بداية النهاية!

بحث «عثمان» عن عامل الجراج فلم يجده، فقطع الطريق إلى سيارته قفزًا فوق أسقف السيارات حتى وصل إليها … لكن لم يستطع أن يفتح بابًا من أبوابها، وحقيبة المعدات مختفية تحت المقعد الأمامي المجاور لمقعد السائق … فحاول رفع السيارات المحيطة بها فلم يُفلح، وقد ظلَّ في الجراج يبحث عن حل فلم يجد إلا آلة رفع السيارات (الكوريك)، فحطَّم بها زجاج السيارات الخلفي … وعاد جريًا وبيده حقيبة معداته التي طلب من عم «شعبان» أن يخفيها عنده بعد أن حصل منها على علبة المنوِّم، وبدأ في صنع عود من البخور، فوضع عجينةً من نشارة الخشب التي قشَّرها بمطواة من عصا عم «شعبان»، وبعض الأعشاب، وكثيرًا من زيت المسك، وقبل وصول الضيف بدقائق … كان «مارلو» قد تسلَّم أقراص المنوِّم، وعُود البخور … إلا أن «عثمان» أصرَّ أن يبقى معه بالشقة ليتابع كل ما سيحدث؛ فقد يكون للعقار طريقة خاصة لحقنه، ووعده ألَّا يظهر بالمرة، وكان لغرفة الاستقبال سقف معلق وله فتحة بعرض الغرفة يخرج منها ضوء سحري؛ أي يختفي مصدره، فتمدَّد «عثمان» في هذه الفتحة، ومن ثقب صغير رأى كل ما في الصالة واضحًا أمام عينه.

لم تمضِ ثوانٍ إلا ودقَّ جرس الباب … ودقَّ معها قلب «مارلو»، وتحفَّزت حواس «عثمان». وفي غرفة الاستقبال وتحت بصر «عثمان» جلس رجل قصير القامة نحيف العود أصفر الشعر أزرق العينَين ولكنه أسمر … فشك في ألَّا يكون هذا لون شعره، وأنه يرتدي عدسات ملونة … أيكون له فترة كبيرة في مصر … وتعرَّض لشمس صيفها وقتًا طويلًا؟

أحضر «مارلو» كأسًا من عصير البرتقال المثلَّج، فرفض الرجل شاكرًا أن يشربه، فأصرَّ «مارلو» أن يُحضر له مشروبًا آخر … فطلب منه فقط كوب ماء … فغمغم «عثمان» يقول في سره: طبعًا كوب الماء لا يمكن إذابة المنوِّم فيه حتى لا يفتضح أمره. وعاد «مارلو» يحمل عود البخور، فثبَّته في شمعدان قريب منه، فنهض الرجل وجلس بعيدًا وبدأ يمسح حول عينه في حذر، فتأكَّد «عثمان» أنه يرتدي عدسات ملتصقة.

ودار حوار قصير بين «مارلو» والرجل قصد به أن يُطيل جلوسه بجوار الدخان … ولكن طلب منه أن يشمِّر عن ساعده بسرعة لينهي مهمته، وبمجرد أن حقنه نهض لينصرف على عجل، ولكنه اصطدم بمنضدة في الطريق ثم بباب الغرفة، وبعدها طلب من «مارلو» أن يذهب إلى دورة المياه، فوجد «عثمان» الغرفة خالية، فقفز من مكانه برشاقة، وخبَّأ الأُنبول الذي تركه الرجل على الكرسي الذي كان جالسًا عليه.

ومن دورة المياه توجَّه الرجل إلى باب الخروج مباشرة، فودَّعه «مارلو» وعاد إلى «عثمان» قلقًا؛ فالمهمة التي خطَّطوا إليها لم تكتمل، فلم يفصح «عثمان» عمَّا حصل عليه، وشكره على معاونته له، وطلب منه أن يكون على اتصال دائم بهم عن طريق رقم تليفون خاص جدًّا.

عندما علم «أحمد» بحصول «عثمان» على أنبول العقار، شعر بارتياح عميق؛ فلم تعد هناك وسيلة ضغط تمنعهم من العمل بحرية، ولم يبقَ سوى الحصول على «إلهام» قبل أن يقتلها العقار، أو تقوم بعمل خطير لإنقاذ نفسها، رغم أنه متأكد من أنها لن تفعل ذلك؛ فهم يحملون أرواحهم على أكفهم في سبيل الحق. فاتصل ﺑ «قيس» فلم يُجِب، ثم أعاد الاتصال، فجاوبه بإشارة على شاشة الساعة يقول له: «تمهَّل.» فعرف أن هناك مواجهةً ما ستقع، فاتصل بالمقر وكانت المفاجأة … فقد جاوبته «إلهام» تطلب منه الذهاب فورًا إلى المقر؛ فهي في انتظاره لأمر غاية الأهمية.

وكأن سيارته هي التي تلقَّت الرسالة … فقد اندفعت تقطع الطريق إلى شارع الهرم كالصاروخ، و«أحمد» يحاول الاتصال ﺑ «عثمان» فلا يجيب، فطلب «إلهام» في المقر وأخبرها أن تداوم الاتصال به؛ فلديه العقار المضاد. كادت أن تبكي من شدة الضغط العصبي التي كانت معرَّضةً له … ولم تترك جهاز الإرسال إلا وقد جاوبها «عثمان» الذي كان في موقف حرج للغاية؛ فقد حضر «هاري» وهو ينتظر انصرافه من عند «مارلو» ليتبعه، ولكنه أصرَّ طبعًا على أن يلحق «إلهام» بالعقار المضاد خوفًا على حياتها، رغم أنها أصرَّت على أن يبقى مكانه لإتمام مهمته، فأسرع إلى الجراج فوجد سيارته لحسن حظ «إلهام» تقف في الخارج والعامل يعتذر عن تحطُّم زجاجها، ووعده أن يُعوِّضه.

فلم يُمهله «عثمان» وقتًا ليكمل حديثه، بل انطلق يلتهم الطريق هو الآخر إلى شارع الهرم. وفي منتصف الشارع فاجأته سيارة مسرعة، فحاول أن يتفاداها ولكن وجد الفرامل معطَّلة … حتى فرامل اليد، فانحرف ليصعد الرصيف وانقلبت به السيارة، فتوقَّفت أكثر من سيارة على الطريق وحاول أصحابها أن يُعيدوها إلى وضعها … ولكنهم فشلوا، فأحضر أحدهم آلة الرفع (الكوريك) وثبَّتها تحت جانب السقف ثم رفعه حتى مالت ميلًا كبيرًا مكَّنهم من إعادتها إلى وضعها الطبيعي … وأسرعوا بفتح الباب فلم يستجب … فدخل أحدهم من الزجاج الخلفي المكسور، وأخرج «عثمان» الذي أصابته الصدمة بدوار شديد … ومع ذلك لم ينسَ أن يضع يده على جيب سترته ليتأكَّد من أن الأنبول بخير، وسمع صوتًا مألوفًا يسأل بثقة ورغبة صادقة في المعاونة قائلًا: هل الوضع سيئ؟ ألَا أستطيع المعاونة؟

فصاح به «عثمان»: نعم يا «أحمد» …

لم يُفِق «عثمان» من تأثير الصدمة إلا عندما رأى «إلهام» بخير، فسلَّمها الأنبول وهي تنظر لهم بامتنان شديد وتسألهم قائلة: هل سآخذ كل الجرعة؟

فقال «عثمان»: لا … لقد سحب الرجل منه … سنتيمترَين فقط، وقد شاهدت المحقن بنفسي، فشمَّرت عن ساعدها وقام «أحمد» بحقنها وهي تقول له مداعِبة: إنك أمهر ممرضة قابلتها.

و«أحمد» يرد مداعبتها قائلًا: وأنت أجمل مريضة رأيتها.

عقد الشياطين الثلاثة اجتماعًا مصغَّرًا كان أول ما بحثوه فيه … من الذي عطَّل فرامل سيارة «عثمان»؟ وهل هو حادث مدبَّر؟ ومن الذي دبَّره؟ وإذا كان حادثًا مدبَّرًا … ذلك يعني أنهم اكتشفوا أمره … ولكن الأمور كانت تسير على ما يرام … إذن متى عرفوا شخصيته؟ وكان «أحمد» أهدأهم أعصابًا، ففسَّر الأمر على أن الرجل الذي حقن «مارلو» اكتشف ضياع الأنبول بعد انصرافه … استعاد ما حدث بالشقة وساورته الريبة، فبثَّ شكوكه لقيادته … وبعدها حضر «هاري» عندما رآه «عثمان»، فاستجوب «مارلو» وقام بتهديده … ففضح أمر «عثمان»، وبالسؤال عنه عرفوا أنه غريب عن المنطقة، وأنه يتردَّد على الجراج كثيرًا. وكانت سيارته هي السيارة الوحيدة الغريبة عن المنطقة.

صاح «عثمان»: هذا تفسير رائع … وهو يعني أن «مارلو» الآن في خطر …

صاحت «إلهام»: نعم ومن الجائز ألَّا نلحقه … فمن المؤكَّد أنهم تركوا الشقة الآن …

علا صفير جهاز الإرسال … فالتفتوا ثلاثتهم إلى الشاشة، وكانت رسالة من «قيس» يخبرهم أن دعوته للعشاء قد تغيَّر مكانها … ولم يخبروه بعدُ بالمكان الجديد، فسوف يرسلون له سيارةً في الساعة السابعة مساءً تحمله من المهندسين إلى مكان الدعوة … وقد علم أنهم سيقيمون حفلًا غنائيًّا، يتخلَّله عشاء على ضوء الشموع … وأنهى الرسالة قائلًا: «انتظر الأوامر.»

فأخبره «أحمد» أنه سيعيد الاتصال به، وما كاد يُنهي الرسالة حتى صاحت «إلهام» قائلة: لقد عرفت أين ستكون الحفلة … ستكون في إحدى البواخر النيلية … وستكون رحلةً في عمق مياه النيل … قرب القناطر الخيرية … وسيتم تفجير الباخرة، وكنت أنا المكلَّفة بذلك، وكان «أحمد» ينظر لها في دهشة ثم سألها: وما اسم الباخرة؟

قالت «إلهام»: لا أعرف … فقد قالوا إني سأعرف قبل الميعاد بساعة.

قال «أحمد»: لذلك … سيكون مخطَّطهم حتى النهاية وهم مطمئنون. ثم قام إلى جهاز الكمبيوتر، وطلب كود الكمبيوتر المركزي، وطلب قائمةً بأسماء كل البواخر النيلية الموجودة على سطح نيل القاهرة … والإدارات التابعة لها … وعنوانها وأرقام تليفوناتها، ولم تكن القائمة كبيرة، فقام هو و«عثمان» و«إلهام» بالاتصال والسؤال عمَّا إذا كانت إحداها محجوزةً بالكامل لحفل عشاء، فلم يصلوا إلى نتيجة … فمعظمها محجوز لأكثر من غَرَض وجهة في وقت واحد، ولكن ليس بينها باخرة واحدة بها حجز لحفل عشاء … فلم يبقَ أمامهم إلا مراقبة «قيس» والتعامل مع ما يستجد وما يطرأ وقت حدوثه.

خرجوا في ثلاث سيارات بعد أن تمَّ الاتصال ﺑ «قيس»، عرفوا منه مكان وجوده. وبجوار العمارة وقفت سيارة «إلهام» … وعلى الرصيف المقابل وقفت سيارة «أحمد»، وكانت السيارتان مزوَّدتَين بزجاج لا يكشف ما بداخلهما، أمَّا «عثمان» فقد أوقف سيارته على أول الشارع، وأغلق زجاجها وجلس بداخلها مترقِّبًا … وقد غابت الشمس واقتربت الساعة من السابعة مساءً، ممَّا زاد من توتر «إلهام».

ففي السابعة تمامًا، ستتعرَّض للموت إن لم يكن العقار المضاد هو العقار الذي حقنها به «أحمد»، وكان يشعر بنفس التوتر كلٌّ من «أحمد» و«عثمان» الذي لمح السيارة الهوندا البيضاء تدخل الشارع وتتوجَّه إلى العمارة التي يقطنها «قيس»، وتنزل منها «بتريشيا». لمحتها «إلهام» من موقعها المتميِّز بجانب باب العمارة … وهي تستدعي المصعد، وبعد دقائق … تخرج مع «قيس» حيث تعود للسيارة وتنطلق عائدةً من حيث أتت. فانطلقت خلفها «إلهام» … حتى كادت تغيب عن نظر «أحمد»، فانطلق في أثرها، ومثله فعل «عثمان»، وقد حرصوا ألَّا يلمحهم رُكاب السيارة الهوندا.

لذا، فقد أطلقت «إلهام» قذيفةً مغناطيسية التصقت بِشاشة السيارة وهي واقفة أمام باب العمارة، مثبت بها مولِّد إشارات … مَكَّن «إلهام» من تتبُّعها وهي بعيدة عن مرمى بصرها … وأدهش الشياطين أن السيارة تخطَّت كل المراسي النيلية التي تصلح للتعامل مع البواخر السياحية، وقطعت الطريق في اتجاه الوراق … حتى اقتربت من مرسى الأتوبيس النهري، فتوقفت أمامه وغادرها «قيس» و«بتريشيا»، ثم انطلقت تُكمل الطريق حتى اختفت عن الأنظار.

ونزلت «بتريشيا» ومعها «قيس» سلالم المرسى … حيث كان ينتظرهما لنش صغير انطلق بهما إلى عرض النهر، حيث كانت باخرة نيلية تُبحر في اتجاه القناطر الخيرية … فسار بمحاذاتها وبنفس سرعتها، حتى تمكَّنت «بتريشيا» من الانتقال إليها وبعدها «قيس» … يعاونها أحد البحارة العاملين عليها، ثم صعدا إلى السطح.

فرأى «قيس» كل ما كان يريد أن يراه … فريق «الرد ستار» يجلس حول مائدة، ولكن بدون «مارلو»، وفريق الزنجيات الحسناوات يجلسن على مائدة ومعهن يجلس «هاري» و«فلاديمير»، وعلى المسرح فريق «النيفا» يؤدِّي استعراضًا بدون «بتريشيا» والتي لحقت به، ثم تركته وتوجَّهت إلى المسرح، فأمسكت بالميكروفون … وألقت على الحاضرين تحية المساء، ثم قدَّمت لهم رجل الأعمال السعودي الفنان الشيخ «قيس»، والذي سيقوم بتمويل الأعمال الفنية لعديد من الفرق الجديدة، والتي تأمل أن تكون الفرق الحاضرة ضمن من يشملهم برعايته … ووسط تصفيق الحضور، لاحظ «قيس» أن أكثر من كاميرا فيديو تُصوِّر الحفل … وأن هناك لنشًا يسير خلف الباخرة … يُسلِّط عليها كشافات ضوء مبهرة، وخلفه مصوِّر يحمل كاميرا فيديو … يصوِّر ما يحدث.

أنهى فريق «النيفا» استعراضه وصعد فريق الزنجيات الحسناوات و«قيس» يبحث بينهم عن «بيزا» … ولكنها لم تكن موجودة على سطح الباخرة … وبعد أن أنهى فريق الزنجيات استعراضه … افتتح مستر «هاري» البوفيه على شرف «قيس»، الذي لاحظ أن «فلاديمير» قد اختفى من القاعة، وبعده بدقائق … اختفى «هاري» أيضًا، وحضرت «بتريشيا» لتقدِّم بعض الصحفيين المعروفين ﻟ «قيس»، ثم بعض الملحِّنين المرموقين …

فغمغم «قيس» بصوت خافت: يا لهم من مجرمين! … أينوون تفجير الباخرة بكل هذا الحشد، والتفت حوله يبحث عن «بتريشيا» فلم يجِدها … فطلب من أحد العاملين الذهاب إلى دورة المياه … حيث اتصل ﺑ «أحمد» الذي أخبره أنهم قريبون منه، ولكنه لمح قاربًا يقترب من الباخرة فقطع الاتصال مع «قيس» ليتابع ما يحدث، فشاهد «فلاديمير» و«هاري» و«بتريشيا» يتركون الباخرة … وينتقلون للقارب … حيث سبح بهم في اتجاه الشاطئ.

وبمهارة في ظلام الليل … استطاع «أحمد» أن يصيب القارب برصاصة واحدة … فانفجر ليلقي بمن عليه في الماء، ليلتقطهم الواحد تلو الآخر دون مقاومة، ثم اقترب قاربهم من الباخرة، حيث انتقل إليها «عثمان» و«إلهام» وطافا بها يبحثان بين جنباتها عن متفجِّرات، وكانت «إلهام» قد تلقَّت تدريبًا وهي مختطَفة لتقوم بهذا العمل، فذهبت إلى غرفة الماكينات وفحصتها جيدًا … فلم تصل إلى ما تريد، فغادرتها وهي تشير إلى «أحمد» الذي اتصل بخفر السواحل وشاهدوا عن بعد مواكب اللنشات تأتي مسرعةً مُحمَّلة برجال خفر السواحل، حيث قاموا بتفريغ الباخرة من كل من عليها … ودوَّى في الليل صوت انفجار رهيب … وارتفعت إلى عِنان السماء شظايا وألواح خشبية، ولمح «أحمد» القارب الذي كان يصوِّر الباخرة يهرب إلى الشاطئ … ورجال الشرطة يطاردونه. وفي صباح اليوم التالي … خرجت الصحف والإذاعات العالمية تحذِّر السائحين من السفر إلى مصر … ولم تذكر كلمةً واحدة عن القبض على عملاء جهاز مخابرات دولة أجنبية يقوم بأعمال إرهابية وينسبها للإسلام والمسلمين، بل بالغت في وصف الحادث!

وفي المقر السري الصغير بالهرم، اجتمع الشياطين يتلقَّون تهنئة رقم «صفر» وتعليماته للبحث عن «بيزا» … و«مارلو» … وبالفعل تمَّ الوصول إليهما في شهر يناير ١٩٩٧ في مغامرة «رأس الأفعى»، وعندما عاد الشياطين من المهمة حكَوا لنا بداية الصراع في هذه المغامرة، وحكايتهم مع «بيزا وفرقة الاغتيالات».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤