العمالقة

سعيًا وراء خطِّ سير رحلاتِ النبي إبراهيم، بعد ارتحالِه من مصر، والتي فيما يبدو كانت الرحلة التي ذكرها الإخباريون المسلمون إلى جزيرةِ العرب، وبينما التوراةُ لا تشير إلى أية علاقة لإبراهيم بجزيرة العرب، فقد أمسَكْنا بطرف خيطٍ توراتي، يؤكِّدُ في عدَّةِ مواضع من الكتاب المقدس، أن النبي إبراهيم عندما خرج من مصر توجه نحو الجنوب، لكن دون أن تعطينا التوراة أية تحديدات أو مسميات للمواضع التي مرَّ بها النبي أو استقرَّ فيها في هذا الجنوب. فقط تعلمنا أن هناك قد دبَّ الخلاف داخل أسرة النبي الصغيرة، مما دعاه إلى صرف هاجر ووليدها عن بيته، وبعد عدة نقلات نعلم أن هذا الوليد «إسماعيل» قد أصبح شابًّا، يمرح وراء الصيد في برية دعتها التوراة «برية فاران». هذا ويذهب الإخباريون المسلمون إلى أن هاجر وولدها، قد سارا يضربان في برية قاحلة، أصابَتْهما بعطَشٍ قاتل، وبينما الطفل النبي يبكي ضرب جبريل الأرض بقدمه ففجرها الله عينًا، تلك التي أصحبتْ بئرًا مقدَّسة لدى عرب الجاهلية والإسلام! وإن كانت التوراة تشير إلى الأمر بصيغة أخرى فتقول: «وفتح الله عينها فأبصرتْ بئرَ ماء»، وقد لا يكون ثمة خلاف بين الروايتين، وربما كانت الرواية الإسلامية تسير على ضربٍ قديم من التوراة، مع أخذنا بالحسبان أن العين في العبرية كما هي في العربية تعني نبعَ الماء، وحاسة البصر، وربما كان الأصل القديم يقول: إن الله قد أنبع لهاجر عين الماء فأبصرَتْها، كتعبير أقرب للمفهوم التراثي عن التعبير «وفتح الله عينها فأبصرت … إلخ».

وإذا كان هذا المكان في التوراة هو «برية فاران» فهو في القرآن الكريم «واد» وأن هذا الوادي «غير ذي زرع»، وأن في هذا الوادي كان يقومُ بيت مقدَّسٌ للعبادة، وأنَّ صفة القدسية نعلمها من الاصطلاح الذي أطلقَتْه عليه الآيات، فهو بيت «محرَّم» أو بنصِّ الآيات: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (إبراهيم: ٣٧).

وهنا لابد أن نربط هذه الآية بآية أخرى تحدِّدُ لنا اسمَ الموضع بهذا الوادي، فتقول: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (آل عمران: ٩٦). وسبَق وعرَفنا من الإخباريين المسلمين أنه في الجوار كانت هناك قبيلتان من العرب العاربة، أو من بقايا العاربة البائدة هما «جرهم» و«عماليق»، مع إشارات تؤكد أنه لم يكن هناك بيت قائم بالفعل في المنطقة. فالثعلبي يقول: إن أرض مكة كانت تنبت أنواعًا من الشَّجَر «سلم، سمر، عضاة» «وكان موضع البيت ربوة حمراء»،١ هذا بينما يؤكد ابن هشام في السيرة أن الكعبة لم تكن موجودة حتى وقتٍ متأخر من عمر إسماعيل، بدليل قوله: «وكان الحجر قبل بناء البيت زربًا لغنَم إسماعيل»،٢ بل إن القرآن الكريم أكَّد هذا المعنى بدوره، فقال: إنه بعد أن شبَّ إسماعيل وافاه أبوه إبراهيم، وأنهما أقاما قواعد البيت، وذلك في الآيات: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (البقرة: ١٢٧).

وهنا تبدو عدة مسائل بحاجةٍ إلى الإيضاح، فالنبي يهبط جنوبًا إلى جزيرة العرب، ويتركُ ولده إسماعيل وأمه هاجر عند «بيت محرم»، ومع ذلك فهناك آيات أخرى نفهم منها أن البيت المحرم لم يكن قائمًا بالفعل، إنما أقامه النبيُّ إبراهيم وابنه إسماعيل، ولذلك رواية طويلة معروفة في كتب التراث، ثم نفهم من آية ثالثة أن هذا البيت يعدُّ أقدم بيوت العبادة، وأنه كان قائمًا فعلًا في موضع أسمته الآيات «بكة»، بينما نعلم أن ذلك البيت هو المقام بموضع «مكة» من أرض الحجاز، فلماذا الاختلاف في التسمية هنا إذا كان المقصود هو ذات نفس البيت، وفي ذات نفس المكان، والمفسرون يذهبون إلى أنه مجرد اختلاف لهجوي، لكن إذا كان الموضع هو ذات الموضع والسكان هم ذاتهم، فلماذا الاختلاف اللهجوي؟ وتبقى المسألة الأكثر إثارة للاستفهام، وهو أنه لا يمكن فهم كيف كان البيت قائمًا بالفعل، عندما ترك النبي ولدَه إلى جواره، وكيف قاما بعد ذلك ببنائه؟ ويذهب المفسرون هنا إلى القول إنه كان قائمًا من زمن بعيد لكنه تهدَّمَ حتى جاء النبِيَّان فأقاما قواعدَه، مما يشير إلى أن قواعدَه كانت موجودة من الأصل، لكن كيف يمكن قبول ذلك في ضوء الآية رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ مما يشير بوضوح إلى بيتٍ قائم بالفعل؟

حقيقة، الأمر لم يزلْ بحاجةٍ إلى توضيح وإضاءة.

ثم هناك مسألة جرهم والعماليق أنسباء النبي إسماعيل، وتذكر بعض الروايات أنهم شاركوا في بناء البيت … وهم من العرب العاربة.

ربما كانت إجابة التساؤلات في متابعة العرَب العاربة، فلنُمسِكْ بطرف هذا الخيط ونتتبعه. قال حمزة الأصفهاني: إن العرب العاربة هي: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وعماليق، وعبيل، وأميم، ووبار، ورهط، وجاسم، وقحطان، بادت ومن بقي منهم أطلقَ عليهم اسم الأرمان. وقال ابن خلدون: إنهم عاد، وثمود، وطسم، وجديس، ثم لا يذكر عماليق، إنما يذكر «عبد ضخم وجرهم» إضافة إلى عبيل، وأميم، وحصور، وحضرموت، والسلفات.

ومع بعض الجهد، يُمكنُ العُثور على إشارات إلى أسماء قبائل، وإلى مواضع في جزيرة العرب، تشير بوضوح إلى تلك البائدات، مما يعني أن الأمرَ ليس برمَّتِه من أساطير الأوَّلين، فهذه «العبيلة» شرقي الجزيرة قربَ الإِمارات العربية المتحدة الحالية، تشير إلى «عبيل» وإلى الشرق منها على الساحل تجد «حصور» — بعد القلب — في ميناء «صوحار» بعمان، وهذه «ثمود» في أقصى الجنوب، في القسم الشمالي من اليمن الجنوبي باسمها البائد لم تتغير، وتلك «بئر طميس» قرب ثمود، تشير إشارةً واضحة بعد القلب إلى «طسم»، أما «وبار» فتتناثر باسم «الوبرة»، و«الوفرة» في مناطق متعددة من الجزيرة، كذلك «أميم» لم تزل علَمًا على قبائل «أميم» الحالية، و«حضرموت» لم تزل شاهدًا صامدًا في الجنوب، أما «عاد» فأمرها أتى في بحثِنا، وسنوضِّحُه تفصِيلًا، لكن «السلفات» فأعتقد — وربما أخطأت وربما أصبت — إنها بالقلب «فلسات»، وهي بهذا النطق تصبح حفرية لغوية عظيمة الأهمية بقيت علاماتها في قبيلة «طي» التي كانت تعبد ربها على جبَل «أجا» باسم «الفلس». وبنسبة الفلس إلى طي، فإنه سيكون «فلس طي» أو «فلسطي»، ولا أظنني أبعد في هذا التخريج كثيرًا، عن حسبان هؤلاء هم «الفلستي» أو «الفلسطي» القدماء، أصلًا لمن عرفناهم بعد ذلك هجرة وصلت إلى ساحل البحر المتوسط الشرقي باسم «الفلستيين» أو «الفلسطينيين»؛ ليعطوا أرض كنعان اسم فلسطين. ومن الجدير بالذكر أن الباحثين يزعمون أن الفلستيين أقوام جاءت كنعان قادمة من بحر إيجة، أو من جزيرة كريت،٣ وهو أمر غير مقطوع بشأنِه ويَشُوبه شكٌّ كبير، ومن الأوفق اللجوء إلى تخريجنا هذا — ولو مؤقَّتًا — حتى يتم القطع في الأمر، بحسبانه يتَّسقُ مع خط سير الهجرات التي وفدت إلى شرقي المتوسط، وهي في زعم ذات الباحثين قادمة من جزيرة العرب، عدا الفلستيين، لا نعلم لماذا؟ اللهم إلا غرض مشبوه هو استبعاد الفلسطينيين من العناصر القاطنة بالمنطقةِ من الساميين، وحسبانهم غرباء على فلسطين لتسويغ اعتبار فلسطين ساميةً من الفرع العبراني.

ولم يبقَ لدينا سِوى «العماليق» الذين ذكرهم حمزة الأصفهاني، ولم يذكرهم ابن خلدون، وذكر بدلًا منهم «عبد ضخم وجرهم»، وهو ما لم يورده الأصفهاني، مما يشير إلى خلاف أتصوره، في بحثي بداية الاتفاق وبداية الإجابة عما طرحناه من تساؤلات.

والعملاق كما نعلم، هو ضخم البناء، وتحكي لنا كتب التراث روايات كثيرة، تطابق هذا المعنى وتشير إليه، وكيف كان الواحد منهم يحملُ الصخرة فيرميها على الجيش فيسحقه، ويفسِّر «النيسابورى» الآيات القرآنية حول عاد: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (الشعراء: ١٢٨–١٣٠) بقوله:

«وذلك أن هؤلاء القوم، كانوا في هيئات النخل طولًا، وكانوا في اتِّصالِ الأعمار بحسب ذلك من القدر»،٤ بينما يفسر الثعلبي الآيات: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً (الأعراف: ٦٩)، بقوله: «أي عِظَمًا وطولًا وقوة وشدة، وقال أبو حمزة اليماني: كان طول الواحد منهم سبعين ذراعًا، وقال ابن عباس: ثمانين ذراعًا، وقال: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعًا، وقال وهب: كان رأس أحدهم كالقبَّة العظيمة، وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم»،٥ ومثل هذه التفاسير — كما هو واضح — تدخل في عداد المبالغات والتهويلات التي لحقت بهؤلاء القوم، لأسبابٍ مجهولة، على الباحث المدقق أن يحاول كشفَ اللثام عنها.

وبالعودة إلى منطق البدوي، الذي عاش حياة متفرقة في قبائل متنازعة متصارعة، ولم تجتمع كلمته في وحدة سياسية واحدة إلا نادرًا، وحين حدوثها كانت تحدث بين أهل المدر، وليس بين أهل الوبر، مما جعل هذا البدويَّ عاجزًا عن القيام بالأعمال الكبرى، والمشاريع الضخمة التي تحتاج إلى تكاتُفِ قُوَى المجتمع الموحد، المنتظم في سلك المركزية لوحدة سياسية كبرى، وفي وقت كان جيرانه الذين انتظموا في وحدات إدارية مركزية كبرى قد تمكَّنُوا من تنظيم العمل وتوجيهه إلى إقامة المشاريع الضخمة.

ومن هنا كان هذا البدوي المرتحل يرى في الأعمال المعمارية الهائلة، التي أقامها جيرانه في مصر والعراق أعمالًا إعجازية وعجيبة، وبقي فهمه لها في المأثور العربي عن عجائب الدنيا السبع، ولم يكن — وهو في تفرقه القبلي — يتصور أن بإمكان البشر العاديين، إقامة شيء كالأهرام أو معابد الكرنك؛ خاصة أن هذه المعابد ذات أبهاء ضخمة وتقوم على أعمدة شاهقة، وأسقف بالغة العلو، مما دفعه إلى تصوُّرِ أنها قد أنشئت أصلًا لتناسب حجم وقامات بُناتها، وهم بذلك ذوو قامات هائلة وأجسام عظيمة الجِرم، وأن هذه المعماريات كي تقام فإنها احتاجتْ — لاريب — إلى قوة عضلية لا تتيسر إلا لهؤلاء الضِّخامِ الطوال، ومن ثَمَّ فلاشكَّ أنهم كانوا «عمالقة»!

لكن حديث التراث العربي، هو عن عمالقةٍ عاشوا في جزيرة العرب ثم بادوا، وهو ما يخالف تفسيرنا، وهنا نتذكر أن العمالقة عند الأصفهانيِّ تستبدل عند ابنِ خلدون، بالاسم: عبد ضخم، وهو ما يشير إلى المعنى ذاته: العملقة، مما يدفعنا إلى الظن أن ابنَ خلدون قد قصَدَ بعبد ضخم ذات مقصد الأصفهاني بالعمالقة، وهنا ننقل القارئ خطوة أخرى على سبيلنا، فنذكره أن الأصفهاني قد قرن بالعمالقة الاسم «جرهم» أبو الجراهمة، ثم نلقي بأسطع الأضواء على الكشف المأمول، والمتمثل في اسم مصر القديمة بلسانها «مجر»٦ الذي جاء منه بمرور الزمان الاسم «مصر».

وكثيرًا ما حدثتْ في وادي النيل حدثان كبرى، تليق بكِبَر المجتمع وتتفق مع حَجمه وأشكاله الاجتماعية، لعل أهمها الصراع الذي نشأ بين كهان مدينة «منف» المقدسة وكهان مدينة «عين شمس»، وانتهت بانتصار كهنة عين شمس واستيلاء كهنتها على عرش البلاد، مع نهاية الأسرة الرابعة الحاكمة في الدولة القديمة، والذي تبعه بالضرورة فرارُ كهنة منف وأتباع الدين المنفي في هجرة كبرى، ربما اتَّجهتْ إلى جزيرة العرب، إضافة إلى ما يعلمه التاريخ عن هجرات مثيلةٍ، اتجهت إلى شرقي المتوسط وعَبَر بعضُها البحر إلى ميسينا وكريت، وربما لم تكنْ هِجرات بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما نوع من الهرَب الكبير. وبالنسبة لجزيرة العرب، فقد وجدنا من القرائن ما يشير إلى وجودٍ مصري واضح فيها، أيًّا كان سببُه، سواء كان نوعًا من الهِجرة أو نوعًا من الجالياتِ الكبيرة، أو الحاميات المتقدِّمة، أو وجود بدأ عسكريًّا وانتهى باستقرارٍ دائم، والأمر متروك للمهتمين من الباحثين، في ضوء ما سنقدمه من شواهدَ يُشير إلى أن جُرهُم إنما كانت تشير إلى أهل «مجر»، مع تذكرنا أن الأصفهاني قد قرنَ جرهم بالعمالقة، وهو ما يدعونا إلى افتراض أن الجراهمة هم ذاتهم العمالقة.

وأول شواهدنا وأهمها لدعمِ فرضِنا هذا، الذي نسوقُه على مهلٍ وحذر، هو ما وجدناه عند المؤرخ القس «أورسيوس ٣٧٥م»، حيث يقول عن النبي إبراهيم: «وولد له إسماعيل من جاريته «هاجر العملاقة»، وتزوج إسماعيل امرأة «من العماليق» فولدت له اثني عشر ولدًا.»٧

والمفترض، أن «أورسيوس» رجل دين ذو شأن غير هين، ويعلم تمامًا صحيح ما بين يديه من آي الكتاب المقدس، ولا يفوتنا أنه قد كُلِّف بكتابة هذا التاريخ بتكليف من أخطر أساطين رجال الدين في زمانه «القديس أوغسطين»، وما كان ممكنًا أن يتم هذا التكليف وفي ذلك العصر بالتحديد، إلا بعد تمحيص تامٍّ في شخصِ المؤرخ المنوط به هذه المسئولية الكبرى، وبعد ثبوت الثقة في علمه وفقهه، وتبحره في التوراة، هذا بينما التوراة على الطرف الآخر تؤكد بوضوح: أن هاجر كانت جارية «مصرية»، كما تنص في حديثها عن إسماعيل: «أنه سكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من «أرض مصر»» (تكوين ٢١: ٢١).

إذن «أورسيوس» يؤكد أن هاجر أم النبي إسماعيل «عملاقة»، وأن إسماعيل بدوره قد تزوج من «عملاقة»، والتوراة تؤكد أن هاجر «مصرية» وزوجة إسماعيل «مصرية»، وهنا نردف فورًا ما جاء عند المسعودي في قوله: «تفرق العماليق بعد أن أقحط الشحر واليمن، ويمم عضهم نحو تهامة، وأشرفوا على الوادي الذي تقيم فيه هاجر وولدها قرب الماء، فتزوج إسماعيل منهم، ثم تركها وتزوج جرهمية.»٨
ولو دققنا النظر في حديث المسعودي، عن زواجِ إسماعيل من عملاقة ثم من جرهمية، سنجده يتضارب مع ما جاء في التراث الإسلامي عن قصة بناء الكعبة، وأنها بُنِيت خمس مرات منذ بدء تاريخها،٩ وأن من بُناتها العمالقة والجراهمة، وكلاهما أنسباء إسماعيل،١٠ مما يعني أن العمالقة والجراهمة كانا متعاصرَيْن، وهكذا لا يكون مُسْتَساغًا أن تنهدم الكعبة وتُبنى مرتين في جيلٍ واحد، ولا يبقَى منطقيًّا سوى افتراض أن يكون الجراهمة هم ذات العمالقة، وأنهم عاصروا النبيَّيْنِ إبراهيم وولده إسماعيل، وشاركوهما بناء البيت الإلهي، ومما يعضد هذا المنطق، ما يبدو لنا التباسًا حدث عند «ابن سيد الناس» في تاريخه، فقال: إن البيت قد بُني أيام جرهم مرة «أو مرتين». وترك الأمر مفتوحًا للاحتمال والترجيح،١١ أما صاحب السيرة الحلبية الذي وقع في ذات الحيرة، فقد أجاز لنفسِه تأكيد أمر واضح هو «أن العمالقة بنته ولابد».١٢
وإذا كان «أورسيوس» يقول دون أن يخشى اعتراضًا: إن هاجر كانت عملاقة، وأن ولدها إسماعيل قد تزوج عملاقة، وقام المسعودي يجمع من الموروث القديم ما يؤكِّد أن إسماعيل قد تزوج عملاقة وجرهميَّة، إضافةً إلى ما وجَدْناه عند ابن هشام وهو يجمع من المأثورات العربية السالفة ما يوطئ به للسيرة النبوية فيقول: «إن إسماعيل نبي مرسل أرسله الله «إلى أخواله من جرهم، وإلى العماليق».»١٣ ثم إصراره بعد ذلك على أن أخوال إسماعيل من الجراهمة، في قوله: «وبنو إسماعيل أخوالهم من جرهم»،١٤ وقوله في موضع آخر: «ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت، والحكام لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم»؛١٥ فإن الأمر كله يفضي إلى أن أم إسماعيل (هاجر) المعروف أنها مصرية الأصل، هي أيضًا «جرهمية»، وهي عند «أورسيوس» عملاقة، ويصادق جميعه على صدق فرضِنا أن كلمة «جرهم» مأخوذة من الأصل «مجر» الذي يعني «مصر»، ولا يكون هناك مندوحة من التسليم — في ضوء ما جمعناه من شواهد — بأن الجراهمة هم العمالقة هم المصريون، وأن العملقة كانت من صفة المصريين أو الجراهمة، لتفسِّر عظمتهم في الإنشاء والإعمار، وعليه تكون هاجر أم إسماعيل، وكذلك زوجته من العمالقة الجراهمة المصريين، ولعل اسم «هاجر» يشير إلى معنى المصرية، فالهاء أداة التعريف في العربية الشمالية وفي العبرية، «وجر» أو «مجر» هي مصر، وربما أسقط حرف الميم بالتخفيف مع مرور الزمن. ومن هنا نفهم أيضًا لماذا لم يعترض أحد على «أورسيوس» من أهل زمانه وأولهم أستاذه «أوغسطين». فلا ريب أن الأمر حينذاك لم يكن مثيرًا للاعتراض، وهو بالطبع لن يكون كذلك، إلا إذا كان لدى أهل زمانه مأثور هو من المسلَّماتِ والمعروف، ومن نوافل المعلوم الذي اكتسب قدسية التقادم، يشير إلى ما وصلنا إليه، وهو أن «العمالقة مصريون»، ومن هنا أيضًا نفهم لماذا ظل العبريون طوال حوالي ألفِ عام من تاريخهم يعبدُون ربهم في خيمة، أو جعلوا من هذه الخيمة بيتًا له ومسكنًا أسموها «خيمة الاجتماع»، ولم يكن ذلك إلا لأنهم أهل بداوة وتنقُّل، بينما تمكَّن فرعهم الإسماعيلي المتصل بالجراهمة العمالقة أن يُقيم للرب بناء معماريًّا بدلًا من الخيمة البدوية في زمن مبكَّر، «ومن يعرف البناء في مجتمع خيموي؟»
وقد سبق لنا في مقالٍ نقديٍّ لمنهج «د. سيد كريم»، ومعالجته لموضوع بعنوان «قدماء المصريين وبناء الكعبة»،١٦ أن أشرنا إلى أنه رغم انتقادنا لمنهجِه بقسوة، فنحن نتفق معه في نقطةٍ هامة حول القول بهجرة مصرية من «منف» إلى جزيرة العرب، لذلك وجبَ التنويه أن «د. كريم» أفاد أن الاسم «جرهم» يعني «مهاجري مصر»، وذلك مما يلتقي مع مذهبنا، وكنا نتمنى أن يكون المصدر الذي اعتمدَه بين أيدينا، لنرفقه بالهوامش زيادة في الفائدة لكنَّه لم يشر إلى مصادره، وقد أفاد أيضًا أن الاسم «مناف» في جزيرة العرب مأخوذ من كلمة «منف» المصرية، وهو قول يمكننا أن نكسبه صلابة وقوة إذا ربطناه بمَذهبنا هنا، لأن المناف لغة من القوة والنيف، أي الزيادة في الحجم، فالكلمة بذلك تشير إلى معنى العملقة، كما تلتقي «عبد مناف» مع تعبير ابنِ خلدون «عبد ضخم»!
أما أكثر المدهشات في أمر «المسعودي» عند الباحثين، وربما اعتبروها من سقطاته وغضوا الطرف عنها، بينما هي لدينا أكثر مقولاته اتِّساقًا مع طبيعة الأمور، وتحتاج إمعان النظر فيها، هي قوله في إشارة خاطفة: «وقيل إن هؤلاء العمالقة بعض فراعنة مصر.»١٧ فما أقوى ذاكرة الأجيال التي حفظتْ تلك الحقيقة عبر سنين طويلة، وما أبلغه من دليل على طَرْحنا، وشكرًا للمسعودي! لكن المشكلةَ — الظاهرية — أمامنا الآن يثيرها المسعودي نفسه، وذلك في قوله: إن العمالقة قد جاءوا الحجاز مهاجرين من اليمن بعد أن أقحَط، وحطُّوا رحلَهم إلى جوار هاجر وولدها وصاهروهما، وهذا يعني أن العمالقة أو الجراهمة من اليمن وليسوا من مصر، خاصةً مع قولٍ آخر له عن إسماعيل، وهو أن الله قد «أرسله إلى العماليق من قبائل اليمن»، وهو مما يضع أمام أطروحتنا اعتراضًا ابتدائيًّا، هو لوجه الحق مؤيد قوي لنا، كما سنرى.
والمسعودي لا يقف منفردًا في القول: إن العمالقة قدموا إلى الحجاز من اليمن، بل هو واحد في لفيف من الإخباريين المسلمين، الذين يجمعون على حسبان أن كافة الهِجْرات سواء إلى الحجاز، أو إلى العربية الشمالية، أو إلى الشام، أو إلى الرافدين، قدمت أصلًا من بلاد اليمن، وهو ما يحيلنا مرة أخرى إلى إصرار التوراة وتأكيدها المستمر: «وارتحل إبرام ارتحالًا متواليًا نحو الجنوب». أما تراثنا، رغم ما حوى من تهويلاتٍ ومبالغات لايني يفاجئنا بثرائه، وحفظه لذاكرة الأجيال، فيقول الثعلبي: «ثم نبأ الله إسماعيل «فبعثه إلى العماليق وقبائل اليمن».»١٨
وقد علمنا أن الترجمة العربية للتوراة، تترجم اتجاه النبيِّ المستمر نحو «ﻫ-نجب» بأنه ارتحالٌ دائم نحو الجنوب، وهنا تضيءُ اللغة المنطقة أمامَنا، فلكلمة الجنوب مرادف آخر في العبرية هو «يمن»،١٩ أما اصطلاحات اللغة العربية الجغرافية، فتشير إلى الشمال بكلمة «الجدي» وإلى الجنوب بذات الكلمة العبرية «يمن»،٢٠ فالكلمة «يمن» تعني الجَنوب، والجَنوب كان هدفَ النبي المرتحل جنوبًا أو يمنًا، إلى «بلاد اليمن»، كما أن «يمن» ظلت دلالة العقيدة الصادقة، فمن كلمة «اليمن» تأتي كلمة «اليمين» و«أهل اليمين»، والقسم الصادق «يمين». وفي الروض الأنف يضع السهيلي تخريجًا يقول: إن اليمن سُمِّيت يمنًا لوقوعها عن يمينِ الكعبة،٢١ واللغة تنسب بذلك اليمين إلى اليمن؛ لأنَّ أهل اليمين هم أهل الإيمان، والكلمة «إيمان» والكلمة «يمن» من جذر واحد، وكذلك «المؤمنين» مشتقة من الجذر ذاته.
ولا مفرَّ هنا من تذكر أشهر الآلهة المصرية القديمة «آمين» أو «أمون» وكان إله الدولة الرسمي، وظل معبودًا بهذا الاسم ما يزيد على ألفي عام، ويعني اسمه في المصرية القديمة «الواحد الخفي»٢٢ عن الإدراك، ثم نتذكر أن الألف أو الهمزة تقلب ياء في الساميات، فيصبح «آمين» هو «يمين»، ويصبح «آمن» هو «يمن». أما المذهل حقًّا فهو ما نجده في كتب التراث مصدِّقًا لمذهبنا، فتقول السيرة الحلبية في حديثها عن مأثورٍ قديم، يقول: إن أول من سَكَنَ اليمن، من يُدعى يعرب بن قحطان، «ويعرب هذا قيل له: أيمن، وسمي اليمن يمنًا بنزوله فيه»،٢٣ وكان من السهل أن تقلب «آمن» أو «آمين» إلى «أيمن»، ولا تختم الصلوات في أي ديانة شرقية حتى اليوم، دون التأمين عليها باسم الواحد الخفي «آمين».

حقيقة إن كل ذلك هو مؤشرات إلى التصوُّر الأوفق لاتجاه العمالقة الجراهمة بني مَنف، سواء في هجرة، أو في شكل حاميات عسكرية متقدِّمة، وهو بالطبع لن يكون إلى بَلْقَع الحجاز الأجرد، وهم من اعتادوا الخصب في بلادهم، إضافة للمزية الاستراتيجية لبلاد اليمن، وتحكُّمِها في عنق البحر الأحمر عند المندب، واتصالها الجنوبي بامتداد مصر في أثيوبيا والصومال. ومن هنا نتصور أن تواجدهم كان في المناطق الخصبة، وأخصب بلاد العرب تلك التي خصَّتْها الكتابات الكلاسيكية بوصف «بلاد العرب السعيدة»، وما انتشر فيها من علوم الري وفنونه، والسيطرة على المياه ومجاريها، وهو ما تعبر عنه بصدقٍ وضَّاء كلمة «يمن» التي تعني الجنوب وتعني بلاد اليمن، وبضم الياء تصبح «يُمن»، واليمن لغة هو السعد.

وعند انتهائنا من هذا الجزء من الدراسة، صادفَنا ما يصادق على اجتهادنا، في كون الجراهمة هم العمالقة هم المصريون، حيث وجدنا السهيلي يشير إلى عقائد بعض أهل الجاهلية فيقول: «وكان من خرافاتها في الجاهلية، أن جرهمًا ابنٌ لملك أهبط من السماء لذنبٍ أصابه فغضب عليه من أجله، كما أهبط هاروت وماروت، ثم ألقيتْ فيه الشهوة، فتزوج امرأة فولدت له جرهما.»٢٤

والمقصود هنا هو أن «جرهم» من نسل ملاك وإنسية، والعجيب أن ذلك يلتقي تمامًا مع رواية جاءت في التوراة، تقول: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسناوات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، كان في الأرض طغاة في تلك الأيام وبعد ذلك أيضًا؛ «إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم»» (تكوين ٦: ١–٤).

وبالربط بين الروايتين نفهم أنَّ الجراهمةَ هم نسل عجيب لآباء سماويين ونساء أرضيات، أو ثمرة الزواج بين أبناء الله وبنات الأرض، وأن هذا النسل عرف بالطغيان والجبروت، وأن هؤلاء الجبابرة كانوا «منذ الدهر ذوي اسم»، أي معروفين منذ بداية الأزمنة.

ولا نرى في تلك الروايات سوى تصديقٍ لتفسيرنا، فقد ذهب العقلُ حينذاك إلى احتساب هؤلاء جبابرة أو عمالقة، مع ملاحظة تشابه التعبير التوراتي «جبابرة» مع التعبير العربي «جراهمة»، إضافة إلى إشارة مهمة وخطيرة، فالمعلوم أن المصريين القُدَماء قد اعتقدوا أنَّ الملك هو ابن الإله وممثله على الأرض، وكانت هذه صفةً متواترة، معلومة عنهم،٢٥ ومن ثَمَّ كان ممكنًا أن يتصور أهل الجزيرة ضيوفهم في أُبَّهتِهم وعبادتهم نماذج إلهية، عضَّدها الاعتقاد المصري، وذلك يفسِّر لنا أيضًا لماذا اعتبر جراهمة الجزيرة، أو جبابرتها أو عمالقتها من نسل مصري؟ ولماذا احتُسبوا عمالقة؟ ولا يفوتنا الاعتقاد العربي في كون جرهم أُهبِط تلك البلاد لذنبٍ أصابه، مما يشير إلى لجوء عظماء للمنطقة هربًا من مطاردةٍ في الأرض الأم، إضافة إلى قول التَّوراةِ عن أنَّ الناس بدءُوا يكثرون في الأرض، مما يشير إلى توافد أعدادٍ غفيرة إلى المنطقة، وأن هذا التوافد المهاجر كان لأُناس يعرفهم الجميع ويعلمهم الدهر، فهم «الذين منذ الدهر ذوو اسم».
١  الثعلبي: عرائس المجالس، ص٨٢.
٢  ابن هشام: في الروض الأنف للسهيلي، ج١، ص١٣٥.
٣  جاردنر: مصر الفراعنة، ص١٥٦–١٥٨.
٤  المسعودي: مروج الذهب، طبعة المكتبة الإسلامية، ج٢، ص٤٠.
٥  الثعلبي: عرائس المجالس، ص٦١، ٦٢.
٦  يذهب كثيرٌ من المصرولوجيين إلى أن الاسمين: «مصر» و«القبط ومنها EGYPT»، يعود إلى أصل مصري قديم قُحٍّ، فالاسم مصر من الأصل الهيروغليفي «مجر»، وكان في الأصل يعني: السور أو الحصن العظيم، انظر في ذلك: د. عبد الحميد زايد: أسماء مصر، مجلة كلية الآداب والتربية، جامعة الكويت، عدد٢، ١٩٧٢م، ص٣٣. هذا بينما يذهب آخرون إلى أن «مجر» هو في الأصل لفظ ساميٌّ درج بعد ذلك، ويشير إلى مصر بمعنى الحدِّ الكبير.
٧  أورسيوس: تاريخ العالم، ص٩٢.
٨  المسعودي: مروج الذهب، طبعة المكتبة الإسلامية، ج٢، ص٤٦، ٤٧.
٩  ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحقيق لجنة التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط٢، ١٩٨٠م، ج١، ص٦٦.
١٠  السيرة الحلبية ج١، ص٩٦.
١١  ابن سيد الناس: ج١، ص٦٧.
١٢  السيرة الحلبية: ج١، ص٩٦.
١٣  في شرح السهيلي: الروض الأنف، ج١، ص١٧.
١٤  نفسه: ص١٥٣.
١٥  نفسه: ص١٣٥.
١٦  د. سيد كريم: قدماء المصريين وبناء الكعبة، مجلة الهلال، عدد فبراير ١٩٨٢م، انظر تعقيبنا على موضوعه بعنوان: هل بنى الفراعنةُ الكعبة؟ تصحيح مغالطات، مجلة القاهرة، عدد ٨١، مارس ١٩٨٨م، انظر أيضًا كتابنا: رب الزمان، مدبولي الصغير، القاهرة، ١٩٩٥م.
١٧  المسعودي: مروج الذهب، طبعة المكتبة الإسلامية، ج٢، ص١٣٥.
١٨  الثعلبي: عرائس المجالس، ص١٠٠.
١٩  د. كمال صليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب، ص١١٣.
٢٠  المسعودي: مروج الذهب، طبعة المكتبة الإسلامية، ج١، ص٢٠٠.
٢١  السهيلي: الروض الأنف، ج١، ص١٩.
٢٢  إليزابيث رايفشتال: طيبة في عهد آمنحوتب الثالث، ترجمة إبراهيم زرق، مكتبة لبنان: بيروت، ١٩٦٧م، ص٣٧.
٢٣  السيرة الحلبية: ج١، ص٢٩.
٢٤  السهيلي: الروض الأنف، ج١، ص١٣٨، ١٣٩.
٢٥  انظر لمزيد من التفصيل كتابنا: أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة، دار فكر القاهرة، ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤