الفصل التاسع

شعَرَت، وهي تُحدق في ملك أرض التلال الذي جعلَت الظلالُ ثيابَه داكنةً وهو فوق صهوة حصانه البنيِّ المحمر، بأنها أصبحَت أسيرة السماء، والنجوم التي تتلألأ في المساء الجديد، والرمال والتلال المحيطة؛ إذ أمسك بها كلُّ هؤلاء وأحكَموا قبضتهم عليها. لقد أمسَت شخصيةً في قصة أخرى غير قصتها؛ شكلًا مطرَّزًا في إحدى المنسوجات الجدارية الخاصة بأرض التلال، تمثيلًا لشيءٍ لم يكن موجودًا في وطنها. ثم أصدر المشاهدون زئيرًا واندفعوا نحوها، فأغمضَت عينيها. لكنهم أخَذوا يربتون على كاحلَيها، ورجليها، وظهرها، ويجعلونها بشَريةً مرة أخرى؛ بُحيرةً بشرية وحظًّا بشريًّا. بدأت في تمييز الكلمات وسط الزئير: كانوا يصيحون: «هريماد-سول! لابرون مينتا! مينتا-ماستي! هريماد-سول!» واقتِيدَ تسورنين وأيسفاهل معًا، ووقَفا بصبرٍ بينما تزايدَ الحشد وتقافز حولهما. أدار أيسفاهل رأسه وأدار تسورنين رأسه، حتى تلامسَت أنفاهما المتوهِّجان مدةً وجيزة كنوع من التحية.

وبطَرْف عينها، رأت هاري كورلاث وهو يمسح قطرةَ الدم من جانب فمه بظهر يده.

تفرَّق المشاهدون بعيدًا عن مركز الحلقة التي كانوا يُشكِّلونها، وكوَّنوا مجموعاتٍ أصغرَ كانت تضحك وتتدافع بالأذرع والأيادي والأكتاف. وابتعد صنجولد وفايرهارت أحدهما عن الآخَر، وظل راكباهما صامتَين وبلا حَراك. لم تستطِع هاري النظرَ إلى كورلاث. فمدَّ يده تجاهها، ربما للمسِها، لكن تسورنين ابتعد جانبًا خطوةً واحدة فقط، فسقطَت يدُ كورلاث بعيدًا.

ظهر ماثين على الجانب الآخر من هاري ولمس مرفقَها، وابتسمت هاري بامتنانٍ لوجهه المألوف. لم يتحدَّث ماثين معها، لكنه استدار مبتعدًا، فانزلقَت عن صنجولد وتبعه الاثنان، وهما يمشيان ببطء، وقد سمحا لتعبِهما بالسيطرة عليهما في نهاية المطاف. توقَّف ماثين حيث نُصِبت خيمتا التاري الخاصتان بهما بالفعل، وانحنى على ركبتَيه لإشعال نار، متجاهلًا تلميذَيه على نحوٍ وُدي، وكانت هاري سعيدةً بتركِ مجد لابرون-مينتا جانبًا. بدأ ضباب الصداع والشعور بالاغتراب ينحسران بينما كانت تخلع سرج صنجولد على نحوٍ آلي وتُمسِّد جسده. تسلَّلت رائحةُ طبخ ماثين لتُحييَها وتُبهجها، وتُذكِّرها بمن كانت، أو من أصبحت. فقد كانت ابنةَ الفرسان.

أكلَت هاري كثيرًا جدًّا في تلك الليلة. أكلت حتى آلمَتْها معدتها — كان ماثين قد حرَص على أن يتَّبعا نظامًا غذائيًّا صارمًا أثناء التدريب — لكنها لم تكن تُدرك على نحوٍ كامل نوعَ ما كانت تأكله. جاء إليها العديدُ من المتنافسين في اللابرون الذين واجهَتهم اليوم، ليلمسوا يدها ويُقدموا ما بدا كأنه نوعٌ من الولاء، وقد تجسَّدوا على حافة ضوء النار، غيرَ واضحين مثلما قد بدَوْا لها بعد ظُهر ذلك اليوم؛ كانوا يرتدون أرديةً حمراء وزرقاء وبُنية وسوداء؛ لأن أحدًا منهم لم يكن يرتدي وشاحَ خصر، وكانت سيوفهم معلَّقةً في أغمدة على جانبهم بدلًا من إشهارها في وجهها. وخاطَبوها باسم هريماد-سول ولابرون-مينتا، وكانت أصواتهم خفيضةً وموقَّرة. أكلَت هاري كثيرًا جدًّا لأن هذا جعلها تشعرُ بأنها إنسانةٌ حقيقة أكثر.

وفي وقتٍ لاحق من المساء نُصبَت خِيَمُ تاري أخرى في مكانٍ قريب منهما؛ كانت قد لاحظت أن ماثين استخدم إناءَ طهيٍ أكبر من الذي كان يستخدمه كلَّ ليلة من أجل طعامهما مدة ستة أسابيع. وسرعان ما وجدَت أنهما كانا يتشاركان النارَ والعشاء مع إيناث وفاران وفورلوي ودابسيم وآخَرين من فرسان الملك. كانوا يشاهدون دون تعليق عندما جاء مُتنافسو اللابرون لتقديم أنفسهم لابنة الفرسان، التي استمرَّت في وضع مزيد من الطعام في طبقها، بينما هم يأتون ويغادرون. وبعد ذلك عندما نظرت هاري لأعلى رأت ماثين يُقدم طبقًا لكورلاث. جلس الملك على نحوٍ مسترخٍ، مُربعًا، وبدأ يأكل. ودَّت هاري أن تسأل لماذا كان متنافسو لابرون يُحيُّونها؛ لأن الأمر بدا أبعد من مجرد إقرار من جانب الخاسر بانتصار الفائز، لكنها لم تسأل. لقد علَّمها ماثين الصبر، وقد ظلَّت هي طوال حياتها تتعلم كيف تتَّسم بالعناد.

بدا أنه من الظلم بعضَ الشيء أن أشتكي، هكذا قالت لنفسها، مثلما اتضح الأمر — أو اتضح لي — في النهاية؛ لكن ألم يكن من الممكن أن يُخبروني قبل ذلك بقليل؟ نظرَت في عيون أولئك الذين أتَوا إليها ونادَوها بهريماد-سول، وحاولَت التفكير فيهم كأفراد، وليس كأرديةٍ وسُترات طويلة وأوشحةٍ ساقطة. ذهب كلُّ متنافسي لابرون بعيدًا دون أن تُضطرَّ إلى التحدث إليهم؛ لأنهم لم يتوقعوا منها على ما يبدو أن تردَّ عليهم بأي شيء سوى حضورها. كان هذا مريحًا ومزعجًا في الوقت نفسِه.

كان أحدُ متنافسي لابرون امرأة. وقد طرَحَت عليها هاري سؤالًا: «ما اسمك؟»

كان رداءُ الفتاة أزرقَ اللون، وفجأةً ميَّزَتها هاري على أنها الفارس الذي كان يمتطي الفرسةَ الكستنائية. فأجابت قائلةً: «سيناي.»

«أين تسكنين؟»

استدارَت سيناي لتُواجه اتجاه الشمال الغربي. وقالت: «شبارديث.» وأضافت: «إنها هناك»، وأشارت نحو الظُّلمة. ثم تابعَت: «على بُعد اثني عشر يومًا على حصان سريع.»

أومأت هاري برأسها، وغادرَت الفتاة لتعود إلى حلقة النار الخاصة بها، وجاء آخرون للتحدث إلى لابرون-مينتا التي كانت تجلس مع الفرسان والملك. وعندما نظرت حولها مرةً أخرى أدركَت أن هناك ثمانيةَ عشر شخصًا لم يُظهر الظلامُ هيئاتهم بوضوح بالإضافة إليها هي والملك؛ كان كلُّ الفرسان قد عادوا، وذلك من أي مكان كانوا فيه.

وعادَت ناركنون إلى الظهور، وعانقَتها هاري بشغف؛ لأنها شعرَت بالحاجة إلى شيءٍ تُعانقه. وقدَّمَت لها نصيبَها من اللحم، والتي قبلتها ناركنون بسرور، على الرغم من أنها حاولَت أن تدسَّ أنفها في طبقِ هاري بنفسها؛ للتأكُّد من أن هاري لم تحتفظ ببعضٍ من أفضل القطع لنفسها.

ومن ثَم خلَدَت هاري إلى النوم ولم تُراودها أيُّ أحلام، ويدها مُمسكة بمقبض سيفها، وعندما استيقظَت ووجدت يدها على هذا الحال، حدقَت في يدها كما لو أنها لم تكن تنتمي إليها.

زحفَت خارج خيمة التاري ونظرَت حولها. كان ضوء الصباح قد ظهر في السماء؛ ومع ذلك، فإن معظم النائمين داخل خِيَم التاري كانوا لا يزالون نائمين بداخلها، وكان هناك مزيد من الأشخاص الملتحِفين بالبطانيات النائمين بلا حَراكٍ حول حلقات النار الخامدة أو المحاطة بالصخور. تحرَّكَت شفتا ماثين بينما كان يُعيد بناء حلقة النار الخاصة بهما. استدارَت لتنظر خلفها. فوجدَت أن كورلاث قد ذهب، لم يكن هناك سوى تموجٍ صغير في الرمال حيث كان يرقد، أو ربما كانت تلك آثارَ الرياح فقط. قدَّم لها ماثين كوبَ مالاك. أُعيد تسخينه بعد أن برَد من الليلة الماضية، وكان مُرًّا. هزت هاري كتفيها في معطفها القاسي المتَّسخ، وهي تأمُل أن تحظى بالاستحمام في وقتٍ ما من اليوم، وتُفكر بحزنٍ في الوادي الصغير خلفها، وبركته الخضراء. كان وشاحها المقطوع مُلقًى بجانبها، حيث كانت قد وضعَته عبر فتحة باب الخيمة المفتوح في الليلة السابقة. فالتقطَته، وبعد لحظةٍ من التفكير، لفَّته حول خصرها مرةً أخرى، وربطَت حافاتِه الممزَّقة معًا حتى يظل مثبتًا. لم تفعل ذلك على نحوٍ جيد للغاية، وفكَّرَت في طلب المساعدة من ماثين، لكنها اختارَت عدمَ القيام بذلك.

بعد وحشيَّة الليلة السابقة، انخرَط الجميعُ في ذلك الصباح بهدوء في مُهمة حزمِ أمتعتهم والعودة، على ما يبدو، إلى المكان الذي أتَوا منه. وظلَّ عددٌ قليل منهم: هاري والعديد من فرسان الملك، حيث اختفى كثير منهم مع كورلاث، وربما مجموعة ممَّن يركبون الخيول لا تعرفهم، وعدد قليل من مُتنافسي اللابرون. بحثَت عن سيناي على نحوٍ يَحْدوه الأمل، لكنها لم ترَها. أصدرَت الرياحُ حفيفًا فوق الأرض الجرداء. ولولا الحُفرُ السوداء لحلقات النار الخامدة، لم يكن هناك ما يُظهر أنَّ عدة مئاتٍ من الأشخاص قد أمضَوا الأيام الثلاثة الماضية هنا.

وجَّه ماثين ويندرايدر شرقًا، شرقًا حيث كانت المدينةُ تقع بالضبط خلف أحدِ الأسطح الصخرية الغامضة أمامهم. وبدأ تسورنين يسير بالوتيرة نفسِها بجانب ويندرايدر، وجاء فيكي خلفهما، وهو لا يزال يتذمَّر بينه وبين نفسه، ثم جاء الآخرون، نحوُ ثلاثين راكبًا للخيول، يصطفُّون خلفهم. نظرت هاري من فوق كتفها عدة مرات، لتُشاهد الموكب المتعرِّج خلفها، إلى أن رأت التعبير الدالَّ على التسلية المنضبطة الذي ارتسم على وجه ماثين عندما نظر نحوَها. بعد ذلك ظلَّت تنظر إلى الأمام فقط. وأخذت ناركنون تخطو بهدوء بينهم جميعًا. كان معهم قطُّ صيدٍ كبيرٌ آخر، ذكرٌ ماهوجانيُّ اللون مرقَّطٌ وسيم أكثرُ ارتفاعًا بمقدار بوصة أو بوصتين من ناركنون، لكنها كانت تحتقره.

انطلق تسورنين وكأنه حصان يبلغ من العمر عامًا كان قد رأى العالم لأول مرة خارجَ مِضمار ترويضه. حاولَت هاري إبقاء ظهرها مستقيمًا وساقَيها هادئتَين عليه. أمسِ كانت سعيدةً بسرجها المناسب تمامًا؛ لأنه منَحها الليونة والأمان، واليوم كانت سعيدةً به لأنه دلَّها على الموضع الذي من المفترض أن ترتكز عليه ساقاها حتى عندما شعرت وكأنهما كتلتان من الخشب. إن كتفها كانت تؤلمها، ورأسها كان مضطربًا، ومعصمها الأيمن كان ضعيفًا للغاية، كما أنها كانت مصابةً بكدمة كبيرة أرجوانية اللون في بطن الساق اليسرى. وقالت لنفسها: إن حصاني يتجاهلني. أو ربما يُحاول أن يُشعرني بالبهجة. لقد أوْلَته عنايةً كبيرة في مساء اليوم السابق، ومرةً أخرى هذا الصباح، ووضعَت دواءً ملطِّفًا على الخدوش الصغيرة القليلة التي أُصيب بها. لم تكن لديه تورماتٌ تُثير القلق، ولا عَرج، وكانت عيناه لامعتَين وخطوته نشيطة. ومن ثَم جعلها تشعر بمزيد من الاضطراب. فقالت له وهي تنظر نحوَ غُرَّته: «هل تُحاول أن تجعلني أشعر بالبهجة؟» فرفع لها أذُنَه على نحوٍ يوحي بأنه سعيدٌ ومشى مختالًا.

كانوا قد بدَءوا للتو في الصعود من السهل إلى التلال عندما التفُّوا حول كتفٍ مفاجئة أخرى من الصخور، مثل تلك التي مرت بها هي وماثين عند رؤيتها لساحات لابرون لأول مرة، وهنا كان يوجد طريقٌ ممتدٌّ متَّسع يرتقي على نحوٍ حادٍّ إلى بوَّابات ضخمة ليست بعيدة. وهناك كانت تقع المدينة.

مرُّوا عبر البوابات، الواقعة تحت قوسٍ تبلغ سماكته طولَ حِصانَين، حيث تردَّد صدى حوافرِ خيولهم على نحوٍ أجوف. كانت هناك رائحةٌ غريبة باردة، مثل رائحة الكهوف، على الرغم من أن البوابات مقامةٌ منذ ألف عام. ساروا في طريقٍ عريض حيث يمكن أن يسير فيه ستةُ فرسان جنبًا إلى جنب. وقد كان مرصوفًا بالحجارة الضخمة المسطَّحة، التي كان بعضها رماديًّا أو أبيض أو أسودَ ذا تجزيعاتٍ حمراء، وعلى الجانبَين نمَتْ أشجارٌ رمادية نحيلة. وخلفها كانت توجد ممرَّات حجرية يلعب فيها الأطفال، ووراءها كانت توجد متاجرُ وإسطبلات ومستودعات وبيوتٌ حجرية، وقد وضعت أواني الزهور الحجرية في المداخل وعلى حافات النوافذ. ووقفَت الببغاوات ذاتُ اللونين الأخضر والأزرق التي كانت قد رأتها هاري في معسكر السفر فوق كثير من الأكتاف، وشارك بعضُها، مبتهجين وصاخبين، في ألعاب الأطفال. ففي كثيرٍ من الأحيان بخفقةٍ من الأجنحة كان يحمل أحدُها الحجر، أو العلامة، الذي كانت تستخدمه مجموعةٌ من الأطفال، بينما يصيح الأطفال فيه، وأحيانًا كانوا يرمون عليه الحصى، ولكنْ ذاتَ الحجم الصغير للغاية تلك.

قالت هاري: «ألا توجد أخشابٌ هنا؟ أليس هناك شيءٌ سوى الحجر؟» نظرَت إلى السقف والجدران والجملونات المتصاعدة على جانب التلِّ خلف البوابات، فقط طبقات من الحجر، الحجر المتعدِّد الألوان، وليس هناك ألواحٌ أو شرائحُ أو أفاريز خشبيةٌ منحوتة، أو مصاريعُ أو إطارات نوافذ.

قال ماثين: «يوجد لدينا أخشابٌ هنا، لكنْ لدينا أحجارٌ أكثر.»

كان إيناث يسير على الجانب الآخر لهاري مُمتطيًا حِصانه. فقال: «لا يمكن لماثين أن يرى غرابةَ هذا المكان؛ فقريتُه تستخدم الحجر أكثرَ مثل المدينة، لكنها فقط أصغر في المساحة. أما في موطني، فنحن نقطع الأشجار ونجعل سطحها ناعمًا ونشقُّها معًا، كما أن منازلنا وحظائرنا دافئةٌ وجيدة التهوية، ولا تدوم إلى الأبد، ولا تُطاردك بأشباحٍ عمرها ألفُ عام.»

قال ماثين: «نحن نستخدم الخشب.»

أومأ إيناث إيماءةً لا مبالية. وقال: «إن قاعات الاستقبال الكبيرة هنا بها ألواحٌ خشبية — سترين بعضَها في القلعة — وغالبًا ما تحتوي الردهات، حيث يعيش الناس في الواقع، على واجهات خشبية كزينة.»

قال ماثين: «وهناك كراسي وطاولاتٌ وخزائنُ خشبية.»

قال إيناث: «هناك كراسي وطاولات وخزائن حجرية أكثر. إنهم لا يُعيدون ترتيب الأثاث هنا غالبًا.»

نظرَت هاري حولها. فرأت الأبواب معلَّقةً بنحوٍ جيد على مفصلاتها بحيث كان يمكن فتحُها وإغلاقها بلمسةٍ خفيفة، ومع ذلك كانت مصنوعةً من ألواحٍ حجرية ثقيلة للغاية، لدرجة أنها تساءلَت كيف ثُبتَت في أماكنها في المقام الأول. ورأت أن الجدران القائمة بذاتها كانت في كثيرٍ من الأحيان بعرضٍ يصل إلى عرض ذراعَيها مبسوطتَين، ومع ذلك غالبًا أيضًا ما كان الجدار الداخلي المواجه للفِناء المحاط بالمنازل العالية ناعمًا جدًّا وغير سميك، ومنحوتة عليه زخارفُ معقدة للغاية، وبدا وكأنه قد يهتز بسبب أي نسيم خفيف، كما لو أن بإمكان المرء لفَّه مثل قطعة من الحرير وتخزينَه على رف.

قال ماثين: «إن مَن يمتهن أعمال البناء أو النجارة هنا يحظى بالاحترام. كما يُكرم البارعون منهم على نحوٍ كبير.»

قال إيناث: «اسمعي لما يقوله مُروِّض الخيول.»

فابتسم ماثين.

بدأ الأطفال يتصايحون: «لقد عاد مُتنافسو لابرون! والفرسان … ولابرون-مينتا!»

صاح إيناث باتجاههم: «هريماد-سول»، فاحمرَّت وجنتا هاري.

وردَّد الأطفال خلفه: «هريماد-سول»، وخرج الناس من المنازل وعبر الشوارع الأضيقِ المتفرعة من الطريق المركزي الواسع كي يُلقوا نظرة. حاولت هاري أن تنظر حولها دون أن تنظر إلى أي شخص بعينه، لكن العديد من الناظرين حاوَلوا النظر إلى عينيها، وعندما كان ينجح أحدهم، كان يلمس جبهته بمعصمه الأيمن، ثم يبسط راحة اليد الفارغة باتجاهها. وسمعتهم يقولون: «هريماد-سول»، ويُضيفون في حماسة: «دامالور-سول.» ورقص الأطفال أمام قدمَي تسورنين ليجعلوها تنظر إليهم، وصفَّقوا بأيديهم؛ فابتسمَت ولوَّحَت لهم في خجل، وسار تسورنين بحذرٍ شديد.

واصلوا المسير. في البداية كانت التلال مرئيةً خلف المباني المنخفضة، ولكن مع تقدُّمهم داخل المدينة، كانت المباني تزداد ارتفاعًا، وبدَت كما لو أنها جزءٌ من التلال نفسِها، وكانت الأشجار التي تصطفُّ على جانبَي الطريق تزداد ضخامة، حيث كان يمكن الشعورُ بظلها بينما يمرُّ المرء تحتها. ثم وجدوا أمامهم بوابةً أخرى، والجدار من حولها كان يمتدُّ إلى جوانب الجبال كما لو كان الجدار والبوابة قد تشكَّلا مع الجبال منذ قديم الأزل. مرُّوا عبر هذه البوابة أيضًا، ودخلوا إلى فِناءٍ مسطَّح واسع من الحجَر المصقول. كان لونُ هذا الحجر أبيضَ يمكن رؤية انعكاس الصور عليه، وقد كان براقًا للغاية بسبب انعكاس ضوء شمس الصباح عليه، وشعرت هاري كما لو أنها خرجَت من تحت الأرض. فرمشَت بعينَيها.

رأت أمامها قلعة كورلاث، لم يكن من الضروريِّ أن يشرح لها أحدٌ ما هو هذا الصرحُ الحجري الضخم. وأمالت رأسها إلى الوراء لترى القممَ المدبَّبة للأبراج، وهي تتلألأ مثل الماس. كانت القلعة جبلًا في ذاتها، شامخةً على نحوٍ متفاخر، وهي تجلس وسط إخوتها، بينما تلمع واجهاتُها بنحوٍ خطير. كانت الظلال التي تعكسها غيرَ متشابهة، لكنها تتَّسم بالنقاء؛ إذ يعكس أحدُ الجدران اللونَ الأبيض، ويعكس الآخَرُ اللونَ الأسود. وكان الجزء الأوسط أكثرَ طولًا من قمم التلال هنا، وصل الطريق الذي صعدوه إلى نقطةٍ بالقرب من قمة التلال الداكنة، ومثل جزيرة في بحيرةِ فوهة بركانٍ خامد، كانت القلعةُ قائمةً في فِنائها الحجري الذي يلمع مثل الماء تحت الشمس.

فتنهَّدَت هاري.

كان السُّياس يقتربون منهم بالطريقة السريعة، ولكن غير المتعجلة التي كانت تتذكَّرها من الأيام التي مرَّت عليها في الصحراء أثناء مخيَّم السفر، وشعرَت بإحساسٍ حادٍّ ومفاجئ بمرور الوقت، كما لو كان هذا منذ مدةٍ طويلة مضَت، وكان الحاضر حزينًا ومرهقًا. انزلقَت من فوق ظهر تسورنين، وقبِل هو على مضضٍ أن يُقاد عندما تحدَّث إليه أحدُ الرجال ذَوي الرداء البُني بلطف وناداه باسمه، ووضع يده فوق مقدمة ظهره. جلسَت ناركنون على نحوٍ منظم عند قدمَي هاري؛ إذ يمكن لهاري أن تشعر بذيلها وهو يتحسَّس كاحِلَيها.

وبدأ أفراد الموكب الذي صحبها في الانصراف، كلٌّ إلى غايته على نحوٍ عازم. وقال لها ماثين: «يتوجَّب عليَّ أن أتركَكِ هنا. ربما يُسمَح لنا بمنافسة بيننا مرةً أخرى ويُتاح لك صَقْلُ مهاراتك معي، يا ابنة الفرسان.» ثم ابتسم. وأضاف: «سنلتقي مرةً أخرى على مائدة الملك، هنا في المدينة.»

نظرَت هاري نحو القلعة عندما تركها ماثين، وشعرَت ببعض الوحدة، ثم فوجِئَت بأن كورلاث بنفسه هو مَن خرج لمقابلتها. فازدرَدَت لُعابها بصعوبةٍ بعض الشيء، وامتنَّت لأشعة الشمس التي أكسبَت خدَّيها سُمرةً من شأنها منعُ احمرارهما الشديد من الخجل أن يظهر بوضوحٍ مثلما يظهر على البشرة الفاتحة لفتاةٍ من الأغراب.

قال كورلاث: «ها نحن نلتقي مرةً أخرى يا هريماد-سول.» كانت هناك قشرةُ جُرح صغير عند إحدى زاويتَي فمه، وقد نظر نحوَها بوقارٍ يخلو من أي تعبيرات، هكذا قالت لنفسها؛ فهو سيد هذا المكان، ومَن أكون أنا؟ حتى لقبُ ابنة الفرسان لم يستطع أن يُشعِرَها بالارتياح بينما كان يقف كورلاث أمامها وقلعتُه خلفه متلألئة للغاية.

ولكن بعد ذلك أفسدَ تأثيرَ هالة الوقار — أو ربما كان تأثيرُ تلك الهالة قد ارتسم في الأساس أمام عينَي هاري فقط — عندما قال: «إذَن ذلك هو المكان الذي اختفَت فيه هذه القطةُ الملعونة. كان يجب أن أخمن هذا.»

لم تبدُ عليه هيبة الملوك وهو يُحدق في قطة؛ لذلك قالت هاري بفظاظة: «أتمنى لو كنتُ أعرف ما الذي يحدث.»

نظر كورلاث نحوها نظرةً متمعِّنة، ونهضَت ناركنون، برشاقة القطط المعتادة، وذهبَت لتتمسَّح بساقَي كورلاث. فانبسط وجهُ كورلاث ومسَّدَ أذنَيها. واستطاعت هاري سماعها وهي تُخرخر، وشعَرَت بصوتها تقريبًا عبر نعلَي حذائها على الحجر الأبيض. كانت ناركنون بطلةً في الخُوار. فقالت هاري: «ولا تُخبرني أنه لا أحد يعرف ما يحدث، وأن الآلهة هي التي تُقرر.»

حرَّك كورلاث وجهه ثم ظهرَت عليه ابتسامة، لكن لم تستطع هاري أن تُحدد إن كانت لها أم لناركنون. وقال: «حسنًا. لن أقول لكِ هذا. لكن سأقول إنكِ حصَلتِ على المركز الأول في منافسات لابرون، وأصبحتِ لابرون-مينتا، وهو الأمر الذي أصبحتِ تعرفينه؛ ومن ثَم فأنت أهمُّ متنافسي لابرون، التي لم تُختبَر في المعارك الحقيقية بعدُ.» ظلَّت يد كورلاث مُلقاةً بلا حَراك على رأس ناركنون. وأضاف: «سيتحرَّك الجيش، ليفعل ما في وُسعه، بعد أقلَّ من أسبوعين. وستنضمِّين لنا أنت وأفضلُ متنافسي لابرون.» ضربَت ناركنون يدَ كورلاث في غضب فتحركَت أصابعه، ثم بدأت في تمسيدِها مرةً أخرى.

وتابع كورلاث بنبرةٍ أقلَّ جِدية: «في السنوات الماضية التي أقيمَت خلالها منافساتُ لابرون، كنا نُقيم احتفالًا لمدة أسبوع في نهايتها، حيث تُغنَّى العديد من الأغاني الجميلة، ويَروي بعضُ الأشخاص أكاذيبَ حول براعتهم، ويزعم الفائز أن منافساتِ عامِه كانت هي الأفضل، ويُشرب كثير من الجِعَة والنبيذ، وتسود حالةٌ مبهجة للغاية. لكن في هذا العام ليس لدينا الوقت، والعديد من أولئك الذين كانوا سيُشاركون فيه بعيدون للغاية عن المدينة، وأولئك الذين هم موجودون هنا مشغولون للغاية، والعمل الذي يقومون به مُتعِب للغاية.» سكَت كما لو كان يأمُل أن تقول شيئًا ما، أو على الأقل ترفع عينيها عن وجه ناركنون الناعس وتنظرَ إليه، ولكن عندما نظرَت أخيرًا، حدَّق على الفور في السماء. وقال: «لكن الليلة ستُقام وليمةٌ على شرفك. فأنت لستِ الأقلَّ من بين أولئك الذين فازوا بمنافسات لابرون. وهناك الكثيرون الذين سيأتون الليلةَ فقط لإلقاء نظرة عليك.»

توقفَت هاري عن الابتسام في وجه القطة. وقالت: «أوه.»

فقال كورلاث: «تعالي معي. سأريك أين ستُقيمين إلى أن نغادر المدينة.»

تبعَته عبر الفِناء الأملس وحول أحد أجنحة القلعة، وعندما التفَّا حول نهايته برَز من الحافة، وكان مَحميًّا بالحجم الكبير للقلعة جدارٌ بدا منخفضًا في البداية، ولكن عندما اقتربا منه وجدَته بارتفاع عشرِ أقدام. وقد انحنى للخلف على نفسه كما لو كان يحمي شيئًا ما بداخله ثمينًا للغاية. وكان يوجد في الحائط باب، بارتفاعِ رجلٍ طويل. فتحه كورلاث، والتفتَ حوله باحثًا عنها. فدخلَت هي أولًا، بينما تُزاحمها ناركنون عند كعبَيها، مع شعورٍ غريب بأنه كان يُراقبها بقلقٍ من أجل معرفة ردِّ فعلها.

كان المكان جميلًا للغاية. هنا لم يكن الفِناء حجريًّا، بل عُشب أخضر، وينساب عبره جدولٌ من طرَفٍ إلى آخَر، مع وجود نافورة في المنتصف، وحصان حجري يقف على قائمتيه الخلفيتين في وسط الرذاذ المتساقط. وعلى جانبَي الماء المنساب كان هناك مسارٌ من حجارة الرصف، باللونين الرمادي والأزرق، يلتفُّ حول النافورة بالكامل. كما كانت توجد مقاعدُ حجرية منحنيةٌ على جانبَي النافورة، ينساب الماء بينها. ووراء كلِّ هذا، كان يقع ما اعتقدَت هاري على الفور أنه قصر، على الرغم من حجمه الصغير؛ فهو لم يكن أكبرَ من كوخ الحارس في منزل والدها، الذي أصبح الآن مِلكَ ريتشارد، هناك في الوطن. لكن هذا الكوخ كان يحتوي على أبراجٍ ذات قمم رفيعة في كلِّ ركن من أركانه الخمسة، وقُبة في وسط السقف المائل، مع سياجٍ رائع يحيط به. وباستثناء القبة، كان ارتفاعه طابقًا واحدًا، وكانت النوافذُ طويلةً ورفيعة. أما الجدران والسقف فعبارةٌ عن فُسيفساء من آلاف الأحجار الصغيرة المسطَّحة ذات اللون الأزرق، بألوانٍ تتنوَّع من الزَّبَرجد إلى الفيروزيِّ إلى الياقوتي الأزرق، لكن لم يكن لدى هاري أيُّ فكرة عن ماهيَّة هذه الأحجار؛ لأنها كانت غيرَ شفافة، ومع ذلك كانت تتلألأ مثل عرق اللؤلؤ. صدَرَت عنها شهقة، وبعد ذلك شعرَت بأن عينيها تملؤهما الدموع وهو ما أرعبها؛ لذلك ركضَت إلى الأمام. بدا الأمر كما لو أن حذاء الركوب الجلديَّ الذي كانت ترتديه لم يُصدر أيَّ صوت على الحجر هنا، فغمرَت يديها في مياه النافورة، ووضعت وجهها تحت الرذاذ. فهدَّأَتها برودتُه، وتراقصت القطرات حولها. وصعدت ناركنون على أحد المقاعد واستلقَت.

تبعهما كورلاث من خلال الباب الذي في الحائط ثم ذهَب إلى قصر الفسيفساء الصغير. لم يكن هناك بابٌ في المدخل الذي يعلوه قوس. دخلَت هاري ببطء. هنا التفَّ مسار الجدول حول الخلف ودخل المكان بطريقةٍ ما من فتحة خلفية؛ لأنه في وسط الحجرة الأمامية كانت توجد نافورةٌ أخرى، وامتدَّ مسار الجدول تحت الجدار الخلفي، ولكن هنا كان التمثال لحصانٍ حجري يقف على جميع قوائمه الأربعة ورأسُه مُنحنٍ ليشرب من البركة عند قدمَيه. لقد كانت توجد منسوجاتٌ تزيينية على الجدران، وأبسطة ووسائدُ على الأرض، وكانت هناك مائدة واحدة منخفضة، وكان هذا كل شيء. فتح كورلاث الباب الحجري بجانب المكان الذي يمتدُّ منه مسار الجدول تحت الجدار. فنظرت إلى الداخل. كان المسار يُشكل شلالاتٍ صغيرةً من ثلاث درجات حجرية تحت الجدار البعيد، ليمتدَّ تحت الجدار القريب ويخرج إلى النافورة في الحجرة الأمامية. وقد كان الماء يُصدر صوتَ رنين بينما كان يتساقط. كانت أرضية هذه الحجرة مغطاةً بأبسطة سميكة، وأمام الجدار المقابل للجدول كان يوجد الشيء الطويل الذي يشبه المسند الذي استخدمَته من قبلُ في مخيَّم السفر، وعلمَت أن هذه هي فكرةُ أهل التلال عن السرير، على الرغم من أنها كانت لديها آمالٌ أكبر في ارتفاع مستوى الأثاث داخل المدينة. كانت هناك وسائدُ طويلة عند أحد طرفَيه، وأغطية بحجم جسم الإنسان مطوية عند الطرف الآخر.

عادت إلى الحجرة الكبرى ونظرَت حولها مرة أخرى. كان هناك بابٌ آخر بين اثنين من المنسوجات الجدارية الطويلة اللتين باللونين الأزرق والأخضر. فاتجهت إليه وفتحته، متسائلةً عما إذا كانت ستعثر على تنينٍ ينفث نيرانًا وهو يقف على كومة من الماس، أو مجرد فجوةٍ لا قاع لها تحيط بها أحجارٌ زرقاء، ولكنها بدلًا من ذلك وجدَت مزيدًا من الفناء العشبي، وعلى بُعد خطوات قليلة كان هناك بابٌ في الحائط الذي يُحيط بهذا المكان السحري يؤدي إلى ما ظنَّت أنه لا بد أن يكون القلعةَ نفسَها.

أغلقت الباب وعادت إلى الوراء، حيث كان يُدلِّي كورلاث أصابعَه في البركة أمام الأنف الحجري للحصان مباشرةً. بدا كما لو أنه كان يُفكر مليًّا في شيءٍ ما. استندَت هاري إلى الباب خلفها، وحدقت فيه متسائلةً عما كان ينظر إليه، وانتظرَته حتى يتذكر وجودها.

نظر إلى أعلى أخيرًا، والتقت عيناه بعينيها. لم تعتقد أنها قد جفَلَت. وقال: «هل أعجبكِ المكان؟»

أومأت برأسِها، غيرَ متأكدة تمامًا من قدرة صوتها على الخروج.

فأضاف: «لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن سكَن هذا المكانَ أيُّ شخص»؛ أرادت أن تسأل كيف أُنشئَ هنا من الأساس، ومن الذي بناه بكلِّ هذا الشغف ولماذا، لكنها لم تفعل. تركها كورلاث هناك. وسار خارجًا متجاوزًا نافورةَ الحصان الذي يرتكز على قائمتَيه الخلفيتين، وعند الباب الذي دخَلا منه، توقَّف وعاد نحوها. كانت قد تبِعَته من الكوخ الصغير المرصَّع بالجواهر، ووقفَت بجوار المقعد المنخفض حيث كانت ترقد ناركنون مسترخيةً. لكنه لم يقل شيئًا، واستدار مبتعدًا مرةً أخرى، وأغلق الباب من ورائه. ذهبَت إلى الحجرة الخلفية الصغيرة التي يوجد بها الفراش وخلعَت معطفها. ثم لمسَت يداها وشاحَها الممزَّق، فلفَّت أصابعها حوله وخلعته وألقت القطعتين بعيدًا عنها. فتطايرا نحو الأرض. ثم استلقَت فوق الفراش على نحوٍ متمهل، تاركةً النصف السفلي من ساقها اليسرى معلقًا على حافتِه، إذ لم يجب أن تلمس الكدمةُ التي فيها أيَّ شيء، وأراحت كتفَها المتألمةَ برِفق.

أيقظتها امرأةٌ شابة، لكنها كانت ترتدي مثلَ زيِّ الخدم من الرجال؛ أي: رداءً أبيضَ طويلًا بدون وشاح، وكانت توجد على جبهتها العلامة نفسُها التي كانوا يحملونها. وقالت الخادمة قبل أن تنحنيَ: «ستبدأ المأدُبةُ قريبًا»، فأومأتْ هاري وجلسَت بصعوبة، وتثاءبت، وراحت تتأمَّل كدماتها التي بدَت كأنها تنتشر. ثم مدَّت قامتها، ونهضت لتقف على قدميها. لبسَت رداءها الأزرق لكنها تركت الوشاح مُلقًى على الأرض، وتبعت الفتاة خارج القصر الفُسَيفسائي وعبر باب القلعة إلى حجرةِ انتظار. نظرَت إلى اليسار ورأت حجرةً بها موائد، موائدُ مرتفعة، وكراسي حقيقية، ليست كراسيَّ مثل تلك التي اعتادت أن تراها في موطنها، لكن رغم ذلك كراسي لكلٍّ منها ظهرٌ وأرجل وبعضها بمساندَ للذراعين. وجَّهَتها الفتاة إلى اليمين وإلى حمام ضخم، حيث كان حوضُ الاستحمام نفسه غاطسًا في الأرضية، وكان بحجمِ بِركة الماء المستخدَمة خزَّانًا لطاحونة، وكان يتصاعد منه البخار. ساعدَتها الفتاة على خلع ملابسها، وجلسَت هاري لحظةً على حافة الحوض، ووضعَت قدميها المتعبَتَين فيه ببطء. أصدرَت خادمتها صوتَ هسهسة من فمها على نحوٍ متعاطف عندما رأت الكدمات.

وبمجرد أن غمرَت كاملَ جسدها في حوض الاستحمام، ظهرَت فتاتان أُخرَيان، وقدَّمَت لها إحداهما قالبًا من الصابون الأبيض. وأخذت الفتاةُ الثالثة تفكُّ شعرها المبلل — الآن بعد أن أصبح مبتلًّا، فاحت منه رائحةٌ تشبه رائحةَ الحصان — وبدأت في فركِه بالصابون السائل. وكانت رائحة هذا الصابون السائل مثل الزهور. فقالت هاري لنفسها: أراهن أن الصابون السائل الذي يستخدمه كورلاث ليست رائحتُه مثل الزهور. وكانت تُفضل أن تخلع ملابسها بنفسها — على الرغم من الأوجاع والآلام — وأن تغسل شعرها بنفسها. وراحت الفتاة التي أعطتها قالب الصابون تغسلُ ظهرها بإسفنجةٍ خشنة، وكبَتَت هاري رغبتها في الضحك؛ إذ لم يُساعدها أحدٌ في غسل ظهرها منذ أن كانت في الخامسة من عمرها.

وبعد أن انتهَت من الاستحمام، لفَّت الفتياتُ جسدها بالمناشف، وجلسَت بصبرٍ تام بينما كانت الفتاة التي غسلت شعرَها تُحاول الآن أن تفكَّ التشابك منه. كان طويلًا وسميكًا ولم يُمشط بنحوٍ ملائم منذ أسابيع. قالت هاري لنفسها على نحوٍ مبتهج: إنها ستُمشطه بطريقةٍ أفضلَ ممَّا لو كنتُ أنا من أمشطه؛ هناك مزايا للخدم، بلا شك، وهذه الفتاة لطيفة جدًّا. وجدت هاري نفسها تغفو. فقالت لنفسها: أظنُّ أنني سأبدو حمقاءَ في المأدبة الخاصة بي إذا لم أتمكَّن حتى من البقاء مستيقظة. أظن أن الأسابيع الستة الماضية ستُسبب لي عواقبَ غير سارَّة الآن، وكذلك غبار ماثين الرمادي.

وفي النهاية قامت عن كرسيِّها الذي بلا ظهر، وسقَطَت المناشف، وأُسدِلَ قميصٌ تحتي أبيض ثقيل فوق رأسها. ووضعت الخادماتُ خُفًّا مخمليًّا في قدمَيها ورداءً أحمر حول كتفيها، ولفُّوا رِباطًا ذهبيًّا حول شعرها لكن ترَكوه يتدلَّى خلفها؛ لذا كان عليها أن تنفض طرفه جانبًا عندما تجلس. في موطنها، لم تكن تترك شعرها منسدلًا بعد أن كبرَت ولم تعد طفلة؛ إذ في الليل كانت تُضفره، وأثناء النهار كانت تربطه. هزَّت هاري شعرها، وأحست بأن الأمر ممتع. في الأسابيع الماضية كانت تربطه وتُثبته بشدة تحت خوذتها، حيث لا يمكن أن ينشبك في أي شيء، مثل فرع شجرة، أو سيفِ ماثين، أو تحت سَرجِها. وقد وضعت الفتاة التي أيقظتها بعضًا من الدواء الملطف لتخفيف كدمات كتفها وساقها قبل أن يُساعدوها في ارتداء ملابسها، ووجدَت هاري أنها تستطيع التحرك بحريةٍ أكبر، كما كان الرداء خفيفًا، وقميصها التحتي ناعم الملمس.

رافقَتها الفتيات الثلاثة عبر حجرة الانتظار إلى الغرفة ذاتِ الكراسي، وانحنَينَ جميعًا لتحيتها، ونظرنَ إليها بخجل والابتساماتُ تحوم في أعينهن، فابتسمَت ابتسامةً عريضة لهنَّ وثنَتْ حافاتِ ردائها القرمزي النظيف نحوهن، فابتسمنَ بسعادة وغادرن.

جلسَت هاري في ترددٍ على أحد الكراسي ذات الأرجل الملتوية الغريبة، ومالت إلى الخلف على نحوٍ مستمتِع بالرفاهية. يمكن أن تكون الأبسطةُ والوسائد والمقاعد مريحةً للغاية، لكنها مع الأسف بلا مسندٍ للظهر، كما لم تُصنع على ما يبدو كي يُمكِنَها الاتكاءُ على جدار الخيمة؛ لم يفعل ذلك أحد، على الأقل، لذلك لم تُحاول هي. تموَّج القميص التحتيُّ حولها وهي تبسط كتفَيها أكثر على الكرسي؛ بسب عدم ارتداء وشاحِ خصر، بحسب ظنِّها.

كانت هناك قاعةٌ طويلة تستطيع أن تراها من خلال بابٍ مفتوح؛ وبعد بضع دقائق، ظهر ماثين من باب آخر عند طرَفِها البعيد وتوجَّه نحوها. كانت في يده قطعةُ قماش باللون الأحمر الداكن، وعندما دخل من الباب، فاحَت من الهواء الذي اندفع إلى الحجرة معه رائحةُ الزهور. فابتسمَت هاري.

قال ماثين: «سعيد للقائك ثانيةً، يا ابنة الفرسان»، ومدَّ ما كان يحمله في يده. كان وشاحَها القديم بعد أن غُسل. تركَت الابتسامةُ وجه هاري، وعندما قرَّب ماثين الوشاحَ منها، وهو لا يزال مُمزقًا إلى قطعتين، كما لو كان سيلفُّه حول خصرها، تراجعَت خطوةً إلى الخلف.

توقف، متفاجئًا، ونظر إلى وجهها، الذي اكتسَب سُمرة غطَّت على لونه الأبيض. وقال ببطء: «أظن أنك لا تفهمين حقيقة الأمر.» ومدَّ ذراعَيه إلى جانبيه، وأشارت يدُه إلى خطٍّ على وشاحه الأخضر الداكن. وأضاف: «انظري هنا.»

نظرَت هاري ورأى تمزقًا مشابهًا، لكنه أُصلح بعناية، بغُرزٍ دقيقةٍ صغيرة من الخيط الأصفر. فقال: «إن كل الفرسان يرتدون أوشحتهم هكذا. لقد ربح كثيرٌ منا الوشاح على يدِ الملك بعد أن فاز بالمركز الأول في منافسات لابرون — مثلما حدث لي، منذ سنواتٍ عديدة. وكان والد كورلاث هو مَن تسبَّب في هذا التمزق. اثنان أو ثلاثة منا فازوا به في أوقاتٍ أخرى. أي شخص محظوظ بما يكفي للحصول على وشاحٍ مقطوع من قِبَل سول أو سولا سيرتدي ذلك الوشاحَ بعد إصلاحه على الدوام.»

سمعَت هاري، بصوتٍ ضعيف في مؤخرة عقلها، بيث تقول: «إنهم يأتون في تلك الأرديةِ الطويلة التي يرتدونها دائمًا، والتي تُغطي وجوههم أيضًا؛ لذلك لا يمكنك معرفةُ ما إذا كانوا يبتسمون أم يعبسون، وبعضهم يرتدي تلك الأوشحةَ المرقَّعة المضحكة حول الخصر.»

قال ماثين: «سأُعلمكِ كيف تُصلحين وشاحَك؛ يجب أن تفعلي ذلك بنفسك، مثلما تُنظفين سيفك وتُقدمين الولاء للملك أمام الجميع.» ونظر إليها بمكر وأضاف: «تأكَّدي أن كلَّ تلك الأوشحة التي مزَّقتِها أنت مِن على خصور أصحابها سيحتفظون بها ويُصلحونها، وسيتباهَون بالتمزُّقات التي تسبَّبَت بها دامالور-سول التي شوهدت براعتُها لأول مرة عندما فازت بالمركز الأول في منافسات لابرون.»

سمحَت هاري لماثين بوضع الوشاح الأحمر الداكن حول خصرها مرةً أخرى. ولم يربط طرَفَي التمزُّق معًا، مثلما فعلَت هي، بحيث لا يظهر التمزق؛ وبدلًا من ذلك، أظهرَه نحو الأمام بفخر — فصرَّت هاري على أسنانها — وثبتَه بدبوسٍ ذهبي طويل. ثم تبعته في صمت عبر الممر.

كانت هناك أعمدةٌ يصل ارتفاعها إلى ثلاثة طوابق وتحمل الأسقف المقوَّسة، وقُسمت الأرضيات إلى مربعات كبيرة، بطول خطوتَين واسعتين، ولكن داخل كلِّ إطار أبيض وأسود كانت هناك مناظرُ مرسومة ببلاط الفسيفساء الصغير. حاولت هاري أن تنظر إليها وهي تمشي فوقها، فرأتْ عددًا كبيرًا من الخيول، وبعض السيوف، وبعض مناظر لشروق الشمس وغروبها فوق التِّلال والصحاري. كانت عيناها منشغلتَين للغاية بالنظر نحو الأرض لدرجة أنه عندما توقَّف ماثين اصطدمَت به.

وقفا تحت أحد الأقواس ذاتِ الارتفاع الذي يبلغ ثلاثةَ طوابق التي تحملها الأعمدة، ولكن على جانبيهما امتلأَت الفراغات بين الأعمدة الطويلة، وقد عُلِّقت المنسوجات الجدارية على هذه الجدران، ووقفا عند مدخلِ حجرةٍ ضخمة. كان ارتفاعها أيضًا ثلاثةَ طوابق، وتدلَّت ثُريَّا من السقف على سلسلةٍ بدَت بطول مئات الأقدام. نزلت هي وماثين ستَّ درجاتِ سُلَّم، تمتد إلى اثنتَي عشرة خطوةً واسعة من الأرضية، وصعدا تسعَ درجات إلى منصةٍ مربعة واسعة؛ وحول كلٍّ من الجوانب الثلاثة للمنصة وُضِعَت مائدة بيضاء اللون. وعند جانب المنصة الذي لا توجد أمامه مائدة، كانت هناك ثلاثُ درجات أخرى تصل إلى مائدةٍ مستطيلة طويلة على منصةٍ أصغر حجمًا، وحول هذه المائدة جلس كورلاث وسبعةَ عشر فارسًا. كان هناك مقعدان خاليان عن يمين كورلاث. كانت كراسيَّ، هكذا قالت هاري لنفسها بسعادة. تبدو الكراسي شائعة جدًّا في المدينة، حتى لو لم يفهموا كيف تكون الأسرَّة.

ومن ثَم جلسا وأحضر الخدمُ والخادمات الطعام، فأكلا. ألقت هاري نظرةً فاحصة على أولئك الذين كانوا يحملون الأطباق؛ بدا أن مَن يقومون بالخدمة هنا في المدينة مُقسَّمون تقريبًا بالتساوي، رجال ونساء. فالتفتت هاري باندفاع إلى ماثين، وقالت بهدوء حتى لا يسمع كورلاث: «لماذا لم تكن معنا خادماتٌ في مخيم السفر؟»

ابتسم ماثين وهو ينظر إلى ساق الدجاجة التي كان يتناولها. ثم قال: «لأنه كان هناك عددٌ قليل جدًّا من النساء معنا في الرحلة.»

قال كورلاث: «سيذهب معنا بعضُهن بعد عشَرة أيام، إذا كنتِ ترغبين في ذلك؛ لأنه حتى الجيش وهو في طريقه إلى الحرب يحتاج إلى بعض الرعاية.»

قالت هاري بصرامة: «إذا لم تكن رغبتي هذه حمقاء، فسيُسعدني أن أرى خادماتٍ يأتينَ معنا.»

أومأ كورلاث برأسه بجِدِّية، وفكرَت هاري في المأدبة الأولى التي حضرَتها، بينما كانت لا تزال تشعر بالدوار والخوف من رحلتها عبر الصحراء، وهي تصطدم لأعلى ولأسفل على قربوسِ سرج كورلاث. كانت لا تزال تشعر بالدوار والخوف؛ هكذا قالت لنفسها بحزن، ولمست الدبوس الذهبي في وشاحها؛ كان باردًا على أصابعها.

ودار حديثٌ بينما كانوا يتناولون الطعام عن منافسات لابرون التي انقضَت للتو، وكيف أنَّ ابن فلان وفلان كان يمتطي حصانه بنحوٍ جيد أو سيئ؛ كان جميع الفرسان يُشاهدون المنافسات باهتمام شديد ازداد بسبب قربِ هجوم جيش الشمال. ذكر ماثين أن امرأةً شابة تُدعى سيناي قد أبلَت بلاءً حسنًا؛ كان يجب أن يُعرض عليها مكانٌ عندما يصبح الجيش مُستعدًّا للتحرك. صنَّفها الكايسين في مرتبةٍ عالية؛ ولذا فهي كانت لا تزال في المدينة، على أمل الحصول على مثل هذا الاستدعاء.

سأل كورلاث: «مِن أين هي؟»

قطَّب ماثين حاجبَيه، محاولًا التذكُّر.

فقالت هاري: «شبارديث.»

قال ماثين متفاجئًا: «شبارديث؟ لا بد أنها ابنة ناندام العجوز. كان يقول دائمًا إنها ستنضمُّ للجيش. لقد أحسنَت صنعًا.»

قال إيناث: «إن ماثين يتحوَّل إلى بيليتو مع تقدُّمه في العمر، ألا تظنون ذلك؟» وانطلقت الضحكات حول المائدة. التفتَت هاري لتنظر إلى ماثين، واعتقدت أنه كان يبدو أكثرَ صرامةً من المعتاد. قال ماثين بحزم: «أنا أختار الأفضلَ فقط»، فضحك الجميع مرةً أخرى. البيليتو هو عاشق النساء. فابتسمَت هاري دون رغبة منها.

لم يذكر أحدٌ الأداء الرائع للفتاة فارسةِ الحصان الذهبي الكبير تسورنين التي كانت محظوظةً كي تفوز بالمركز الأول، وبدأت هاري في الاسترخاء مع مواصلةِ الجميع تناوُلَ الطعام، على الرغم من أنها أدركت، هكذا قالت لنفسها، عندما حدقَت في كأسها، أن النبيذ هو على الأرجح سببُ استرخائها.

في النهاية رُفع الطعام والشراب، ثم ساد الصمت مدةً محسوبة ومتوقَّعة، لدرجة أن هاري كانت تعلم قبل أن ترى الرجل الذي يحمل الكيس الجلدي أنهم سيُحضرون ماءَ الرؤية. استطاعت هذه المرة أن تفهم عندما تحدث الفرسانُ عما رأوه؛ كانت الحرب تظهر في أعين الجميع تقريبًا، الحرب مع جيش الشمال، الذين كان يقودهم شخصٌ كان أكثرَ من مجردِ رجل؛ وميضُ سيفه من ضوءٍ هو لون الجنون، ويملأ الرعبُ قلبَ كلِّ من يُحاول مبارزته.

ضحك فاران ضحكةً قصيرة لا تدل على البهجة، وقال إن ما رآه غيرُ مفيد لأي أحد؛ ورأى هانتل قومه قادمين نحو المدينة فوق خيولهم وهم عابسون ويحملون رسالةً لم يكن يعرف فحواها. كان هانتل من قرية في الجبال الواقعة على الحدود الشمالية لدامار. وقال: «أنا لا يُعجبني ذلك. إذ لم أرَ والدي قَط يبدو بمثلِ هذا التجهُّم.»

تنهَّد إيناث بسبب الرؤية التي رآها. وقال: «أرى بحيرة الأحلام، كما لو كان الوقت مبكرًا في الربيع؛ لأن الأشجار تحمل براعمَها. ويسير الفرسان بخيولهم على طول حافتِها، لكن عددنا هو خمسة عشر فقط.»

تناول ماثين رشفةً من الماء في فمه، وحدق أمامه؛ وبدا كأنه تحوَّل إلى حجر، تمثال في المدينة الحجرية، لكن وجهه تعرَّق، وتدحرجَت القطراتُ من جبهته. ثم تحرك، وعاد إنسانًا مرةً أخرى، لكن العرق كان لا يزال ينحدرُ منه. كان صوته خشنًا عندما قال: «أنا منفعل بشدة. لا أعرف أكثرَ من ذلك.»

بمجردِ أن أمسكَت يدا هاري بعنق القارورة، سبحَت أمامها صورة؛ في الجلد البنيِّ للكيس، من بين الزخارف المعدنية عليه، كانت هناك صورةٌ أخرى لم يضعها أيُّ صانع جلود. رأت تسورنين واقفًا في الصحراء، ويحمل راكبُه علمًا أبيض، أو قطعةَ قماش بيضاء مربوطةً بنهاية عصًا. سأل كورلاث بلطف: «ماذا ترَين؟» فأخبرَته. لم تستطِع رؤية وجه الراكب؛ لأن أنفه وذقنه كانا مُغطَّيَين بقطعةٍ من القماش الأبيض، لكنها ارتجفَت من فكرةِ رؤية وجهها وقد بدا مخيفًا للغاية، والأسوأ من ذلك، ماذا لو لم يكن وجهها؟ سار تسورنين ببطء ثم ركض، ورأت هاري ما اقترب منه؛ البوابة الشرقية لحصنِ الجنرال ماندي. ثم تلاشت الصورة، وعادت تنظر إلى الجلد المثير للفضول لكيسِ ماء الرؤية. ورفعَت الكيس إلى شفتيها.

حدَث شيءٌ مثل انفجار في رأسها وهي تتذوَّق ماء الرؤية. فارتجفَت من الصدمة. كانت ذراعها اليمنى قد أصابها التنميلُ حتى الكتف، وكانت قبضة يدها اليسرى على عنقِ الكيس هي التي منعَتها من إسقاطه. ثم شعرت بصدمةٍ أخرى كالأولى، وأدركَت أنها كانت تمتطي تسورنين، الذي صهل بغضبٍ وخوف. وبدَت السماء سوداء، وكانت هناك صيحاتٌ وصرخات في كلِّ مكان حولها، وقد تردَّد صداها كما لو كانت في وادٍ عالي الجدران. ومع صدمة أخرى من تلك الصدمات كانت ستقعُ من على السرج. شعرَت أنها مهيَّأة للسقوط عليها، ثم لم تَعُد ترى شيئًا، وظهرَت المائدة أمام بصرها مرةً أخرى. نظرت إلى يدها اليمنى؛ كانت لا تزال هناك. ورفعَت بصرها. وقالت: «أنا لا … أنا لا أعرف بالضبط ما رأيته. أعتقد أنني كنتُ في معركة و… بدا لي أنني كنتُ أخسر.» ابتسمَت بضعف. كانت ذراعها اليمنى ما تزال لا تتحرَّك بنحوٍ صحيح، وأخذ كورلاث الكيسَ من يدها اليسرى.

أخذ رشفةً بدوره؛ وشاهدت هاري، وهي تُراقبه، عينَيه وقد تغيَّر لونهما حتى بدَتا صفراوَين كما كانتا في المرة الأولى التي رأته فيها في فِناء القصر في إيستن. ثم أغلقهما، ورأت عضلاتِ وجهه ورقبته وظهرَ يدَيه متوترةً، حتى ظنَّت أنها ستنبثق من الجلد، وبعد ذلك انتهى كلُّ شيء، وفتح عينَيه، وكانتا بُنيتين. ونظر نحوها، فظنَّت أنها رأت شيئًا من رؤيته لا يزال عالقًا هناك، وكان شيئًا مثلَ رؤيتها.

قال كورلاث بهدوء: «لقد رأيتُ وجه عدوِّنا. إنه ليس جميلًا.»

ثم جاء الرجل ليحملَ ماء الرؤية بعيدًا، وعاد بالنبيذ، وأُبعدت الصورُ قليلًا. بدأ الفرسان ينظرون بترقبٍ نحو كورلاث، لكن هذا كان ترقبًا أكثرَ سعادةً من ذلك الذي توقَّعه الميلدتار، وقد شعرت هاري بالحماسة بنفسها، على الرغم من أنها لم تكن تعرف ما الغرضُ منه، وبحثَت حولها عن تفسير.

كانوا قد تناولوا وجبتهم وحدهم في القاعة الواسعة، وارتفعَت أصواتهم القليلة إلى السقف مثل أشياءَ حية لها إرادتها الخاصة. ولكن بعد أن أُخذ كيس ماء الرؤية بعيدًا، بدأ الناس في الظهور حول المنصة الصغيرة حيث كان يجلس الملكُ وفرسانه؛ وقد دخَلوا من جميع الجهات واستقرُّوا على وسائدَ أو كراسي. ارتقى بعضُهم المنصة السفلية وجلسوا حول المائدة الكبيرة التي كانت تحيط بالفرسان. ظهر مزيد من الخدم، بعضهم يحمل صوانيَ وبعضهم يحمل موائدَ منخفضة، ووضَعوا مزيدًا من الطعام، أو مرَّروه بين الجمهور المتزايد. ومن ثَم سرَت همهماتٌ بينهم، خافتة ولكنها متحمسة. فركت هاري أصابعها لأعلى ولأسفل بطول الدبوس الذهبي في وشاحها إلى أنْ عاد غير بارد.

أحضر أحدُ الرجال لكورلاث سيفه، فنهض وربط حزامه حول وسطه. تساءلت هاري بحدةٍ عن عدد السنوات التي يستغرقها المرء لتعلُّم كيفية ربط حزام السيف حول الوسط بنفس سهولة التثاؤب، ثم تساءلَت عمَّا إذا كانت تريد أن تقضيَ سنواتٍ طويلة لتعلم ذلك. أو إذا كان سيكون لديها الخيارُ لفعل ذلك. لم تكن تحبُّ الاستيقاظ لتجد نفسها ممسكةً بمقبض سيفها مثلما قد يُمسك الطفل بلعبةٍ مفضلة. ربما كان من الجيد أيضًا التفكيرُ في الكتف والخصر، والحزام والإبزيم. دخل رجلٌ آخر يحمل سيفًا آخر. فأخذ كورلاث هذا أيضًا، وأمسك الغمد في يده اليسرى، وترك الحزام يتدلى، وشهَرَه ولوَّح به، وكان يلمع، تحت ضوءِ الشموع في الثريَّا الكبيرة. كان هناك حجرٌ أزرق مثبَّت في قبضته، وقد تلألأ بتحدٍّ في الضوء. كان هذا السيف أقصرَ وأخفَّ من سيف كورلاث، لكن مرونته وطريقة تدلِّيه، وهو ينتظر، في الهواء، أعطاه مَظهرًا من العمر اللامتناهي، والوعي، كما لو كان ينظر إلى أولئك الذين ينظرون إليه. قال كورلاث: «هذا هو جونتوران»، وانتشرَت في القاعة همهماتٌ بالموافقة والاعتراف، وكان الفرسان صامتين. فتابع: «إنه أعظمُ كنز لدى عائلتي. حتى سنواتٍ قليلة في طفولته حمله كلُّ ابن من أبناء العائلة، لكن ليس من المقدَّر أن تحمله يدُ رجل، وتقول الأسطورة إنه سيخون الرجلَ الذي يجرؤ على حمله بعد عامه العشرين. هذا هو سيف الليدي إيرين، وقد مرَّت أعوامٌ طِوالٌ منذ أن كانت هناك امرأةٌ تحمله.»

كانت هاري تُحدق في النصل، ولم تسمع تقريبًا كلماتِ كورلاث؛ كانت تُشاهد امرأةً ذات شعر أحمر تمتطي حصانَها في غابةٍ بدا أنها تتَّسع على صفحة السيف اللامع؛ وفي يدها سيفٌ آخر، والمقبض يلمع باللون الأزرق.

كان جميع فرسان الملك الآخرين واقفين، ومدَّ كورلاث يدَه وأمسك بمعصمها. ثم قال: «قفي أيتها الديسي. أنا على وشكِ أن أمنحَكِ لقبَ فارس الملك.» وقفَت مذهولةً. كان ديسي تَعني طفلةً سخيفة. لكن كان هناك شخصٌ آخر يمتطي حِصانه مع المرأة التي حملت السيف الأزرق؛ ويسير خلفها ببضع خطوات.

قالت هاري: «فارس الملك؟»

أجاب كورلاث بحزم: «أجل، فارس الملك.»

أبعدَت عينيها عن حدِّ السيف البراق ونظرَت إليه. وضع رجلٌ آخرُ من الخدم إناءً مسطحًا صغيرًا من دواءٍ ملطِّف أصفرَ عند يد كورلاث اليمنى. غمس الملكُ أصابعَ تلك اليد فيه، ثم سحَبها ليدهن كفَّه بالدواء. كان قد نقل جونتوران إلى يده اليسرى؛ الآن أمسك النصل بالقرب من الحافة بيمينه، وضغط عليه بسرعة. فقال: «اللعنة»؛ إذ نزل الدمُ من بين أصابعه وتقطَّر على الأرض. فالتقط منديلَ مائدة واعتصره. ثم قال: «خُذي سيفي، يا هريماد-سول، وافعلي الشيء نفسَه، لكن ليس بحماسة شديدة. أعتقد، مع ذلك، أنَّ سيفي كاتوتشيم لا يتمتع بروح الدعابة التي يتمتعُ بها جونتوران؛ لذلك لا تَخافيه.»

غمسَت أصابعها في الدواء الأصفر ووضعَتها برفق في راحة يدها، ثم مدَّت يدها، وعلى نحوٍ ينمُّ على الحرج كما لو أنها لم تتعلَّم قَط درسًا واحدًا من ماثين، سحبَت سيفَ كورلاث من غِمده. لقد كان سيفًا طويلًا جدًّا حتى إنها اضطُرَّت إلى تثبيت المقبض على الطاولة للحصول على زاويةٍ معقولة على الحافَة. أغلقَت أصابعها حوله، وفكرَت في شيءٍ آخر، وشعرَت بجلدِ راحةِ يدها قد جُرح. ثم فتحَت يدها، فنزلت ثلاثُ قطرات من الدم فقط من أكثرِ الخطوط الحمراء نحافةً عبر جلدِها. قال ماثين من فوق كتفها: «أحسنتِ!» وهتفَ الفرسان، وهتفَت القاعة بأكملها بدورها، بأعلى صوت.

ابتسَم لها كورلاث ابتسامةً عريضة، ولم تستطِع سوى أن تبتسمَ له. قال كورلاث لها، بهدوء، وسط الهدير المحيط بهم: «كان هناك ملوكٌ وفرسان أكثرُ رشاقةً منذ بدءِ الخليقة، لكنَّنا جيِّدان أيضًا. خُذي سيفك، واهتمِّي بالعناية به. سيُحاسبك ظل إيرين إن لم تعتني به على النحو اللائق.»

أغلقَت أصابع هاري حول المقبض الأزرق، وعرَفَت على الفور أنها ستتحكَّم بهذا السيف على نحوٍ جيد جدًّا بالفعل — أو أنه هو مَن سيتحكم بها. وجدَت نفسها لحظةً تتمنَّى لو أنها كانت تحمل جونتوران يوم المنافسات، وبسبب هذا ارتسمَت ابتسامةً بطيئة ماكرة على وجهها. رفعَت عينيها إلى وجه كورلاث الذي استعاد سيفَه ووضعه في غمده، بينما كان يربط أحدُ الفرسان منديلَ المائدة حول اليد المصابة وهو يقول شيئًا ساخرًا؛ لكن كورلاث ضحك فقط والتفتَ لمشاهدتها. وابتسم لها الابتسامة البطيئة الماكرة نفسَها في المقابل؛ مما جعلها تظنُّ أنه كان يعرف ما كانت تفكر فيه.

ومن ثَم، صاح الناس: «دامالور-سول! دامالور-سول!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤