الفصل السادس عشر

في مَطالع الأَعوَام: نَظْرةٌ إلى التنجيم في العالم المتمدِّن١

كان علم النجوم في زمن من الأزمنة الغابرة يسمى بالعلم السماوي، أو العلم العلوي، أو العلم الإلهي. وكان علمًا واحدًا ينطوي على عدة علوم: أولها علم الدين، لأن الأقدمين كانوا يعبدون الكواكب، ويخصون كل نجم بالربوبية على جزء من أجزاء الطبيعة أو قوة من قواها.

ومن علوم النجوم «علم الفلك» الذي يبحث في حركات الكواكب ومواقيت طلوعها واحتجابها.

ومنها علم الملاحة لاعتماد السفن على رصد الكواكب واختلاط الأمر يومئذ بين دراسة الفلك ودراسة الظواهر الجوية على إطلاقها.

ولقد كان علم الزراعة يرتبط بعلم الفلك لاعتقاد الزراع قديمًا أن المحاصيل الزراعية تنمو بفضل البروج والمنازل السماوية التي تشرف عليها وتقترن أحيانًا بمواعيد الأمطار والفيضانات.

وأما العلم الذي كان في الواقع يغطي على علوم الفلك جميعًا فهو «علم التنجيم» أو علم الطوالع وما تنطوي عليه من أرصاد السعود والنحوس. فقد كانت كلمة التنجيم إذا أطلقت تعني في عرف الأكثرين علم النظر في الغيب واستطلاع السعود والنحوس، وتدبير أسباب الوقاية التي يزعم المنجمون بطلاسمهم وأباطيلهم أنها تنفع في هذه الأمور.

ولقد مضى الزمن، وتقدم الناس أو تقدم المتمدنون منهم، فتركوا عبادة النجوم وعرفوا الحقائق عن علوم الملاحة والزراعة، وعرفوا ما لم يعرفوه قط — من قبل — عن حركات الأفلاك ومنازل الفضاء، فأصبح للفلك علم مستقل غير علوم اللاهوت وعلوم الملاحة والزراعة، وانقطعت الصلة تمامًا بين هذا العلم الواسع وتلك الخزعبلات التي كانت تسمى بعلم التنجيم، واضطر علماء الغرب أن يفصلوا بينهما في لغاتهم، أصبح علم «الأسترونومي»؛ أي علم الفلك، غير علم «الأسترولوچي» الذي يطلق على التنجيم.

وكان المَظْنُون أن أبناء الغرب المتمدنين قد فرغوا من أمر التنجيم وخرافاته، وقد عرفوا من حقائق الأفلاك في هذا الزمن ما يعرفونه عن تلك الخرافات التي صدقها أسلافهم، لجهلهم بأقرب الكواكب إليهم وخلطهم بين مواقع النجوم التي تُرى بالعين المجردة، وهم لا يعرفون أبعادها ولا يدركون آفاتها.

أما اليوم والأرصاد الفلكية تكشف الآفاق إلى مدى الملايين من السنين الضوئية وعلماء الفلك يعرفون عن تكوين الكواكب مثل ما يعرفون عن تكوين هذه الكرة الأرضية، ويتحدثون عن السفر إلى تلك الكواكب كما يتحدثون عن الممكنات أو عن الصعوبات التي تقبل التذليل، فلا ندري كيف يعقل الإنسان المتمدن أن أسرار السماء والأرض في الحاضر والمستقبل، يكشفها المنجمون الجهلاء وينبئ عنها من غاب عنه كل كشف جديد من كشوف السماء، ولكن الواقع العجيب أن المصدقين بالتنجيم اليوم بين المتمدنين في الغرب يزيدون كلما ازدادت كشوف الفلك الحديث، وأننا لا نزال نتلقى من المطبوعات الأوروبية والأمريكية أشتاتًا من التقاويم والمجلات وجداول الأرصاد والطوالع، مخصصة كلها لمسائل التنجيم ونبوءات الحاضر والمستقبل، ودلالات الأفلاك على مصائر العظماء ومقادير الدول والحكومات، وفي كل لغة من اللغات الحية تصدر التقاويم السنوية، وتصدر المجلات الدورية، وتصدر الكتب والمصنفات وتصدر دوائر المعارف ومراجع التاريخ، وينتظم صدورها كما ينتظم صدور أمثالها من المطبوعات المخصصة لمباحث العلوم والآداب والفنون، ويشتريها طلاب الطوالع بالأثمان الغالية التي تزيد أحيانًا على أثمان كتب العلم والصناعة ودراسات الفنون والصناعات.

وقد عنيت إحدى المجلات السيارة بإحصاء هذه الظاهرة العجيبة، فتبين لها أن الاهتمام بالتنجيم في ازدياد، وأن الأمم الأوروبية والأمريكية لا تقل عن أبناء القارات الأخرى في إقبالها على قراءة كتب التنجيم، وعلى استشارة المنجمين في أخطر الشئون، ومنها مشروعات التجارة والاقتصاد، واختيار الشركاء والأزواج.

وإذا صح الإحصاء الذي اعتمدته المجلة فقد ازداد عدد المقبلين على استشارة المنجمين في الولايات المتحدة — بعد الحرب العظمى — من ثلاثة ملايين إلى عشرة ملايين، وأصبح عدد المكاتب المفتوحة لقراءة الطوالع يقارب خمسة آلاف، ويقدر عدد المؤمنين بالطوالع الفلكية في ألمانيا بنسبة سبعة وعشرين في المائة من مجموعة سكانها، وأن رجال السياسة في إيطاليا كثيرًا ما يزورون مكاتب المنجمين تحت جنح الظلام ليسألوهم عن طوالع الأحزاب والحكومات، وأن دور الملاحة في اليابان لا يندر أن تستشير المنجمين لاختيار الساعة الملائمة لإنزال السفن الجديدة إلى الماء، وأن الناشرين اليابانيين وزعوا في سنة واحدة ثمانية ملايين نسخة من خرائط الطوالع التي تسمى بالأصطرلاب، وأن في إيطاليا عشرين مجلة منتظمة لا تنشر شيئًا غير النبوءات وما يتعلق بها من أسئلة القراء وأجوبة المنجمين، وأن طائفة غير قليلة من أصحاب الأعمال يتذاكرون إلى اليوم مقدرة المنجمة إيفانجلين آدمز Evangelin Adams التي كانت تقنع مورجان صاحب الملايين بنبوءاتها عن تقلبات السوق، ولا يبالون من أجل ذلك أن يجازفوا بأموالهم معتمدين على أرصاد المنجمين والمنجمات.

وقد أرادت المجلة أن تلتزم جانب الحيدة العلمية في رواية تلك الأخبار، فنقلتها على علاتها ولم تظهر للقارئ أنها تستخف بها ولا تصدقها وتطمئن إليها، ولكنها نقلت كذلك أخبارًا أخرى عن بعض المنجمين بمثل هذه الأمانة في الحكاية، وفيها ما فيها من التشكيك على الأقل بفريق من المحترفين لصناعة التنجيم.

قالت: إن ثلاثة من سبعة من كبار المنجمين المشهورين رسموا خريطة السيارات الشمسية فوضعوا الأسفل منها في موضع الأعلى، ولا تدري المجلة — كما تقول — أعن جهل كان ذلك أم إهمال؟

وقالت عن عالم برازيلي أنه ضجر من إلحاح بعض الناشرين عليه ليرسم له خريطة سماوية ومقرونة بالطوالع، فتخلص منه بإحالته إلى سكرتيرة ليقنعه أو يريحه من إلحاحه، فاخترع له السكرتير خريطة من عنده نقلها من بعض المهملات المهجورة، ولا تزال هذه الخريطة المخترعة تباع وتستشار في مهام الأمور.

ويتساءل كاتب البحث عن التنجيم: ترى ماذا يصنع المنجمون في أمر التوائم الذين يتشابهون بأسماء الأمهات والآباء وساعات الميلاد وأماكن الولادة، ولا يمكن أن يتفقا في حوادث الحياة؟

ويعجب الكاتب: لماذا يذكر الناس قليلًا من الأخبار التي تصح ببعض التأويل بل لا تصح إلا مع التعسف في التأويل، ثم هم لا يذكرون عشرات الأخبار التي كذبت كل الكذب، ومنها أخبار المنجمين في القرون الوسطى عن نهاية الدنيا وهي قائمة بعد تلك النبوءات لا تزال؟

إلا أن المجلة في الواقع قد بالغت في احترام تلك الخرافات وفي مناقشتها كما يناقش الجد الذي تخفى أباطيله أو تحتاج إلى بحث يكثر فيه القال والقيل.

إن الأساس الذي يقوم عليه التنجيم قد تهدم، ولم يبق للمطلع على أبسط بسائط الفلك ذرة من الشك في بطلانه.

فهم يبنون علوم التنجيم على السيارات السبع، ويعدونها فيخطئون؛ لأنهم يحسبون القمر من السيارات وليس هو منها، ولا يحسبون الكرة الأرضية وهي في وسطها.

وكان المنجمون الأقدمون يجهلون ثلاثًا من السيارات؛ لأنها لم تكشف قبل اختراع المنظار المقرب أو التلسكوب، وهي أرانوس الذي كشفه وليام هرشل سنة ١٨٧١، ونبتون الذي كشف في منتصف القرن الماضي، وبلوطس الذي كان معروفًا بالظن، ولم يعرف على وجه التحقيق قبل سنة ١٩٣٠. وأدل من ذلك على جهل المنجمين الأقدمين أنهم يذكرون بروج الفلك ويذكرون سلطان كل برج منها كأنه ثابت في مكانه، لأن معلوماتهم عن دائرة البروج ترجع إلى ما قبل الميلاد بمائة وخمسين سنة، ولأن الفلكيين قبل ذلك التاريخ كانوا يحسبون أن مدار الأرض فيها ثابت على اتجاه واحد، ولكن الفلكي هيباركس Hipprchus أثبت أن البروج تنتقل من أماكنها، وثبت بعد ذلك أن خط البروج انتقل قبل ألفي سنة من برج الحمل إلى برج الميزان، وأنه الآن ينتقل من برج الحوت إلى برج السنبلة، ولا تزال تتقهقر حقبة بعد حقبة حتى تعود إلى أماكنها، فلا يتم انتقالها إلا مرة في كل ستة وعشرين ألف سنة، ولا تتفق طوالع المواليد اليوم وطوالعهم قبل ألف سنة ولا قبل مائة سنة، لأن مواضعها في أفلاك البروج لا تزال في انتقال واختلاف.

هذه الحقائق الفلكية قد أصبحت أكثر من مجرد حقائق علمية يدرسها الرياضيون في مراصدهم، لأنها وقائع تلمس آثارها كل يوم في أرصاد الأجرام السماوية وأدوار المذنبات وحساب الكسوف والخسوف، وبها يستطيع الفلكيون أن يقدروا بالساعة والدقيقة مواقيت الحوادث الماضية في المنظومة الشمسية كما يقدرون أمثالها بعد ألف سنة، وكل حقيقة منها تنقض أباطيل المنجمين عن السيارات والبروج وعن الشمس والقمر من غير السيارات، وتثبت لنا أن أولئك المنجمين قد جهلوا ظواهر الفلك الواضحة فضلًا عن أسراره المستورة عن النظر أو في مجاهل الغيب.

فهم لم يكشفوا السيارات نفسها فضلًا عن أن يستعينوا بها على كشف الحاضر والمستقبل من حوادث الدنيا وضمائر الناس.

وهم قد جهلوا مراكز الأرض بين الأجرام السماوية، فضلًا عن مراكز الأحياء والأموات الذين يعيشون، أو كانوا يعيشون على ظهرها.

وهم قد جهلوا أن البروج تنتقل من أماكنها فضلًا عن الأماكن التي تتسلط عليها تلك البروج كما يزعمون، ومنها يتنبئون بتقلب الناس في الحل والترحال، وما يعترضهم في أسفارهم من السعد والنحس أو من الكسب والخسارة، وإن العلم الذي يخطئ فيما يعلمه الآن كل إنسان هيهات أن يحيط بالمجهول الذي لا يعلمه أحد، ولا يتأتى علمه لغير علام الغيوب.

إلا أن التنجيم الذي يقبل عليه المتمدنون في هذا العصر يعلمنا شيئًا يعنينا جدًّا أن نعرفه عن أسرار النفس البشرية في كل زمن وفي كل بلد، ويبين لنا خفايا الضمير التي تبين على غير قصد من المنجمين ولا من طلاب التنجيم.

إن عبرة الإقبال على التنجيم في عصر العلم أن النفس البشرية لا تحب أن تنقطع عن عالم الغيب ولا تشعر بأن الظواهر المكشوفة تغنيها عما وراء الحجاب من مقادير الوجود، وقد يشبع العلم رءوس الناس ولكنهم لا يزالون بقلوبهم جياعًا إلى غذاء آخر يستمدونه من قوة أخرى، وهو الذي يلتمسونه من هنا وهناك بين الصواب والخطأ وبين الهداية والضلال.

إن التنجيم باطل، ولكن شوق النفس البشرية إلى المجهول صحيح، وليس من النافع لها أن تكف عن طلبه، ولكن من النافع لها أن تميز بين طريق الهداية وطريق الضلال، وأن تطلب الحق حيث يُطلب وإن طالت بها شُقَّة الطريق. فليس يضيرها إذا استقامت على الجادة أن تطول الطريق.

ولا ندري ما هي النسبة العددية التي تظهر لنا بالمقارنة بين الأمس واليوم، هل يزيد الإقبال على التنجيم في بلادنا أو ينقص؟ وهل يصدق علينا ما ترويه المجلة الغربية عن العالم الغربي أو لا يصدق على ذلك المثال؟

ولكننا ندري — إن شاء الله — ما يجب علينا في هذا المقام.

ندري أننا سبقتنا الغرب إلى معرفة التنجيم آلاف السنين، فمن حقنا أن نسبقهم إلى العلم بأباطيله، وأن نقنع منه بنصيبنا في الماضي، فلا نشاركهم في بقيته الباقية بعد اليوم.

١  الأزهر يوليو ١٩٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤