تأسيس ١

حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وقت كانت مصر قد تحوَّلت إلى دولة عظمى على الكوكب الأرضي، منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنًا من الزمان، ووقت كانت فيه بلاد العراق القديم قد انتقلت من نظام الدولة المدينية المتعددة، إلى دولة مركزية كبرى، تتالت على الحكم فيها عدة دول تركت بصماتها الحضارية في وادي الرافدين، من السومريين إلى الأكاديين إلى البابليين إلى الآشوريين، ووقت بدأ الكنعانيون في فلسطين يتحوَّلون عن نظام المشتركات المعبدية إلى نظام الدول المدينية على شكل ممالك صغيرة متجاورة، بينما شرع فرعهم الشمالي على الساحل اللبناني، والمعروف بالفينيقي، يشرع أشرعته على البحر ليغزو عالمه المجهول، ويقيم مستعمرات متفرقة على سواحله حتى الأطلسي غربًا. في هذا الوقت من الزمن، وفدت إلى بادية الشام موجاتٌ بدوية متبررة من البوادي البعيدة،١ تتدافع متلاطمة على صفحة المنطقة فيما عُرِف بالقبائل الآرامية. وحين كانت الموجات الآرامية لم تزل في طور التدفُّق، ترسل قرون استشعارها من بادية الشام، تتحسَّس ما حولها في بلاد الخصب، برز من رغاء بطونهم وأفخاذهم تلك القبيلة التي حطَّت رحلَها، عطشى جوعى، شرقي فلسطين، وحلا لها تعدد الأسماء، فعرفها التاريخ باسم العبريين، وبني إسرائيل، وشعب الله المختار، يدفعهم الطمع إلى الجموح في الطموح، للاستيلاء على مناطق الخصب الشاسعة من حولهم.

وعلى العادة البدوية، تصوروا أن بالإمكان الإغارة كرًّا وفرًّا، وفق التقاليد البدوية العتيدة، وأخلاقيات السلب والنهب، لكنهم وجدوا أنفسهم هذه المرة إزاء نوع جديد من النظم لم يألفوه، أمام دول وممالك وحضارات كبرى، ذات جيوش منظَّمة وحكومات مركزية، تتحرك كل أطرافها للعمل بمجرد أن يجذب الملك طرف الخيط داخل قصره، مما جعل الجوعى القادمين يتوقفون للتفكير مليًّا في الوسائل المناسبة لاختراق هذه الأسوار المنيعة، والأنظمة الصارمة؛ فاستكانوا على حدود الممالك المجاورة، وتعاملوا كمحطات إنذارٍ مبكرٍ لهذه الممالك إزاء أي تحركات متبررة حولها من بني جنسهم، مقابل ما تفيض به عليهم هذه الممالك من خيرات.

ومع الاحتكاك بهذه الحضارات المنتظمة في سلك المركزية، اهتدى القادمون، وأدركوا مبكرين، أن صروح الحضارة لا تخرج فجأة من الأرض بلا منابت أو جذور (وهم لا يملكون أيًّا من مقوماتها)، فقيام الكيانات المركزية يحتاج تماسكًا لا يتيسَّر للنظام الاجتماعي البدوي بفرقته، ويحتاج إلى تكاتف لجهود العمل البشري المتسق في خططٍ منظمة يصعب على الطبع البدوي، في تفرُّقه، استلهامه أو حتى استيهامه، إضافة إلى ما هو أهم من كل هذا، وأول مقومات الكيان المتماسك، وهو الأرض. ومن ثَمَّ كان لا بد من أرض أولًا، إلا أن الاستيلاء على أرض متكاملة البنيان الحضاري، جاهزة التسليم، أمرٌ غير ميسور تقف دونه هِممهم، لذلك توجهت هِممهم نحو خطة طويلة النَّفَس، تعتمد على التسلل الهادئ والبطيء من أضعف الثغرات الممكنة في المنطقة. ولم يكن هناك أمثل من مجموعة الممالك الكنعانية المتفرقة لتحقيق الغرض؛ فمصر دون الجموح ولو في الخيال، وبابل وآشور ممالك تفرض هيبتها باقتدارٍ، وبالفعل بدأ التسرُّب البطيء والهادئ إلى الممالك الكنعانية، ليستقروا فيها كمواطنين من الدرجة الثانية، وكعصاباتٍ مأجورة على الحدود أحيانًا. وآنها بدأت الأرض تتماسك من تحتهم وتلتئم وتتكوَّن، وفق الخطة اللئيمة لقيام الكيان. والكيان ليس فقط أرضًا تجود بشبع البطون، وتئوي الجسد المنهك من ارتحاله وراء الكلأ، إنما هو أيضًا تراث وراسب لخبرات قديمة وعلاقات أقدم بالأرض وطبعها وطبيعتها، وناتج جدل زمني طويل بين الإنسان وبين هذه الأرض، فهو أيضًا تاريخ، ووعي بهذا التاريخ. وهنا لا مندوحة من الاعتراف لهؤلاء الغُبْر الشُّعْث أنهم كانوا الأصدق وعيًا بالتاريخ في المنطقة، وظلوا مفتحي الأعين والأذهان دائمًا عليه، بينما كانت المنطقة في طريقها إلى غفوات متلاحقة انتهت بسُباتها الطويل الحالي.

ومن هنا أخذ هؤلاء في تمثُّل تراث المنطقة، والتراث الكنعاني بشكلٍ خاصٍّ، وهضموه بجودة عالية، ثم بدءوا إعادة صياغته بشكلٍ جديدٍ، بما يخدم مصالحهم الآنية أوانها، والمستقبلية أيضًا، بوعي نفَّاذ لهذا التاريخ ودوره، مستثمرين في ذلك العُمْلَة صادقة الرنين، أقصدُ «الدِّين».

وبالدِّين كانت بداية تاريخهم، الذي لم يكن تاريخهم أصلًا، وبالدِّين كانت بداية تواجدهم كشعبٍ يحمل تراثًا عريقًا «يكِنُّ له الغرب أعظم تقدير» على حد تعبير لويد جورج، وبالدِّين كانت بداية لغتهم بعد أن تحوَّلوا عن آراميتهم الأصلية إلى اللغة الكنعانية، إمعانًا في المصداقية مع الوعي بتمثُّل التراث والتلاحم بالتاريخ، وهو ما اعترف به الكتاب المقدس، حيث أوضح، بلا التواء — برغم التواءاته ومنحنياته الخطيرة — أن اللغة العبرية هي «شفة كنعان»، أو لسان كنعان (أشعياء، ١٩: ١٨)، وبالدِّين وتفهُّمهم لدوره، وإمكانياته التي لا تنفد، كانت بدايتهم كأصل للتَّديُّن، فاحتكروا النبوات جميعًا في نسلهم وأصلابهم، وليس هناك شهادة لهم بالتفوق الأكيد سوى التسليم لهم بهذا الاحتكار، برغم أنهم بدءوا من ديانات المنطقة — كما سنرى — لكن بعد أن أدخلوا عليها دبلجة وبرمجة ذكية، فتحوَّلت إلى دين يجمع من المتنافرات هجينًا عجيبًا، يزداد عجبه عندما نجد العقول تقبله أحسن القبول، ليصبح صاحب السيادة على عقل المنطقة بلا منازع.

وقديمًا، وحديثًا، وربما لأمدٍ مُقبِل، كان الدِّين هو الأسلوب الأكثر فعالية وعملية، وقد تمكَّن العبريون من التضلع في فنونه، واستثمروه وفق برامج جدوى عالية الكفاءة والجودة، مع انتهاز لماحٍ لكل ما يطرأ في المنطقة من تغيُّرات على مختلف الأصعدة، لنشر القناعات المطلوبة بين أهلها، ومن هنا نفهم لماذا كانوا في عجلة من أمرهم لوضع كتاب مقدس (Bible)، جمعوا له حشدًا من كل ما وقع تحت أيديهم من ميثولوجيا المنطقة وتراثها، مع التدخل بما يلزم وقتما لزم الأمر، فكان هذا الكتاب مأثرتهم الوحيدة، لكنه كان الأوحد الثابت، بعد اندثار الحضارات الأصلية، وانقطاع أهلها عن تاريخها، بينما كانت للمقدس العبري منهلًا ومنبعًا، بحيث أثبت صلابة لا تُبارى، لا نجد لها سببًا سوى الوعي بالتاريخ والتواصل معه.
١  د. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة المصرية، ط٧، القاهرة، ١٩٦٤م، ج١، ص٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤