وقد وضعَت ناركنون نصفها الأماميَّ على حجر هاري، وأخذت تُخرخر لتهزَّ عظامهما على حدٍّ سواء.

أمسى الوقت متأخرًا للغاية. وحدق الفرسان في أكوابهم الفارغة، وفي الخارج حدَّق الرجال في النجوم، وبينما هاري تُغالب النعاس، كانت لا تزال تستمع إلى همهمة في الهواء، ولا تزال غير قادرة على تفسيرها.

قال كورلاث: «ماثين»، فانتفضت هاري واستفاقت. نظر ماثين عبر المائدة، واستقرَّت عيناه وقتًا وجيزًا على الفتاة ذات الشعر الذهبي في الرداء ذي اللون الأحمر الداكن قبل أن ينظر إلى ملكِه. وتابع كورلاث: «ستُقام مُنافسات لابرون بعد ستة أسابيع من الغد على السهول أمام المدينة.» كان ماثين يعلم هذا جيدًا، ولكن من زاوية عينه رأى الفتاة تنظر إلى كورلاث، في حيرة، ثم تُلقي نظرةً عبر المائدة نحو مُعلم اللغة الصبور الذي يتولى مسئولية تعليمها. وأضاف كورلاث: «ستشارك هريماد-سول فيها.»

أومأ ماثين برأسه؛ لقد كان يتوقع هذا، ونظرًا إلى أنه أجرى بعض التقييمات لهاري في الأيام الماضية، لم يكن منزعجًا. بلعت هريماد-سول ريقَها بصعوبة على نحوٍ ما، لكنها اكتشفَت أنها لم تُفاجأ أيضًا، وبعد يوم من امتطاء أحد خيول الحروب وامتشاق السيوف كان يمكن أن تُخمن نوع تلك المنافسات (لكن ما اللابرون؟). مسكين ماثين. تساءلَت عن رأيه في الفكرة — ستة أسابيع لتجهيز مبتدئةٍ عديمة الخبرة، حتى لو كانت قدرة الكيلار تُرشدها — وأقنعَت نفسها بأنها لا تعرف.

قال ماثين: «سوف نرحل قبل الفجر بساعتين غدًا.»

قالت هاري لنفسها: ستة أسابيع. إلى أي مدًى يمكن للمرء أن يتعلم في ستة أسابيع، حتى لو كانت إيرين تعتني به؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤