تجربة

أما أنها نجحت نجاحًا باهرًا قاهرًا فذلك شيء لا شك فيه، وأما أن نجاحها كان خيرًا للناس وللحضارة فهذا هو الشيء الذي أشك فيه كل الشك، ولعلي أقطع بما يناقضه من جميع الوجوه، ولنعرف أولًا ما هذه التجربة الناجحة المخفقة، الرابحة الخاسرة، التي أحيت ناسًا كثيرين وعرَّضت خير ما في الإنسانية للشر والتلف، والتي خيلت إلى الناس أن حضارتهم قد بلغت من الرقي أقصاه، وانتهت من الكمال إلى غايته، على حين أنها زلزلت أركان هذه الحضارة، حتى انتهت بها إلى ما تتعرض له الآن من الانهيار؛ وأريد بها تجربة الإعلان أو تجربة الدعاية.

وقد قلت إن نجاحها ليس فيه شك، وما أظن أحدًا ينازع في أن الإعلان قد أصبح من أصول الحياة الحديثة وركنًا من أركانها، بل لعله أصبح أهم أصولها وأعظم أركانها خطرًا. عظم شأنه في التجارة والصناعة فكان مروِّجًا للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم عظم أمره في السياسة وأمور الحكم فكان مروِّجًا للأحزاب السياسية، وكان حكمًا بين هذه الأحزاب يقضي لبعضها على بعض، ويديل لبعضها من بعض. وكان مروجًا للحكومات حين تنهض بأمور الحكم، وللمعارضة حين تقاوم هذه الحكومات، وكان إليه الأمر في كل ما يكون؛ من قيام الوزارات وسقوطها، ومن ظفر الأحزاب في الانتخاب وانهزامها. أعانه على ذلك انتشار القراءة والكتابة، وانتشار الصحف التي تحمل إلى قارئ ما يستطيع أن يقرأ، والتي تدس على كل قارئ فيما يقرأ هذا الإعلان أو ذاك، تروج به لما تراد على أن تروج له من أمور التجارة والصناعة والسياسة، ومن أمور الثقافة أيضًا.

ثم أتاح العلم والاختراع للصحافة شريكًا له خطره وأثره في الإعلان، وهو الراديو. هذه تروج بالقراءة في الصباح والمساء، وحين يتوسط النهار وحين يتقدم الليل، وهذا يروج بالإلقاء في كل ساعة من ساعات النهار والليل، بل في كل لحظة من لحظات النهار والليل.

هذه تسلك إلى النفس طريق العين، وهذا يسلك إلى النفس طريق الأذن، وكذلك يحاط بالفرد وبالجماعة من جميع وجوههما، ويؤخذ الفرد والجماعة من جميع أقطارهما، يخضعون للإعلان في كل لحظة من لحظات الحياة، والإنسان — كما قال أرسطاطاليس — مدني بالطبع، وليس معنى ذلك أنه بطبعه يحب الحياة المنظمة تنظيمًا سياسيًّا دقيقًا فحسب، بل معناه أيضًا أنه يتأثر أشد التأثر بهذه الظواهر التي تنشأ ويدعى إليها ويُقبِل عليها بعض الناس حتى يتهالك الناس جميعًا عليها، وما أسرع ما تصبح لهم نظامًا ولحياتهم قوامًا! كأنها أصل من أصول الحضارة وضرورة من ضرورات العيش.

لقد عرفت القطارات فأعرضتْ عنها كثرة الناس إعراضًا، وأقبلت عليها منهم قلة، ولكن وقتًا قصيرًا لم يمضِ حتى أصبحت القطارات أساسًا من أسس الحضارة الحديثة، ثم تقدم الاختراع وأنشئت وسائل أخرى للمواصلات أسرع وأيسر من القطارات، فقاومها الناس وأقبلت عليها قلة، ثم لم تلبث أن أصبحت أصلًا من أصول الحياة.

وكذلك كان الإعلان نفسه، لم يُقبل عليه في أول أمره إلا المجرِّبون ثم المطمئنون إلى التجربة، ثم لم يلبث هؤلاء المجربون أن كثُروا، ولم يلبث هؤلاء المطمئنون أن تزايدوا وأصبح عددهم ضخمًا، ثم لم يلبث الإعلان أن أصبح أصلًا من أصول حياتنا الحديثة، لا نكاد نتصور عملًا من الأعمال الخطيرة أو الضئيلة التي نريد أن نُقدِم عليها، حتى نقدِّر حظ الإعلان منه أو حظه من الإعلان. فإذا أهملنا هذا التقدير فعملُنا معرَّض للخطر، بل مقضي عليه بالإخفاق الذي لا مخرج منه ولا منصرف عنه.

والظريف أن هذا التقدير لأمر الإعلان قد أصبح جزءًا طبيعيًّا، وهو مضحك بنوع خاص حين يتصل بأمور الثقافة، وحين يتصل بالإنتاج الأدبي الممتاز، ولا سيما في أوروبا، فلا يكاد الأديب أو الفيلسوف يفرغ من كتابه أو يفكر في إنشاء كتابه ويتحدث فيه إلى الناشر — وأنت تعلم أن من المؤلفين من يتفق على نشر كتابه قبل البدء فيه، ومنهم من يتفق على ذلك بعد الفراغ منه — حتى يكون الإعلان أول شيء يعرض له الحديث؛ فالناشر يحسب ما سيكلفه الإعلان من نفقة، والكاتب يحسب ما سيكلفه الإعلان من نسخ. وقد نشرت ترجمة الأيام بالفرنسية وتحدث إليَّ في أمرها الكاتب الفرنسي العظيم دي هامل، فكان مما قاله لي: «يجب أن توطن نفسك على توزيع ٣٧٠ نسخة مجانًا على الصحف ليُعرف الكتَّاب، فبغير هذا لا سبيل إلى معرفته.» وقد حدثتك في الأسبوع الماضي عن كتاب دي هامل «الدفاع عن الأدب»، وهو من أشد الكتب بغضًا للإعلان وسخطًا عليه، وما أشك مع ذلك في أنه قد قدر أمر الإعلان مع الناشر حين هيَّأ كتابه هذا للنشر، قدر ما سيكلفه الإعلان من نسخ وما سيكلفه الناشر من مال، يحسب عليه هو في آخر الأمر.

فالإعلان إذن أصل من أصول الحياة الحديثة قد تغلغل في فروعها كلها، فلم يبقَ للناس سبيل للتخلص منه أو الفرار من سلطانه، وهو من هذه الناحية قد نجح نجاحًا باهرًا قاهرًا، بل هو قد نجح من ناحية أخرى؛ فهو يفيد الذين يلجَئون إليه ويحسنون الانتفاع به فائدة قريبة محققة، وهو يضر الذين لا يلجَئون أو لا يحسنون الانتفاع به ضررًا قريبًا محتومًا. فالتاجر الذي يحسن الإعلان، وينفق عليه الأموال الضخمة ناجحٌ رابح، والتاجر الذي يقصر في ذات الإعلان أو تقصر يده عمَّا ينبغي له من الضحايا والقربان خاسر مقضي على تجارته بالكساد من غير شك. والكتاب الذي تعلن الصحف ظهوره ومحاسنه سريع النفاد، والكتاب الذي تجهله الصحف أو لا تذكره إلا قليلًا بائر على مؤلفه وناشره جميعًا بإذن الله.

والحزب السياسي الذي يظفر بالصحف المنتشرة الرائجة كثير الأتباع موفَّق إلى الظفر في حياته السياسية مهما تختلف ألوانها، والحزب الذي يقصر به الفقر أو ترتفع به الكرامة عن الإعلان مخذول مدحور في حياته السياسية مهما تكن مبادئه ومذاهبه، ومهما كانت استقامة أعضائه، ومهما يكن حظهم من رجاحة الحلم ونزاهة المقصد وحب الوطن وإيثار المنفعة العامة على كل شيء.

وقُل مثل ذلك في كل ما يمس الجماعة وحياة الفرد، لا سبيل إلى الإقدام على عمل تنشئه إلا إذا قدَّرت حظ الإعلان في الترويج له، ولا سبيل إلى الإقدام على شيء تحتازه احتيازًا ماديًّا أو معنويًّا إلا إذا عرفت رضى الإعلان عنه، وما أنتج من حسن رأي الناس أو سوء رأي الناس فيه.

كل هذا حق واضح قد أطال الناس فيه حتى أصبح ذكره حديثًا معادًا، ولكن هل أفادت الحضارة من هذه الظاهرة ما يصلحها ويرقيها ويدنيها من المثل الأعلى، ويقربها من الكمال الذي يقال إننا نسعى لندركه ولندنو منه؟ أم هل أفادت الحضارة من الإعلان ما يسوءُها ويغض من قدرها ويضع من مكانتها، ويردها إلى هذه الغلطة التي لا تلائم ارتفاع النفوس عن الصغائر وتنزهها عما لا يليق بالقلوب الكريمة، هذه التي ينبغي أن تصوغها حضارتنا ذات الحظ العظيم من الامتياز فيما نزعم؟

هذه هي المسألة التي أشك فيها كل الشك، بل أكاد أقطع بأن الجواب عليها لا يرضي ولا يسر، بل لا يشرِّف، بل لا يسمح لنا بأن نفاخر بحياتنا الحديثة، وبما أنتجت من حضارة، وبما انتهت إليه من مُثُل عليا في الأخلاق؛ ذلك أن الإعلان يفقد قيمته كلها إذا اعتمد على العقل، وقام على ما يراه العقل أساسًا للحياة الكريمة النقية من الفضائل وخصال الخير. فالإعلان الذي لا يقول إلا حقًّا، والذي لا يتحدث إلى الناس إلا بالصدق، والذي لا يتجه من الناس إلا إلى عقولهم ومَلَكاتهم المفكرة المقدرة المتدبرة فيما تكوِّن من رأي وما تصدر من حكم، هذا الإعلان لا وجود له، ولا يمكن أن يوجد، ولا ينبغي أن يوجد؛ لأنه لو وجد لما حفل به أحد، ولا أقبلَ عليه أحد، ولا أذعن لسلطانه أحد، ولكان أمره كفلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، مقصورًا على طبقة من الخاصة، بل من خاصة الخاصة، وكانت نتيجته إخفاقًا تامًّا، وإفلاسًا محتومًا، وليس من العسير أن توازن بين الكتب القيمة ذات الخطر العظيم التي لا يعلن أصحابها أو ناشروها أمرها إلا بمقدار وفي صحف معينة قد خصصت لها ولأمثالها، وبين الكتب الأخرى المتوسطة أو ذات الخطر الضئيل أو التي لا خطر لها، ولكنها تظفر بالإعلان الهائل الذي لا يصدر عن عقل ولا عن صدق ولا عن نصيحة للقارئ، وإنما يصدر عن رغبة في البيع وحرص على الرواج؛ فسترى نتيجة هذه الموازنة مصدقة لهذه الحقيقة الواضحة، وهي أن الإعلان لا نفع له إلا إذا اعتمد على شيء غير الصدق، وصدر عن مصدر غير العقل، وقصد إلى شيء غير النصح والإرشاد.

وتعليل ذلك يسير عند علماء النفس وعلماء الاجتماع، فصاحب الإعلان مروِّج، ومروِّج في بيئة اجتماعية تختلف طبقاتها وتتفاوت أقدار أفرادها وحظوظهم من العلم والجهل، ومن الذكاء والغباء، ومن قوة الحس وبلادة الطبع، ومن سرعة التصديق والإبطاء فيه، ومن سهولة الانقياد وصعوبة المراس، ولا بد من أن يتجه الإعلان إلى هؤلاء جميعًا، ولا بد من أن يبلغ هؤلاء جميعًا ويصل إلى نفوسهم، ويُحدِث فيهم الأثر الذي يريده صاحب الإعلان. فالإعلان لون من الخطابة التي تتجه إلى الجماهير، ولكنه لا يتجه إلى جمهور بعينه قد اشتمل عليه مكان محدود وأحاط به إطار معنوي محدود، وإنما هو خطابة مكتوبة، فيه خصائص الخطابة التي تتجه إلى عواطف الجماهير، وتهاجم منها مواطن الضعف لتقهرها وتبهرها وتبلغ منها كل ما تريده، وفيه خصائص الكتابة التي تتجه إلى الغائبين منفردين ومجتمعين، فتقرأ جهرًا وتقرأ سرًّا، ويقرؤها الفرد وحده ويقرؤها الفرد مجتمعًا إلى غيره، وهو من هاتين الناحيتين بعيد كل البعد عن أن يكون شيئًا عقليًّا ممتازًا أو متوسطًا قوامه الصواب والصدق والنصح والإخلاص، إلا أن يكون الإخلاص متصلًا بما يريد المعلن أن يروج له ويدعو إليه.

فالإعلان إذن شيء يقوم على غير الصدق وعلى غير الصواب في أكثر الأحيان، وتلاحظ أني متحفظ محتاط لا أصطنع كلمة الكذب ولا كلمة الخطأ؛ لأني لا أريد هاتين الكلمتين، وإنما أريد شيئًا وسطًا بين الصدق والكذب، وشيئًا وسطًا بين الخطأ والصواب، وشيئًا وسطًا كذلك بين النصح والغش، وبين الإخلاص والنفاق، وأريد شيئًا أقل ممَّا يتصف به أنه غامض من جميع نواحيه إلا من ناحية الترويج لما يريد المعلن أن يروج له، والدعوة لما يريد المعلن أن يدعو إليه؛ أي من ناحية تحقيق المنفعة القريبة العاجلة مهما يحِط بها من الظروف الحسنة والسيئة، النقية والكدرة، البريئة.

ومعنى هذا كله أن الإعلان حين اندسَّ في الحضارة الحديثة وتغلغل في أعماقها حتى أصبح لها قوامًا، قد دَسَّ فيها عنصرًا غامضًا مبهمًا خطرًا، قوامه الشبهات، وقد أضعف بهذا العنصر حظ العقل من التأثير في الحضارة، وحظ الاختيار القائم على التفكير الصحيح وعلى تحري الصواب والإخلاص في هذا التحري. وهو بهذا قد ألغى حظًّا عظيمًا جدًّا من حرية الفرد ومن حرية الجماعة، واستبعد الناس لفريق قليل ضئيل من هؤلاء الذين ينظمون الإعلان ويصوغونه ويذيعونه ويشرفون عليه.

ومعنى هذا أن الإعلان في حقيقة الأمر خصم من خصوم الحرية الفردية والاجتماعية، وخصم من خصوم العقل، وخصم من خصوم التفكير وتحري الصدق والصواب؛ ونتائج هذا كله ظاهرة في حياتنا وحضارتنا؛ فالإعلان هو الذي أفسد قلوب الألمان وخدعهم بزُخْرُف القول حتى أضاع عليهم عقلهم، وحتى سلبهم حريتهم، وحتى أخضع ملايينهم الضخمة لفرد أو لأفراد يصرفونهم كما يحبون، ويتصرفون في أنفسهم وأموالهم وعقائدهم وآرائهم كما يشتهون. والإعلان هو الذي دفع الألمان — بعد أن صاغهم هذه الصيغة — إلى هذه الطاعة المطلقة التي انتهت بهم وبجزء عظيم من العالم إلى هذه الكارثة التي نشهدها، والتي نرجو ألا تشمل العالم كله بآثارها المنكرة.

فالإعلان إذن شرٌّ قد لا يكون منه بد، ولكنه شرٌّ لا بد من الاحتياط حينما نضطر إليه، وحينما تُكرهنا الظروف على اصطناعه، وما أكثر الشرور التي لا بد منها! ولكن ما أشد ما يجب على الناس أن يصطنعوا من الحذر والاحتياط حين يضطرون إلى بعض هذه الشرور! فهل نحن نصطنع شيئًا من الحذر والاحتياط فيما يكون بيننا وبين الإعلان من صلة تضطرنا إلى أن نصطنعه في بعض شئوننا ومصالحنا؟ أم هل نحن قد فُتِنَّا به كما فُتن غيرنا، وأذعنَّا له كما أذعن له غيرنا، وأهدينا إليه عقولنا وقلوبنا في غير تحفُّظ ولا احتياط كما أهداها إليه غيرنا؟

وأنا لا أريد بالطبع أن أقوم مقام الواعظ المرشد؛ فليس بي أن أقوم هذا المقام، ومصر والحمد لله غنية بالوعاظ والمرشدين، قد امتلأت الصحف والراديو والأندية بوعظهم وإرشادهم، وإنما أنا باحث يحاول أن يفهم، ويحاول أن يدعو غيره إلى الفهم والاستقصاء. ولست أخفي عليك أن الذي حملني على التفكير في أمر الإعلان هو هذه الظاهرة الغريبة، ظاهر التهالك على الإعلان، في بيئات قد كانت خليقة ألا تفكر في الإعلان الآن، فضلًا عن أن تتهالك عليه. وقد قرأت في بعض الصحف ما دعاني إلى هذا التفكير، وهو أن الذين يعلنون يجب أن يكون عندهم ما يعلنونه إلى الناس، فأما أن يعلنوا قبل أن يظفروا بما يريدون إعلانه فهذا هو الشيء الغريب حقًّا، وواضح جدًّا أن هذا الكلام إنما يمَس وزارة الشئون الاجتماعية، التي لم تكد تنشأ، ولم يكد الناس يبتهجون بإنشائها حتى كان أول ما أقدمت عليه وآخر ما أقدمت عليه وأهم ما أقدمت عليه إلى الآن الإعلان. أنشأت له إدارة، وعيَّنت له موظفين. أستغفر الله، بل أساءت إلى الأدب الخالص، فأخذت أديبًا كان الناس يحبون أن يقرءوا له، وكلفته أن يفرغ لأبعد الأشياء عن الأدب، وأبغضها إلى الأدب، وأسوئها أثرًا في الأدب؛ وهو الإعلان. وأخذنا لا نعرف توفيق الحكيم ولا نسمع عنه، ولا نلقاه إلا وهو غارق في الإعلان إلى أذنيه، قد اتخذ لنفسه من الإعلان معطفًا وعصًا مكان معطفه وعصاه اللَّذَيْن طالما تحدَّث عنهما الناس، وسيتخذ لنفسه من الإعلان صنمًا يشغله عن أصنامه تلك التي كان مفتونًا بها كل الفتنة، والتي كانت تُسَمى الموسيقى والتمثيل والغناء والقصص؛ فكان من أول الشر الذي جناه تهالكنا على الإعلان في وزارتنا الجديدة تعقيمُ توفيق الحكيم. وأنا أستأذنك في الضحك من هذه الكلمة، فقد أراها تصلح عنوانًا لرسالة ظريفة تصور صديقنا حين كان أديبًا خالصًا للفن، وتصوره بعد أن أصبح معلنًا خالصًا للإعلان.

ولكن أمر الإعلان في وزارة الشئون الاجتماعية — وقد كدت أملي في وزارة الدعاية — لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ما هو شر منه من إضاعة الوقت والجهد والمال في غير نفع ولا غناء؛ فإدارة الدعاية في هذه الوزارة تريد أن تعِظ الناس وترشدهم إلى الخير والإصلاح، والأزهر قائم بهذا الإرشاد والوعظ منذ زمن بعيد، ووزارة الداخلية قائمة بهذا الإرشاد والوعظ منذ زمن بعيد أيضًا. وما أظن أن وزارتنا الجديدة ستَبلُغ من التوفيق في الوعظ والإرشاد إلى ما لم يبلغه الأزهر ووزارة الداخلية.

وأكثر من هذا أن كل وزارات الحكومة لم تنشأ عبثًا، وإنما أُنشِئَت لمصلحة الناس قبل كل شيء، وهي من هذه الجهة محتاجة إلى الإعلان كما يحتاج الإصلاح الاجتماعي نفسه إلى الإعلان. فما رأيك لو أنشأت وزارة العدل إدارة للإعلان تذيع في الناس فضائل العدل وتدعوهم إليه؟ وما رأيك لو أنشأت وزارة التعليم ووزارة الأمن ووزارة الري والصرف إدارات للإعلان، تذيع في الناس فضائل التعليم والأمن والري والصرف، وتدعوهم إلى ما يصلح من ذلك وتردهم عمَّا لا يصلح؟ وما رأيك لو أنشأت وزارة المال والاقتصاد ووزارة الدفاع عن الوطن ووزارة البر والإحسان إدارات تدعو الناس من طريق الإعلان إلى الخير وتردهم عن الشر في كل ما تعالج من مرافق البلاد؟

وأظرف من هذا كله أن وزارة التجارة — وهي وزارة الإعلان بأصح ما لهذه الكلمة من معنى — لم تنشئ إدارة للإعلان، أو أنشأتها ولكن لا تتحدث عن نفسها ولا تشغل الناس بنفسها!

أليس يكون من أغرب الأمور أن تنشئ كل وزارة إدارة للإعلان وأن تختار لها الموظفين وتنفق عليها المال وتغذي منها الصحف والراديو، وتصبح أمور الحكومة كلها إعلانًا في إعلان، ولا شيء غير الإعلان؟ ألست توافقني على أن هذا كثير، وعلى أن الخير أن نرجع في هذا كله إلى القصد والاعتدال؟ ألست توافقني على أني لا أسرف على وزارتنا الجديدة إذا طلبت إليها ناصحًا لها أن تلغي هذه الإدارة الجديدة، وأن ترد موظفيها إلى أعمال أنفع وأجدى وأحسن ملاءمة للمصلحة من أعمال الإعلان هذه، وأن ترد توفيق الحكيم إلى أدبه وكتبه وأحاديثه في الصحف، فذلك أحسن موقعًا عند الناس من هذا الجهد الضائع الذي يضر كثيرًا ولا ينفع شيئًا، والذي أقل ما يوصف به أنه تهالك على الكلام الذي لا يدل على معنى، وعلى الدعاء الذي لا يحصل منه شيء، وأظنك تستطيع أن تؤكد معي لوزارة الشئون الاجتماعية أن المصلحين إن كانوا قد سئموا شيئًا من مصر والمصريين فقد سئموا الكلام والإعلان، وطال شوقهم إلى أن يفكر المصريون تفكيرًا صحيحًا منتجًا في كلمة قاسم أمين رحمه الله: إن الوطنية الصحيحة تعمل ولا تعلن عن نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤