تقديم

«كان السؤال الذي شغلني وحركني في جميع مسرحياتي هو هذا السؤال: كيف ينبغي على الإنسان أن يعيش، وما الذي ينبغي عليه أن يفعله؟» .. ولأن السؤال قد طرحَتْه أجيالٌ من الأدباء والمفكرين والبشر العاديين منذ عصور لا تدركها الذاكرة، وسوف تُواصل طرحه أجيالٌ أخرى في عصورٍ لا نستطيع أن نتنبَّأ بطبيعتها وأحوالها، فقد اهتدى السائل — وهو الكاتب المسرحي تانكريد دورست الذي نقدِّم في هذا الكتاب عملَين من أجمل وأشهر أعماله — إلى الحقيقة البسيطة التي تُلزمنا بالخضوع لها، دون التوقُّف في الوقت نفسه عن معاودة طرح السؤال بكل الصيغ والأشكال الممكنة، ألا وهي استحالة التوصُّل لإجابة نهائية وحيدة عليه، لأن كل الإجابات التي زعمت على مدى التاريخ أنها هي الأخيرة والقاطعة قد ثبت فشلها الذريع، وربما تسبَّب بعضها في كوارث ومآسٍ لا أوَّل لها ولا آخر .. لهذا لا يُدهشنا أن نجد كاتبنا يقول عن مسرحه: إنه هو مسرح الحيرة والتساؤل المستمر الذي يكتفي بإثارة العقل والوجدان ولا يتورَّط في الزعم الأجوف بتقديم الحقيقة أو الحقائق النهائية، وكأن هذا المسرح يستظلُّ بالعبارة الجدلية الساخرة الشهيرة التي أطلقها سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي أنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف، أو بالعبارة المُفعَمة بالشك والألم التي أطلقها «مونتني» في القرن السادس عشر الميلادي، وكانت — وما تزال — أوجعَ سخرية من عجز الإنسان وغروره الباطل: ماذا أعرف أو ماذا يمكنني أن أعرف؟

لا عجب إذَن أن نجد هذا الكاتب يعترف في مقالٍ مهمٍّ سبق تأليفه للمسرحيتَين التاليتَين وعبَّر فيه عن رؤيته التي استخلصها من تجارِبه ومحاولاته المختلفة في التأليف لمسرح العرائس والسينما والإذاعة المسموعة والمرئية والعروض والألعاب الدرامية المتنوِّعة، وهو المقال الذي جعل عنوانه: خشبة المسرح هي المكان المطلق (١٩٦٢): «المسرح في نظري نوعٌ من التجربة؛ إنه المحاولة الدائبة لعرض الإنسان وإظهاره على خشبة المسرح، الإنسان الذي يحيا الآن بكل ما يُحرِّكه ويُقلِقه، وبكل ما يعمله وينتجه وما يُقيِّده كذلك ويُحدِّده. والأدوات التي أتوسَّل بها في سبيل ذلك قديمة قِدَم المسرح ذاته: فهي استخدام القناع، والخلط (الناتج عن سوء الفهم)، وإبراز المظاهر المنعكسة، وأسلوب المسرح في المسرح. وهي جميعًا تُستَغل لإظهار وجود الممثل على خشبة المسرح في صورة رائعة ومثيرة للتساؤل في الوقت نفسه، وبذلك نتمكَّن من وضع أنفسنا — لأننا مشاركون كذلك في التجربة — ووضع أحكامنا وقيمنا ومعاييرنا الاجتماعية وأخلاقنا موضع التساؤل» .. هذه العبارات أو بالأحرى الاعترافات القصيرة تكشف لنا عن الموقف المبدئي لهذا الكاتب من الواقع الشامل، وهو في صميمه موقف يُعبِّر عن علاقته الدرامية أو «التمثيلية» به، ويسري مسرى الدم في شرايين أعماله وأوردتها، ويؤكِّد نزعتها النقدية الساخرة من روح العصر، ومن البرجوازي الأوروبي أو إنسان الطبقة الوسطى المُتزمِّت الضيِّق الأفق الذي لا يكاد يشغله شيء في حياته بقَدْر ما يشغله «الإنجاز» و«التملك»، كما يبين محاولاته المستمرة في تسليط الضوء على الحقيقة الإنسانية العارية البسيطة، حقيقة الإنسان العادي أو «الإنسان الصغير» الذي كان على الدوام هو المُحرِّك الفاعل للتاريخ والضحية الأولى والأخيرة له وللطغاة والمستبدِّين الكبار والصغار الذين تحكَّموا وما زالوا يتحكَّمون فيه … من هنا كان همُّه الدائم هو تقديم الدراما الإنسانيَّة — لا التاريخيَّة أو الوثائقيَّة! — على خشبة مسرح إنساني أو عالمي شامل، في عرض أو استعراض تمثيلي يُمتع المُشاهد العادي، ويُدهشه، وربما ينجح أيضًا في تغييره أو على الأقل في البقاء في ذاكرته ووعيه مدى الحياة، لا سيَّما إذا نجح كما قلنا في الكشف عن الحقيقة البشرية العارية من كل غطاء أيديولوجي أو فلسفي أو أخلاقي زاعق، وفي دعوة هذا الإنسان إلى معرفة دوره والقيام به لإنقاذ الأرض التي تندحر وتنحدر إلى حضيض الهاوية دون أن ننتبه لذلك! وحثِّه على المشاركة في إيقاف الكارثة التي يندفع إليها التاريخ، وتُهدِّد بتدمير الحياة وتخريب الإنسان بعد تجويعه وتعذيبه بفظاعة ووحشية دونها فظاعة الوحوش.

•••

وُلد تانكريد دورست — مؤلف المسرحيتين التاليتين اللتين ترجع إحداهما لفترة مبكِّرة من حياته (١٩٦١) والأخرى لِما قبل سنوات قليلة (۱۹۹٢) — في اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر سنة ١٩٢٥ في بلدة «أوبرلند» القريبة من مدينة «زونيبرج» بولاية تورنجن لأسرة يشتغل عائلها بالهندسة وصناعة الآلات. وقد تُوفِّي أبوه وهو في السادسة من عمره، ولم يكَد يتم تعليمه الأوَّلي والثانوي في موطنه الأصلي حتى استُدعي في عام ١٩٤٢ — وهو بعدُ في السادسة عشرة من عمره — للانخراط في الجيش، وعانى من أهوال الحرب العالمية الثانية التي كانت على أشُدِّها في ذلك الحين، وتعلم الخشونة والصرامة والطاعة وروح العمل الجماعي، كما تعلَّم كيف ينظر إلى الواقع المحيط به نظرة المراقب الذي يشك في كل شيء ويسخر من كل طموحٍ وهميٍّ فاسد، حتى وصل إلى الاقتناع ببطلان كل المشروعات العالمية الكبرى وهشاشتها (على نحو ما يُعبِّر بعض أبطاله في مسرحيته الفيلا — ۱۹۸۰ — وهينريش أو آلام المخيلة — ١٩٨٥) وبعد أن تقلَّب في معسكرات الاعتقال في بلجيكا وإنجلترا والولايات الأمريكية المتحدة حتى سنة ١٩٤٧، رجع إلى وطنه، وحاول أن يستأنف دراسته في بامبيرج ثم في ميونخ ابتداءً من سنة ١٩٥١، حيث أقبل على سماع المحاضرات التي كانت تُلقى هناك عن الأدب الألماني وتاريخ الفن وعلوم المسرح. لكن ظروف حياته القاسية حالت دون إتمام دراسته، فراح يبحث عن قُوتِه في أعمال مختلفة ومِهَن متنوِّعة أتاحت له الاقتراب من بسطاء الناس والتعرُّف على حياتهم وهمومهم اليومية: «كانت أحوالي في السنوات الأولى بالغة السوء .. كنت أجلس في حجرتي الضيِّقة الصغيرة في حيِّ شفابينج (وهو حي الفنانين المشهور في مدينة ميونخ) وأكتب مسرحيات للعرائس لم تُدِرَّ عليَّ أي إيراد يُذكر. لم أستطع في ذلك الحين أن أتصوَّر كيف يمكن أن يكسب الإنسان شيئًا من المال. ثم حصلت في سنة ١٩٥٩ على جائزة من مسرح مدينة مانهايم الوطني عن مشروع مسرحية كتبتها وهي «مجتمع في الخريف»؛ فبدأتْ أحوالي منذ ذلك الحين في التحسُّن.»

ولا بدَّ من الانتباه إلى أهمية تلك الفترة التي قضاها دورست في ميونيخ مع أوائل الخمسينيات في التأليف لمسرح العرائس الذي كان يُعرف باسم اللعبة الصغيرة، وتأثيرها البالغ على حياته وإنتاجه وأسلوب كتابته المسرحية بوجه عام. فلا شك أن عمله في ذلك المسرح الذي شارك في تأسيسه وإدارته وإخراج تمثيلياته فيه، قد كان له أعمق الأثر على اختياره لموضوعاته من الأساطير القديمة والحكايات الشعبية الشرقية والغربية، والقصص والأمثولات والخرافات والحواديت التي تُثير أحلام الأطفال الذين يتوجَّه إليهم كثيرًا بخطابه، كما يُعلِّق عليهم أمله الوحيد في إنقاذ كوكبنا البائس الصغير من أيدي السادة الكبار أصحاب المشروعات الضخمة، وأمله في تحقيق «اليوتوبيا» (المدينة المثالية الفاضلة) التي ثبتت استحالتها وفشلها — كما سبق القول — ولم تعِش حتى الآن وربما لن تعيش وتزدهر إلا في خيال الأطفال والفلاسفة والأدباء … والمهم من كلِّ ذلك أن المسرحيات التجريبية الصغيرة التي كتبها دورست في ذلك الحين مثل مسرحية «المنحنى» (١٩٦٠) التي نقلها إلى العربية المرحوم الدكتور إبراهيم حمادة ونشرها مع مسرحيات أخرى في كتابه «أقنعة الملائكة» ومسرحية خطبة الإدانة — أو التشهير — الطويلة أمام سور المدينة (١٩٦١) التي تجدها في هذا الكتاب، ومسرحية القط ذي الحذاء أو كيف تُلعَبُ اللعبة (١٩٦٣) أقول إن المهم من كل ذلك أن المسرحيات المذكورة قد تأثَّرت تأثُّرًا مباشرًا بكتابته لمسرح العرائس في تلك الحقبة القصيرة من حياته، كما تغلغل تأثيرها أيضًا بصورة غير مباشرة في معظم ما كتبه حتى يومنا الحاضر .. وهذه المسرحيات التجريبية الساخرة التي ذكرناها تُعبِّر عن تأثُّره بمسرح العبث أو اللامعقول من جهة، وبالمسرح الملحمي وأساليبه المختلفة عند بريشت وبعض الكُتَّاب الذين جاءوا بعده — مثل دورنمات وماكس فريش — من جهةٍ أخرى، كما أنها تستفيد من خبرته في التأليف لمسرح العرائس والكتابة عنه (سر مسرح العرائس ١٩٥٧، ومحاولات عن مسرح العرائس ١٩٥٩). والواقع أن الموضوعات التي طرقها فيها وعالجها بأشكال وتنويعات مختلفة ظلَّت تسيطر على بقية مسرحياته، إذ نحسُّ منها أن رؤيته للوجود ذات طابع تمثيلي، كما نلمس محاولاته المستمرة لتقديم لعبة المسرح في المسرح، ونشاهد الكثير من الطقوس الخالية من أي معنى، ونشعر باستحالة التواصل بين البشر الذين يضعون على وجوههم أقنعةً لا يلبثون مع مرور الزمن أن يندمجوا فيها ويتَّحِدوا بها بحيث يتعذَّر عليهم تمييز الوجه من القناع، والدور الذي يؤدونه من الحياة الحقيقية التي يعيشونها.

وفي عقدَي الستينيات والسبعينيات تمرَّس بالعمل في دور النشر والكتابة للسينما والإذاعة المسموعة والمرئية، وترجم عن الفرنسية بعض مسرحيات موليير والكاتب الأيرلندي سين أوكيزي ترجمة جديدة، كما ترجم وأعدَّ للمسرح رواية مفكِّر عصر التنوير وأديبه المشهور ديدرو وهي ابن أخت رامو (التي سبق أن ترجمها لأول مرة شاعر الألمان الأكبر جوته) وقد قضى سنة ١٩٧٠ كاتبًا مقيمًا في كلية أوبرلين بولاية أوهيو بالولايات المتحدة الأمريكية، كما قام سنة ١٩٧٣ بالتدريس في بعض الجامعات في أستراليا ونيوزيلاندا. وربما كانت هذه المرحلة من حياته وإنتاجه قد مهَّدت لاهتمامه بعد ذلك بالموضوعات التاريخية التي راحَ يعرضها من زاوية البحث الدائب عن الحقيقة، حيث تناول حياة عدد من كبار الأدباء الغربيين الذين توهَّموا أن الأدب يمكن أن يصنع ثورة، وأن الكلمة يمكن أن تكون فعلًا أو تنوب عن الفعل، وكذلك بعض الأدباء الذين أُدينوا بتهمة التعاون مع النازيِّين وتلويث أقلامهم وأيديهم بوضعها في الأيدي التي تلطَّخت بالدم والوحشية. ولم يكُن هدفه من ذلك هو فضح تلك الشخصيات ولا الصُّراخ بآراء وأفكار صاخبة عن الحقيقة والحرية، بل اكتشاف أعماقهم الإنسانية، وإثبات فشل الأدب والفن كليهما عندما يتصوَّران في نفسهما القدرة على حلِّ مشكلات الواقع أو السيطرة عليها. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي بعض مسرحياته التي جلبت له شهرة عالمية، كمسرحية «عصر الجليد» عن واحد من أكبر أدباء النرويج وهو كنوت هامسون (١۸٥٩–١٩٥٢) صاحب رواية «الجوع» الشهيرة، ويُقدِّمه دورست من خلال أحد عشر مشهدًا تدور في دار استشفاء أو مصحَّة للعجَزة المصابين بالأمراض العقلية والعصبية، وتُعرَض علينا شخصية هذا العجوز العنيد الواثق بنفسه، والمستمسك بنزعته العدوانية الشرسة نحو المجتمع والناس والجيل الجديد الذي لعنه وأدان وقوفه مع أعداء بلاده من وحوش النازيَّة (وقد ظهرت المسرحية في سلسلة المسرح العالمي الكويتية — العدد ۱۸۸ — في ترجمة عربية ممتازة مع مقدمة جيدة ووافية). وتُذكر في هذا الصدد كذلك مسرحيته «تولر» (١٩٦٨) عن أديب الحركة التعبيرية الألمانية والثائر الخيالي المتحمِّس والمُنفصِم عن الواقع وهو إرنست تولر (١۸۹۳–١۹۳۹). الذي كتب مسرحيات مثيرة عن زحف جحافل الآلات والجماهير، وشارك في قيادة ثورة قصيرة العمر عُرفت باسم «ثورة ميونيخ»، وأسَّسَت ما سُمِّي باسم «جمهورية اللجان الاشتراكية» التي لم تبقَ على قَيْد الحياة سوى أسابيعَ قليلةٍ.

وتتألف المسرحية من لوحات ولقطات استعراضية من الأحداث التي وقعت بين إعلان قيام جمهورية اللجان الاشتراكية وسقوطها في سنة ١٩١٩. ولم يكُن هدف «دورست» من هذه المسرحية — كما قلنا — هو التوثيق التاريخي، بل كان هدفه هو عرض مشكلة الالتزام السياسي الذي ينخرط فيه المثقف والفنان المبدع في موقف زمني وتاريخي محدَّد، فيتصوَّر أنه قادرٌ على إبداع الثورة كما أبدع أعماله الفنية، وأن الثورة يمكن أن تصبح فعلًا خلَّاقًا كالفعل الإبداعي سواءً بسواء .. والواقع أن حماس «تولر» واندفاعه الثوري يُنسيانِه ضرورة تنظيم الثورة أو إدارتها. ويُصوِّر المؤلف «تولر» في صورة ممثل «يلعب» الثورة، بحيث تصبح هذه الثورة نوعًا من الأدب، ويحلُّ الانفعال الأدبي محلَّ التنظيم العملي، وتعجز الشعارات الأخلاقية والطموحات المثالية عن حماية الثورة من أعدائها الذين هزموها واعتقلوا وأعدموا أعضاء لجنتها الذين كان معظمهم من الأدباء الذين لا يكفُّون عن الثرثرة والمناقشات والمحاورات وكأنهم في مهزلة دموية! والمهم أننا نخرج من هذا العرض المسرحي بأنَّ الثورة التي يُصمِّمها الأديب لا بد أن تنتهي بأن تكون هي الأخرى أدبًا لا صلة له بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحياه الناس.

وقد اشترك «دورست» في هذه الفترة من حياته مع المخرج المسرحي الشهير بيتر زاديك في إنتاج سيناريوهات أفلام ومسرحيات متنوِّعة تتناول الأزمات الاجتماعية وعجز المثقفين وتناقضاتهم في التعامل معها، مثل الاغتيال الأحمر أو كنت ألمانيا (١٩٦٩)، ورمل (۱۹۷۱) وعصر الجليد (۱۹۷۳) وجونكورا وإلغاء الموت (١٩۷۷)، وهو يعمد فيها جميعًا إلى إثارة المتفرِّج بدلًا من وعظه، وذلك مع افتراض نضج هذا المتفرج وقدرته على تحمُّل مسئولياته الأخلاقية. وقد تبعت ذلك سيناريوهات أفلام سينمائية وتليفزيونية متعدِّدة منها دور وتيا ميرتس (١٩٧٦)، وأم كلارا (١۹۷۸) وموش (۱۹۸۰) بالإضافة إلى مسرحياته الألمانية التي يتناول فيها علاقته التمثيلية بالتاريخ المعاصر من خلال قصة حياته وحياة عائلته وموقفه النقدي من الواقع الاجتماعي في ألمانيا منذ عهد جمهورية فَيْمار في العشرينيات حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، مثل فوق الشيباروزو (١٩٧٤) والفيلا (١٩٨٠) وهينريش أو آلام المخيلة (١٩٨٠)، وأخيرًا نذكر السيناريو الذي كتبه بعنوان «البستان المحرم» (١٩٨٣) عن شاعر إيطاليا الكبير جابربيل دانوننزيو (١٨٦٣–۱۹۳۸) الذي اتُّهم بوضع يده في أيدي الفاشيِّين، كما كان آخر دعاة البطولة والقوة والنشوة بالعنف والرعب سبيلًا للانتصار المزعوم على الرُّكود والضعف والموت، وتحقيق «الخلود» الوهمي عن طريق عبادة الشِّعر والجمال اللذَين يضيفان — في نظر ذلك الشاعر الكبير المعتوه — غِلالتهما السحرية المسمومة حول جسد الواقع والإنسان العادي والحقيقة العارية المباشرة والبسيطة .. وتُذكر في هذا السياق أيضًا مسرحيته الشعبية التي تلجأ لأسلوب العرض أو الاستعراض الغنائي والموسيقي في مناظر متتالية تشبه لقطات حية منتزَعة من واقع الأحوال المعيشية البائسة خلال الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي اجتاحت أوروبا في الثلاثينيات وسبقت استيلاء النازيِّين على السلطة في سنة ١٩٣٣. والمسرحية التي نقصدها وهي «أيها الإنسان الصغير، ما العمل الآن؟» مأخوذة مع عنوانها نفسه من رواية حقَّقَت شهرةً واسعة في تلك السنوات العِجاف للأديب الواقعي هانز فالادا (۱۸۹۳–١٩٤٧) الذي كتبها في سنة ١٩٣٢، وظلَّت هي تاج إنتاجه الروائي الذي يكاد يدور حول موضوع واحد هو هموم الرجل العادي ومتاعبه وسط عالَم يسحقه ويُحبِطه كلَّ يوم، ولكنه لا يستسلم أبدًا لهذا الإحباط، بل يفتح لنفسه فتحةً في جدار الواقع المظلم الصُّلب لينفُذَ منه ويرتفع فوقه ولو بأجنحة الحلم والخيال. وقد عرض فيها دورست — على طريقة الكباريه أو الجريدة الغنائية والموسيقية — مشاهد ولوحات شديدة التنوُّع عن ألوان العذاب والضياع والمهانة التي يلقاها زوجان شابان ربط بينهما الحب الحقيقي وحاول عبثًا حُرَّاس الحصار المطبق عليهما من ذئاب المال والأعمال أن يستغلوا جمال الزوجة وفقر الزوج في تمريغهما في الوحل وتلطيخهما بالعار، ولكنَّ الزوجين المحبَّين يُفضِّلان في آخِر المطاف أن يُنهيا مأساة جحيمهما الأرضي بالموت الإرادي — وربما غير الإرادي بسبب الجوع والإرهاق! — فيرتفعان معًا كحمامتَين حزينتَين وغاضبتَين إلى رحاب فردوس سماوي يُعوِّضهما عن ظلم الأرض وبشاعة أهلها وخراب ذممهم ونظامهم الاجتماعي والسياسي الذي لم يستطع أن يُوفِّر لهما الكفاف من خبز العدل والرحمة.

والظاهر أن هذه الإعدادات السينمائية والاستعراضية المتنوِّعة لم تستطِع أن تُشبِع طموحه لإنجاز عمل مسرحي كبير يضع فيه خبرته الطويلة وحنينه الدائم لأجواء الحكاية الشعبية وميله المستمر لمزج الماضي بالحاضر والخرافة بالواقع في لوحات متتالية تحمل انتقاداته للحياة الاجتماعية والنفسية التي يكابدها الناس على أرض الواقع. ولهذا تجده يتَّجِه في سنة ١٩٨١ إلى كتابة عمل شامل استوحى مادَّته من الحكايات المشهورة في العصر الوسيط — القرن الثاني عشر الميلادي — عن الملك آرتوس وفرسان المائدة المستديرة، وهذا العمل الشامل هو مسرحيته الطويلة «ميرلين أو الأرض الخراب» — التي تتألف من سبعةٍ وتسعين منظرًا يستغرق عرضها ما يقرب من عشر ساعات في ليلتَين متتاليتَين! — تدور حول موضوع أُثير لدى المثقَّفين الساخطين منذ أفلاطون على أقل تقدير على واقعهم المتردِّي، كما أثارته الأحداث الأخيرة بعد السقوط المدوِّي للتطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق والدول التي كانت تدور في فَلَكه، وهو موضوع فشل اليوتوبيات (أو المدن المثالية الفاضلة) .. فالساحر ميرلين الذي كان مولده ثمرة الزواج العجيب لشيطان من عذراء، يُكلِّفه أبوه بأن ينزع من قلوب البشر الخوف من الشر. ولكن ميرلين يرفض القيام بهذه المهمة، ويصمم على تجاربه مع الخير الكامن في نفوس البشر، وينجح في إقناع الملك أرتوس بجمع أبطال العصر وفرسانه حول مائدته ليقيموا النظام العادل في هذا العالَم. غير أن صراعات الحقد والحسد القاتلة سرعان ما تدبُّ بين فرسان المائدة المستديرة، ويكتشف ميرلين أنه يقف على أرض خراب (إيماءً لقصيدة إليوت المشهورة) اختفى منها كل أمل في العدل والخير، وكل رجاء في تحقيق اليوتوبيا على هذه الأرض، كما يكتشف في النهاية أنه حقَّق رغبة أبيه دون أن يدري. ويُودِّع ميرلين التاريخ البشري كله بعد أن تأكد من غباء أبطاله وفرسانه الجوف: لقد سئمتُ منهم جميعًا! لا أريد أن أرى أيَّ واحدٍ منهم! لا الأخلاقي ولا الاشتراكي ولا الرأسمالي ولا البنيوي! وتساعده حورية الغاب فيفيانه على أن ينفي نفسه بنفسه في دَغَل شوكي كثيف يلوذ فيه بسكون الطبيعة وسكينتها الأبدية من فظائع التاريخ البشري، بينما يستمر الصراع خارج الدَّغَل، وترجع الآلهة الوثنية إلى حَلبة القتال بعد أن طردها السيد المسيح في بداية المسرحية.

وفي النهاية نذكر فيلمه السينمائي «هانز الحديدي» (۱۹۸۳) الذي يدور حول عجز الناس ويأسهم في إحدى المدن الصغيرة على الحدود مع ألمانيا الشرقية السابقة، وكذلك «أنا فوبرباخ» الذي يُصوِّر عجز الفنان وسقوطه ضحية تناقضاته الذاتية التي تصطدم مع تناقضات مجتمع يفترسه القلق والإحساس العام بالرعب والخراب وطغيان الشر عليه إلى حد اليأس من إمكان الخلاص. وفي هذا الخط أيضًا تدور مسرحية كوربيس (۱۹۸۸) التي اعتمد فيها على إحدى الحكايات الشعبية القديمة .. بقي أن نقول إنه يعيش ويعمل منذ أوائل السبعينيات مع الكاتبة والمترجمة أورزولا إيلر التي شاركته في كتابة عدد كبير من أعماله، ومنها إحدى المسرحيتَين التاليتَين.

•••

ونأتي الآن إلى المسرحيتين أو بالأحرى اللعبتين المسرحيتين اللتين نقدمهما في هذا الكتاب، راجين أن نتمكَّن من النظر فيهما على ضوء المعلومات السابقة عن حياة مؤلفهما وأعماله. ونبدأ بالمسرحية الأولى التي وضع لها عنوانًا مثيرًا وغير عاديٍّ في طوله: «خطبة الإدانة (أو التشهير) الطويلة أمام سور المدينة».

ما إن تُرفَع الستارة عن المنظر الوحيد الممتدِّ إلى نهاية المسرحية حتى نرى ونسمع امرأةً صينية شابَّة وجميلة وفقيرة تقف أمام سور المدينة وتطلق استغاثتها المُستمِيتة بالقيصر: أيها القيصر. أيها القيصر. وربما تصوَّرنا — بمعلوماتنا القليلة عن الصين الغامضة البعيدة! — أن السور الذي يواجه المرأة ويواجهنا يُمثِّل جزءًا من سور الصين العظيم الذي لم يُبنَ من أحجار فحسب، بل من عادات وتقاليد وقيم وأخلاق تجمَّدت بمرور الزمن فصارت بدورها حجارة ثقيلة .. وقد نتخيَّل كذلك منذ البداية أن هذا السور يُوحي بمعنًى مجازيٍّ يدل على كل الأسوار التي تقف عقبةً أمام الفقراء والمظلومين والمحرومين من أبسط حقوق الإنسان العادي في شيء من الحرية والعدل والأمن والسعادة. ويتكرَّر هتاف المرأة باسم القيصر وسخرية الجنود والضباط الذين يتولَّون حراسته. ونفهم بالتدريج أن هذه الشجرة البشرية الخضراء المنضرة بالفتنة والصحة والرغبة في الحياة الطبيعية البسيطة تجأر بالشكوى لأب العائلة الصينية الكبرى من الغِربان التي تريد أن تُعشِّش على فروعها، ومن الثعابين التي تحاول أن تتسلَّقها وتنهش لحمها الأخضر. لقد غاب زوجها عنها وطالت غيبته فتعرَّضت للوحوش الخبيثة المراوغة، وعلى القيصر الذي أخذه جنوده منها عنوةً أن يردَّه إليها لتحميَ نفسها من الفتنة والغواية، ولتحيا في الحلال — كما نقول في إطار ثقافتنا الدينية — مع زوجها الشرعي الذي نفهم أيضًا أنه كان مجرد صيَّاد سمك خامل وخائن وفاشل، ولم يكُن أبدًا هو الزوج المثالي لامرأة في مثل قوتها وفتنتها وحرصها على الحياة النظيفة الشريفة.

ونُحسُّ أيضًا منذ البداية أن الزوجة «فان شين تنج» تشعر بنوع من اليقين الداخلي بأن زوجها «هسوي لي» قد مات في الحرب التي يخوضها القيصر الصيني جريًا وراء أوهام المجد والبطولة والقوة والتوسُّع، وأنها قد صمَّمت على أن تأخذ زوجًا آخَر يُعوِّضها عن الزوج المفقود مهما كان الثمن، ومهما تعرَّضت للامتحان العسير لمدى صدقها في الزعم بأن الجندي الذي أشارت إليه من بين الجنود الذين يمرُّون أمامها من فوق السور هو نفسه زوجها الذي ذاقت معه من المرِّ أكثر بكثيرٍ من الحلو .. وقد اشترط القيصر نفسه أن تدخل هذا الامتحان العسير قبل أن يسمح لها بالانصراف مع الزوج المزعوم، وأن تظلَّ رماح الجنود مصوَّبةً نحو زوجها إذا ثبت فشله في أداء دوره وعجز عن إثبات مصداقيته. أما الامتحان نفسه فيفرض عليها أن تدخل بكل قوة وحسم في لعبة المسرح في المسرح التي تجعلها تستعرض مشاهد مختلفة من حياتها وتجاربها مع ذلك الزوج البديل الذي اختارته وراحت تدفعه باستمرار لأداء الدور وتُصحِّح أخطاءه الجسيمة التي يقع فيها بحكم غبائه وعجزه الشديد عن مُجاراة تلك الأنثى الطاغية التي وقفت منه موقف الملقِّن من ممثلٍ ضيِّق الأفق بطيء التفكير .. بالإضافة إلى جُبنه وكذبه!

وتتوالى أمامنا عروض التمثيل لمشاهد من حياة هذه المرأة الشابة الوحيدة، زوجة الجندي السابق التي تُكلِّم الجدران وتهتف في الريح، ومع ذلك تبحث عن الخروج من التمثيل بأي زوجٍ؛ لأنها تعرف فضائل الأسرة وتحرص على القيام بواجبات الزوجة .. ويشارك في التمثيل، أو بالأحرى يُستدرَج إليه، اثنان من أصحاب السعادة وحضرات الضباط، فيؤدِّي أحدهما مرةً دور قاضي القرية الذي تخونه زوجته من وراء ظهره مع زوج المرأة، ويؤدِّي الآخَر دور تاجر الزيت الذي يطمع فيها ويستغل جوعها وفقرها وجمالها ووحدتها ليعرض عليها الزيت بسعر رخيص مقابل الانفراد بها في كوخها الصغير الخالي. بل إن القيصر نفسه يشارك من بعيد في اللعبة بإصدار أوامره وتسلية نفسه بالتفرُّج على لعبة هذه الفلاحة الفصيحة الداهية، والظهور من حينٍ إلى حين من فوق السور متدثِّرًا بالقشور الذهبية التي تغطِّيه من رأسه إلى كعب قدمَيه، وكأنه سمكة عظيمة تلمع في شمس الصباح.

ومع التدخُّل المستمر للضابط السمين والضابط النحيف في مجرى العرض وفي سياق الحوار بين الزوجة المحرومة والزوج البديل الخائب، ومع إدراك الضابطَين اللذَين يراقبانهما أن هذا الزوج مرتبك وبليد، وأن معظم الكلام والفعل يتدفَّق من الزوجة التي تحاول إصلاح ما يفسده وإكمال التمثيل بأي ثمنٍ، تتابع المشاهد القصيرة من الحياة الماضية البائسة واحدًا بعد الآخَر: تعرف الزوجين على بعضهما عند النبع ومساعدة زوج المستقبل لها في حمل الجرَّة أثناء سيرهما معًا إلى بيت القاضي الذي تعمل فيه خادمة، اكتشاف الزوجة أن زوج المستقبل على علاقة خفيَّة بزوجة القاضي الذي غادر البلدة على حماره لكي يقيم العدل بين الناس بينما الظلم والشر يَجُوسان في بيته ويعبثان بشرفه وسمعته، رجوع القاضي إلى بيته مسرعًا بعد أن سمع الإشاعات المريبة وكيف تدخَّلَت لإنقاذ زوج المستقبل المخادع من الشنق وتستَّرَت على الفضيحة رغم كل شيء، مشاهد من حياة الزوجين «الشرعيين» التي استمرَّ شقاؤها أربع سنوات في كوخها الفقير على شاطئ النهر؛ حيث لا تطمع فان شين-تونج في أكثر من الحياة في سلام مع زوجها، بينما يحلم هو بالانطلاق إلى مدن العالم فرارًا من عش الزوجية الضيق الخانق .. فشل الزوج المزيف في البقاء مع زوجته على سطح كوخهما وفي إبداء ذرَّة واحدة من الصبر على محنة الفيضان الذي أغرق كل شيء حولهما وتصميمه على الهرب منها، بل اعترافه المفاجئ بأنه لم يكُن زوجها في يوم من الأيام، تدخل الزوجة مرةً أخرى لإنقاذ العرض الذي أوشك على التوقف واعتذارها بقلق زوجها وبحرصها على المحافظة عليه رغم كل تصرفاته، نزول الرجال الذين يجمعون المتطوعين للحرب إلى القرية ونجاحهم في أخذه معهم برغم اختفائه في أحراش الغاب طوال الصيف وتصنته من موقعه على المحاولات الفاشلة لتاجر الزيت الأصلع الدنيء لاستغلال فقر زوجته بإقراضها بعض العملات النحاسية أو مساومتها على تأجيل سداد ثمن الزيت إكرامًا للطفها وفتنتها ونجاحها مع ذلك في المحافظة على شرفها وسمعتها وبيتها رغم غياب الزوج، مغالبتها لدموعها واستمرارها في تمثيل دورها برغم إحضار الجنود للتميمة المعدنية التي عثروا عليها مع جثة زوجها الحقيقي وإنكارها لمعرفة ذلك الميت حتى تخرج من اللعبة ومعها زوج يسترها، عودة الزوج المزيَّف للاعتراف بأنه كان مع الزوج الحقيقي عندما أرداه سهمٌ نفذ في عينه ثم تراجُعه عن اعترافه رعبًا من المصير الذي ينتظره وانخراطه بعد ذلك في الدور الذي لم يُتقن تمثيله، تهور الزوج الذي يطعن تاجر الزيت انتقامًا لما تصوَّر أنه شرفه المطعون، ثم هروبه من الجنود الذين جاءوا للقبض عليه وهروبه النهائي من خلف السور بعد اقتناعه بفشله في تمثيل دور الزوج الحقيقي واقتناع الضابطين أيضًا بفشل الزوجة في مداراة غباء البديل برغم كل براعتها في تمثيل دورها والتدخل المتواصل لإنقاذ اللعبة اليائسة، وأخيرًا تأتي محاولة الزوجة للاستغاثة بالقيصر الذي انصرف من ساحة الملعب بعد أن استمتع بالفرجة .. ولذلك لم يبقَ أمامها إلا أن تَخمِش السور الأخرس الكثيف — كالذئبة الجائعة الجريحة — بأظافر صرخاتها اليائسة من إمكان تحقيق العدالة على الأرض، ومن استحالة الحد الأدنى من السعادة والأمان للإنسان الصغير الذي تحوطه الأسوار من كل جانب .. وهكذا تتدافع لعناتها المحبَطة الغاضبة على القيصر وزبانيته وطموحاته ومشروعاته، وعلى كل الأخلاق والأفكار والقيم والتقاليد التي شاركت في إقامتها وتدعيمها منذ أن كان سادةٌ وعبيد، وحكام ومحكومون، وأغنياء وفقراء، ومضطهَدون مظلومون مستغَلُّون يُقاسون الأمَرَّين من كل مضطهد ومستغل وظالم، في خطبة طويلة يختتم بها العرض، وتنتهي معها اللعبة التي لم تزل مستمرَّة بأشكال أخرى أخبث وأدهى مما كانت عليه في زمن قديم في الصين القديمة.

وينزل الستار على لعبة المسرح في المسرح، بينما يتردَّد صراخ المرأة المسكينة التي جرَّبَت كل ذكائها الفطري في اقتناص نصيبها القليل من العدل والاستقرار ثم فشلت في التجربة .. وتتوغَّل صيحات المرأة المُحتجَّة في ضمائرنا وتسري في دمائنا مسرى الرصاصات العنقودية التي تتفجَّر فيها وتُفجِّر معها كل ما توهَّمناه من إمكان الراحة أو الطمأنينة في عالمنا المدني الذي تُطوِّقه أسوار الظلم والوحشية وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان .. وتتحول الخطبة إلى دعوى اتهامٍ طويلة لكل المسئولين عن عذاب الإنسان العادي أو الإنسان الصغير عبر جميع العصور وفي ظل مختلف النظم والمدن والمجتمعات والحضارات، وداخل كل الأسوار المادية أو الأسوار العقلية والقانونية والأخلاقية والروحية: «أنتم يا مَن فوق السور! أيها المُطرَّزون بالذهب — يا أصحاب القوانين الجميلة والأخلاق الجميلة — لِمَ لا تُفسِّرون لي السبب في انتشار العفن الفظيع في العالَم كله؟ .. وأنت أيها السور! أيها السور السميك! ابتعِد! ابتعِد! أيها السور السميك العظيم القديم الغبي — أنا فان شين تينج أقِف هنا تحتك .. سأظلُّ ألطمك برأسي حتى تتهدَّم … إنني أكرهك. أبصق عليك أضحك عليك. ألعنك، أنا .. أنا .. أنا .. أنا …»

ويدخل أحد الجنود المكلَّفين بالحراسة ووجهه — كوجهَي الضابطين اللذَين انصرفا ضاحكَين — مُغطًّى بقناع. وتكتشف أنه هو نفسه ذلك الرجل الذي حاول أن ينتهز الفرصة ويستمتع بالهروب من قهر السلطة مع امرأة جميلة سعت إليه بقدمَيها، كما حاول عبثًا أن يتقمَّص دور الزوج الغائب إلى الأبد، ثم لم يلبث أن رجع إلى جموده وبروده وانضمَّ مرة أخرى إلى جماعة السور ليعود حجرًا من أحجاره الغليظة، ويضع رقبته في النير الذي أعدَّته له وللجميع .. ذلك أن أخلاق بُناة ذلك السور، وغيره من الأسوار عبر العصور، قد استلبته ووضعته في قوالب قِيَمِها وتقاليدها «وأيديولوجياتها» الجاهزة على الدوام. وإذا كان قد خرج لفترة قصيرة من هذه القوالب في محاولة لاسترداد هويته الإنسانية، فقد فشل في أداء الدور، وتنكَّب الحقيقة البسيطة من طول ما تغذَّى على الكذب المصنوع، ووجد نفسه مضطرًّا للدخول من جديد في القالب أو التابوت الذي احتواه ولم يزَل يحتوينا جميعًا بدرجات وأشكال مختلفة. وفي النهاية يمدُّ الرجل المقنَّع حَرْبَته ويلكز بها الشخصية الوحيدة التي لم تضع على وجهها أي قناع وهو ينهرها قائلًا: «اذهبي! لن يسمعكِ أحد!» — وتقشعرُّ المرأة فزعًا وتُحدِّق فيه صامتة، ونقشعرُّ نحن أيضًا من رعب الأسوار الظاهرية والخفية. وربما خرجنا من اللعبة المُرَّة وبين جوانحنا شيء من العزم — أو حتى النية الطيبة! — على تحطيم الأسوار، كل الأسوار.

•••

إذا كانت المسرحية السابقة — التي ترجع، كما قلت، لفترة مبكِّرة من إنتاج دورست (١٩٦١) — قد سلَّطت الضوء على الحقيقة العارية البسيطة للإنسان العادي أو «الإنسان الصغير» الذي يطالب بمكان آمِن ونظيف تحت الشمس، فإن هذه المسرحية المتأخرة (١۹۹٢) قد خاطرت بوضع هذا العنوان الفرعي تحت اسمها: «محاولة للكشف عن الحقيقة.» ويتبادر إلى أذهاننا السؤال المركب من أسئلة لا حصر لها: ما هو تصوُّر المؤلف للحقيقة؟ وما الذي فهمه من أبعادها وزواياها الكثيرة كثرة حيَّرت الفلاسفة والمناطقة والعلماء والأدباء على مرِّ العصور؟ وما نوع الحقيقة التي يبحث عنها، وما الفرق بينها وبين الواقع بالنسبة لكاتب يؤكِّد أنه واقعي؟

لنؤجِّل النظر في هذه الأسئلة العويصة — التي تفتح الأبواب لتفسيرات واحتمالات وافتراضات لا آخِر لها! — حتى نفرغ من إلقاء نظرات أخرى سريعة على هذه اللعبة المسرحية الجديدة والشخصيات المشتركة فيها، سواء أكانوا ضحايا أم جلَّادين.

واللعبة التمثيلية تدور حول شخصية رجلٍ مستبدٍّ بقوته وثروته يصمم على الزواج من امرأة فاتنة الجمال ويُنفِّذ بسطوته وجبروته ما قد صمَّم عليه. وتتم الزيجة وتتطوَّر بصورة غريبة، فرجل الأعمال الموضوعي البارد لا يكترث كثيرًا بزوجته، بل يضنُّ عليها من أول المسرحية إلى آخرها بالعبارة الوحيدة التي كان من الممكن أن تجعل للزواج معنًى، وهي أنه يحبها. وتميل الزوجة الحسَّاسة إلى الدُّوق المثقف الحساس مثلها تجد عنده ما يستحيل أن تجده عند الزوج العملي الذي اشتراها بماله وتصوَّرَ أنه ضمَّها إلى أملاكه وأشيائه التي يتحكم فيها كما يشاء. وتعترف الزوجة في لحظة كبرياء بأنها تعشق الدوق، وأنها فعلتها معه مرات عديدة لا مرة واحدة. ويجن جنون فرناندو كراب الواقعي العاقل فيدبِّر خطته الشيطانية التي تُودي بجوليا إلى الجنون ثم إلى الموت البطيء أو الانتحار الصامت. لقد نجح الرجل في «استلاب» زوجته أو «تشييئها» كما يُعبِّر فلاسفة الاغتراب، ولكنه انجرف دون أن يدري أو يُقدِّر إلى داخل الدوامة المسرحية التي اصطنعها بنفسه وأحكم نسج خيوطها الأخطبوطية الشريرة. وفي المشهد الأخير نُفاجأ بالجلَّاد وقد صار هو الضحية، إذ يتفجَّر شلال الاعتراف بحبه للزوجة المحتضرة مكتسحًا كل السدود والأغلال التي حبسه وراءها، وتتدافع الدموع والصرخات بعد فوات الأوان لنكتشف من شظايا مراياها المُهشَّمة كيف تجاهل وخانَ أقرب الحقائق إلى الإنسان، وهي حقيقة قلبه.

أما شخصية جوليا فهي أكثر تركيبًا وتعقيدًا وأبعد ما تكون عن شخصية زوجها ذي البعد الواحد .. إنها تقبل منذ البداية أن تكون سلعةً تُشترى وتُباع في سوق الزواج رحمةً بأبيها الذي هدَّدها بأن يشنق نفسه إن لم توافق على العرض المُغري. وبالرغم من ثورتها الغاضبة في البداية، ومن ثوراتها اللاحقة في وجه الغرور والخيانة والقسوة والجبروت والتهديد التي تبرز كالقَسَمات الواضحة المحفورة على وجه زوجها، فإنها تبقى حتى النهاية شيئًا جميلًا عاجزًا عن إثبات ذاته أو حتى الانتقام لكرامته المهانة (إزاء فُحش زوجها مع إحدى الخادمات في مزرعته وتباهيه بذلك وكأنه شيء عادي من الحياة العادية لرجل في مثل قوته وتسلُّطه وغناه.) وهي تتمنَّى أن يقول لها مرةً واحدة إنه يحبها — كما في المشهدَين الثاني والرابع عشر والأخير — كما تحاول سُدًى أن تعرفه أو تعرف شيئًا عن طفولته وشبابه، بل تتمنَّى لو شَعر مرةً واحدة بالغيرة عليها فانفعل وانتقم بسببها (المشهد السادس):

– المهم أنكَ ضربته بسببي.

– بسببك؟ شيءٌ مضحك.

وتحاول كذلك عبثًا أن تعرف حقيقة مشاعره نحوها فتُواجَه بمخلوقٍ فظٍّ مجرَّد من كل عاطفة (المشهد السابع والمشهد الرابع عشر):

– ولكن هل تعتقد أني أحبك؟

– ليست المسألة مسألة اعتقاد، هذا هو الواقع!

وحتى عندما تنفجر في اعتراف كاذب ومتعمَّد بأنها تعشق الدوق وتخون زوجها معه، فإن ردَّه الوحيد عليها هو الانفجار في الضحك. وحين تؤكد له أنها خانته بالفعل وتسأله إن كان سينتقم لنفسه بقتلها أو خنقها — كما سبق له أن خنق زوجته المكسيكية الأولى — لا يكون ردَّه إلا ببركان الضحك المخيف (المشهد السابع) وبعباراته القاطعة كحدِّ السيف بأن ذلك ليس صحيحًا كما أن إشاعة قتله للمليونيرة العجوز ليست صحيحةً كذلك. وبعد قليل يؤكد أن بيته ليس مسرحًا، وأنهما لا يمثِّلان مسرحية، وذلك في نفس الوقت الذي يُدبِّر فيه مسرحيته الشيطانية التي يُثبِت بها جنون زوجته، ويشتري الدوق الحساس، ويفتعل لعبة الطبيبين المعالجين ثم يُمعِن في اللعبة الجهنمية كأنه ساحر أو منوِّم مغناطيسي يتحكَّم في الوسيط ويأمره فيستجيب حتى لِما يستحيل فيه الأمر وتتعذَّر الاستجابة. لقد نجح السينارست أو المُدبِّر لعملية «غسيل المخ» في أن يُوقِع في وهمها — إلى حدِّ الاقتناع المؤكد! — بأنها تحبه، وبأن اعترافها السابق بحبها للدوق المسكين لم يكُن إلا زلة لسانٍ أو نوبة جنونٍ محموم تستحق الاعتذار عنها وطلب الصفح من الحبيب الرومانسي الخائب .. وتتكشَّف النتيجة عن الذروة التي نلقاها في المشاهد الأخيرة: فالحب الكاذب المفروض عليها لا ينجح إلا في تدميرها خطوةً فخطوة، والتنكُّر للذات أو للقلب أو للحقيقة لا يؤدي بالزهرة الناضرة المتلألئة إلَّا إلى الذبول والانطفاء. وعندما يحمل فرناندو كراب الجسد الواهن الخفيف خفة الرماد وهو يصرخ بحبه ويؤكد في الوقت نفسه أنه لن يسمح بالتنازل عمَّا يملكه حتى للموت ذاته، عندها يكون الحكم العادل بالانتقام العادل قد سقط على رأسهما معًا، فتلفظ الجميلة أنفاسها الأخيرة، ويُكفِّر المستبد الفظ والنرجسي الصادي — الذي طالما ردَّد كلمة أنا الملعونة! — عن تنكُّره للحقيقة بقطع شريان يده وسقوطه جثة هامدة إلى جوارها.

•••

ونعود للسؤال أو الأسئلة التي سُقناها في بداية الحديث عن هذه اللعبة المسرحية الدامية: ما هي الحقيقة التي يحاول الكاتب أن يكشف عنها؟ وأيُّ بُعدٍ من أبعادها الكثيرة يريد أن يُسلِّط عليه الضوء؟ هل استطاع أن يُقرِّبنا من تلك الحقيقة العارية البسيطة — التي وصفناها بأنها هي حقيقة القلب الإنساني النابض بالحب الحقيقي — أم تملَّصَت منه هذه الحقيقة فاحتجبت وتخفَّت مثل حقيقة الوجود التي زعم الفيلسوف هيدجر (۱۸۸۹–١٩٧٦) أنها تتأبَّى علينا وتظل غائبةً عنَّا، وكلما تصوَّرنا أننا اهتدينا إليها ضاعت منا في الحقائق الجزئية للموجودات والمجالات الجزئية، ولم يتجلَّ للعين البصيرة ولا للأذن المُصغِية إلا بصيصٌ خافِتٌ من نورها الأصلي في كلمات الشُّعراء العظام وألحان الموسيقيين الكبار وأعمال المبدعين؟

أغلب ظني أن الكاتب لم يقصد إلى شيءٍ من هذه المعاني الفلسفية ولم يكُن في حاجةٍ إلى ذلك (على الرغم من إمكان التسليم بوجود ظلال من هذه المعاني الكامنة في كتاباته من خلال قراءاته الواسعة.)

ولعله كذلك لم يقصد إلى أي تعميمٍ نظريٍّ يمكن أن نقع فيه بسهولة حين نتصوَّر أن فرناندو كراب هو نموذج للشخصية الأوروبية التي تحاول على مدى أربعة قرون منذ عصرَي النهضة والتنوير وحتى اليوم أن تُهَيمِن على كل شيءٍ في الطبيعة والإنسان وتغزوه وتتملَّكه. وحتى الدلالات الضمنية الممكنة لشخصية رجل الأعمال المُتجبِّر على شخصية البرجوازي الأوروبي المُتزمِّت والمتغطرس بقدرته على امتلاك كلِّ شيء وإنجاز كل فعل وإخضاع أي حقيقة — بل الحقيقة نفسها! — لسيطرته، يمكن أن تكون مجرد تكهُّنات تفسيرية نلجأ إليها أو يلجأ سوانا إلى غيرها حسب ثقافته وذوقه وأسلوب قراءته للنصوص. على أن الشيء الذي يمكنني قوله وأستند فيه إلى الشعور قبل كل شيء هو أن هذه اللعبة المسرحية تريد — كما أرادت اللعبة السابقة! — أن تُنبِّهنا إلى حقيقةٍ غاية في البساطة، وهي أننا نحن البشر — سواءٌ في الغرب المتقدم المغرور بعلمه وصناعته أو في الشرق اللاهث وراءه أو وراء التقدم والمستقبل المرسوم له سلفًا! — أننا نحن البشر نتجاهل الحقيقة الإنسانية المباشرة، أي حقيقة الحياة البسيطة المباشرة المرادفة للحب والمستحيلة بغير الحب، وتجاهُلنا لهذه الحقيقة القريبة البعيدة في آنٍ واحد يجعلنا ننخرط — بدرجات وأشكال مختلفة — في لعبة خداع النفس والتدليس عليها التي انخرط فيها «فرناندو كراب» وحشد لها كل وسائله الخسيسة للوصول إلى الغاية التي لا تقلُّ عنها خِسَّةً: وهي السيطرة والتسلُّط والقوة والتملُّك (لِما لا سبيل للوصول إليه إلا بالحب والتفهُّم والتعاطف والمشاركة!) وحتى إذا برَّرْنا الغاية بمنطق مكيافيللي، فلا بدَّ أن نسأل وما الذي يُبرِّر الوسائل المُنحطَّة؟ — هل يمكن أن يكون الطريق إلى قلب المرأة الجميلة — أي إلى قلب الحياة — مفروشًا بأشواك الكذب والتآمُر وفرض الهيمنة والنرجسية والصادية .. إلخ؟

إن المصير الفاجع الذي لقيته «جوليا»، والمصير العادل الذي فاجأ «فرناندو كراب» لَجديران بأن يحملانا على التفكير الجدِّي في حياتنا — ولعلَّ كلامنا يسأل نفسه بعد قراءة هاتين المسرحيتين: هل اقتربتُ من حقيقتي كإنسانٍ؟ وهل أسير على أقل تقديرٍ على الطريق الصحيح المؤدِّي إليها؟

عبد الغفار مكاوي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤