التجارة السوداء!

رحَّب رقم «صفر» بالشياطين، ثم ساد بعد ذلك سكون للحظاتٍ قليلة بعد كلماته.

كانت بداية الاجتماع بدايةً تقليدية في داخل قاعة العرض السينمائي بكهفِ الشياطين السري …

لم يكن الاجتماع مُلحًّا أو عاجلًا … وهو ما دلَّت عليه كلمات رقم «صفر»، من خلال عبارات الترحيب بالشياطين الستة الذين اقتصر عليهم الاجتماع.

تلفَّت «عثمان» حوله … كان على يمينه «أحمد» و«هدى» … وفي الخلف جلس «بو عمير» و«مصباح» و«زبيدة». فكَّر «عثمان» في أن المهمة القادمة لا بد أنها ستقتصر عليهم هم الستة فقط …

في نفس الوقت فكَّر «أحمد»: لماذا لم تنضمَّ إليهم «إلهام» في ذلك الاجتماع؟ … إن عدم انضمامها إليهم يعني أنها لن تُشارك في المهمة القادمة.

كانت المغامرات التي اشترك فيها «أحمد» بدون «إلهام» قليلة … وقد اعتاد أن يشاركها في أغلب المغامرات، إن لم تكن كل المغامرات السابقة … فلماذا لم يضمَّها رقم «صفر» إلى أفراد المهمة القادمة … المجهولة؟

وتدريجيًّا أظلمت قاعة العرض السينمائي … بدون أن يتحدَّث رقم «صفر» مرةً ثانية …

وانكشفت الشاشة البيضاء العريضة أمام الشياطين الستة عن شاطئ ساحلي … كانت أشجاره ونباتاته الكثيفة إلى الداخل، توحي بأنه شاطئ استوائي … وأنه يُطل على أحد المحيطَين الكبيرَين … الأطلنطي أو الهادي.

ودارت الكاميرا لأعلى، مُصوِّرةً قمم رءوس الأشجار الضخمة الماردة، وقد تلاصقت تلك القمم وتشابكت كأنها نبت ضخم أخضر خرافي في الحجم، له ملايين الأفرع والسِّيقان التي نبتت من باطن الأرض.

ثم هبطت عين الكاميرا لأسفل، وراحت تنزلق فوق جذوع الأشجار، مثل قطٍّ بري ماهر، يستعد للانقضاض على فريسته.

ثم دوَّى قرع للطبول من أحد الأركان … طبول كان لها وقْعٌ خاص، وترنيم مُعيَّن …

ابتسم «أحمد» وتأكَّد من تخمينه … كان المشهد يُصوِّر سواحل إحدى الدول الأفريقية المُطلة على المحيط الأطلنطي الاستوائية … وكانت الطبول أفريقية … واستطاع «أحمد» أن يقرأ دقاتها وقرعها … كانت الطبول تدعو لحفل قريب يتزوَّج فيه ابن زعيم القبيلة من أجمل بناتها …

واقتربت الكاميرا محاذرةً كاشفة عن ساحة واسعة، في أركانها راح بعض الزنوج يضربون فوق الطبول التي لم تكن إلا جذع شجرة عريض مُجوَّف من الوسط … وفي الناحية الأخرى ارتصَّ العشرات من أبناء القبيلة الذين راحوا يتابعون العرض الراقص الذي تقوم به بعض فتيات القبيلة وشبابها، والذين صبغوا وجوههم وغطَّوا أجسادهم بالريش والعقود المصنوعة من أسنان التماسيح، وجماجم النسانيس الصغيرة … أمَّا زعيم القبيلة العجوز، فجلس فوق مقعد ضخم، وقد غطَّى كتفَيه برداء من جلد النمر … على حين جلس ابنه القوي الأسود اللون على يمين والده وتحت أقدامه … دلالةً على الطاعة والاحترام …

ودقَّ قلب «عثمان» بشدة، وبدأ يتذكَّر شيئًا ما … كأنها ذِكْرى بعيدة قادمة من أعماق الماضي، من مئات السنوات البعيدة التي لم يشاهدها بعينه … ولكنه قرأ وسمع عنها مئات المرات … وكانت حكايات تلك الفترة الدموية البغيضة على لسان أجداده وجداته …

فجأةً دوَّى صراخ … وتبعثَر شمل ونظام الراقصين ومن يدق الطبول، عندما اندفع مجموعة من القراصنة ذوي الوجوه البيضاء، والأسلحة النارية في أيديهم … ودوَّت أصوات الطلقات … وزادت الصرخات وأصوات الرعب … واندفع مجموعة من محاربي القبيلة برماحهم نحو البيض، ولكن، وقبل أن يلقوا برماحهم، سقطوا قتلى برصاص القراصنة …

وانتهت المعركة سريعًا … وكانت نتيجتها عشرات القتلى من شباب القبيلة … وعشرات آخرين من الأسرى.

كان الأسرى كلهم من الشبان الأقوياء، ومن ضمنهم ابن ملك القبيلة … وقد رُصوا جميعًا في صفٍّ واحد، وقُيدوا بالسلاسل الحديدية في أعناقهم.

وبدأ المشهد الحزين عندما راحت تلك السلسلة الآدمية الطويلة، المكبَّلة بسلسلة حديدية، تخترق طريقها نحو الشاطئ الساحلي القريب.

وهناك بالقرب من الشاطئ، كانت تقف سفينة شراعية كبيرة، وقد أفردت أشرعتها استعدادًا للإبحار … وبواسطة زوارق صغيرة تمَّ نقل الأسرى إلى السفينة الكبيرة، حيث رُصوا جميعًا في مكانٍ بِقاع السفينة، وتُركوا مُقيَّدين بالأغلال كالحيوانات، ثم شرعت السفينة تعبُر المحيط جهة القارة الأمريكية.

وجاء صوت رقم «صفر» ليشُقَّ الصمت الثقيل الكئيب الذي اعتصر قلوب الشياطين للمشهد الدامي الحزين … وقال: ما رأيتموه أمامكم مشهد سينمائي … ولكنه حدث بكلِّ تأكيد منذ أكثر من ثلاثمائة عام أو أكثر … حدث هذا المشهد آلاف المرات، وكان ضحيته الملايين من الأفارقة الشبان الذين اختطفتهم القراصنة من على سواحل بلادهم، وقادوهم أسرى إلى بلاد أخرى بعيدة … إلى أمريكا بالتحديد … إن هذا المشهد السينمائي جزء من مسلسل «الجذور» الشهير … ذلك المسلسل الذي كتب قصته الكاتب الأمريكي الزنجي «أليكس هيلي» … وصوَّر فيه كيف اختطف القراصنة وتُجار العبيد الملايين من الأفارقة الشبان، ونقلوهم إلى أمريكا؛ ليقوموا هناك بزراعة القطن؛ فقد كانت أمريكا وقتها قارةً جديدة، وعدد سكانها قليل … واهتدى تفكير سُكانها الشيطاني إلى جلب العبيد من السواحل الأفريقية المقابلة لقارتهم؛ لاستغلالهم في زراعة القطن وتعمير البلاد … إن «أليكس هيلي» الأمريكي هو أفريقي الأصل … وجذوره تمتد إلى إحدى أشهر القبائل الأفريقية، حيث كان أحد جدوده ملكًا لبعض هذه القبائل … قبل أن يتم اختطاف كل أفراد القبيلة للعمل كعبيد في أمريكا … وهو الأمر الذي انتهى بالحرب الأهلية من ذلك الاستعباد الذي كانوا يعيشون فيه … وانتهى الأمر بتحريرهم فعلًا، وانتصار الشماليين، ولكن بعد أن مات الملايين من الأفارقة البسطاء، الذين لم يكونوا يملكون قوة البارود والسلاح، ليدافعوا به عن أنفسهم ضد هؤلاء القراصنة والغُزاة … حيث كان الأفريقي الشاب القوي الذي يصل سالمًا إلى أمريكا يُباع بعشرات الدولارات، هي ثمن الحياة البشرية … وفي مقابل كل أفريقي مختطف كان يصل إلى أمريكا سالمًا … كان هناك تسعة آخرون يموتون في الطريق بسبب المرض والجوع والبرد … إن ما تعيشه أمريكا الآن من تقدُّم وازدهار ومدنية … تدين به إلى هؤلاء الملايين من الأفارقة البسطاء الذي دفعوا حياتهم وحُريتهم … ثمنًا لذلك.

وصَعِد الدم إلى رأس «عثمان» حارًّا ملتهبًا … كان يعرف تلك القصة، وقرأ قصة «الجذور»، وشاهد المسلسل المأخوذ عنها … ولطالما سمع حكايات في طفولته عن بشاعة هؤلاء القراصنة والمستعمرين، الذين كان ضحيتهم ما لا يقل عن ثلاثين مليونًا من الأفريقيين.

وفكَّر مندهشًا: ولكن … ما الداعي إلى أن يسرد رقم «صفر» تلك القصة القديمة المريرة … المعروفة لهم؟!

جاء صوت رقم «صفر» يقول: لقد تحرَّرت كل الدول الأفريقية من الاستعمار الذي نهب خيراتها، ما عدا دولة «جنوب أفريقيا» … ونحن متأكِّدون أن أهلها وأصحابها الأصليين سوف يُحرِّرونها من حكم الاستعمار الجاثم على صدرها … لتصبح القارة السمراء بأكملها ملكًا لأهلها … ولعلكم تتساءلون الآن … لماذا أُعيدُ على مسامعكم تلك القصة عن اختطاف الأفارقة، وتجارة العبيد السود، والتي انتهت منذ نهاية القرن الماضي؟! … لقد انتهت تجارة العبيد حقًّا، وتوقَّف النزيف البشري للقارة السمراء بعد أن أدان العالم كله الرِّق والاستعباد منذ وقت طويل … ولكن …

ساد صمت كان الشياطين يسمعون فيه أصوات تنفُّسهم، وكانت الكلمة التي نطق بها رقم «صفر» أشبه بوخز إبرة حادة دفعت انتباه الشياطين إلى التنبُّه بشدة، ولم يستطع «عثمان» تحمُّل الصمت أكثر من ذلك، فقال رغمًا عنه: هل عادت تجارة العبيد الأفارقة مرةً أخرى؟!

أجابه رقم «صفر»: لا، لقد اختفت تجارة العبيد منذ وقت طويل … ولكن حدث ما هو أسوأ لإنسانٍ أن يتصوَّر حدوثه، ونحن على مشارف القرن العشرين! …

وصمت رقم «صفر» … وساد القاعة توتر قاتل، وقد تصاعد انتباه الشياطين إلى القمة وهم يتساءلون: تُرى، ما هو ذلك الأمر البشع الذي صار يهدِّد سُكان شواطئ القارة السمراء؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤