الفصل الثاني والعشرون

أَطلس العَالم العَربيِّ والشرق الأَوسَط١

ظهر في العهد الأخير أطلس العالم العربي والشرق الأوسط باللغة الإنجليزية، وفيه نحو أربعين خريطة جغرافية للبلاد العربية وبلاد الشرق الأوسط على العموم، مع بيان مرسوم لمواطن المسلمين في قارتي آسيا وأفريقيا وبعض المواقع الأخرى من العالم المصطلح على تسميته بالعالم القديم.

واختتم الأطلس ببحث مطول عن تاريخ العرب والإسلام كتبه الأستاذ بكنجهام beckingham أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة منشستر، وقال في فذلكته ما خلاصته:

ويمكن أن يقال عن يقين: إن هناك عوامل ثلاثة مهمة كلها جديد بحيث يصح عقلًا أن نترقب منها بداءة صفحة أخرى من صفحات التاريخ العربي، وهذه العوامل الثلاثة هي الوطنية وحركة التصنيع والحركة «العلمانية» أو حركة الانطلاق من الصبغة الدينية.

ففي القرن التاسع عشر أخذت الوطنية من الطراز الأوروبي تعمل عملها بين أبناء البلاد العربية الذين تلقوا شيئًا من التعليم على المنهج الأوروبي، وكان الكثيرون منهم ضباطًا عسكريين، وبدأت الحركة على أقواها في سوريا ومصر … وقد أعقب سقوط الدولة العثمانية قيام عدد من الحكومات العربية يحد استقلالها حدًّا شديدًا نظام الوصاية من قبل بريطانيا العظمى وفرنسا، ويحول دون اتحادها الوطني تنازع البيوت المالكة ومنافستها، ولم تتقرر روابط التعاون بين هذه الحكومات حتى في مواجهة الصهيونية، ولا كان زوال البيوت المالكة قاضيًا على منازعاتها ومنافساتها، ولكن لا خلاف في استطاعة الدعوات الوطنية أن تثير الشعور في البلاد، وبخاصة بين أبناء الجيل الجديد، يكاد هذا الشعور أن يكون بينهم أقوى من الشعور بالإسلام.

أما حركة التصنيع فقد كانت ضربة لازب بعد الاحتكاك بالغرب، وبعد أن تحولت مواطن آبار النفط من بلاد فقيرة إلى بلاد من أغنى جهات العالم المعمور، وقد أصبح الناس في الجزيرة العربية حيث بقيت أحوال المعيشة على ما كانت عليه قبل الإسلام جمهرة من «البرولتارية» الحديثة؛ أي جمهرة الصناع الفقراء في مراكز التصنيع. وقد اشتركت كل من حركة الوطنية وحركة التصنيع لظهور الروح «العلمانية» التي أضعفت العقيدة الإسلامية ضعفًا لم تصب بمثله في جميع أدوارها التاريخية، ولو أن الوطنية العربية على الإجمال تجنح إلى موالاة الإسلام أكثر من جنوحها إلى أية عقيدة أخرى. ومن المألوف الشائع أن ترى أناسًا من العرب يدافعون عن ديانتهم مدافعة الغيرة والحماسة مع إهمالهم لأداء فرائضها والقيام بشعائرها، وهي ظاهرة لا نراها مقصورة على الإسلام.

وإن طائفة من الأفكار ذات الأثر الفعال في العالم العربي لهي اليوم وليدة الحضارة الأوروبية، فإن فكرة الدولة الوطنية ذات السيادة كانت هي المثل الأعلى الذي توخاه الزعماء الوطنيون عند ثورتهم على السيطرة الأوروبية، وقد أفلحوا في تحقيق استقلالهم السياسي باتباع الأساليب الإدارية وأساليب التنظيم والدعاية، ومناورات السياسة الفنية والصناعية الحديثة، وإن محاولتهم أن ينهضوا بذلك كله دون مساس بتقاليدهم العربية والإسلامية لجديرة أن تكسبهم احترام الأمم الأخرى كما يكسبهم عطفها …

ونرى كما يرى — فيما نحسب — أن صاحب هذه الدراسة يتحرى البحث العلمي في ملاحظاته على تاريخ العرب والإسلام في العصر الحديث، وأن الخطأ إنما عرض له من جانب مذهب التفكير ولم يعرض له من جانب سوء النية.

فهو على عادة الكثيرين من المؤرخين المتأخرين يخلط عند الكلام — على حركات التاريخ العربي — بين الوطنية والقومية، وهما على اقتراب الشبه بينهما مختلفان بالنشأة والطبيعة، وقد يقال في التفرقة بينهما على وجه السرعة أن الوطنية أقرب إلى السياسة والاجتماع، وأن القومية أقرب إلى العنصر والسلالة، وأن الوطنية بمعناها في مصطلح العلوم السياسية ظاهرة متأخرة نشأت في الغرب بعد انحلال الدولة المقدسة وانفصال الحكومات عن سلطان الكنيسة، مع ضعف النبلاء أصحاب الإقطاع وتقرير الحقوق للشعوب بجميع طبقاتها. أما القومية فهي بين العرب على الخصوص سابقة لتكوين الشعوب على الوضع الحديث، ومنها القومية التي جمعت قبائل العرب في وقعة ذي قار لمحاربة فارس، ومنها كذلك قومية القبائل التي ساعدت بني قومها العرب المسلمين عند فتح فلسطين وفتح مصر؛ إذ كان عمرو بن العاص ينتقل بجيشه من حدود فلسطين إلى المنزلة إلى الفيوم ولا يهتم بحماية ظهره من جنود الروم، اعتمادًا على معونة القبائل العربية في تلك الأقاليم.

ولا يزال اسم الأمة باللغة العربية دليلًا على صحة فهم هذه الكلمة ورجحانها بالاصطلاح العلمي على الكلمة الأوروبية التي تجعل الوطنية علاقة اشتراك في أرض المولد، فإن الأمة بلغة الضاد تجعل الوطنية مرهونة بوحدة الوجهة والأمانة، ولا تعلقها بموطن الميلاد كما تتعلق به عند الأوروبيين في اصطلاحها الحديث.

وعلى هذا الاعتبار يخطئ المؤرخ الذي يتوهم أن الشعور القومي بين العرب طارئ جديد يخشى منه على قوة العقيدة الدينية، فإنه كان على أقوى ما يكون في صدر الإسلام بعد فتوح الإسلام الأولى، ومن أجل هذا قيل إن الشعوبية بين شعوب الإسلام غير العربية كانت بمثابة رد الفعل لقيام الدولة أولًا على العنصر العربي دون غيره من عناصر الدولة المتعددة.

•••

والوهم في مسألة «العلمانية» أظهر من هذا الوهم في مسألة الشعور الوطني أو الشعور القومي، إذا كان المقصود بالعلمانية ما يقابل عندهم «الطقوس الكهنوتية» أو مراسم السلطة التي يفرضها رجال الدين على الدولة.

فالإسلام لم يعرف قط شيئًا من قبيل الطقوس الكهنوتية منذ قيام النبي بالأمر وقيام خلفائه به من بعده. ولم يرفض خلفاء بني العباس إدارة الميزانية في دولتهم على حساب السنة النيروزية، بل لم يرفضوا الاحتفال بالنيروز في موسمه المألوف عند الأقدمين، ولم يتبع أحد من الخلفاء أو الأمراء المسلمين طقوسًا كهنوتية في شئون الولاية أو في شئون المعيشة العامة، بل كانت أزياؤهم وتقاليدهم على سنة الأمم في عهودهم، فارسية وتركية، ومتشبهة بالفرس والترك في أزيائها وتقاليدها، وقد كان خلفاء الأندلس قدوة للأوروبيين في المعيشة «العلمانية»، ومنهم تعلم هؤلاء الاستقلال عن طقوس الكهنوت وشعائر السلطة المفروضة من جانب رجل الدين، وليست الكسوة ذات «الجكتة والبنطلون» أول كسوة غريبة قبلها المسلمون بعد اتصالهم بشعوب العالم من المشرق إلى المغرب، وليس في العصر الحاضر «علمانية» لم تسبق لها مثيلات كثيرة منذ قيام الدعوة المحمدية دون أن تصيب العقيدة بالضعف أو تمس الولاء للدين في قلوب أبنائه، ولعل الصليبين في أشد أيام العصبية الدينية بين المعسكرين قد تعلموا من «علمانية» المسلمين أضعاف ما تعلمه المسلمون من علمانية الغرب في زمانهم، ولم يحدث قط أن الإسلام كان يومًا ما أشد إحساسًا بوجوده مما كان أيام الحروب الصليبية، ولا نستثني من ذلك جماعة المسلمين الذين خضعوا لدولة بيت المقدس نحو قرن من الزمان، ولم يطمع في إسلامهم أحد من حكامهم العلمانيين ولا الكهنوتيين.

•••

ولا شك أن الأستاذ بكنجهام كان يكتب كلامه عن التصنيع وفي ذهنه منشور ماركس وإنجلز إلى طبقة العمال بين جميع الطبقات، وهو ذلك المنشور الذي جعل عهد «التصنيع» في النهاية ختامًا لعهود الوطنية والدين، وخيَّل إلى كاتبه أن طبقة العمال التي سموها بالبرولتارية مارقة جميعًا من الدين ومن كل إيمان بالله والرسل بعد شيوع التصنيع في أمم الحضارة الأوروبية.

ولكن هذه النبوءة المادية لم تصدق بين عمال الغرب نفسه إلا بمقدار محدود كان من الجائز أن ينحرف عن الدين في قُطر من الأقطار لم يسمع بالصناعة العصرية ولم يخضع قط لنظام التصنيع الحديث، فإن المتدينين من عمال البلاد الأوروبية والأمريكية يزيدون كثيرًا على المنحرفين منهم عن الدين، وعدد الكتب الدينية التي تنتشر بينهم يزيد على أضعاف أمثالها قبل عهد التصنيع، وليس عند المؤرخين الاقتصاديين حجة على أن العقائد «الصورية» ظاهرة خاصة بزماننا هذا دون الأزمنة الخالية، فلا تزال أوصاف المجتمع الأوروبي في القصص قبل مائتي سنة تمثل لنا «التدين» في تلك الأيام على مثال من «العادات الصورية» لا تختلف عنه عادات العصر كثيرًا بين جماعات المتدينين المحسوبين في زمرة المتحللين من فرائض التدين الصحيح.

ويعلم الأستاذ بكنجهام — ولا ريب — أن الحركة النقابية في بلادنا الشرقية لم تكن وليدة التصنيع الحديث؛ لأن نقابات الصناع وأصحاب الحرف شاعت في القاهرة على عهد الفاطميين شيوعها اليوم في لندن وباريس وواشنطن، وكانت هذه النقابات قوام المواكب الدينية التي تخلفت بقاياها إلى العصر الحاضر، فلم ينقطع ما بينها وبين المعالم الدينية لارتباطها بتقاليد الحرفة، وافتراقها عن الطوائف الأخرى من أتباع رجال الطرق ورواد المساجد والأضرحة، بل كان هؤلاء جميعًا «موكبًا» واحدًا في كل احتفال عام، يتسم بسمات العبادة، أو يقوم على ذكرى من الذكريات الدينية.

•••

إن العوامل الثلاثة التي أحصاها الأستاذ بكنجهام لها خطرها الذي لا يجهل ولا يهمل، ولكنها على جدة أشكالها وأسمائها ليست بالعوارض الجديدة كل الجدة في تاريخ الإسلام، فقد سبقت لها في هذا التاريخ مثيلات كثيرات ترددت عليه حقبة بعد حقبة، وتركت آثارها حينًا أو ذهبت بغير أثر يذكر، وسيمر الإسلام بعوامل اليوم كما مر بمثيلاتها قبل اليوم بسلام.

١  الأزهر أكتوبر ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤