فرناندو كراب أرسل إليَّ هذا الخطاب

(محاولة للكشف عن الحقيقة)

(عن قصة للفيلسوف والشاعر الإسباني)

ميجيل دي أونامونو (١۸٦٤–١٩۳٦)

(بعنوان: رجلٌ لا ينقصه إلا كمال الرجولة)

وكتبت المسرحية بالتعاون مع

أوزولا إيلر

***

الشخصيات

  • فرناندو كراب.

  • جوليا.

  • الأب.

  • الدوق.

  • طبيبان للأمراض العقلية والنفسية.

١

(جوليا – الأب)
جوليا : فرناندو كراب أرسل إليَّ هذا الخطاب.

(تمد يدها بالخطاب لأبيها.)

الأب (يتصنَّع الدهشة) : هكذا؟
جوليا : اقرأه.
الأب : وما الذي قلتِه ردًّا عليه؟
جوليا (نافدة الصبر) : قلت لك اقرأه.
الأب : إنه رجل يتقرَّب منه الجميع، والجميع يتكلَّمون عنه في كل مكانٍ منذ أن رجع من أمريكا ومعه هذه الثروة الضخمة. كم من فتاةٍ في ربيع العمر سيسعدها أن تتلقَّى منه خطابًا، كلهن بلا استثناء.
جوليا : اقرأه.
الأب : آه. الخطاب موجَّهٌ لكِ أنت، يكفي أن تذكري لي ما جاء فيه، لقد قرأته بالفعل.
جوليا : إنه خطابٌ قصير.
الأب : وهو لا يلفُّ ولا يدور، شخصية قوية حازمة. يمكنني أن ألاحظ هذا من خطِّه.
جوليا (تقرأ عليه) : آنستي الكريمة …
الأب : «آنستي الكريمة»، أهذا ما كتبه؟ بلا لفٍّ ولا دوران. لا ديباجة ولا عبارات طنَّانة!
جوليا (تُواصل القراءة) : «سمعت أنكِ أجمل امرأة في المدينة التي استقرَّ بي المقام فيها منذ فترة قصيرة، وقد رأيتك عندما كنت تتمشين مع أبيك في المنتزه.»
الأب : آه. هل رآنا هناك؟
جوليا (مستمرة في القراءة) : «ما سمعته صحيح بالفعل؛ فأنت أجمل الجميلات. سوف أتزوجك، فرناندو كراب.»
الأب : إنه ينطلق مباشرةً إلى هدفه، شخصية حازمة.
جوليا : كم لبثنا يوم السبت في المنتزه؟
الأب : آه. لا أذكر.
جوليا : أبديتُ رغبتي في الرجوع للبيت، لكنني اضطررت لقطع الطريق الواسع المحفوف بالأشجار مرتين. أنت الذي فرضت عليَّ هذا.
الأب : معلومٌ أن الهواء المنعش مفيدٌ للصحة، إنكِ تُلازمين البيت كثيرًا، تقرئين وتسرحين مع خيالاتك.
جوليا : اتفقتَ معه على كل شيء.

(تقذف الخطاب في وجهه.)

الأب : أرجوكِ يا جوليا، أرجوك يا حبيبتي، أخبريني ماذا قلتِ في ردِّك عليه؟
جوليا : ها؟!
الأب : لا أعتقد أنك قلت له «ها»؛ فأنا أعرف أنك بارعةٌ في كتابة الخطابات وخيالك خصبٌ.
جوليا : سأُسمِعك ما قلتُه لفرناندو كراب: «سيدي، فهمت من خطابك أنك اشتريتني من أبي. كم طلب منك مقابل كل رطل من لحمي؟ ما ثمن كل كيلو من وزني الحي؟ وهل وافقت على السعر المطلوب أم حاولت أن تُساوم عليه؟ إنني أتصور الآن كيف تقلَّص وجه أبي من شدة القلق وكيف ارتعشت شفتاه، ألم تسقط كذلك دمعة على خدِّه المزرق العروق، لمجرد أنك تردَّدت في دفع الثمن المطلوب؟ ولكنك تعلم أن الرجل المسكين في قبضتك، وأن الديون التي تُثقل كتفَيه تُجبره على بيع السلعة بأي ثمنٍ.»
الأب (متأوِّهًا) : أنتِ تمزحين يا جوليا، أنتِ تمزحين.
جوليا : «أم تُراك لمحت ابتسامةً عارضة على وجهي عندما كنت تراقبني، فدفعك هذا لأن تضيف بمحض رغبتك بضعة آلاف أخرى إلى المبلغ المطلوب؟ أؤكِّد لك يا سيدي أن أسناني منتظمة وأن شحمتَي أذنيَّ جميلتان، ناهيك عن أمورٍ أخرى لا تسمح آداب اللياقة بالكشف عنها. ولكني أنصحك إذا حضرت إلى بيت البائع، وهو أبي، بأن تُدقِّق في فحص السلعة قبل تسجيل المبلغ النهائي في عقد البيع.»
الأب (مفزوعًا) : جوليا!
جوليا : ألا يُعبِّر هذا عن رأيك يا أبي؟ لقد تصوَّرت هذا.
الأب : أنت قاسية القلب، تسخرين من خدَّيَّ المنتفخَين بالعروق الزرقاء … أنا الذي أقترب من الموت، أجل من الموت، من شدة قلقي عليك.
جوليا : لا تتأوَّه من فضلك وإلا انتابني الصداع واسودَّت الحلقات تحت عيني. ربما يبخس هذا من السعر المطلوب.
الأب : يا طفلتي المسكينة … من المفروض أن تُدركي الخطر الذي يمكن أن تتعرَّضي له إذا لم أهتمَّ بمستقبلك. صحيحٌ أن جمالك يشبه جمال فكرة من أفكار الرب، أجل إلى هذا الحد وصل جمالك، ولكن رأسك مزدحمٌ بالأفكار الغريبة التي تُقلقني. إنك تصدمين الناس وتلطمين وجوههم بمثل هذه التهيُّؤات العجيبة.
جوليا : التهيُّؤات؟
الأب : هل يُعقَل أن تردَّ امرأة بمثل هذه الحماقات على طلب الزواج من رجلٍ ثريٍّ ومرموق كهذا الرجل؟ لا بد أن أبذل غاية جهدي لإعادة الأمور إلى نصابها.
جوليا : لستَ مُلزَمًا بهذا.
الأب : تهيُّؤات عجيبة. طالب مسكين لا يحتكم على شيء وليس له أي قيمةٍ، طالب لا تكادين تعرفينه ومع ذلك تطلبين منه ببساطة أن يخطفك. ألا يحق لي أن أصف هذا التصرف بأنه شيء عجيب؟ أما هو فيستولي عليه الفزع ويقول: نعم. أنا تحت أمرك، سأخطفك. ولكن من أين نعيش؟ وأنت؟ ماذا كان ردُّك عليه؟
جوليا : وماذا كان ردِّي؟
الأب : قلتِ له: لننتحر معًا.
جوليا : يستحيل عليك أن تعرف ما قلت.
الأب : بل أعرف، وكل الناس تعرف، لقد حكى الحكاية لكلِّ مَن هبَّ ودبَّ، هذا الشاب البائس المُشوَّش العقل، المدينة كلها تعرف هذا، ثم إنه لم يرجع. لا بد أنه قال لنفسه: لا أريد أن أموت.
جوليا : ثرثارٌ غبي.
الأب : اسمعيني يا حبيبتي، أين هو الإنسان الذي يريد الموت؟ لا أحد يريده، ولا أنا أيضًا، فكل إنسان يبحث عن حظِّه في الحياة ويتلهَّف على نسمة من السعادة. انظري إلى أبيك العجوز، إنه يضحك، لا يتخلَّى عن التمسك بالأمل، رغم أنه، وهذا تعبيرٌ مُخفَّف، لا يحتكم على شيء، على الأقل في الوقت الحاضر.

(يطرقع بأصابعه ويضحك بمرارة.)

جوليا : كُفَّ عن هذه الطرقعة!
الأب : حقًّا، إنني أطرقع بأصابعي، إنها عادةٌ سخيفة لو صرف فرناندو كراب نظره عن الموضوع، لو فعل هذا بسبب خطابك المُخزي فسوف أشنق نفسي. (ينصرف.)

٢

(جوليا – فرناندو كراب)
فرناندو كراب (يدخل) : لقد أرسلتِ إليَّ خطابك، وأُعجبت به إعجابًا شديدًا.
جوليا : لم يكُن هذا هو الهدف منه.
فرناندو كراب : أرى من هذا الخطاب أننا سنتفاهم على أحسن وجهٍ.
جوليا : ولكن خطابك لم يُعجبني.
فرناندو كراب : من المعروف لدى الجميع أن فرناندو كراب يحصل على كل ما يريده. أنتِ أجمل امرأة في المدينة، وربما كنتِ أجمل امرأة في البلد كلها. أريد أن أتزوَّجك، وها أنا ذا. (تبقى جوليا صامتة لا تتحرك.)
فرناندو كراب (يبدو أن صمتها أثار القلق في نفسه، يتجه نحوها بعد فترة من الوقت يتفحَّصها بنظراته، ثم يقول بلهجة موضوعية جافة) : ألستِ بخير؟
جوليا : أجل بخير .. كل شيء على ما يُرام.
فرناندو كراب : ولكنك ترتجفين، يبدو لي هذا.
جوليا : الدنيا برد .. الجو هنا يميل للبرودة.
فرناندو كراب : أنتِ مخطئة، إنه دافئ.
جوليا : حقًّا؟
فرناندو كراب : أنتِ ترتجفين من القلق.
جوليا : ومِمَّ القلق إذَن؟
فرناندو كراب : منِّي؟
جوليا : ولماذا أقلق منك؟ لا، قطعًا لا!
فرناندو كراب : بل تشعرين بالقلق منِّي (تنفجر جوليا باكية. يتطلَّع فرناندو كراب إليها بهدوء ثم يقول) هل تتصوَّرين أنني وحش؟ أبعِدي يدَيكِ عن وجهك! انظري إليَّ! إن أعدائي فقط هم الذين يخشونني.
جوليا : إنني أُعرَض للبيع!
فرناندو كراب : هكذا؟ ومَن قال هذا؟
جوليا : أنا التي أقوله! وماذا يملك أبي المسكين؟ إنه مُفلس ولا بد أن يدخل السجن، ولكن قبل أن تقبض الشرطة عليه، قبل أن يسحبوه والقيود الحديدية في يديه أمام صفوف المتطفِّلين والشامتين، قبل أن يحدث له هذا سيشنق نفسه. أنا واثقةٌ من هذا.
فرناندو كراب : لا داعي لكل هذا.
جوليا : أنت بأموالك الطائلة .. أموالك التي تعرضها في كل مكانٍ! تفتح محفظتك، وتلوح بالأوراق النقدية وتقذف بها من الشرفة على رءوس الناس لكي يحنوا ظهورهم ويزحفوا على الأرض لالتقاط ورقةٍ واحدة من الوحل.
فرناندو كراب : أبوكِ كان منشرحًا وفي أحسن حال. لقد رتَّبتُ كل شيء ودفعت كل شيء.
جوليا : دفعتَ كل شيء؟
فرناندو كراب : أجل، كم كان المبلغ؟ لقد نسيت.
جوليا : معنى هذا أنك اشتريتنا بالفعل، معناه أننا نعيش الآن من مالك؟ أليس كذلك؟

(تنزع الشال من حول رقبتها.)

وهذا الشال الذي أحضره أبي أمس وأعطاه لي، ألم تشترِه أيضًا من مالك؟ والحذاء؟ حتى الحذاء أيضًا!

(تخلع حذاءها وتقذف به رأس فرناندو كراب.)

فرناندو كراب : ألاحظ الآن يا جوليا أن قدمَيك جميلتان جدًّا!
جوليا : لن تحصل عليَّ أبدًا .. أبدًا .. أبدًا! إلا إذا مت.
فرناندو كراب : ولكنك تحبينني يا جوليا. أنت تحبينني الآن بالفعل! ولهذا ستتزوجيني.
جوليا : باعني! واشتريتني!
فرناندو كراب : تتصورين أنني أملك المال، وأنك أنت السلعة.
جوليا (صارخةً) : أجل! أجل!
فرناندو كراب : أنا لم أعرض على أبيكِ أي شروط عندما سلَّمته المال. لم أطالب بأي شيء. أترفضين أن تحبيني؟ ولكن هذا مستحيل! مستحيل أن يرفض حبِّي أيُّ إنسان.

(صمتٌ طويل. جوليا تبكي. صمت.)

جوليا (تهمس في صوتٍ خافت) : افعل معي ما تشاء.
فرناندو كراب : ما الذي تقصدين بهذا؟ ماذا تعنين؟
جوليا : لا أدري، لا أدري ماذا أقول؟!
فرناندو كراب : وما معنى أن أفعل معكِ ما أريد؟
جوليا : معناه … لا أدري!
فرناندو كراب : أنا لا أشتري عاهرةً من الشارع، بيع وشراء! هراء! إنه زواجٌ عن حبٍّ. أنتِ تحبينني، ولهذا تبكين! لقد بدأتِ تفهمين!
جوليا : وقَبِلت الزواج منه …

۳

(جوليا – فرناندو كراب)
جوليا : أيُّ نوعٍ من الرجال أنت؟
فرناندو كراب : وماذا عسى أن أكون؟ أنا هو أنا، فرناندو كراب.
جوليا : هذا ما تقوله دائمًا، لم أسمعك أبدًا تتكلَّم عن طفولتك، ولا أعرف أي شيء عن والديك.
فرناندو كراب : ليس لي والدان، فعائلتي تبدأ بي، وأنا الذي صنعت نفسي بنفسي.
جوليا : انظر إلى يدي.
فرناندو كراب : أصابع رقيقة ورشيقة.
جوليا : لقد ورثتُها عن أمي.
فرناندو كراب : وأحيانًا تتقلَّص فجأةً وتتحوَّل إلى قبضتين صغيرتين قاسيتين غاضبتين. هذا شيء يُمتعني ويُسلِّيني.
جوليا : صحيح، فعندما أفكِّر في شيء تنقبض يدي.
فرناندو كراب : وقبل أن تدخلي حجرتي لا تطرقين الباب بعظمة إصبعك كما يفعل غيرك، وإنما تخبطين بأظافرك على الخشب.
جوليا : مثل جدتي تمامًا. كانت هذه هي عادتها. والأنف الجميل ورثته عن أبي.
فرناندو كراب : هذا شيء لا يهمني. إنه جميل، لا نظير له!
جوليا : والخيال ورثتُه عن أمي، فالاستمتاع بالانطلاق مع الخيال شيءٌ مألوف في عائلتها. يُحكى عن إحدى خالاتي أنها لم تضع قدمها أبدًا على عتبة بيتها. كانت تقول باستمرار: لماذا أغادر بيتي ما دمتُ أستطيع أن أتصور كل شيء في رأسي؟ إن هذا أمتع بكثير. وممَّن ورثتَ أنفك يا فرناندو، وهذا الذقن المشقوق الذي يُعجبني؟
فرناندو كراب : يعجبك؟
جوليا : ألا تتذكَّر شيئًا عن طفولتك؟
فرناندو كراب : الطفولة لا تعنيني، أنا مَن أريد أن أكونه. (صمت.)
جوليا (بحذر) : أودُّ أن أسألك عن شيءٍ آخَر يا فرناندو، ولكني لا أجد في نفسي الشجاعة.
فرناندو كراب : وما الذي يمنعكِ من السؤال؟ أنا لن أفترسك، ولم أشعر أبدًا من كلامك بأنك جرحتني مرةً واحدة، أنت تعرفين هذا بالطبع.
جوليا : أنا لا أشكو من شيء.
فرناندو كراب : لم يبقَ إلا أن تشكي أيضًا!
جوليا : لا، أنا لا أشكو من أي شيءٍ .. لكن …
فرناندو كراب : هيَّا اسألي وخلِّصيني!
جوليا : الأفضل ألَّا أسال!
فرناندو كراب : قلت لكِ اسألي، أنا أريد أن تسألي.
جوليا : ما دمتَ مُصِرًّا فسوف أسأل: هل صحيحٌ أنك كنت متزوجًا؟
فرناندو كراب (يُقطِّب جبينه) : أجل.
جوليا : وزوجتك الأولى؟
فرناندو كراب : ماتت من سنوات طويلة، كنت أرملًا عندما تزوجتك. (متشكِّكًا) هل حكى لكِ أحدٌ عن شيء؟
جوليا : كلَّا، ولكن … لا، لا شيء.
فرناندو كراب : سمعتِ شيئًا مما يحكونه، تكلمي إذَن!
جوليا : أجل سمعتُ شيئًا محدَّدًا.
فرناندو كراب : وصدَّقتِه؟
جوليا : قطعًا لا. لم أصدِّقه.
فرناندو كراب : هذا أمر طبيعي! فلم يكن ذلك من حقك! لم يكُن في إمكانك!
جوليا : لا، بالطبع لا، لم أُصدِّق أبدًا.
فرناندو كراب : قلت لك هذا أمرٌ طبيعي، فمَن يحبني كلَّ هذا الحب ويكون لي أنا وحدي لا يمكنه أن يُصدِّق هذه الكذبة الفظيعة.
جوليا : نعم، إنني أحبك، لا أتمنى سوى شيءٍ واحد.
فرناندو كراب : تمنَّي كل شيء.
جوليا : آه ليتك قلتَها لي مرةً واحدة.
فرناندو كراب : يا حبيبة قلبي، يا كنزي الصغير، يا حلوتي، يا أعز الناس عندي … هل يُفترَض مني أن أقول شيئًا كهذا؟ مثل هذه الكلمات الضحلة الحمقاء؟ إنها لا توجد إلا في الروايات، وأنا أعلم أنك كنتِ مغرمةً بقراءة الكتب.
جوليا : وما زلت أقرؤها بشغفٍ …
فرناندو كراب : اقرئي كما تشائين! اقرئي ما يحلو لك! سوف أُصدر أوامري ببناء كشك في طرف الحديقة بالقرب من شجيرات الورد، وسوف أُحضر لكِ كلَّ الكتب التي أُلِّفت منذ عهد آدم وحواء!
جوليا : ما أجمل هذا!
فرناندو كراب : كلما قلَّلَ الناس من كلامهم عن الحب، كان ذلك أفضل بكثير.
جوليا : آه يا فرناندو.
فرناندو كراب : ما الذي حكَوه لك؟ هل قالوا إنني في شبابي كنت متزوجًا في المكسيك؟
جوليا : وكيف كان منظرها يا تُرى؟
فرناندو كراب : من امرأةٍ ثرية جدًّا وأكبر مني في السن، من مليونيرة عجوز، أهذا ما قالوه؟
جوليا : أجل.
فرناندو كراب : وقالوا لك أيضًا إنني أجبرتها على كتابة وصيتها وعلى تعييني الوريث الوحيد لها، وإنني قتلتُها بعد ذلك … هل قالوا لكِ شيئًا كهذا؟
جوليا : زعموا أنك خنقتها في الفراش، بل ادَّعَوا أنك خنقتها بقبعتك.
فرناندو كراب : وصدَّقتِ ما قالوه؟
جوليا : كلَّا! أبدًا، أبدًا!
فرناندو كراب : بقبعتي! بقبعتي! (يهز قبعته وهو يُلوِّح بها.)
جوليا : لا أتصوَّر أبدًا أنك يمكن أن تقتل زوجتك.
فرناندو كراب : أرى الآن أنكِ أذكى مما تخيَّلت. وما الذي يدعوني لقتل زوجتي، وهي شيء أملكه؟
جوليا (تُكرِّر في جمود) : «وما الذي يدعوني لقتل زوجتي وهي شيء أملكه؟»
فرناندو كراب : هل أنتِ بَبَّغاء؟ لماذا تكررين ما أقول؟
جوليا : لا أدري.
فرناندو كراب : وما الذي يحملني على هذا؟ كانت ثروتها تحت يدي، ومناجم النحاس التي تملكها تحت تصرُّفي. فلماذا أقتل زوجتي أنا؟ لم يكُن لهذا أي داعٍ.
جوليا : ومع ذلك تُقتَل كثيرٌ من النساء بأيدي أزواجهن.
فرناندو كراب : ربما، ما شأني أنا بهذا؟
جوليا : بسبب الغيرة مثلًا، أو للانتقام من زوجة لها عشيق.
فرناندو كراب : الأغبياء هم الذين يشعرون بالغيرة. إنهم بُلَهاء عاجزون، ولديهم ما يُبرِّر ذلك أيضًا! أما أنا .. فلا أعرف ما هي الغيرة، شعور … لا بدَّ أنه شعور من نوعٍ غريب! لستُ أدري ما الذي يشعر به الناس عندما يُحِسُّون بالغيرة، زوجتي أنا لا يمكن أن تخدعني. زوجتي الأولى لم تستطع ذلك، وأنتِ أيضًا لا تستطيعين، ولن تتمكَّن من ذلك أي امرأةٍ!
جوليا : لا تتكلم بهذه الطريقة، فلتتكلم عن شيءٍ آخَر.
فرناندو كراب : ولِمَ إذَن؟
جوليا : يؤلمني أن تتحدَّث معي بهذا الأسلوب. يُخيَّل لي أنك تكاد تشكُّ فيَّ. وهذا يحزنني.
فرناندو كراب : ولكن الموضوع يسليني.
جوليا : وكأنما خطر ببالي ولو في الحلم أن أخدعك!
فرناندو كراب : ولكنني متأكِّد من هذا، وهو بالضبط ما أقوله!
جوليا : لم أفكِّر في ذلك أبدًا!
فرناندو كراب : يستحيل عليك أن تفكِّري فيه، أعلم هذا تمامًا. لا يمكنك أن تخدعيني، لقد ماتت زوجتي الأولى. لم أكُن في حاجةٍ لقتلها. الآن عرفتِ كلَّ شيء يا جوليا.
جوليا : أجل. (صمت.)
فرناندو كراب : تنتابك حالات عصبية.
جوليا : أنا بخير.
فرناندو كراب : أجفانك متورِّمة، أريني!
جوليا : فرناندو …
فرناندو كراب : ألاحظ الآن وأنا أنظر إليك أنك أغمضتِ عينيك. أما زلتِ تفكرين في تلك القصة الغبية؟ لقد شرحتُ لك كلَّ شيء، كما فهمتِ كلَّ شيء.
جوليا : أنا حامل.
فرناندو كراب : أجل، توقَّعتُ هذا، الآن ضمنت أن يكون لي وريث. وسوف أجعل من ابني رجلًا مثلي.
جوليا : ولكننا لا نعلم إن كان ابنًا أو بنتًا.
فرناندو كراب : ابن. أنا واثقٌ من هذا.
جوليا : وإذا جاءت بنتًا؟
فرناندو كراب : قلت لا. من المؤكد أنه ابن.
جوليا : وحصلت على الطفل، كان ولدًا.
فرناندو كراب : يا للطفل الرائع الذي وهبتِه لي!
جوليا : لماذا لا تُقبِّل طفلك؟ لقد قدَّمت له الهدايا الثمينة عند ولادته، ووزَّعت المال على الناس، غمرتني أيضًا بالهدايا مما جعلني أعتقد أنك في غاية السعادة بابنك، ومع ذلك لم تفكِّر مرة واحدة في أن تحمله على ذراعَيك وتُقبِّله.
فرناندو كراب : التقبيل والحركات المفتعَلة تُضايق الأطفال، إنني أنتظر حتى يمكنه أن يفهمني عندما أتكلَّم معه، عندئذٍ سيكون لي كلامٌ كثير.
جوليا : وأنا أتكلَّم معه طول الوقت، أتكلَّم معه بيدي وقبلاتي.

٤

(جوليا – فرناندو كراب)
فرناندو كراب : هل عاد هذا الدوق إلى هنا؟
جوليا : هذا الدوق؟ أي دوقٍ تقصد؟
فرناندو كراب : هذا الذي يأتي في هذه الأيام، واحدٌ من أولئك الثرثارين المُتسكِّعين، إنه لا يكفُّ عن الثرثرة في كل مكانٍ، ولكنه عاجزٌ حتى عن ترميم القصر الذي ورثه عن عائلته. فالسقف آيِلٌ للسقوط، وشبابيك النوافذ مخلَّعة، والبوابة الفخمة مسوَّرة بالأسلاك الشائكة، وهو مضطرٌّ أن يدخل ويخرج من الباب الخلفي، لقد تفرَّجت عليه، كما عرض عليَّ أن أشتريه أنقاضًا.
جوليا : نعم، هذا الدوق كان هنا.
فرناندو كراب : ليحضُر كثيرًا، إن هذا يسليك، على الأقل يمكنه أن ينفع في شيء. هذا الهزؤة.
جوليا (مستاءةً) : ولكنه مهذَّب جدًّا ولطيف.
فرناندو كراب : مهذَّب، ولكن هزوءة.
جوليا : وهو مثقَّف جدًّا، يكتب أيضًا.
فرناندو كراب : مثقَّف أو غير مثقَّف. ولكنه صعلوك يُثير السخرية.
جوليا : لقد كتب بعض القصائد.
فرناندو كراب : القصائد، شيء يناسبه طبعًا.
جوليا : ويمكن التحدُّث معه حديثًا رائعًا، فهو واسع الاطِّلاع على الأدب وعلى أشياء أخرى.
فرناندو كراب : وهذا أفضل، ما دام يسليك.
جوليا : ليست التسلية هي الكلمة الصحيحة، إنه تعِسٌ جدًّا.
فرناندو كراب : أخ! لا بد أنه يحاول إثارة الاهتمام، فهو يتعذَّب. يؤلِّف قصيدة عمَّا يُعانيه ويدسُّها لك خفية؟ تحت فنجان القهوة مثلًا؟ إن الذين يُحِسُّون بآلامه قليلون جدًّا، ولا بد من مواساته، لا بد من التعاطف معه.
جوليا : نعم، إنه حسَّاس جدًّا.
فرناندو كراب : جدًّا، حاولي أن تواسيه. تكلَّمي معه عن مشاكله النفسية.
جوليا : إنك تُسيء الظن به، فهو في الواقع إنسان من نوعٍ فريد، والجرح الدفين الذي يُعاني منه هو أن زوجته تخدعه.
فرناندو كراب : الدفين؟ كل الناس تعرف هذا. وهي النمرة التي يتسوَّل بها في كلِّ مكان؛ لأنه يطمع من ورائها في التقرُّب من قلوب الهوانم.
جوليا : لا أفهم كيف يمكن لامرأة أن تفعل بزوجها شيئًا كهذا وتفضحه علنًا.
فرناندو كراب : أما أنا فأفهم ذلك تمامًا! لأنه صعلوك هزوءة! ربما لم تتزوَّجه إلا بسبب لقب الدوق الذي يُطلقونه عليه، وهي الآن تشعر بالملل القاتل معه. لا توجد امرأةٌ يمكنها أن تفعل هذا معي!
جوليا (بعد تردُّدٍ) : وإذا فعلت؟ كيف يمكن أن تسير الأمور في هذه الحالة؟
فرناندو كراب : سخافات، فأنا لست رواية مسلسلة، سخافات! وحياتنا ليست وهمًا من صنع الخيال؛ يمكنك أن تتجاذبي عنه أطراف الحديث مع هذا الدوق، فهي حياة سويَّة جدًّا. وإذا تصورتِ أنكِ تثيرين غيرتي، فأنت مخطئة! يصعب تجربة هذه الألعاب معي! معي أنا! سلِّي نفسك كما تحبين مع هذا الهزؤة. فليس له أي قيمة عندي.
جوليا (تنتحي جانبًا وتكلم نفسها) : هل صحيحٌ أنه لا يكترث على الإطلاق بأن الدوق يتردَّد عليَّ، وأننا نجلس كثيرًا في الكشك طوال العصر ونتبادل الأحاديث معًا؟ هل يمكن أن يكون غير مُبالٍ إلى هذا الحد؟
هل يحبني؟ أم لا يحبني؟ إن السؤال يُعذِّبني.

(تُوجِّه الكلام لفرناندو كراب) نحن مدعُوَّان عنده غدًا.
فرناندو كراب : وماذا أفعل هناك؟
جوليا : نحن مدعُوَّان على الشاي. ألا تريد أن تحضر معي؟
فرناندو كراب : على الشاي! لا، أنا لا أشرب الشاي إلا عندما أشعر بالمغص. اذهبي أنت وحدك، واسي الدوق. ربما تجدين الدوقة أيضًا هناك، مع عشيقها الذي جاء عليه الدور. هذا هو الزواج الحديث! شيءٌ لطيف! اذهبي على راحتك.

٥

(جوليا – الدوق)
الدوق (مهمومًا) : حياتي أشبه بتمثيليةٍ هزلية سمجة، فالمدام تتهادى في مشيتها كأنها تحجل، بين غرفة النوم والصالون، وليس عليها سوى قميص النوم، قميص النوم فقط! وتظل تدندن أيضًا. لماذا تدندنين دون توقُّف؟ أدندن لأنني أشعر بالوحدة، لأن ضوء الشمس يسطع خلال النافذة. طبقان وكوبان. لِمَن؟ لك. وبطيخة طازجة. ولكن هناك مَن سبقني وأكل منها شريحةً. يا للسخرية! وفجأةً أسمع عطسة مختنقة. هل جاءت من ناحية الدولاب؟ وأفتح الدولاب بحُجَّة تغيير رباط العنق. لا أحد! هل أفتش تحت السرير؟ هل أُهين نفسي إلى حد الاشتراك في هذه المهزلة؟ أم أشدُّ الستائر عنوةً لأُواجَه برجل غبي يبتسم بشماتة، رجل لا أعرفه، أو ربما يكون أعز أصدقائي، أو ساعي البريد، أو معلم التنس؟ من السهل عليَّ أن أرمي العاشق من النافذة أو أطردها في الشارع. وهي نفسها تتمنَّى هذا، فهي تحب الفضائح، والإثارة، والصياح. ولكنني لا أفتح فمي بكلمةٍ وأهرب بنفسي. فأنا لا أصلح لهذه المسخرة السخيفة.
جوليا : كيف وقعتَ في هذه المصيبة؟!
الدوق : تقصدين لماذا تزوجت هذه المرأة؟
جوليا : أجل، لماذا؟
الدوق : احكمي عليَّ بما تشائين.
جوليا : لا شك أنها كانت شديدة الفتنة؟
الدوق : وما زالت! ولكن لم يكُن هذا هو المهم. كانت ساذجةً تمامًا، وهذا هو الذي أعجبني فيها. مخلوقة على الفطرة. كانت خالية الذهن من أي شيء، وتخيَّلتُ أنني سأستطيع أن أُلقِّنها كل شيء من البداية. اعتقدت أن في إمكاني أن أُوقِظ وعيها، وأُثقِّف عقلها، وأغرس في روحها الرقة والحساسية. وتصوَّرت أنني سأنفخ فيها — إذا جاز القول — أنفاس الحياة، وأجذب انتباهها لأمورٍ لم يكُن لديها أي فكرةٍ عنها، وأُدفئ قلبها بالحماس لمعجزات الموسيقى، وجمال اللغة، وروعة الفلسفة أيضًا إذا استطعت. اعتقدت بالفعل أنني سأتمكن من تحقيق ذلك.
جوليا : بيجماليون؟
الدوق : حتى اكتشفت أن سذاجتها الجميلة لم تكُن إلا تبلُّدًا في الطبع، وأن مرحها لم يكُن سوى خليطٍ من الأغاني الشائعة في الأوبريتات.
جوليا : يعزُّ عليَّ أن تُقاسي هذا العذاب يا عزيزي الدوق.
الدوق : أنا الذي طالما قاسيت من الفجاجة والابتذال!
جوليا : خدعة بشعة.
الدوق : إن روحي مرهقةٌ حتى الموت، لكنني لا أشكو من شيء، وليس من حقي أن أشكو، كان عليَّ أن أعرف أن هناك صنفًا من البشر المصابين بتبلُّد الإحساس، ومع ذلك يحسُّون بأن تبلُّدَهم يدل على نقصهم، كما يشعرون لهذا السبب بالحاجة التي تدفعهم لتعذيب الآخَرين، بل ربما جعلتهم يستمتعون بتعذيبهم حتى يُدفِئوا قلوبهم الباردة بنيران الألم الذي يعانونه على أيديهم.
جوليا : آه يا عزيزي الدوق! إن ذكاءك الحادَّ يَنفُذ في الأعماق.
الدوق : الألم الذي نُقاسيه في الحياة يَهَبُنا من التبصُّر والمعرفة ما يعجز عنه السعداء الراضون عن أنفسهم. اقرئي ليوباردي، اقرئي الشعراء الذين يعيشون بيننا ويتعذبون. إن كل شِعر عظيم ينهل من الشعور الأليم بالحياة، من الحزن الفاجع.
جوليا (فجأة) : هل أنا تعيسة؟
الدوق : أأنتِ التي تسألينني يا جوليا؟
جوليا : آه! مجرَّد فكرة خطرت على بالي، أرجو أن تنسى ما قلت.
الدوق : أنا لا أستطيع أن أُحوِّل أفكاري عنك.
جوليا : وما هي الأفكار التي تدور في رأسك؟
الدوق : أحيانًا أتخيَّل أننا تعارفنا قبل ارتباطي بهذه الإنسانة السخيفة التي جعلت حياتي جحيمًا، وقبل أن …
جوليا : لا يمكنك المقارنة بيننا!
الدوق : ومع ذلك فإني أعتقد … ولكن من الأفضل أن أسكت!
جوليا : أرجوك أن تتكلَّم، لقد نجحتَ في إثارة فضولي.
الدوق : لو كنا التقينا في ذلك الحين وتحدَّث كلٌّ منا للآخَر، إذَن ﻟ…
جوليا : أتريد أن تقول: إذَن لوقعتُ في حبك؟
الدوق : بلا أدنى شك!
جوليا : يا لغرور الرجال!
الدوق : لستُ مغرورًا.
جوليا : إنهم جميعًا يتصوَّرون أن سحرهم لا يُقاوم.
الدوق : لا. ليس هذا صحيحًا.
جوليا : لقد قلتَها بنفسك الآن.
الدوق : وأقصد بها شيئا مختلفًا كلَّ الاختلاف.
جوليا : وما وجه الاختلاف؟ تكلَّم من فضلك!
الدوق : لم أقصد نفسي بذلك. حبي هو الذي كان من المستحيل مقاومته. حبي!
جوليا : آه. هذا اعترافٌ صريح بالحب يا عزيزي الدوق، لقد نسيتَ أنني امرأة متزوِّجة، وأنني أحب زوجي!
الدوق : أنتِ تقولينها بلسانك، ولكن …
جوليا : وهل تشكُّ في ذلك؟ وأن هذه هي الحقيقة، فهو رجل رائع. مُفعَم بالطاقة والحيوية! عندما يفتح الباب وأراه واقفًا أمامي أجدني أقول لنفسي: إنه هو الحياة ذاتها، ولا أملك إلا أن أندفع إليه وأُلقي بنفسي بين ذراعَيه.
الدوق : وهو؟
جوليا : ما معنى «وهو»؟ إنه هو هذا!
الدوق : ولكنني أعلم … أعني أنني سمعت …
جوليا : أنه لا يحبني؟ ممَّن سمعتَ هذا؟
الدوق : منكِ!
جوليا : أنا لم أتكلَّم أبدًا عن زوجي!
الدوق : لقد تكلمتِ بعينَيك، بإطراقة رأسك، بحركات يديك، بنبرة صوتك، وبصمتك أيضًا …
جوليا : أتريد أن تقول إنني طلبت منك أن تعلن لي عن حبك؟ هذه هي المرة الأخيرة التي تدخل فيها بيتنا!
الدوق : ناشدتُكِ الله يا جوليا!
جوليا : قلت لك هي المرة الأخيرة!
الدوق : لو أذنتِ لي بالبقاء في الحجرة المجاورة، في الظلام الدامس إذا شئت، فأسمع صوت خُطاك في الصالون، أو ربما أسمع صوتك، وأغمض عيني لأرى وجهك خلف جفنيَّ المغمضين، وجهك الذي يبتسم لي.
جوليا : في الحجرة المجاورة وفي الظلام الدامس؟
الدوق : المهم أن أكون بالقرب منك. وهو ما قلتُه الآن وربما أفزعك!
جوليا : لا تقُل ربما! لقد أفزعتني بالفعل!
الدوق : وتصوَّرتِ أن اعترافي غرور باطل!
جوليا : بالفعل.
الدوق : هذا خطأ فاحش! ومَن أنا في النهاية؟ مجرد شخص حالم قليل الحيلة. اللقب القديم … حسن! ولكن ما قيمته؟ النبالة والعائلة، ليس لي فضلٌ في هذا. شيء من الثقافة؟ ولكن من المفروض أن يكون هذا أمرًا بديهيًّا، شأنه شأن اللياقة والسلوك الحميد. حساسية خاصة بالأعمال الفنية بحيث أكاد أحسُّ بكمال الخط واللحن وظلال الألوان إحساسًا شبه جسديٍّ؟ أن بيتين من شِعر لوركا كفيلان باستدرار الدموع من عيني رغمًا عني. ولكن هذا لا يُبرِّر بطبيعة الحال أن أكون مُتعاليًا، إنه طبع. وهو يجعلني أشعر بأني وحيد. انظري إليَّ يا جوليا، نظرةً واحدة!
جوليا : لا.
الدوق : هل ترَين أمامك شخصًا لا مثيل لجماله؟ مِن المضحك أن يُصدِّق أحدٌ ذلك! إنني أنظر إلى نفسي في المرآة فأكتشف ظلال الاكتئاب وعلامات الدمار الخفي الذي يُشوِّه الملامح القديمة المنسجمة. أنظر إليها فأتعرَّف على المرارة التي ترتسم خطوطها الصغيرة حول فمي وأتعمَّد إخفاءها عن عيون الآخرين. ابتسامتي مُشبَعة بالألم. لا شيء فيَّ يستحق منك أن تحبيه، ومن حقك أن تُحوِّلي عينيك عني كما تفعلين الآن، لو تصوَّرت أن هذا هو الذي يمكن أن يُقرِّبك مني.
جوليا : لا أدري عن أي شيء تتكلَّم!
الدوق : أتكلَّم عن حبي، أتكلَّم عنه دون توقُّف، عن حبي المتهوِّر المجنون لك، هذا الحب هو هديتي لك، وليس هو شخصي التافه الذي لا وزن له.
(تضع يدَيها على أذنَيها وتهمس) سم … سم!

إن أكثر الناس عاجزون عن الحب، إنهم يُطالِبون بالحب، إن من حقهم أن ينالوا الحب والوفاء بغير حدود، يستولي الواحد منهم على إحدى الفاتنات ويسوقها أمامه: انظروا إلى زوجتي الجميلة، تفرَّجوا على نمرتي! ويروح يشدُّها من قيدها. انظروا! إنها مِلكي! انظروا كيف تطيعني! ولكن هذا لا يُثبِت أنه يحب النمرة، لأنه يزهو بامتلاكها فحسب!
جوليا : لا أريد أن أسمع هذا الكلام.
الدوق : بل أنت تسمعينني جيدًا … وتفتحين أبواب روحك على اتِّساعها! إنني أتغلغل في أعماقك، أنفُذ في صميم روحك.
جوليا : اتركني في حالي! إذا جاء الآن فجأةً ودخل من الباب …
الدوق : لن يأتي! إنه لا يهتم بك! وهو يتركنا وحدنا لأنه لا يحبك.
جوليا : إنه يثق بي ثقةً كبيرة.
الدوق : بل يثق بنفسه ثقةً هائلة. إنه لا يعتقد، لمجرد أنه استولى على كل شيء، لأنه جمع من المال ما لا حصر له — ولست أريد أن أعرف كيف! — لا يعتقد أنه يمكن أن يُضيع شيئًا وضع يده عليه، إنه عاجز عن تخيُّل ما يدور في نفس امرأة، وربما كان يحتقرني …
جوليا : أجل … إنه يحتقرك!
الدوق : لقد عرفتُ هذا، ولكنه يحتقركِ أيضًا!
جوليا : أتريد أن تقتلني بكلامك؟
الدوق : إنه … إنه هو الذي سيقتلك … ولستِ أول امرأة قتلها!
جوليا : عارٌ عليك أن تقول هذا! أنت تكذب! بفظاعة! زوجي لم يقتل هذه المرأة. اذهب الآن ولا تُرني وجهك!
الدوق : إن الفكرة نفسها تؤلمك، لقد أفزعَتْك.
جوليا : قلت اذهب!
الدوق : أنا أفهم رغبتك في الانفراد بنفسك، وسوف تفكرين في الأمر طويلًا ثم تستدعينني مرةً أخرى، أؤكد لك أنني لن أتخلى عنك.

٦

(جوليا – فرناندو كراب)
فرناندو كراب (يدخل) : تصوَّري ما جرى اليوم!
جوليا : أين إذَن؟
فرناندو كراب : يجب أن أحكي لكِ الحكاية لتتسلي معي.
جوليا (قلقة) : أنا مُصغِيةٌ لك.
فرناندو كراب : هل لديكِ فكرة عن المبارزة؟
جوليا : شيءٌ بديهي.
فرناندو كراب : تصوَّري! مبارزة في هذه الأيام! حفنة أولاد مهووسين تجمَّعوا في الغابة في غَبَش الضباب وراحوا يتصايحون: «حدد السلاح الذي تريده!» إلى آخر الجعجعة الفارغة التي لا أُطيقها.
جوليا (مفزوعة) : هلَّا طلبتَ أحدًا للمبارزة!
فرناندو كراب : وهل خفتِ؟
جوليا : بالطبع، تكلم أرجوك!
فرناندو كراب : لا داعي أبدًا للقلق! أنت تعرفينني تمامًا. أليس كذلك؟
جوليا : لا أدري إن كنت أعرفك أو لا أعرفك.
فرناندو كراب : آه! كلامك مثل نبوءات العرَّافين! قلت لا داعي للقلق، فلستُ أنا الذي يجرُّونه إلى هذا التخريف. مبارزة؟ هل يُعقَل أن أبارز؟ أنا فرناندو كراب؟ لقد طردت الأولاد بطبيعة الحال. «أرسلوا إليَّ الحساب وتنتهي المسألة»!
جوليا : أي حساب؟
فرناندو كراب : أجر الطبيب والتعويض عن الإصابة وكل طلباته.
جوليا : طلبات مَن؟
فرناندو كراب : وإذا أصرَّ على المبارزة فعليه أن يشرف، سأبارزه باللطمات والركلات.
جوليا : ولكنك لم تقُل مَن هو؟
فرناندو كراب : هو هذا اﻟ… أخ! نسيت الآن اسمه، بل لم أُكلِّف نفسي مرة واحدة بملاحقة اسم السيد المهذَّب!
جوليا : وكيف نشبَ الخلاف الذي أدَّى للمشاجرة؟
فرناندو كراب : بسبب نكتة!
جوليا : مشاجرة بسبب نكتة؟ لا أتصوَّر أن يصدر هذا عنك.
فرناندو كراب : لم تكُن مشاجرةً بالمعنى الصحيح. لقد قال نكتته فضربته بالكأس على رأسه.
جوليا : أجل، وهل جُرِح؟
فرناندو كراب : سالت كمية من الدم تكفي لملء منديل.
جوليا : أخ! يا للبشاعة! هل أهانك إلى هذا الحد؟
فرناندو كراب : النكتة! النكتة! (يضحك.)
جوليا : أرجوك أن توضح. أنا لا أفهم شيئًا من كل هذه الحكاية.
فرناندو كراب : قال نكتةً … نكتة عن زوج يرجع إلى البيت ويكتشف في غرفة النوم … شيء من هذا القبيل … المهم أن زوجته ترقد في الفراش مع رجلٍ، والزوج نفسه لا يلاحظ ذلك … ثم أُفاجأ بمَن يقول: مثل فرناندو كراب. لقد زعم أنك تخونينني.
جوليا : أخ! لا بد أن هذا استفزَّك وأثار غضبك.
فرناندو كراب : هل رأيتِني مرةً في حالة غضب؟ هل لاحظتِ مرة واحدة أنني خرجت عن طوري؟
جوليا : كلا، لم أرَ منك هذا أبدًا. ولكن من الطبيعي في هذه الحالة أن تنفعل.
فرناندو كراب : آه، الناس يثرثرون كثيرًا.
جوليا : المهم أنك ضربته بسببي.
فرناندو كراب : بسببك؟ شيء مضحك! تقولين بسببك؟! كل ما في الأمر أن ضحكته لم تُعجبني، هذه الضحكة الخافتة التي لا تكشف حتى عن الأسنان.
جوليا : يسعدني بطبيعة الحال أن تثق بي إلى هذا الحد.
فرناندو كراب : طبعًا، طبعًا! لا تحملي همًّا!
جوليا : ولكن …
فرناندو كراب : «لكن» ممنوعة، فزوجة فرناندو كراب سعيدة بالتأكيد!
جوليا : أجل!
فرناندو كراب : الناس ينصحونني بمنع الدوق من دخول بيتي. هل رأيتِ أسخف من هذه النصيحة! ما دام الصعلوك الهزؤة يُسليك، وما دام يقوم بقفزاته البهلوانية الرشيقة! أما عن رأيي فيه فليس له أي أهمية. المهم أنني مطمئن إلى أن زوجتي مستمتعة ولا تشعر بالملل أثناء انشغالي بتدبير أعمالي. كلب يُوضَع على الحجر! هل نرميه من الشباك؟! هل نضمن ألا يسقط على رأس أحد؟ ولكن بكل جدِّيَّة: أنتِ بنفسك ستطردين الدوق بمجرد أن تشعري بأنه أصبح خطرًا عليك، أي عندما تبدئين في الاهتمام به. أما أنك تُعجبينه فهذا شيءٌ بديهي، لأن الجميع مُعجبون بك.
جوليا : لقد سبق أن منعته من دخول البيت يا فرناندو.
فرناندو كراب : هكذا؟ (يُباغت لحظة.)
جوليا : أجل، ولكنه رجع مرة أخرى.
فرناندو كراب : عظيم! هذه علامة طيبة!
جوليا : ونحن نتقابل الآن كثيرًا، عدة مرات كلَّ أسبوع.
(فجأةً وبعنف) يجب أن تطرد هذا الرجل يا فرناندو!
فرناندو كراب : هذا الرجل؟ هل قلتِ «الرجل»؟
جوليا : قلت لك يجب أن تمنعه من دخول بيتك. لأنني لو اهتممتُ به حسب تعبيرك …
فرناندو كراب : أخ يا جوليا! لا بد أنك تريدين إثارة غيرتي! تخيَّلت هذه الأفكار لأنك تعيشين في عالمٍ رومانسي، وهذا هو الذي يُشوِّش دماغك! أعتقد أنك محتاجة لقضاء بضعة أسابيع في الريف، بعيدًا عن المدينة. الهواء المنعش سيفيد صحتك. وإذا شعرتِ بالملل، طلبنا من الهزؤة أن يحضُر إلينا. ولِمَ لا؟ سنسافر غدًا.
الدوق : وسافَرا في اليوم التالي إلى الريف.

٧

(جوليا – فرناندو كراب)
جوليا : ماذا أفعل هنا طول اليوم؟ هل أُحدِّق الساعات الطويلة في الأبقار التي تسرح هناك على العشب بين الأحجار المتناثرة؟ وفي الكلاب التي تزوم وتزمجر لتتخلَّص من سلاسلها؟ وأظلُّ أسمع الصليل وأنا مؤرَّقة في الليل على فراشي بعيون مفتوحة. والخادمات يزعقن طول النهار سواء في البيت أو في الحظائر أو هناك حيث يشطفن الغسيل في الماء. يزعقن حين يمرُّ واحدٌ من الخدم. بأصواتهن المعدنية القبيحة! ويستولي عليَّ الخوف حين يلاحقني ألفونسو الأبله ويظلُّ يرفع قبعته وهو يضحك ضحكته الخبيثة …
فرناندو كراب : أعصابك متوتِّرة جدًّا يا جوليا.
جوليا : لو كان معي على الأقل بعض الكتب أو المجلات! تقول لي دائمًا عليكِ أن تهتمي بالواقع. ولكن كل ما أراه يثير في نفسي الملل والتقزُّز. لو كان عندي كتاب واحد على الأقل! ما الذي منعني من إحضار عددٍ منها!
فرناندو كراب : وهل منعتُك أنا من ذلك؟ لقد وافقتِ على اقتراحي بالاستجمام عدة أيام هنا في الريف.
جوليا : لأنني فهمت أن هذه هي رغبتك.
فرناندو كراب : ولكني لا أحظر شيئًا عليك! هل حدث أن حرَّمتُ عليك أي شيء؟ لستُ مستبدًّا ولا طاغية، إنني لا أمنع عنك شيئًا ولا أطلب منك أي شيء!
جوليا : أجل، ولا تطلب حتى أن أحبك!
فرناندو كراب : ولكن يا جوليا. الحب لا يُطلَب! هناك أزواج يطلبونه من زوجاتهم. والزوجات أيضًا يستجبن لطلبهم. يُمثِّلن أمامهم المسرحية الحمقاء المألوفة التي ينتظرها الرجل من الزوجة المحبة: نبرة حلوة في الصوت، نظرة حالمة، اعترافات عاطفية مكرورة وبلا نهاية — أحيانًا تبدو ضعيفة وباهتة — وإن لم تختفِ تمامًا، وأحيانًا تتفجَّر فجأة فتتصاعد التنهُّدات والهمسات، غش ونصب! والأزواج يُصدِّقون أيضًا! نصب واحتيال! الحب لا يُطلَب من أحد!
جوليا : ولكن هل تعتقد أنني أحبك؟
فرناندو كراب : ليست المسألة مسألة اعتقاد، هذا هو الواقع!
جوليا : الواقع! الواقع!
فرناندو كراب : لقد رأيتِني عندما التقينا لأول مرة. وعرضتُ نفسي عليك بكل أمانة منذ البداية، أنت الآن تعرفين حقيقتي وتعلمين مَن أنا، ولهذا السبب تحبينني. لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. أما السفسطة عن هذا الموضوع فالأفضل أن تجترِّيها مع حبيب الروح ولكن ليس معي. يمكنك أن تستدعيه إلى هنا إذا شئتِ. (صمت.)
جوليا : هل تصورت أنني لم ألاحظ؟! (تتردد.)
فرناندو كراب : ماذا؟
جوليا : أنك تذهب إلى إحدى الخادمات التي تعتني بالأبقار، الخادمة السمينة! واسمها سيمونا! لقد بدأتَ تُكوِّن علاقة معها. أعلم هذا تمامًا.
فرناندو كراب : وأنا لم أُكلِّف نفسي بإخفاء هذا الموضوع التافه.
جوليا : في حظيرة الخيول، خلف باب غرفة الطعام، في مخزن المكانس والمقشات.
فرناندو كراب : رائع!
جوليا : سلوك بدائي بشع!
فرناندو كراب : بدائي، أجل! أنا نفسي تربَّيتُ فوق أكوام الرَّوث. لا تنسَي هذا أبدًا. وعندي ضعف لهذا. حيوان حسي بسيط، قذر إذا شئت، أجل قذر، ولكنه يعجبني! ألقيها في الجدول، بكامل ثيابها، وأكحَتُ الأوساخ من عليها وتُطوِّقني بذراعَيها المبللتين السمينتين وتسحبني إلى الماء، وتظل تصرخ وتصيح من شدة الفرح، حتى تكاد تُمزِّق طبلة أذني.
جوليا : وهذا يُعجبك؟
فرناندو كراب : نعم. ولكن لماذا تعبسين بوجهك؟ ما شأنك أنتِ بهذا؟ أفصِحي.
جوليا : ربما كان شيئًا جميلًا. إنني أحاول أن أتخيَّله. وربما حاولتُ أيضًا أن أتشبَّه بحيوانك الوحشي.
فرناندو كراب : أنتِ يا جوليا؟ لا، لا، إلا أنت! يجب أن تبقَي كما أنت جميلة، رقيقة، أنت كاملة!
جوليا : وأنت كذَّاب! كلامك يبدو وكأنه اعتراف بالحب، ولكنه في الواقع إهانة.
فرناندو كراب : آه من حساسيتك وأعصابك المتوتِّرة! لقد تصوَّرتُ أن حالتك النفسية تحسَّنَت.
جوليا : أتعتقد أن الرجل يستطيع أن يفعل كل شيء؟ يستطيع أن يغشَّ ويخون؟!
فرناندو كراب : ومَن الذي يخون إذَن؟
جوليا (صارخةً) : أنت!
فرناندو كراب : جوليا! أنتِ تتصورين كل شيء كأنك تقرئين رواية غرامية. ولكنها الحياة العادية البسيطة. أنا لا أهتمُّ أدنى اهتمام بالسمينة، وحتى لو كانت تُعجبني اليوم، وربما غدًا، فلن تعجبني بعد غد.
جوليا : أهذا هو رأيك إذَن؟
فرناندو كراب : ورأيها بالضبط من رأيي. فهي تريد أن تتسلَّى معي. لكنني ما زلت زوجك يا جوليا.
جوليا : ومعنى هذا أنني ما زلت زوجتك.
فرناندو كراب : أخيرًا رجعتِ لعقلك.
جوليا : عقلك يُعذِّبني يا فرناندو.
فرناندو كراب : تأكَّدي أن سيمونا هي المستفيدة مني. فأنا أدفع ثمن كل شيء. وبالمهر الذي أعطيه لها ستحصل على زوج طيب. وعندما تُزَف إليه ومعها طفل مني، فسوف يفرح بغير شك لأني أنا أبوه، لأنه من صُلب رجلٍ مثلي!
جوليا : اسكت! اسكت!
فرناندو كراب : خسارة، الإرهاق العصبي ليس من السهل شفاؤه. يجب أن نبذل كل ما في وُسعِنا لكيلا يزداد سوءًا.
جوليا : لستَ رجلًا يا فرناندو! لستَ رجلًا!
فرناندو كراب (بتهكُّم) : هذا كثير. كيف خطر هذا على بالك؟
جوليا : لا. لستَ رجلًا.
فرناندو كراب : ما أغرب الأفكار التي تدور في رأسك! وما الذي يمنعني من أن أكون رجلًا؟
جوليا : سأخبرك فيما بعدُ.
فرناندو كراب : حسنٌ. أخبريني فيما بعدُ أو لا تخبريني على الإطلاق. احتفظي بالسر في دماغك الرومانسي.
جوليا : سأسكت. (صمت.)
فرناندو كراب : أفضل أن تصارحيني.
جوليا : أعلم أنك لا تحبني.
فرناندو كراب : آه! رجعنا للنغمة القديمة! أحب ولا أحب، هذا اللغو الفارغ! هذا كلام تقولينه لحبيب الروح. أريحيني أنا منه.
جوليا : لست في حاجة للكلام. أنا أعرف أيضًا بنفسي من تصرفاتك أعرف حقيقتك.
فرناندو كراب (ساخرًا) : هل أُحضر لكِ وردًا؟
جوليا : آه. ورد! إنه يملأ الحديقة! أنت لا تُمانع في دخول الدوق وخروجه من عندنا في أي وقت.
فرناندو كراب : المهم أن هذا يتم برضاك.
جوليا : أجل برضاي! أجل! أجل! أجل!
فرناندو كراب : رجعتِ للانفعال!
جوليا : ولماذا لا أرضى؟ إنه عشيقي! سمعت؟ لقد فهمتَ تمامًا ما أعنيه، نعم هو عشيقي. أنا أفعلها معه. فهمت. لا بطريقتك البدائية مع سيمونا. ويجب أن تعلم أنه عاشق متمرِّس جدًّا!

(فرناندو كراب يلزم الصمت.)

جوليا : فرناندو!
فرناندو كراب : نعم.
جوليا : لقد أقمتَ لي ذلك الكشك بنفسك.
فرناندو كراب : نعم.
جوليا : والأريكة المُغطَّاة بملاءة من الحرير الهندي موجودة هناك! كنا نُنزِل الشيش بطبيعة الحال.

(فرناندو كراب يواصل الصمت.)

جوليا : فرناندو!
فرناندو كراب : نعم.
جوليا : نعم! نعم! نعم! نعم! أهذا كل ما عندك؟ ألن تقتلني؟ ألن تخنقني بقبعتك كما فعلت مع الأخرى؟ مع زوجتك المكسيكية؟

(صمت. فرناندو كراب ينفجر فجأةً في ضحكٍ مخيف.)

جوليا (صارخة) : كُفَّ عن هذا!
فرناندو كراب (يكفُّ على الفور عن الضحك، ثم يقول بهدوء) : ليس صحيحًا أنني قتلت زوجتي الأولى، وليس صحيحًا كذلك أن الهزؤة هو عشيقك، أو أنه تجرَّأ ولمسك مرة واحدة بطرف إصبعه. أنتِ تكذبين عليَّ لكي تُثيري غضبي. تريدين أن تجعلي مني عطيل آخر. ولكنني لست عطيل ولن أكونه أبدًا. إذا استمر بكِ الحال على هذا الهذيان وعجزت قواك بالتدريج عن مقاومته، فسوف يشتدُّ قلقي عليك. وربما تحتَّمَ حبسُك في مصحَّة مجانين.
جوليا : أنت جبان!
فرناندو كراب : ليس بيتي مسرحًا! نحن لا نُمثِّل مسرحية!
جوليا (صارخة) : جبان! جبان! (تبكي. فرناندو كراب ينصرف.)

(الدوق بعد مرور أسبوع على الحوار السابق طلب فرناندو كراب من زوجته الحضور إلى حجرة مكتبه، كان هناك سيدان في الانتظار. كذلك تمكَّن بطريقة شيطانية من استدعاء الدوق بوردا فيلا للحضور.)

٨

(جوليا – فرناندو كراب – الدوق – طبيبان للأمراض العقلية والعصبية)
فرناندو كراب : أُقدِّم لك هذين السيدين اللذين لا تعرفينهما يا جوليا. إنهما البروفيسور أنريك ألفاريز والبروفسور الدكتور هرمان شتيتتر، كلاهما طبيبان للأمراض العصبية … وللمجانين، جهابذة في تخصصهما. البروفيسور ألفاريز هو رئيس قسم الأمراض العصبية والنفسية في إحدى المصحَّتين اللتين تُموِّلهما مؤسسة فرناندو كراب. إنني فخور بأنهما أحدث المصحَّات العلاجية في البلاد وأكثرهما تقدُّمًا من الناحية العلمية.
جوليا (للدوق) : وماذا تفعل هنا يا خوان؟
الدوق : طلب مني الحضور إلى هنا.
فرناندو كراب : سيفحصك هذان السيدان ويقومان بعلاجك. رأسك ليس على ما يُرام، لذلك اضطُررت لترتيب هذه الزيارة. سوف تدركين هذا عندما تستردِّين صحتك وعافيتك.
جوليا (للدوق) : كنا نتقابل دائمًا في أماكن أخرى يا خوان، هذا المكان لا يلائم المواعيد الغرامية.
الدوق : إنني أشعر بالخجل! (ينظر للأرض.)
جوليا : لماذا تُحوِّل بصرك عني؟ انظر إليَّ يا خوان! أنا جوليا!
الدوق : أنا أعرفكِ تمامًا يا سيدتي الفاضلة.
جوليا : لم تتعوَّد الكلام معي بهذه الطريقة الرسمية!
فرناندو كراب (للطبيبين) : لعلَّكما تلاحظان، يا سادتي، أن رأسها ما يزال يتشبَّث بهذه الفكرة الثابتة. بدأ الأمر بشكلٍ غير ملحوظ إطلاقًا، لكن حالتها ساءت بالتدريج حتى أصبح الكلام معها متعذِّرًا. وتعذَّر عليَّ أنا نفسي أن أتكلم معها كلامًا معقولًا، مع أني أنا زوجها. إنها تزعم، بل تُصِرُّ باستمرار، على أن هذا السيد الموجود هنا، ولكن ماذا أقول؟
جوليا : أجل، هو عشيقي! هذا صحيح، وأنا أعترف بهذا. إذا كنت مخطئةً فليتكلم!
فرناندو كراب : سمعتَ، أيها الدوق، ما تؤكِّده زوجتي. ساعِد المسكينة بأن تقول الحقيقة. يجب أن يكون للطبيبين المختصَّين فكرةٌ عن الحالة. وأنا مضطرٌّ أن أسألك بصراحة كاملة: هل كانت لك أي علاقة حميمة مع زوجتي؟
الدوق : طبعًا لا! لا! أعوذ بالله!
فرناندو كراب : أرأيتم يا سادتي!
جوليا : ما هذا الذي تقوله؟ هل تُنكر كل شيء؟
الدوق : أنا لا أذكر أبدًا أنني …
جوليا : هل تُنكر ما كان يجري بعد الظهر في الكشك؟ ساعات العصر الطويلة حتى الغَسَق … عندما كنا ننام على الأريكة متعانقَين. عاريَين. وكيف رجعتَ في إحدى الليالي لأنك لم تصبر على البُعد عني، ولا أنا أيضًا صبرت، ثم بقيت حتى طلوع الصبح، حتى اللحظة الأخيرة عندما عاد فرناندو من سفره وأخذ يُنادي عليَّ من بئر السلم، بينما هربت أنت وقفزت من الشرفة. وسقط زرار منك لأنك كنت متعجِّلًا! سقط من سروالك!
الدوق : سيدتي الفاضلة …
جوليا : وعثر فرناندو عليه!
فرناندو كراب : أنا عثرت على زرار؟ أرأيتم يا سادة …
الدوق : تمسَّكي بالعقل يا سيدتي الفاضلة! عُودي إلى نفسك! أتوسَّل إليك!
جوليا : أنت تنظر إليَّ بفزعٍ شديد، وكأنك لا تعلم شيئًا على الإطلاق عن الموضوع الذي أتكلم عنه!
الدوق : أرجوك أن تُهدِّئي نفسك! أرجوك!
جوليا : وهل أكذب؟
الدوق : الكذب … ليس هو الكلمة الصحيحة.
فرناندو كراب : حالتك للأسف …
الدوق : أجل، كما تقول!
فرناندو كراب : … حالتك للأسف لا تسمح لك بالتفرقة بين الواقع والوهم. ألم تقصد هذا يا دوق؟
الدوق : أنا في غاية الأسف للحالة التي وصلتْ إليها زوجتك، يا للمصيبة! ليتني أستطيع مساعدتها!
فرناندو كراب : كُفَّ عن هذا النُّواح! سيقوم الطبيبان بمساعدتها، لقد استدعيتُهما لهذا الغرض، ويمكن الاعتماد عليهما …
جوليا : نهارك سعيد يا بروفيسور ألفاريز، نهارك سعيد يا سيدي الدكتور هيرما نشتتر. الغريب أنني لم ألاحظ وجودكما إلا الآن! ما أجمل أن تكون لديكما النية في مساعدتي!
فرناندو كراب (يُصفِّق بيديه) : برافو!
جوليا : ولكنكما لا تستطيعان مساعدتي. (للدوق): سؤال أخير يا خوان! أظن أنني لا أتوهَّم أنك كنت تتردَّد على بيتنا ثم أكثرت من زيارتنا في الفترة الأخيرة؟
الدوق : لا، أنت لا تتوهَّمين ذلك يا سيدتي الفاضلة.
جوليا : وما الذي كنا نتحدث عنه باستمرار؟ دعني أتذكَّر. رأينا قطة تقفز على الجدار فأخذنا نتناقش عن الحيوانات وعن القطط بوجهٍ خاص: هل لها روح؟ وإذا كان لها روح فهل هي خالدة مثل روح الإنسان؟ تَناقشنا حول هذا الموضوع ثم رجعنا لبعض الفلاسفة وقلَّبنا في أعمالهم المصفوفة على رفوف المكتبة … لم نصل فيما أعتقد إلى أي نتيجة، أم تُراني نسيت هذا أيضًا؟
فرناندو كراب : تناقشتما عن قطة … نعم، نعم! هذا شيء يمكن تصديقه!
جوليا : كما تناقشنا عن الحياة بعد الموت … ألم أقُل لك إنني أشعر أحيانًا بأنني متُّ بالفعل؟
فرناندو كراب : ما هذا الكلام؟ أنتِ معنا هنا بدمك ولحمك — جوليا الممتلئة بالحياة. زوجة فرناندو كراب.
جوليا (مشيرةً إلى الدوق) : وهذا؟
فرناندو كراب : قل لها يا دوق لماذا كنت تأتي إلى بيتنا بانتظام؟
الدوق : طبعًا بدافع صداقتي لك يا سيد كراب.
جوليا : ماذا؟ أأنتما صديقان؟
فرناندو كراب : لقد أنقذتُ قصره من الانهيار، أعني ذلك الصندوق العفن القديم. هذا هو الذي يقصده، أليس كذلك؟
الدوق : أجل.
فرناندو كراب : زوجتي هي التي طلبت مني ذلك، ولولا هذا ما فعلت.
الدوق : وكنتُ بطبيعة الحال أتردَّد أيضًا على بيتكم بسبب إعجابي بالسيدة الفاضلة التي تسمح لي أحيانًا بالتحدُّث معها. لا يُعقَل أبدًا أن يُسيءَ بوردا فيلا استغلال الثقة التي وضعها فيه صديق أو أن يفكر في خيانة مثل هذا الصديق الشهم.
فرناندو كراب : صديق مثلي؟ أليس هذا هو الذي تقصده؟
الدوق : أجل مثلك.
فرناندو كراب : ماذا؟ هل تصورت أنني عملت لأمانتك أي حساب؟ أو أنني وضعت لها أي اعتبار؟ إن أخلاقك لا تعنيني على الإطلاق! وهي غير موجودة بالنسبة لي. إنك تُوجِّهها كما تشاء، مرة هنا ومرة هناك، حسب الاتجاه الذي تهبُّ منه الريح، هكذا أنت! أعرف هذا تمامًا، وأعرف أيضًا أن الكل مثلك. كل الذين لا يعيشون إلا على رءوسهم ويدَّعون أنهم يملكون حكمة العالم. لتكُن إذا شئت أبرع النصَّابين أو أفتك الفاتكين، لا المخلوق البائس الذي أراه الآن أمامي، مع ذلك لن تستطيع أن تغشني. لم يُخلَق ذلك الذي يستطيع أن يخدع فرناندو كراب. هل فهمتني؟ هل هذا هو الذي أردتَ أن تقوله؟
الدوق : أجل … أردتُ أن أقول شيئًا يشبهه.
فرناندو كراب : يشبهه أم هو بالضبط؟
الدوق : أجل، بالضبط.
جوليا (تنفجر صارخةً) : وأنا المجنونة؟ أنا؟ يحبسونني في مصحَّة المجانين لأنك خائف من قول الحقيقة، أنت أيها الجبان! لقد اشتراك بماله. وها أنت أمامي تزحف على الأرض. لسانك يتدلَّى من فمك ولعابك يسيل منه لسانٌ ضخم شَرِه! ازحف على بطنك إليه، فلسانك يشتهي أن يلعق قدمَيه، كم يرتجف من النَّهَم إليها. سيخلع على الفور حذاءه ويمدُّ إليك قدمَيه القذرتَين، قدمَيه اللتَين وقف بهما فوق أكوام الرَّوث في الحظيرة. هيَّا العقهما! هيا العقهما!
فرناندو كراب (للطبيبين) : سادتي. لا بد أنكما قد شخَّصتُما الحالة. ساعِداها من فضلكما، ابدآ العلاج، افعلا كل ما تستطيعان.

٩

(جوليا – طبيبا الأمراض العقلية)
الطبيب الأول : مأساة فظيعة! كيف نتصرَّف يا بروفيسور ألفاريز؟
الطبيب الثاني : طاطا! يا دكتور هيرمانشتتر!
الطبيب الأول : أظن أن «طاطا» لن تساعدنا للأسف كثيرًا يا بروفيسور ألفاريز.
الطبيب الثاني : ما العلاج الذي تقترحه؟
الطبيب الأول : وأنت؟
الطبيب الثاني : هل الصدمة الكهربائية في رأيك مناسبة لهذه الحالة؟
الطبيب الأول (بتهكُّم) : طاطا!
الطبيب الثاني : ولكن الحذر واجب، ورأيي ألا نبدأ مباشرةً. ما رأيك في اللجوء للأدوية؟
الطبيب الأول : المهم أن نبدأ بتهدئة أعصابها، هذا هو اقتراحي.
الطبيب الثاني : لا داعي لهذا؛ فالمريضة هادئة جدًّا!
(لجوليا) سيدتي الكريمة الفاضلة. (جوليا لا تتحرك.)
الطبيب الأول : إنها لا تسمعنا.
الطبيب الثاني : طبيعيٌّ أن تُحِسَّ بالإرهاق بعد الانفعال الشديد، وهو في الواقع أمر عادي.
الطبيب الأول : عادي جدًّا!
الطبيب الثاني (لجوليا) : سيدتي الفاضلة! (جوليا لا تستجيب.)
الطبيب الأول : لديَّ انطباع، يا بروفيسور ألفاريز، بأن رأينا واحد في هذه الحالة.
الطبيب الثاني : وما هو؟
الطبيب الأول : لستُ مضطرًّا للإفصاح عنه.
الطبيب الثاني : أجل، لستَ مضطرًّا لذلك. إنني أُقدِّر موقفك تمامًا. ولكن إذا لم تكُن الحالة مُرضية، فهل من حقنا أن نضعها تحت المراقبة؟
الطبيب الأول (ساخرًا) : طاطا!
الطبيب الثاني : لا بد أن أصارحك بنفوري من هذا الموضوع، أشعر في دخيلة نفسي بأنني غير مستريح!
الطبيب الأول : ولكننا مضطرون لهذا.
الطبيب الثاني : لا تُعذِّبني بهذا الاضطرار!
الطبيب الأول : أنا أُعذِّبك؟ كيف خطر هذا على بالك؟ أنا؟
الطبيب الثاني : شيء فظيع!
الطبيب الأول : ولكن إذا أخرجناها من المصحَّة، إذا قلنا إنها ليست مريضةً على الإطلاق؟
الطبيب الثاني : فظيع.
الطبيب الأول : سيقتلها زوجها ويقتل معها هذا المدعو بوردا فيلا.
الطبيب الثاني : أجل، ومن جهة أخرى: لديَّ ضميري المهني!
الطبيب الأول : أنت تدرك بغير شك أننا نمنع في هذه الحالة وقوع جريمة أسوأ!
جوليا : لستَ طبيبًا!
الطبيب الأول : رائع! هل سمعتَ يا بروفيسور ألفاريز؟ أنا لستُ طبيبًا!
الطبيب الثاني : رائع! هذا يُعفينا من المسئولية!
جوليا : أنت عطيل!
الطبيب الأول : أنا عطيل؟
جوليا : سأهمس في أذنك بأغنية (تُغنِّي):
«البنت البنت الشغَّالة جلست في الصبح الباكر

جلست تحت الصفصافة وانطلقت تشدو بغناءٍ ساحر.»

لا بد أنك تعرفها؟ فهي ليست من اختراعي!
الطبيب الأول (للطبيب الثاني) : اسمع! حاول أن تسمع!
جوليا : معذرةً لقد أخطأت! الواقع أن دماغي مشوَّش. الدليل على هذا أنني حسبتُك زنجيًّا! آه يا جوليا! يا جوليا! افتحي عينَيك!

(الطبيب الأول يستدير نحو جوليا … إنه هو فرناندو كراب، ثم لا يلبث أن يرجع لوضعه الأول.)

الطبيب الثاني : يتحتَّم علينا في الواقع أن نُقرِّر بأن فرناندو كراب هو المجنون الحقيقي. يجب علينا أن نُؤكِّد هذا بصوت مرتفع وبكل حزم.
جوليا : أعترض على هذا! إنه أخبث بكثير من عطيل! عطيل مجرَّد حيوان بليد، والمشهد الحاسم (في المسرحية) يُوضح هذا تمامًا، أليس كذلك يا خوان؟ أنت الآن تلزم الصمت. تُنكرني. ألم نتجاذب أطراف الحديث باستمرار في الكشك؟ نتكلَّم عن المشكلات النفسية باستخدام الجُمَل الشرطية؟ لقد انتقم فرناندو كراب لنفسه بطريقة مختلفة كلَّ الاختلاف عن عطيل. هل أنا الآن ميتة؟ إنه لم يخنقني؛ لأنه لا يمس بأذًى أي شيء يملكه. وهو لم يقتلك أنت أيضًا يا خوان؛ فأنا أراك الآن أمامي. عفوًا يا بروفيسور ألفاريز، أم تراني أُخطئ مرةً أخرى. اكشف نفسك يا جبان! يا جبان! يا جبان!

(الطبيب الثاني يستدير نحوها. يتبيَّن أنه هو الدوق.)

الطبيب الثاني (الدوق) : جوليا! أنا يائسٌ يأسًا فظيعًا يا جوليا! حاولت أن أُعبِّر عن يأسي، وأن أعطيه شكلًا … شكلًا يمكن أن أُسمِّيه مرثية … لكن الألم الذي يُوحي إليَّ بالصور السوداء الثقيلة، يمنعني في نفس الوقت من تقييدها في حروفٍ على الورق … فاض بي الحزن حتى تعذَّر عليَّ التعبير عنه بالكلمات — كل شيء ينضح بالألم — أخشى على نفسي أن أتجمَّد! أنتِ تعرفين استعدادي التعِس للإصابة بنوبات الإغماء، جوليا … حبيبتي جوليا، مَن الذي سيفهمني لو فقدتك؟ أنتِ وحدك!
جوليا : وأنت أيها الخائن! لقد تخلَّيت عني! أنت المسئول عن حبسي هنا (صارخة) في مصحَّة المجانين!
الطبيب الثاني (الدوق) : آه يا جوليا المسكينة! يا روحي المسكينة!
الطبيب الأول : لو أبقيناها هنا مدة أطول، فربما تمرض بالفعل يا بروفيسور ألفاريز.
جوليا : سيدي البروفيسور ألفاريز. لقد توصَّلتُ لحقيقةٍ لا بد أن أخبرك بها: هذه الزوجة المكسيكية.
الطبيب الأول : مَن تقصدين؟
جوليا : لا تدَّعِ الجهل بالموضوع! لقد جمعتَ بنفسك كل التقارير وقرأتها عليَّ! أقصد زوجة زوجي الأولى في المكسيك، لقد تبيَّن لي الآن بوضوح أنه لم يلجأ إلى القوة لقتلها، إذ لم يكُن في حاجة لاستخدام القوة في قتلها! لقد صحوت من غيبوبتي وفتحت عيني. إنه هو الذي أوصلها إلى الحالة التي دفعتها للموت من تلقاء نفسها.
الطبيب الأول : آها!
جوليا : هل تحبني، يا سيادة البروفيسور ألفاريز؟
الطبيب الأول : عفوًا؟
جوليا : الجميع يحبونني لجمالي. سأقول لك الآن لماذا أحب زوجي، لماذا أحب فرناندو كراب، لا تهرب أرجوك!

(الطبيبان يلوذان بالفرار.)

جوليا : يا للدهاء الذي قهر به هذا الدوق بوردا فيلا وجعله يكشف أمامي عن تعاسته المزرية! كنت عمياء، حكمت على نفسي بالعمى! أما هو! أما هو فقد أنقذني، لقد عرف كل شيء ورأى كل شيء ودبَّر خطته الشيطانية. هل قلتِ «الشيطانية» يا جوليا؟ أجل، هذا هو الذي قلته، ولم تزَل الكلمة معلَّقةً فوق رأسي في الهواء! لقد أنقذني ملاكٌ شيطانيٌّ من السقوط في الهاوية؛ لهذا أحبه! أحبه.

١٠

(جوليا – فرناندو كراب)

(يدخل فرناندو.)

جوليا : فرناندو، سامحني! (تسقط منهارةً على الأرض.)
فرناندو كراب : وعلامَ أسامحك؟
جوليا : سقطت على الأرض فجأة، أشعر بضعف شديد، لقد قاسيتُ طويلًا من المرض.
فرناندو كراب : لا، لا، يجب أن تنهضي، كل شيء على ما يُرام. (يرفعها من على الأرض.)
جوليا : سامحني!
فرناندو كراب : علمت من أطباء المصحَّة أنك عُوفيتِ تمامًا من حالة الذهان التي أصابتك.
جوليا : كنتُ مجنونةً! مجنونة جنونًا فظيعًا! وكم كذبت في أثناء جنوني! وكل هذا لأثير غيرتك! لهذا السبب وحده! هل تصدقني؟
فرناندو كراب (في غاية البرود) : لقد سألتنِي مرة إن كنتُ حقًّا قد قتلت زوجتي الأولى. وسألتك هل يمكنك أن تُصدِّقي هذا، هل تذكرين ردَّك عليَّ؟
جوليا : قلت لك: لا، لا أُصدِّق، ولن أُصدِّق ذلك أبدًا.
فرناندو كراب : كذلك أقول لك اليوم: كما لم تُصدِّقي أنني ارتكبت هذه الجريمة، كذلك لم أُصدِّق أبدًا تلك الحكاية مع الدوق.

١١

(الدوق)
الدوق (يقرأ خطابًا) : «لعلك قد عرفت، يا عزيزي الدوق بوردا فيلا، أن زوجتي قد غادرت مصحَّة الأمراض العقلية وهي في أتمِّ صحة وعافية، وهي تريد أن تتحدَّث معك، تعالَ لزيارتنا بعد غدٍ الخميس لكي نسوي المسألة، زوجتي ترجوك رجاءً حارًّا، وأنا أُصِرُّ على حضورك، أنا واثق من أنك ستحضر، يمكنك أن تتصور العواقب الوخيمة التي قد تترتب على عدم حضورك، فأنت تعرفني جيدًا، فرناندو كراب.»

١٢

(جوليا – فرناندو كراب – الدوق)
فرناندو كراب : من فضلك أحضري الشاي بنفسك يا جوليا! واصرفي الخادمة ورئيس الخدم أيضًا، يمكنهما أن يأخذا اليوم إجازةً، والمساء كله.
الدوق : شاي؟
فرناندو كراب : لا، لا، لا داعي للقلق! أنا في أتمِّ صحة ولا أشكو من أي تعب في المعدة، أنت بالطبع تحب اللقاء على الشاي، لهذا قررت أن تشرب الشاي، هل أنت مستريح في مكانك؟ يمكنك بكل سرور أن تجلس على الأريكة، جوليا لن تعترض بكل تأكيد إذا رأتك على ملاءتها الهندية الجميلة.
جوليا : أبدًا، أبدًا، ليس لديَّ أي اعتراض.
الدوق : أنا مستريح هنا تمامًا، شكرًا لكما. (صمت.)
فرناندو كراب : يا للهدوء البديع! لولا هذا الصوت الغريب الخافت، أخ … إنه فنجانك الذي يحتكُّ بالطبق!

(الدوق يعدل بسرعة وضع الفنجان.)

فرناندو كراب : معذرةً فأذني شديدة الحساسية، لم أقصد أن أُسبِّب لك أي حرج.
الدوق : وما وجه الحرج إذَن؟ لا، لا!
فرناندو كراب : بل سبَّبتُه لك! فأنت إنسان مثقَّف، ورأيُك فيَّ أنني مخلوق فظ، ولكن لا بأس. جوليا، لقد صببتِ الشاي لضيفنا الدوق وحده، لماذا لم تصبِّي لي أيضًا؟ أريد أن أتناول جرعةً قبله، حتى يطمئن السيد الدوق إلى أن الضيوف يمكنهم أن يستمتعوا في بيتي بكل ما يُقدَّم لهم دون أي خوفٍ أو قلق.
جوليا : أعلم أنك تشربه بالسُّكر! (تضع السكر في فنجان الدوق.)
فرناندو كراب : أنا في العادة لا أقرأ الروايات والكتب الأدبية وما أشبه، بل أكتفي أحيانًا بقراءة الجرائد اليومية وأخبار الحوادث. بهذا يعرف الإنسان ما يدور في الدنيا. أليس كذلك؟
الدوق : لا أدري! لا أستطيع أن أحكم.
فرناندو كراب (لجوليا بلهجةٍ مرحة) : هل رأيتِ كيف تقلَّصَ وجهه! إنه لا يُطيق كلامي، هذا المثقف الحساس! في هذه الأخبار نقرأ أحيانًا عن بعض الجرائم التي لا تُصدَّق ونتعجَّب من أحوال البشر، أنا نفسي أتعجَّب منها مع أني أعتقد أنني أعرفهم بحكم أنني من رجال الأعمال، ولكن لا يستطيع أحدٌ يا سيادة الدوق أن يخدعني.
الدوق : لا، بالتأكيد لا.
فرناندو كراب : ثم إنك تعتبرني كذلك إنسانًا قادرًا على كل شيء!
الدوق : هناك حدود، هناك حدود معينة!
فرناندو كراب : الناس كلهم يمكن أن يُباعوا ويُشتروا، أم لك رأيٌّ آخَر؟
الدوق : الحقيقة .. أرجو ألا يكون هذا صحيحًا!
فرناندو كراب : بعضهم يملك العقل، والبعض يملك المال.
جوليا : يجب التسامح مع الفنانين في بعض تصرفاتهم.
فرناندو كراب : ومَن الذي يتكلَّم هنا عن الفنانين؟ تذكرت! سمعتُ أنك تَنظِم الشِّعر للتسلية.
الدوق : إنني أحاول في بعض الأحيان .. أن أُعبِّر عن نفسي.
فرناندو كراب : وهذا هو الذي أفعله أنا أيضًا! إنني أقول ما أريد.
الدوق : أعني أنني أقوله شِعرًا .. في إيقاعات حرة.
فرناندو كراب : استمر في ذلك على راحتك! وإذا جمعتَ القدر الكافي، فسوف أطبعه على نفقتي.
الدوق : سيشرفني هذا .. شرفًا عظيمًا.
فرناندو كراب : شرف … شرف! كلام فارغ، أنت بالطبع لا تجد أحدًا يطبع ما تقوله!
الدوق : أبدى البعض قدرًا من الاهتمام .. وإحدى دور النشر!
فرناندو كراب : وهذا أفضل! بهذا أشتري الكمية كلها وتخزنها، كم نسخةً هي إذَن؟ في كشك جوليا، عظيم جدًّا! هل يسعدك هذا؟
الدوق : أشكركم على اهتمامكم.
فرناندو كراب : ولكن ينبغي عليك أن تفكر في كتابة روايات بوليسية! قصص عن جرائم القتل! سيكون الإقبال عليها أشد!
الدوق : ليس هذا للأسف هو الجنس الأدبي الذي أحبه.
فرناندو كراب : تصوَّر أنني قرأتُ مؤخَّرًا عن زوجٍ ذبحَ عشيق زوجته، ثم فصلَ رأسه الذي ينزُّ بالعقل والحكمة فصلًا تامًّا عن جسده.
الدوق : من الواضح أنه مصاب بمرضٍ عقلي!
فرناندو كراب : ليكُن الأمر كذلك، المهم أنه قام بعد ذلك بتقطيع الجسد قطعًا صغيرة وعلف بها الدجاج. لم يعثر رجال الشرطة إلا على الرأس.
الدوق : شيءٌ فظيع!
فرناندو كراب : الحقيقة أنه كان يملك مزرعة للدواجن … وقصة أخرى لا أريد أن أضايقك بها.
الدوق : أبدًا، أبدًا! تفضل.
فرناندو كراب : الواقع أن جوليا تأثرت تأثرًا شديدًا؛ فهي في العادة لا تهتم بقراءة التقارير التي تُنشَر في صحف الحوادث والفضائح .. وهذا بالطبع شيءٌ لا بأس به، فهي تُفضِّل أن تشغل نفسها بما هو أجمل. إنها محاولة لقتل الزوج، وهذا هو الذي كشف عنه التحقيق. ولكن الزوجين تصالحا بعد ذلك وتمكَّنا من إرسال العاشق، وهو بالمناسبة حلاق الزوجة، إلى الشيطان، مغزى القصة: شنق الحلاق نفسه.
الدوق : يا سيد كراب .. أرجو …
فرناندو كراب : لا بد أنني أثقلت عليك! أم بدأتَ تشعر بالقلق لأنك لم تعرف حتى الآن لماذا رجوناك أن تُشرِّفنا؟ جوليا!
جوليا : طلبتُ من زوجي أن يدعوك للحضور لأنني وجدت من واجبي أن أعتذر لك عن الإهانة الشديدة التي وجَّهتُها إليك.
الدوق : ولكني لا أعرف ماذا تقصدين بكلامك هذا يا جوليا! فأنتِ لم تُسيئي إليَّ أبدًا!
فرناندو كراب : يستحيل على إنسان مثقَّف مثلك، يا سيادة الدوق بوردا فيلا، ألَّا يدرك حقيقة الموقف على الوجه الصحيح!
جوليا : أعترف بأنني وضعتك في موقفٍ شديد الحرج. أنا آسفةٌ غاية الأسف.
الدوق : إنكما تُسبِّبان لي الارتباك الفظيع .. وأنا لا أعرف في الواقع …
فرناندو كراب (يقاطعه) : حذارِ! (الدوق يُصاب بالرعب ولا يدري ماذا يقول.)
جوليا : أنت إنسان في غاية الأدب والذوق ولا تريد أن تُسبِّب لي أي حرج.
فرناندو كراب : لا بد أنك تُقدِّر أن الإنسان الذي يُلحِق أذًى بإنسانٍ آخَر ويشعر نتيجة ذلك بالإحساس بالذنب تجاهه، لا بد أن يطلب منه أن يسامحه ويصفح عنه.
الدوق : طبعًا يا سيد كراب، ولكن أي أذًى تقصد؟ وما هو الظلم الذي وقع عليَّ؟
جوليا : لقد كنت في غاية المرض، مرض المخ! لهذا أطمع في أن تعفو عني.
الدوق : أرجوك يا جوليا ألا تُعذِّبي نفسك.
جوليا : بل أريد أن أتكلم، أن أستجمع كلَّ شجاعتي وأنطق بكل شيء ولا أحاول أن أُجمِّل أي شيء، حتى إذا صفحتَ عني، شعرتُ شعورًا حقيقيًّا بأنني أصبحت حرةً.
فرناندو كراب (بفظاظة) : كُفَّ عن مقاطعتها!
جوليا : لقد وقعتُ تحت تأثير نوبة الجنون التي أصابتني فادَّعيتُ أنك لاحقتني وغازلتني وهمست في أذني بالاعترافات الحارَّة بحبك لي، كما زعمتُ أنك نجحت في إذكاء لهيب عواطفي نحوك.
الدوق : أنتِ قلتِ هذا يا جوليا؟
فرناندو كراب : أجل قالته لي! والآن يبدو عليك الرعب!
جوليا : وادَّعيتُ أخيرًا أنني استسلمت لك في النهاية. آه من تلك الحالة التي وصلتُ إليها! كانت حالة جنونٍ كامل! كيف أمكنني أن أقول شيئًا كهذا؟
الدوق : آه! يؤسفني هذا غاية الأسف.
فرناندو كراب : أجل، لقد تعرَّضت لموقف مؤلم غاية الألم.
جوليا : وقلتُ أيضًا ما هو أكثر من هذا! قلتُ إننا ارتكبنا أفعالًا فاضحة جدًّا، فوق هذه الأريكة نفسها! لا مرة واحدة، بل مرات عديدة، وبصورة متكرِّرة. وقلت إنك كنت تحضر أحيانًا بالليل، عندما يكون زوجي على سفر. إنني أعترف الآن ببشاعة كل ما صدر عني، وبأنني وضعتُك في موقفٍ مؤلم ومُحرِج غاية الحرج! كانت فكرة ثابتة تسلَّطَت على رأسي، يؤسفني أنك تحمَّلتَ الأسئلة التي وُجِّهَت إليك في حضرة الأطباء عن العلاقة المزعومة بيننا. لا بد أنها كانت لحظة مُريعة بالنسبة لك، ومع ذلك أرجوك أن تسامحني إذا استطعت، أتوسَّل إليك. (صمت.)
فرناندو كراب : هل تقبل هذا الاعتذار؟
الدوق : يجب أن أعترف …
فرناندو كراب : نعم أو لا؟
الدوق : نعم، إنني أسامحها، أسامحكما معًا.
فرناندو كراب (في غلظةٍ) : انتبِه لما تقول! أنت لم تُسِئ إليَّ حتى أسامحك.
الدوق : لا لم أفعل، هذا صحيح.
فرناندو كراب : ألاحظ أن أعصابك منفعلة، هدِّئ نفسك من فضلك. لقد سُوِّيَت المسألة تمامًا، أرأيتِ يا جوليا، كان هذا هو عين الصواب.
(للدوق) ليس مما يُلائم طبعي وخُلُقي أن أُداري على الأشياء الكريهة.
جوليا : وأنا في غاية السعادة يا فرناندو.
فرناندو كراب : لو سوَّلَت لك نفسك أن تُصوِّر المسألة بشكل آخَر يا سيادة الدوق …
الدوق : لن أفعل قطعًا!
فرناندو كراب : مَن يدري؟ إنك تتسكَّع في كل مكانٍ وتُثرثر .. ربما في «إيقاعات حرة» .. أنصحك بأن تكُفَّ عن هذا. إنك تعرفني.
جوليا : آه! هذه النافذة المفتوحة، أسمع من خلالها زقزقة العصافير بين الأشجار!
الدوق : أعتقد أن وجودي لم يعُد مرغوبًا فيه! (يريد أن ينصرف.)
فرناندو كراب : انتظر! لي رجاءٌ آخَر عندك يا سيادة الدوق بوردا فيلا. تعالَ لزيارتنا كما تشاء! حتى لو كنتُ غائبًا عن البيت، فلا يصح أن يزعجك هذا. لو قطعنا العلاقة التي بيننا فجأةً لأساء هذا إلى سمعتنا وأعطى الفرصة لمروِّجي الإشاعات. أليس كذلك يا جوليا؟
جوليا : أجل يا فرناندو.
فرناندو كراب : ربما لديكما أسرارٌ تقولانها لبعضكما .. بعيدًا عن الأنظار .. ولا تحبان أن تُفصِحا عنها في حضوري .. لهذا أترككما الآن! (ينصرف.)

١٣

(جوليا – الدوق)

(جوليا والدوق يجلسان صامتَين. الدوق ينظر في قلق إلى الباب.)

جوليا : لا تتلفَّت دائمًا إلى الباب!
الدوق (هامسًا) : هل يمكن أن يتنصَّت علينا؟
جوليا : لا داعي للهمس!
الدوق : أُحِس أن صوتي هرب مني.
جوليا : ليس من طبع فرناندو كراب أن يسترِقَ السمع وراء الأبواب ويتنصَّت على ما نقول!
الدوق : بعد كل ما جرى …
جوليا : صدِّقني يا خوان، لا داعي للقلق.
الدوق : تقولين لي لا داعي للقلق؟ أنتِ يا جوليا! إنني الآن لا أعرف مَن أنا! لو لم تكوني جالسةً أمامي، ولولا أنكِ تنادينني يا خوان، بهذا الاسم الذي أعرفه والذي أربطه بشخصٍ معيَّن يُلقَّب بخوان دوق بوردا فيلا، شخص كنت أعتقد أنني أعرفه، لولا هذا ما عرفت … (جوليا تبتسم.)
الدوق : إنني أحمل في نفسي ذكرى هذا الشخص، ليس معنى هذا أنني أُعجبت به إعجابًا خاصًّا أو أنني قدَّرتُ جميع خصاله، لا، ليس هذا ما أعنيه! لكنه على أية حال لم يكُن في نظري شخصًا مُثيرًا للتقزُّز. أما الآن يا جوليا — أما الآن فإنني أتقزَّز من نفسي، وأشعر أن نفسي تتقزَّز مني! (يبكي) ها أنتِ ترَين بنفسك المصير الذي انتهيت إليه، المصير الذي آلَ إليه هذا الإنسان الذي سبق أن أحببتِه (جوليا صامتة.)
الدوق : الحزن الفاجع يقهرني.
جوليا : لا يا خوان.
الدوق : هل بقي لديكِ أي أمل؟ هل يمكنك بعد هذه التمثيلية المشحونة بالقبح والكذب والافتراء أن تتصوَّري بريق أمل في أن نرجع مرةً أخرى لأنفسنا، وأن تُبعَث في مشاعرنا الصافية أنفاسُ الحياة من جديد؟ بعد هذا المنظر البشع!
جوليا : أي منظر يا خوان؟
الدوق : ما زلتُ أراني وأنا أقف هناك، تعِسًا مدحورًا أعزل من كل سلاح، وأرى الطبيبين يؤدِّيان دور الشاهدين اللذين فهما التمثيلية الملعوبة تمام الفهم، وأدركا كيف أُكرِهت على التنكُّر لك؛ هذا المنظر البشع الفظيع الذي أُهِنتُ فيه أحطَّ إهانة، كما أُهِنتِ أنتِ أيضًا معي.
جوليا : مسكين يا خوان!
الدوق : تصورتُ بعدها أن عيوننا لن تتلاقى أبدًا.
جوليا : هل تصورتَ هذا؟
الدوق : يا لقوتك الخارقة، يا لقوتك!
جوليا : أجل، لأنها مستمَدَّةٌ من حبِّي.
الدوق : إنك … إنك تُهدين لي الحياة من جديد! تهبينني الأمل! تمنحينني كل شيء.
جوليا : كم كنتُ غبيةً! وها أنا ذا أفهم أخيرًا كل شيء، بعد أن سقطت عني الأخطاء وزال التشوُّش والاضطراب.
الدوق : أخشى أن يكون واقفًا وراء الباب يتنصَّت علينا! كيف أُصدِّق يا جوليا أن يجبرك أحدٌ على طلب الصفح مني؟
جوليا : أنا نفسي وجدت أن هذا شيء بديهي.
الدوق : جوليا، أنا الآن عاجزٌ عن فهمك.
جوليا : أظن أن كل ما حدث كان يوافق رغبتك، لقد سبق أن أكَّدتُ بأن حكاية الحب كلها لم تكُن إلا وهمًا من جانبي، كما أنني اعتذرتُ لك أخيرًا عن خطئي. كنتَ على حق، وليس هناك ما يدعوك للقلق.
الدوق : ولكن يا جوليا! أتريدين الآن أيضًا ونحن وحدنا تمامًا ولا أحد يجبرنا على الكذب، أتريدين أن تُنكري أنك عرفت حقيقة مشاعري نحوك، وأنك استجبت لها وكنت حبيبتي؟
جوليا : كُفَّ عن هذا الكلام أرجوك.
الدوق : لكنني متأكد منه! متأكد منه!
جوليا : هذا هو الذي تتصوَّره يا عزيزي خوان. وهو الذي أدَّى بك للجنون. (تضحك. الدوق يفرُّ مذعورًا.)
فرناندو كراب : أثبت فرناندو كراب أنه هو المنتصر، وهذا أمر بديهي. فقد أحبَّتْه بكل ما في قلبها من قوة، ثم جاء الموت وأخذها، أخذ جمالها أولًا، ثم أخذ شجاعتها، وأخيرًا أخذ أنفاسها.

١٤

(جوليا – فرناندو كراب)
فرناندو كراب : لقد أسقطتِ المشط من يدك.
جوليا (هامسة) : أخ! لم ألاحظ هذا على الإطلاق.
فرناندو كراب : هو على كل حال مجرَّد شيء خفيف الوزن، وهو يلتوي في يدي بمجرد أن أقبض عليه.
جوليا (هامسة) : أعطني إيَّاه.
فرناندو كراب : وهذا شيء يوافق طبعي. في إمكاني أن أُسوِّي به قصتي.
جوليا (هامسة) : أجل.
فرناندو كراب : لم تضحكي لِما قلت، في إمكاني أيضًا أن أتحكَّم في تقاطيع وجهي وأرسم وجوهًا مختلفة! انظري: هذا مثلًا قردٌ عجوز … وهذا أسد مُزمجِر! الحيوانات فقط هي التي تخطر على بالي. مع أن هناك ما يكفي من الوجوه البشرية المفتعَلة! يكفي أن تتذكري ضحكة ألفونسو الذي كنتِ دائمًا تخافين منه! لقد حكى لي الدكتور هرما نشتتر عن مجنون كان من عادته أن يجوب الشوارع ويراقب ملامح الناس وكل تعبيرات الوجوه ويطبعها على ذاكرته، نوع من القهر أو الحصر! ثم يختبئ في دهليز مظلم ويُحاكيها جميعًا في الخفاء لكي يستطيع أن يتحرَّر منها، مثله مثل شخص يتقيَّأ طعامًا فاسدًا، حاولي أن تتصوَّري هذا! ها هو مشطك.
جوليا (هامسة) : لا أُطيق أن يسقط الشعر على وجهي.
فرناندو كراب : أنتِ تستحقِّين مشطًا آخَر، مشطًا مُطعَّمًا بالألماس.
جوليا (هامسة) : إنني أموت يا فرناندو.
فرناندو كراب : لا، لا، لا! كُفِّي عن هذا الهُراء! تعلمين أنني لا أُطيق هذا.
جوليا (هامسة) : انظر فقط إلى وجهي.
فرناندو كراب (صارخًا) : لن تموتي! هذا مستحيل! أنت ملكي! وأنا لا أتنازل عنك! لا أتنازل عنك لأي مخلوق! ولا للموت نفسه، هذا الوغد الملعون!
جوليا (هامسة) : آه كم تحبني! قلها! قلها!
فرناندو كراب : أنت تعلمين هذا جيدًا.
جوليا (هامسة) : لكنك لم تنطق بها أبدًا. لم تقلها مرةً واحدة! ربما تردُّ إليَّ القدرة على الحياة.
فرناندو كراب : عندها سقطت كل الأغلال التي كانت تُقيِّد قلبه، وتكلم لأول مرة عن حبِّه لجوليا، تكلَّم كثيرًا ولم يستطيع أن يتوقف، وأخذ يَنشِج بالبكاء ويصرخ وينوح. أطبقَ على جسدها الواهن المنطفئ وضغطه على صدره، استلقى بجانبها على السرير وراح يهتف بغير انقطاع: خذي حياتي! خذي حياتي! خذي دمي! لن أترككِ للموت!
جوليا (هامسة) : إنك تبكي، ولكنني سعيدة.
فرناندو كراب : هكذا ماتت، وبعد أيام فُتح الباب ووجدوا فرناندو مع جوليا. ولا بد أنه رفع الزوجة الميتة من الفراش وحملها حتى كاد يصل إلى الباب. هناك خرَّ معها ساقطًا على الأرض، وعندئذٍ قطع شرايين يده. هكذا مات وهو لا يزال يضمُّها بين ذراعيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤