ميثولوجيا (إيل)

في جبل إيل، جبل الله، سكناي
في الأماكن الهانئة سكناي.
(من ملحمة البعل الكنعانية)
ولنعد إلى ما قبل الوعد الإلهي بما بين النيل والفرات أرضًا خالصة (تسليم مفتاح) لبني عابر، والقبيلة تحط رحالها في أرض كنعان بهدوء الضيفان ولطف المستجير طالبًا الإجارة والجوار، وتسجل التوراة هذه اللحظات التاريخية العتيدة، فتقول:
فَأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَايَ امْرَأَتَهُ، وَلُوطًا ابْنَ أَخِيهِ، وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ، وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ إِلَى مَكَانِ شَكِيمَ إِلَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ، وَظَهَرَ الربُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ.» فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا للربِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ، ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْجَبَلِ شَرْقِي بَيْتِ إِيل وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ إِيل مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَاي مِنَ الْمَشْرِقِ (تكوين، ١٢: ٥–٨).

القبيلة العبرية هنا مختصرة، مرموز لها بقيادتها من الأسرة الإبراهيمية، تخرج من حاران تريد أرض كنعان، بإيجازٍ سريعٍ يشير إلى خط الهجرة الآرامية، وضمنها القبيلة العبرية والفخذ الإبراهيمي. ثم، وبالسرعة ذاتها، وفي إشارة خاطفة تقول التوراة: إن الكنعانيين كانوا أهل هذه الأرض وأصحابها، لكن حلقها يغص بذلك فتلتوي في تعبيرها، ولا تفصح بالتعبير المباشر، إنما تقول: «وكان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض»!

ودون مقدمات ولا ممهدات، يظهر الرب لأبرام ليهَبه الأرض الكنعانية، مسجَّلة ومشهرة وممهورة بالضمانات لولده من بعده، فهو ليس مجرد انتفاع مؤقت إبان حياته تئول بعده لأصحابها، إنما لنسله، ولنلحظ أنه لم يقل حتى لأبنائه، إنما لنسله! فالخطط معدة سلفًا، ولأمدٍ بعيدٍ مقبل.

أما العجيب في الرواية هنا فهو التعبير «فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا للربِّ الذِي ظَهَرَ لَهُ»! وهذا إنما يعني وجود أرباب لم تظهر له، وظهر أحدها، أو أن القبيلة كانت قبل نزول كنعان تعرف ربًّا محددًا غير هذا «الذِي ظَهَرَ لَهُ»، ويظهر هذا الجديد فجأة في كنعان بالذات، وهو قول يتسق مع واقع الأحوال آنذاك، فقد كان لكل شعب أرض، ورب للشعب والأرض، فهل كان هذا «الَّذِي ظَهَرَ لَهُ» ربًّا لأبرام منذ البدء، أم أنه رب كنعاني حيث حطَّت القبيلة رحالها؟ الإجابة يمكن استنتاجها من باقي الرواية التوراتية، وهي تقرر بوضوحٍ أن «إِيلَ إِلهَ إِسْرَائِيلَ» (تكوين، ٣٣: ٢٠). وهنا يجدر بنا الوقوف قليلًا لتسجيل بعض الملحوظات الهامة التي يمكنها أن تجيب على السؤال المطروح.

  • (١)

    أن الإله طوال القصص التوراتي السابق على نزول أرض كنعان، منذ بدء الخليقة إلى ظهور أبرام، لم يُذكَر أبدًا بالاسم إيل، مما يشير إلى أنه لم يكن معروفًا لهذه القبيلة في مواطنها الأصلية.

  • (٢)

    كان هذا الإله معروفًا هناك حين وصول القبيلة أرض كنعان، وله بيت مقدس يُعبَد فيه. وأصبحت المدينة المقام فيها حرمًا كاملًا له، وسميت «بيت إيل». «ثم نقل من هناك إلى الجبل، شرقي بيت إيل، ونصب خيمته، وله بيت إيل في المغرب وعاي من المشرق»، أي أنه سكن بين المدينة المقدسة «بيت إيل» ومدينة «عاي».

  • (٣)
    أن هذا الإله الكنعاني قد أصبح إلهًا لإسرائيل، أو أنهم اختاروه إلهًا، وأعلنوا أنه هو الذي اختارهم، والغرض الذي يمكن فهمه أن لكل شعب أرضًا يرتبط بها بالمواطنة والوطنية، ولا توجد شعوب دون وطن، لكن توجد «قبائل» بلا وطن، تمتهن الرعي، وترتبط ببدئية البداوة، وتنفر من عاطفة الوطنية والاستقرار، لذلك عندما قرر هؤلاء أن يتحولوا من قبيلة إلى شعب، وحلا لهم اسم «شعب الله المختار»، قاموا يمنحون أنفسهم أرضًا، منحها لهم رب الأرض ذاتها، فهو الذي اختارهم وأتى بهم إلى بلاده ليتألَّه عليهم، بعد أن ضاقت به السبل وانقطعت الوظائف، فاختارهم شعبًا خاصًّا له يمارس معهم الربوبية! وحتى لا يكون هناك تناقض، فإن الرب نفسه، بحسبانه المالك الشرعي، هو الذي منحهم أرضه الكنعانية، لذلك ما فتئت التوراة تكرر هذا المنح من الرب الكنعاني صاحب أرض كنعان بكافة الصيغ، التي أبرزها «وأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ، مُلْكًا أَبَدِيًّا، وَأَكُونُ لهم إِلهًا» (تكوين، ١٧: ٨).
  • (٤)
    وإضافة إلى كون «إيل» إلهًا كنعانيًّا قديمًا في البلاد، له بيته ومدينته المقدسة، فقد كان له كهانته المنظمة، قبل هبوط القبيلة العبرية عليه. فهذا كبير الكهنة يستضيف أبرام وأهله بعد معركة ناجحة مع أعداء للمنطقة الكنعانية، ثم يبارك أبرام باسم إيل، فيسبغ عليه المواطنة لدفاعه عن البلاد «وَمَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ، أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا للهِ الْعَلِيِّ، وَبَارَكَهُ وَقَالَ: «مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ … الَّذِي أَسْلَمَ أَعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ» (تكوين، ١٤: ١٨–٢٠). وفي المقابل تقرر أن ينال الكاهن من أبرام ورجاله الذين أخذوا يصولون في المنطقة ويجولون، العُشر من الغنائم التي يغنمها «فَأَعْطَاهُ عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (تكوين، ١٤: ٢٠)، وتمَّت الصفقة بمباركة من ملك في الجوار كان له نصيبه أيضًا، فحضر الاتفاقية «وَقَالَ مَلِكُ سَدُوم لأَبْرَامَ: «أَعْطِنِي النُّفُوسَ، وَأَمَّا الأَمْلاكُ فَخُذْهَا لِنَفْسِكَ …» (تكوين، ١٤: ٢١)، لكن أبرام يترك لهم كل شيء من الغنائم الزائلة بإباء وشَمم، ويقول للملك: «لا آخُذَنَّ لا خَيْطًا وَلا شِرَاكَ نَعْل وَلا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ لَكَ، فَلا تَقُولُ: أَنَا أَغْنَيْتُ أَبْرَامَ» (تكوين، ١٤: ٢٣-٢٤). ويتوجه للرب «إل عليون»، أو «إيل العالي» أو «الله العلي» بندائه: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، مَاذَا تُعْطِينِي» (تكوين، ١٥: ٢)، فيجيبه «أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِه الأَرْضَ لِتَرِثَهَا»، ثم لا يلبث «إل» أن يوسع على خليله، فيزيد «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ.»
  • (٥)

    إن «إيل»، إله المدينة الكنعانية المقدسة «بيت إيل»، يستمر على عهده وتصميمه في اختيار بني عابر شعبًا بديلًا لشعبه الكنعاني، فيظهر ليعقوب حفيد أبرام ليؤكد له استمرار الحلف، ويُعرِّفه بنفسه قائلًا: «أَنَا إِلهُ بَيْتِ إِيلَ» (تكوين، ٣١: ١٣).

وحتى تثبِت التوراة جدارة بني عابر بالأرض، ورب الأرض، تجعل الإله الكنعاني يمر بتجربة مريرة، يستشعر بعدها مدى حاجته الشديدة للعصابة العبرية، فتروي:

… بقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه …
وبرغم أن «حق فخذ يعقوب» قد انخلع في هذه الجولة الصراعية، فإنه يستمر ويضغط على خصمه مما يضطره إلى ترجِّيه «وَقَالَ: أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ»، وهنا، وفي هذه اللحظة التاريخية، يكشف يعقوب شخصية خصمه الحقيقية، التي تخشى النور والنهار، ويعرف فيه «إل» إله كنعان، فيرفض يعقوب إطلاقه إن لم يباركه، بما تحمل هذه البركات من أعطيات:
وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَالَ: لا أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ: يَعْقُوبُ، فَقَالَ: لا يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ، وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: أَخْبِرْنِي عن اسْمِكَ، فَقَالَ: لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟ وَبَارَكَهُ هُنَاكَ، فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَينِيئِيلَ» قَائِلًا: لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي» (تكوين، ٣٢: ٢٤–٣٠).

ومن هنا تغيَّر اسم يعقوب إلى «إسرائيل»، ليصبح أولاده من بعده يحملون اسم «بني إسرائيل»، والكلمة «إسرائيل» هي في الأصل العبري «صرع-إيل»، وتعني «مصارع الرب»، أو «صارع الرب»، وهكذا أثبت يعقوب لرب كنعان قدراته، ومن ثم استحقاق هذا الرب للحماية، وفرض الإتاوة، وسلب الأرض، ونهب العرض، ولا بأس أن تتدخل الشروحات المتفذلكة لتؤكد أن الكلمة «إسرائيل» تعني أيضًا: (جندي الرب)، أي حامي الرب والمدافع عن حياضه وذماره!

أما المكتشفات الآثارية في تل شمر (مدينة أوغاريت الكنعانية القديمة)، فقد كشفت لنا في ملامحها المتعددة عن عبادة الإله «إيل» كسيدٍ للآلهة، وخالق للبشر، وأنه كان معروفًا على نطاق واسع في هذه المنطقة، وتصفه ملحمة البعل بأنه خالق الكائنات، رفيع المقام، مقامه عند نبع النهرين قرب أفقا، أبي الزمن والسنين، لطفان «أي كثير اللطف» … إلخ.١

لكن، كما سبق وأشرنا، جدَّت ظروف أدت إلى مستجدات في جوهر الاعتقاد اليهودي، فحلَّ الجدب بأرض كنعان، مما اضطر القبيلة العبرية أن تهبط مصر، مع واحد من بني إسرائيل هو «يوسف»، حيث عاشوا أو عاثوا هناك زمنًا، خرجوا بعده بقيادة سليل إسرائيل العتيد «موسى» النبي، وتحت راية إله جديد، غلبت عليه العناصر الرعوية هو «يهوه» أو «جاهوفاه»، وإن ظلَّت فيه علامات زراعية خصيبة لم يستطع التخلص منها بحكم تأثير الوسط البيئي في اليهود. وقد أصبح «يهوه» هو إله اليهود القومي طوال تاريخهم بعد ذلك، ويبدو أنه جاء كرد فعلٍ للاضطهاد المصري، وقد وَضَحَت بدويته في مجموعة سمات (لا مجال لسردها هنا)، وكان أبرزها ما أوردناه من شرائع الحرب. وقد أدى ظهور «يهوه» إلى انتهاء «إل» تمامًا، وتحوُّله إلى رمز وعلم قديم أُدمَج في «يهوه» نهائيًّا، إضافة إلى أن بني عابر لم يعودوا في هذا الطور بحاجة لممالأة آلهة المنطقة، بعدما تيسَّر لهم جهاز الردع وتحولوا بكاملهم إلى مؤسسة عسكرية متحركة إلى كنعان، فجاء «يهوه» متَّسقًا مع طبيعة المرحلة والعنصر، مع ملاحظة أن التوراة تقول: إن موسى قد التقى بهذا الإله خارج مصر، وفي منطقة من البوادي أسمتها «مديان».

١  يمكنك الرجوع إلى ترجمة كاملة لملحمة البعل في (ملاحم وأساطير في الأدب السامي)، د. أنيس فريحة، دار النهار للنشر، بيروت، ط٢، من ص١١٣–١٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤