المقدمة

كانت ستينيات القرن العشرين فترةً عصيبةً على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. لكن بين ثنايا الحرب الباردة وحركة الدفاع عن الحقوق المدنية والمظاهرات المناهضة للحروب والحركة النسوية والثورات الطلابية وشعارات المقاومة السلبية واللاعنف والاعتصامات والتمردُّات اليسارية الراديكالية، وعلى نحوٍ لم يكد ينتبه له أحد، ظهر علمٌ جديد في أحرام الجامعات في الغرب وحتى في بعض الأقطار غير الغربية، وإن كان على نحوٍ أقل وضوحًا.

تركَّز هذا العلم على نوعٍ جديد من الأجهزة؛ ألا وهو جهاز الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني. وأُطلق على التكنولوجيا التي تعلَّقت بهذا الجهاز عدة أسماء، والتي من أشيعها «الحوسبة التلقائية» و«معالجة المعلومات». وفي البلدان الناطقة بالإنجليزية، كان يُطلق على نطاق واسع على هذا العلم اسم computer science ويعني «علم الكمبيوتر»، أما في أوروبا فكانت تُستخدم أسماء مثل informatique أو informatik وتعني «المعلوماتية».

تعني الحوسبة التلقائية تصميمَ وصناعة أجهزة قادرة على الحوسبة بأدنى تدخُّل من الإنسان، وترجع «فكرتها التكنولوجية» على الأقل إلى أحلامٍ استحوذت على عقل عالِم الرياضيات والمفكر الإنجليزي تشارلز بابدج في أوائل القرن التاسع عشر، هذا إن لم يكن لها تاريخ أقدَم من ذلك. وقد دُرس «المفهوم الرياضي» للحوسبة لأول مرة في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين على يد عالِمَي المنطق آلان تورنج الإنجليزي وألونزو تشرتش الأمريكي. لكن الدافع اللازم لإنشاء «علم تجريبي» ملائم للحوسبة كان عليه الانتظار حتى اختراع كمبيوتر رقمي إلكتروني وتصميمه وتنفيذه في أربعينيات القرن العشرين؛ أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرةً. وحتى في ذلك الحين، مرَّ هذا العلم بفترة تطوير. فلم يبرُز علمٌ مستقل له اسمه وهويته الخاصة إلا في ستينيات القرن العشرين عندما بدأت الجامعات في تقديم درجات علمية للخريجين وطلاب الدراسات العليا في علم الكمبيوتر، وخرج أول جيل من «علماء الكمبيوتر» المدرَّبين رسميًّا من أحرام الجامعات.

منذ اختراع الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني عام ١٩٤٦، لا يخفى على أحد النمو المذهل في التكنولوجيات المرتبطة بهذا الجهاز (والتي يُطلق عليها بوجه عام في الوقت الراهن مصطلح «تكنولوجيا المعلومات») وكذلك التحوُّل الثقافي والاجتماعي المصاحب لذلك (الذي يعبَّر عنه بوجه عام بمصطلحات مثل «عصر المعلومات» و«ثورة المعلومات» و«مجتمع المعلومات»). لقد اجتاحتنا فعليًّا هذه البيئة التكنولوجية الاجتماعية. وعلى الرغم من ذلك، فإن «العلم» — المنهج الفكري — الذي تقوم عليه هذه التكنولوجيا يُعدُّ أقلَّ وضوحًا، وبالتأكيد تقل المعرفة به وفهْمه خارج الأوساط العلمية لعلم الكمبيوتر. لكن لا شك أن علم الكمبيوتر يصطف إلى جانب علوم أخرى مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم المعرفية باعتباره من أهم العلوم التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. إضافة إلى ذلك، فإن علم الكمبيوتر تكتنفه بعض الغرابة التي تجذب الانتباه إليه وتميزه عن باقي العلوم الأخرى.

في هذا الكتاب، أهدُف إلى أن أقدِّم للقارئ صاحبِ الفضول الفكري والاهتمام الجاد بالأفكار والمبادئ العلمية الأساسَ لفهْم الطبيعة الجوهرية لعلم الكمبيوتر؛ وإن شئت القول، أود أن أثري الفهم العام لهذا العلم الغريب والفريد تاريخيًّا والأكثر تبعات والذي لا يزال حديثًا. بكلمات بسيطة، يسعى هذا الكتاب إلى الإجابة عن السؤال التالي إجابةً مباشرة وفورية ومختصرة: «ما علم الكمبيوتر؟»

قبل أن نبدأ، جديرٌ بنا أن نبدأ بتوضيح بعض المصطلحات. في هذا الكتاب، سأستخدم كلمة «حوسبة» للإشارة إلى نوع معيَّن من الأنشطة وفي نفس الوقت إلى ناتجه، وبالتبعية كلمة «حوسبي» ستكون صفة في هذا الإطار؛ و«كمبيوتر» للإشارة إلى الجهاز أو الأداة أو النظام الذي يُجري عملية الحوسبة؛ و«أداة» للإشارة إلى أي شيء من صنع الإنسان (أو الحيوان في بعض الأحيان)؛ و«أداة حوسبية» للإشارة إلى أي أداة داخلة في المهام الحوسبية.

وأخيرًا، لا بد من ذكر تحذير. يبدأ هذا الكتاب بقبول الافتراض القائل بأن علم الكمبيوتر هو علمٌ فعليًّا؛ بمعنى أنه يجسِّد السِّمات العامة المرتبطة بمفهوم العلم، ولا سيما أنه يستلزم مزيجًا منهجيًّا من الأساليب التجريبية والمفاهيمية والرياضية والمنطقية والكمية والنوعية للتحقيق والبحث في طبيعة نوع معيَّن من الظواهر. وتقصي هذا الافتراض جزء من فلسفة العلم ولا يدخل في نطاق هذا الكتاب. القضية الأساسية التي تهمنا هنا هي «طبيعة» علم الكمبيوتر «بصفته» علمًا، ولا سيما طابعه المستقل والمميز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤