الفصل الأول

«مقومات» الحوسبة

ما علم الكمبيوتر؟ في عام ١٩٦٧، طرح ثلاثة من أوائل المساهمين البارزين في هذا العلم وهم آلان بيرليس وألين نيويل وهيربرت سايمون إجابةً عن هذا السؤال، غير أنها باتت كلاسيكية الآن، وتقول الإجابة ببساطة إن علم الكمبيوتر هو دراسة أجهزة الكمبيوتر والظواهر المرتبطة بها.

هذه إجابة مباشرة تمامًا وأعتقد أن معظم علماء الكمبيوتر سيقبلونها بمثابة تعريف تقريبي يفي بالغرض. يرتكز هذا التعريف على جهاز الكمبيوتر نفسه، وبالتأكيد لن يوجد علم الكمبيوتر من دون جهاز الكمبيوتر. لكن ربما يرغب كلٌّ من المتخصصين في علم الكمبيوتر وغير المتخصصين في فهْم العبارتين المذكورتين في هذا التعريف فهمًا أدقَّ وهما: «أجهزة الكمبيوتر» و«الظواهر المرتبطة بها».

أوتوماتون اسمه «الكمبيوتر»

الكمبيوتر عبارة عن «أوتوماتون». في الماضي كانت تلك الكلمة — والتي صيغت في القرن السابع عشر (وتُجمع على «أوتوماتا») — تعني أي أداة تؤدي أنماطًا مكررة من الحركات والأفعال من دون تأثيرات خارجية، ويدفعها إلى حد كبير مصدرها الخاص من الطاقة المحركة. في بعض الأحيان، كانت تحاكي هذه الأفعال أفعالَ البشر والحيوانات. ابتُكرت هذه الأدوات الميكانيكية الشهيرة منذ العصور القديمة قبل المسيحية، وكان جُل استخدامها لتسلية الأثرياء، ولكن كان لبعضها استخدامات عملية مثل الساعة المائية التي يقال إنها اختُرعت في القرن الأول الميلادي على يد المهندس هيرو السكندري. وتُعدُّ الساعة الميكانيكية ذات الثقالة التي اختُرعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر سليلًا ناجحًا وباقيًا لهذا النوع من الأدوات. في الثورة الصناعية التي قامت في القرن الثامن عشر، كان تشغيل مضخة لشفط المياه من المناجم باستخدام محرك يعمل بالبخار «الجوي» والذي اخترعه توماس نيوكومن (عام ١٧١٣) وطوَّره بعد ذلك جيمس وات وآخرون (عام ١٧٦٥) يُعَد مثالًا آخر على مثل هذه الأدوات العملية.

من ثَم نجد أن الأوتوماتا الميكانيكية التي تؤدي بعض الأعمال الفعلية من نوع أو آخر لها تاريخ زاخر. أما الأوتوماتا التي تحاكي الأفعال الإدراكية فلها تاريخٌ أحدث بكثير. من الأمثلة البارزة على ذلك الروبوت السلحفاة «ماكينا سبيكيولاتريكس» (أي، «الآلة المفكِّرة») الذي اخترعه عالِم الفسيولوجيا العصبية البريطاني ويليام جراي والتر في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين. لكن الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني التلقائي الذي طُوِّر في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين كان علامة على ميلاد جنس جديد تمامًا من الأوتوماتا؛ ذلك أن الكمبيوتر كان أداة صُمِّمت لمحاكاة وتقليد أنواع معينة من عمليات «التفكير» البشرية.

إن فكرة الحوسبة باعتبارها طريقةً لمحاكاة التفكير الإنساني — أو الكمبيوتر باعتباره «جهازًا مفكِّرًا» — لهي فكرة مثيرة للاهتمام والحَيرة والجدل، وسأتناولها لاحقًا في هذا الكتاب؛ حيث إنها الأصل في أحد فروع علم الكمبيوتر الذي يسمى «الذكاء الاصطناعي». لكن يميل العديد من علماء الكمبيوتر إلى تقليل الارتباط بالإنسان عند الحديث عن علمهم. حتى إن بعضهم ينفي أيَّ صلة للحوسبة بالتفكير الإنساني المستقل. أشارت عالمة الرياضيات البارزة آدا أوجستس، ذات الأصل الإنجليزي وكونتيسة لوفليس وزميلة تشارلز بابدج (ارجع إلى المقدمة)، في أربعينيات القرن التاسع عشر، إلى أن الجهاز الذي تصوَّره بابدج (يسمَّى المحرِّك التحليلي، وكان أول تجسيد لما عُرف بعد قرن من الزمان باسم الكمبيوتر الرقمي المتعدد الأغراض الحديث) لا يدَّعي بدءَ المهام من تلقاء نفسه. فهو لا ينجز سوى الأوامر التي يمليها عليه الإنسان. وكثيرًا ما يتكرر هذا الرأي لدى المشككين العصريين في الذكاء الاصطناعي، ومنهم السير موريس ويلكس، وهو أحد الرواد في مجال الكمبيوتر الإلكتروني. فقد أكَّد في نهاية القرن العشرين مردِّدًا ما أشارت إليه كونتيسة لوفليس أن أجهزة الكمبيوتر «لا تنجز سوى المهام التي تُملى عليها».

إذن، ما الذي تنجزه أجهزة الكمبيوتر ويميزها عن باقي أنواع الأدوات، بما فيها الأنواع الأخرى من الأوتوماتا؟ وما الذي يجعل علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا مميزًا؟

تحقيقًا لهدف هذا الفصل، سأتعامل مع جهاز الكمبيوتر باعتباره «صندوقًا أسود». بمعنى أننا سنتجاهل بشكلٍ أو بآخر البنيةَ الداخلية لأجهزة الكمبيوتر وطريقة عملها؛ حيث سنتطرق إلى ذلك لاحقًا. أما في الوقت الحالي، فسنعتبر جهاز الكمبيوتر نوعًا عامًّا من الأوتوماتون، وسنتناول «المهام» التي ينجزها وليس «الكيفية» التي ينجزها بها.

الحوسبة كمعالجة للمعلومات

كل مجال يطمح إلى أن يكون «علميًّا» يتقيد ﺑ «المقومات» الأساسية المعنيِّ بها. تتمثل مقوِّمات علم الفيزياء في المادة والقوة والطاقة والحركة؛ وتتمثل مقوِّمات علم الكيمياء في الذرات والجزيئات؛ وتتمثل مقوِّمات علم الوراثة في الجينات؛ وتتمثل مقوِّمات الهندسة المدنية في القوى التي تحافظ على توازن المنشآت المادية.

والرأي السائد بين علماء الكمبيوتر هو أن المقوِّم الأساسي لعلم الكمبيوتر هو «المعلومات». ومن ثَم جهاز الكمبيوتر عبارة عن وسيلة تُستخدم لاستراد المعلومات من «البيئة» ثم تخزينها أو معالجتها أو تحويلها، ثم إعادة إطلاقها في تلك البيئة، وذلك بشكل تلقائي. وهذا يفسِّر استخدامَ مصطلح بديل للحوسبة وهو «معالجة المعلومات»؛ ويفسِّر الإشارةَ إلى علم الكمبيوتر في أوروبا بمصطلح «المعلوماتية»؛ ويفسِّر سببَ تسمية المنظَّمة المعنية بعمليات الحوسبة باسم الاتحاد الدولي لمعالجة المعلومات، والتي تشبه الأمم المتحدة في مجالها.

مكمن المشكلة هو أنه على الرغم من تأسيس الاتحاد الدولي لمعالجة المعلومات عام ١٩٦٠ (ما يعطي مباركة دولية رسمية لمصطلح معالجة المعلومات)، فإنه لا يزال ثمة قدْر كبير من سوء الفهْم بشأن ماهية المعلومات حتى يومنا هذا. وكما قال موريس ويلكس ذات مرة، إنها شيء «مراوغ».

المعلومات «غير الدلالية»

من أهم أسباب سوء الفهم هذا هو الحقيقة المؤسفة التي مُفادها أن مهندسي الاتصالات استخدموا كلمة «معلومات» بمعنًى مختلفٍ تمامًا عن معناها الدارج. عادةً ما نعني بالمعلومات أنها شيء يخبرنا بشيء عن العالَم من حولنا. في اللغة العادية، المعلومات شيء «له دلالة». فالجملة «متوسط درجة حرارة الشتاء في البلد الفلاني هو خمس درجات مئوية» تخبرنا شيئًا عن مناخ ذلك البلد؛ إنها تعطينا معلومة عن ذلك البلد. في المقابل، في فرع هندسة الاتصالات المسمى «نظرية المعلومات»، والتي ابتكر معظمها مهندس الكهرباء الأمريكي كلود شانون عام ١٩٤٨، تكون المعلومات ببساطة سلعة تنتقل عبْر قنوات الاتصال مثل أسلاك التلغراف وخطوط الهاتف. في نظرية المعلومات، تكون المعلومات مجردة من المعنى. ويطلق على الوحدة الأساسية للمعلومات في نظرية المعلومات اسم «البت» (بالإنجليزية Bit وهي اختصار للمصطلح binary digit وتعني الرقم الثنائي) ووحدة البت محصورة بين قيمتين، هما في العموم و . لكن في هذا العصر الذي كثرت فيه أجهزة الكمبيوتر الشخصية والمحمولة، زادت معرفة الناس بمفهوم «البايت». تتكوَّن وحدة البايت الواحدة من ثماني وحدات بت. وبما أن كل وحدة بت يمكن أن تحتوي على قيمة واحدة من قيمتين، فإن وحدة البايت من المعلومات يمكن أن تحتوي على قيمة محتملة تتراوح ما بين إلى . ودلالة وحدات البت (أو البايت) ليست ذات أهمية في هذا المعنى ﻟ «المعلومات».
في الحوسبة، لا شك أن معالجة المعلومات بهذا المعنى غير الدلالي لها أهمية؛ حيث (كما سنرى) إن جهاز الكمبيوتر المادي — المصنوع من دوائر إلكترونية وأجهزة مغناطيسية وكهروميكانيكية وغيرها (والتي يطلق عليها مجتمعة اسم «العتاد») — يخزن المعلومات ويعالجها وينقلها في صورة مضاعفات من وحدات البت والبايت. في الحقيقة، مفهوم وحدات البت والبايت من الطرق التي تُحدَّد بها قدرات الأداة الحوسبية وأداؤها. على سبيل المثال، يمكن أن أشتري جهاز كمبيوتر محمول يحتوي على ذاكرة داخلية بسعة جيجابايت وذاكرة خارجية (القرص الصلب) بسعة جيجابايت، (حيث إن جيجابايت = بايت)، أو يمكنني التحدُّث عن شبكة أجهزة كمبيوتر تنقل المعلومات بمعدل ميجابت في الثانية (حيث إن ميجابت = بت).

المعلومات «الدلالية» (أو ذات المعنى)

لكن جهاز الكمبيوتر المادي ليس سوى نوع واحد من الأدوات الحوسبية (كما سنرى في الفصل الثاني). والمعلومات غير الدلالية ليست سوى نوع واحد من أنواع المعلومات التي يُعنى بها علماء الكمبيوتر. فالنوع الآخر الأكثر أهمية (وربما إثارة للاهتمام) هو المعلومات التي لها دلالة: أي المعلومات «ذات المعنى». ترتبط هذه المعلومات ﺑ «العالم الواقعي»، وهذا المعنى يتطابق مع الاستخدام الدارج للكلمة. على سبيل المثال، عندما أدخل على شبكة الإنترنت من جهاز الكمبيوتر الشخصي لديَّ، فبالتأكيد أن معالجة المعلومات تحدُث على مستوًى مادي أو «غير دلالي»؛ بمعنى أن المعلومات تُنقل من جهاز كمبيوتر بعيد (الخادم) عبْر الشبكة إلى جهازي. ولكني أبحث عن معلومات تدور حول شيءٍ ما، ولنقُل السيرة الذاتية لشخص بعينه. النص الناتج عن هذا البحث الذي أقرؤه على شاشة جهازي له معنًى بالنسبة إليَّ. وعند هذا المستوى، تصبح الأداة الحوسبية التي أتفاعل معها نظام معالجة معلومات دلالية.

بالطبع يمكن أن تكون هذه المعلومات أيَّ شيء عن البيئة المادية أو الاجتماعية أو الثقافية، أو عن الماضي، أو عن خواطر وأفكار أعلن عنها أصحابها، أو حتى عن الأفكار الداخلية لشخصٍ ما إذا حدث وسُجلت أو خُزنت في مكانٍ ما. وحسبما أشار عالِم الكمبيوتر بول روزنبلوم، فإن القاسم المشترك بين المعلومات الدلالية وغير الدلالية هو ضرورة التعبير عنها باستخدام وسيط مادي مثل الإشارات الكهربية أو الحالات المغناطيسية أو العلامات على الورق؛ وأن من شأنها كذلك أن تزيل اللبس.

هل المعلومات هي المعرفة؟

لنضرب المثل على المعلومات الدلالية بالسيرة الذاتية عن شخصٍ ما. بالاطلاع عليها، يمكنني بالتأكيد أن أزعم أني أملك «معرفة» عن ذلك الشخص. وهذا يشير إلى مصدر غموض آخر بشأن مفهوم المعلومات في اللغة العادية، ألا وهو الخلط بين المعلومات والمعرفة.

لم يكن لدى الشاعر تي إس إليوت شكٌّ في وجود فرقٍ بينهما. ففي مسرحيته «الصخرة» (١٩٣٤) طرح سؤالًا شهيرًا، وهو:
أين الحكمة التي افتقدناها في المعرفة؟
وأين المعرفة التي افتقدناها في المعلومات؟

لا يخفى أن إليوت كان يشير ضمنيًّا إلى تسلسل هرمي: أن الحكمة تعلو على المعرفة، والمعرفة تعلو على المعلومات.

يتحاشى علماء الكمبيوتر بوجه عام الحديثَ عن الحكمة؛ حيث إنها تتخطى نطاق اختصاصهم. لكنهم لم يستقروا بعدُ إلى حدٍّ ما بشأن الفرْق بين المعرفة والمعلومات، على الأقل في بعض السياقات. على سبيل المثال، في مجال الذكاء الاصطناعي المتفرع من علم الكمبيوتر، كان «تمثيل» المعرفة مشكلة أساسية وطويلة الأمد، وهي تدور حول طريقة تمثيل المعرفة عن العالم في ذاكرة الكمبيوتر. نوع آخر من المشاكل التي يدرسونها هو طريقة «استنباط الاستدلالات» من مجموعة معارف. إن أنواع الأشياء التي يعتبرها باحثو الذكاء الاصطناعي معرفة تتضمن الحقائق (مثل «كل البشر فانون»)، والنظريات (مثل «التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي»)، والقوانين (مثل «لكل فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه»)، والمعتقدات (مثل «للكون إله»)، والقواعد (مثل «يجب التوقُّف التام عند إشارة الوقوف»)، والإجراءات (مثل «طريقة طهي حساء المأكولات البحرية»)، وغير ذلك. ولكن الطريقة التي تشكِّل بها هذه الكياناتُ المعرفةَ دونًا عن المعلومات غير معروفة إلى حد كبير. كما قد يزعم الباحثون في الذكاء الاصطناعي أيضًا أنهم يعالجون المعرفة وليس المعلومات في فرع تخصصهم من علم الكمبيوتر؛ لكن يبدو أنهم ليس لديهم تفسير لسبب اهتمامهم بالمعرفة دونًا عن المعلومات.

في تخصصٍ آخر يسمَّى «التنقيب في البيانات»، ينصبُّ الاهتمام على «اكتشاف المعرفة» من كميات هائلة من البيانات. بعض الباحثين في مجال التنقيب في البيانات يعرِّفون المعرفة بأنها أنماط «مثيرة للاهتمام» و«مفيدة» أو أنماط منتظمة مخفية في قواعد البيانات الضخمة. ويفرِّقون بين اكتشاف المعرفة واسترداد المعلومات (وهذا نوع آخر من أنشطة الحوسبة)، حيث إن الأخير يهتم باستعادة المعلومات «المفيدة» من قواعد البيانات على أساس استعلامٍ ما، في حين يشير الأول إلى المعرفة التي هي أكثر من مجرد معلومات «مفيدة» أو مجرد أنماط منتظمة: حيث لا بد أن تكون هذه المعلومات «مثيرة للاهتمام» بشكلٍ ذي أهمية كبيرة كي ترتقي إلى رتبة المعرفة. وكمثل تي إس إليوت، يضع الباحثون في مجال التنقيب في البيانات المعرفةَ في مرتبةٍ أعلى من مرتبة المعلومات. وعلى أية حال، يرتبط التنقيب في البيانات بمعالجة المعرفة أكثر من ارتباطه باسترداد المعلومات.

طرح فيلسوف الحوسبة لوتشانو فلوريدي وجهةَ النظر التالية عن العلاقة بين المعلومات والمعرفة. يوجد «تشابه عائلي» بين المعلومات والمعرفة. فكلاهما كِيان ذو معنًى، ولكن يدور وجه الاختلاف حول أن عناصر المعلومات منفصلة مثل اللبنات، بينما المعرفة تربط عناصر المعلومات ببعضها بحيث يستطيع المرء استنباط استدلالات جديدة عن طريق تلك العلاقات.

لنضرب مثالًا: لنفترض أنني كنت أقود سيارتي وسمعت في مذياع السيارة أن علماء الفيزياء في جنيف قد اكتشفوا جسيمًا أساسيًّا يسمَّى بوزون هيجز. لا شك أن هذه الحقيقة الجديدة («جسيم بوزون هيجز موجود») تمثِّل معلومة جديدة بالنسبة إليَّ. إنني يمكنني حتى أن أعتقد أني اكتسبت معرفةً جديدة. لكن سيكون هذا الاعتقاد وهمًا ما لم أربط تلك المعلومة بعناصر معلومات أخرى مرتبطة بالجسيمات الأساسية وعلم الكون. وكذلك لن أتمكَّن من قياس أهمية تلك المعلومة. إن علماء الفيزياء يحوزون شبكة متكاملة من الحقائق والنظريات والقوانين وغير ذلك عن الجسيمات دون الذرية وعن بنية الكون بما يمكِّنهم من استيعاب تلك الحقيقة الجديدة وفهْم أهميتها أو تبعاتها. إنهم يحوزون المعرفة اللازمة لذلك، أما أنا فلم أكتسب سوى معلومة جديدة.

هل المعلومات تُعَد «بيانات»؟

لمَّا ذكرت «التنقيب في البيانات»، طرحت مصطلحًا جديدًا ذا صلة كبيرة وهو «البيانات». وهنا يكمُن مصدرٌ آخر من مصادر الغموض في فهْمنا لمفهوم المعلومات، لا سيما في أوساط علم الكمبيوتر.

أشار عالِم الكمبيوتر دونالد كنوث لهذا الإشكال — بل اختلاط المعاني — منذ عام ١٩٦٦، وهو الوقت الذي ظهر فيه علم الكمبيوتر باعتباره مجالًا علميًّا قائمًا بذاته، وكان يتطلب صياغة مفاهيم جديدة وتوضيح مفاهيم قديمة. ذكر كنوث أن في العلم ثمَّة ما يبدو أنه اختلاط من نوعٍ ما فيما يتعلَّق بمعاني المصطلحين «المعلومات» و«البيانات». فعندما يُجري عالمٌ ما تجربةً تحتوي على قياس، فإن ما يستنبطه قد يكون واحدًا من أربعة كِيانات وهي: القيم «الحقيقية» لما تم قياسه؛ والقيم التي حصل عليها بالفعل أو التقديرات التقريبية للقيم الصحيحة؛ وتمثيل تلك القيم؛ والمفاهيم التي يستخرجها العالِم من تحليل القياسات. وشدَّد كنوث أن كلمة «بيانات» تنطبق وتتلاءم أكثرَ مع الكيان الثالث من تلك الكيانات. وعلى حد قول كنوث باعتباره عالِم كمبيوتر، فإن البيانات هي «تمثيل» المعلومات المستخرجة عن طريق الملاحظة أو القياس بصورة دقيقة. ومن ثَم بناءً على رأيه، فإن المعلومات تسبق البيانات. ولكن عمليًّا، فالعلاقة بين المعلومات والبيانات غامضة مثلها مثل العلاقة بين المعلومات والمعرفة. وهنا، لا يسعني سوى الاستشهاد ببعض وجهات النظر المختلفة عن هذه العلاقة.

يرى عالِم الأنظمة والإدارة البارز راسل أكوف أن البيانات تُعَد نتيجة الملاحظات؛ أي أنها تمثيلات للأشياء والأحداث. أما بشأن المعلومات، فتخيَّل أكوف أن أحدًا يطرح بعض الأسئلة التي تنطوي على بيانات ثم تمر ﺑ «المعالجة» (على الأرجح من قِبل إنسان أو آلة) لتقديم إجابات عليها، وتلك الإجابات هي المعلومات. وبذلك يرى أكوف أن البيانات تسبق المعلومات، وهذا مناقضٌ لرأي كنوث.

ويرى لوتشانو فلوريدي أيضًا أن البيانات تسبق المعلومات ولكن بمعنًى مختلف. وفقًا لرأي فلوريدي، لا توجد البيانات إلا في غياب الاتساق بين حالتَي نظامٍ ما. فعلى حد تعبيره، توجد الوحدة الواحدة من البيانات (بالإنجليزية datum وهي الصيغة المفردة غير الشائعة الاستخدام لكلمة data) أينما وُجد المتغيران و بحيث لا يساوي . هكذا طبقًا لفلوريدي فإن البيانات عبارة عن حالة ليس لها معنًى في حد ذاتها باستثناء أنها تدُل على وجود فرْق. فعندما أقترب من إشارة مرور، على سبيل المثال، رؤيتي لإشارة حمراء عبارة عن وحدة واحدة من البيانات لأنها كانت من الممكن أن تكون لونًا آخر؛ الأصفر أو الأخضر.

بناءً على هذا التعريف للبيانات، يعرِّف فلوريدي المعلومات بأنها عنصر أو عدة عناصر من البيانات المبنية وفقًا لقواعدَ معينة، والتي تكون ذات معنًى. وفي اصطلاح اللغويين، تكون المعلومات بيانات عندما تمتلك كلًّا من البناء والمعنى الدلالي. وبذلك تصبح رؤيتي للإشارة الحمراء — وحدة واحدة من البيانات — معلوماتٍ لأن معنى الإشارة الحمراء هي «ضرورة توقُّف سائقي المركبات عند إشارة المرور». وإذا لم أربط هذا الإجراء بالإشارة الحمراء، فستظل الإشارة الحمراء مجرد وحدة بيانات.

لنضرب مثالًا أخيرًا، يرى الباحثان في الذكاء الاصطناعي جيفري شراجر وبات لانجلي أن البيانات لا تنتج عن الملاحظة، بل إن الملاحظة هي البيانات؛ بمعنًى أدق، ما يلاحَظ يسجَّل بشكل انتقائي كي يرتقي إلى مرتبة البيانات. ولا تظهر المعلومات في مخططهم للأشياء.

وجهة نظر المبرمجين

هذه الأمثلة كافية لتوضيح الغموض في وجه الصلة بين المعلومات والبيانات من وجهات نظر مختلفة. لكن لنرجع إلى كنوث. أعتقد أن تعريفه يبرز إلى حدٍّ كبير وجهةَ نظر علماء الكمبيوتر المتخصصين في ضربٍ آخرَ من علم الكمبيوتر اسمه برمجة الكمبيوتر — وهي الأساليب التي يستخدمها الإنسان كي يملي مهمةً حوسبية على الكمبيوتر (وسأناقش هذا الموضوع لاحقًا في هذا الكتاب). وعلى الرغم من أن المبرمجين ومنظِّري البرمجة يؤيدون بألسنتهم فكرة أن الحوسبة عبارة عن معالجة للمعلومات، فإنهم لا يهتمون ﺑ «المعلومات» بوجه عام، بل إنهم يهتمون أكثرَ بفكرة كنوث عن البيانات. بعبارة أدق، يهتم أولئك بالبيانات باعتبارها العناصر الأساسية (عناصر البيانات) التي تُنفذ العمليات الحوسبية عليها؛ ومن ثَم فهم منشغلون بتصنيف عناصر البيانات (أنواع البيانات)، وقواعد تمثيل عناصر البيانات المعقَّدة (هياكل البيانات)، وقواعد استخدام عناصر البيانات ومعالجتها وتطويرها بهدف إنتاج عناصر بيانات جديدة. بالنسبة إلى علماء الكمبيوتر هؤلاء، البيانات هي ما تهمهم، وليس المعلومات أو المعرفة. لمزيد من الدقة، يسلِّم المبرمجون جدلًا بأن المعلومات «موجودة» في «العالم الحقيقي». لكن المسألة التي تثير اهتمامهم هي طريقة تمثيل معلومات العالم الحقيقي في شكلٍ لا يتلاءم مع الحوسبة التلقائية فحسب، بل مع فهْم الإنسان أيضًا. (غني عن التوضيح أن الممارسين الآخرين مثل علماء التاريخ والإحصاء والعلماء التجريبيين لا ينظرون عادةً إلى البيانات من تلك الزاوية.)

سأتناول هذا الموضوع بمزيدٍ من التفصيل في موضع لاحق من الكتاب. لكن لنضرب مثالًا بسيطًا للغاية على رؤية المبرمجين للبيانات: في البيئة الجامعية، ستكون ثمَّة معلومات في مكتب أمين السجلات عن الطلاب المسجلين، ومنها أسماء الطلاب وتواريخ ميلادهم وعناوين منازلهم وعناوين البريد الإلكتروني، وأسماء الوالدين أو أولياء الأمور، وموضوعات التخصص والدورات التدريبية التي درسوها والدرجات التي حصلوا عليها والمنح الدراسية والرسوم المدفوعة، وغير ذلك. تحتاج إدارة الجامعة إلى نظام ينظِّم هذه المعلومات بطريقة منهجية (قاعدة بيانات) بحيث يمكن استرداد المعلومات التي تخص أيَّ طالب بعينه بدقة وبسرعة، وكذا إدخال معلومات جديدة عن الطلاب الحاليِّين أو الجدد، وتتبُّع تقدُّم فرادى الطلاب تتبُّعًا فعالًا، وجمع الإحصاءات عن الطلاب جملةً أو عن مجموعة منهم. المبرمج الذي توكل إليه هذه المهمة لا تعنيه المعلومات في حد ذاتها، بل تعنيه — بناءً على طبيعة المعلومات — طريقةَ تحديد عناصر البيانات الأساسية التي تمثِّل معلومات الطالب، وشكل هياكل البيانات التي تمثِّل عناصر البيانات، وبناء قاعدة بيانات تسهِّل على إدارة الجامعة المهامَّ الحوسبية التي تريدها.

البنيات الرمزية باعتبارها القاسم المشترك

بدأت هذا الفصل باقتراح أن المقوم الأساسي للحوسبة هو المعلومات، وأن الكمبيوتر عبارة عن أوتوماتون يعالج المعلومات، وعليه يكون علم الكمبيوتر هو دراسة معالجة المعلومات.

ولكننا رأينا أيضًا أن بعض علماء الكمبيوتر (مثل الباحثين في الذكاء الاصطناعي) يرون أن المقوم الأساسي للحوسبة هو المعرفة وليس المعلومات؛ ويرى آخرون (مثل المبرمجين ومنظِّري البرمجة) أن البيانات هي المقوم الأساسي وليس المعلومات. سنتعرَّف على الاستخدامات المتنوعة لهذه الكيانات الثلاثة من النموذج التالي للمصطلحات الواردة في المؤلفات عن الحوسبة (والتي قد ورد بعضها بالفعل في هذا الفصل، وسيظهر غيرها في فصول لاحقة):

نوع البيانات، عنصر البيانات، هيكل البيانات، قاعدة البيانات، معالجة البيانات، التنقيب في البيانات، البيانات الضخمة …

معالجة المعلومات، نظام المعلومات، علم المعلومات، هيكل المعلومات، تنظيم المعلومات، تكنولوجيا المعلومات، تخزين المعلومات واستردادها، نظرية المعلومات …

قاعدة المعرفة، نظام المعرفة، تمثيل المعرفة، هيكل المعرفة، نظرية المعرفة، المعرفة التقريرية، المعرفة الإجرائية، اكتشاف المعرفة، هندسة المعرفة، مستوى المعرفة …

هل يمكننا إذن اختزال هذه الكيانات الثلاثة — المعلومات والبيانات والمعرفة — إلى قاسم مشترك؟ في الحقيقة يمكننا ذلك. عالم الكمبيوتر بول روزنبلوم جعل المعلومات نظيرًا «للرموز»، ولكن يمكننا المضي إلى ما هو أبعد من ذلك. فبقدرِ ما يتعلق الأمر بعلم الكمبيوتر، يمكن التعبير عن هذه الكيانات الثلاثة (وعادةً ما يعبَّر عنها بالفعل) باستخدام الرموز — أو بالأحرى باستخدام أنظمة الرموز أو «البنيات الرمزية» — أي، الكيانات التي «ترمز إلى» كيانات أخرى أو تمثلها أو تدُل عليها.

تحتاج الرموز إلى وسيط للتعبير عنها، مثل العلامات على الورقة. على سبيل المثال، النص «جسيم بوزون هيجز موجود» عبارة عن بنية رمزية تتكون مكوناتها الرمزية من حروف أبجدية تشير إلى وحدات صوتية أو صُويتات بالإضافة إلى رمز «المسافة»، وعندما تُجمع هذه الرموز بعضها مع بعض فإنها تمثِّل شيئًا عن العالم المادي. في نظر غير المتخصص في الفيزياء، فهذا النص عبارة عن معلومة، ولكن في نظر عالِم فيزياء الجسيمات، يصبح هذا النص جزءًا أساسيًّا من نظام معرفته فيما يخص الجسيمات الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن معرفة عالِم الفيزياء التي تتيح له فهْم هذه المعلومة هي في حد ذاتها عبارة عن بنية رمزية بالغة التعقيد مخزَّنة في دماغه أو مكتوبة ضمن نص في الكتب أو المقالات. وفكرة كنوث عن البيانات بأنها تمثيل للمعلومات تعني أن تلك البيانات أيضًا عبارة عن بنيات رمزية تمثل بنيات رمزية أخرى تدل على معلومات. حتى المعلومات «غير الدلالية» في نظرية المعلومات — وحدات البت والبايت — تُمثَّل بالرموز الفيزيائية داخل الكمبيوتر، مثل مستويات الجهد أو الحالات المغناطيسية، أو تُمثَّل على الورق باستخدام سلاسل مكوَّنة من و .

ومن ثَم من حيث الأساس الأكثر جوهرية، فإن مقوم الحوسبة هو البنيات الرمزية. إذن، الحوسبة هي معالجة الرموز. وأي أوتوماتون قادر على معالجة بنيات رمزية هو كمبيوتر. وعلى حد تعبير بيرليس ونويل وسايمون، يمكن اختزال «الظواهر» المرتبطة بأجهزة الكمبيوتر في نهاية الأمر إلى بنيات رمزية وعمليات معالجتها. وبذلك يصبح علم الكمبيوتر في نهاية المطاف هو علم المعالجة التلقائية للرموز، وهي الرؤية التي أكَّد ألين نويل وهيربرت سايمون عليها. يجوز لنا أن نطلق على البنيات الرمزية اسم المعلومات أو البيانات أو المعرفة بناءً على «الثقافة» الخاصة التي ننتمي إليها ضمن مجال علم الكمبيوتر.

وهذا المفهوم — الذي يرى أن الحوسبة هي في الأخير معالجة الرموز، وأن الكمبيوتر هو أوتوماتون يعالج الرموز، وأن علم الكمبيوتر هو علم معالجة الرموز — هو ما يميِّز علم الكمبيوتر عن باقي العلوم. أما فيما يتعلق بغرابته، فهذا ما سنتناوله في فصل لاحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤