ضحكات … ومناقشات وسمك

كان الكشك الخشبي الذي نزل به المغامرون الخمسة في «سيدي عبد الرحمن» يُطلُّ على أجمل مَنظر في العالم … هكذا كانت تفكِّر «نوسة» وهي تجلس في الشُّرفة الواسعة وحدها … السماء ذات اللون الأزرق الفاتح … تلتقي بالماء ذي اللون الأزرق الغامق … الرمال الصفراء الذهبية تمتدُّ حتى تصل إلى الشاطئ … والصمت والريح الخفيفة … وبعض طيور البحر … و«زنجر» يجلس تحت قدمَيها يرفع أنفه إلى فوق بين لحظة وأخرى … كأنه يتشمَّم رائحة المغامرين الغائبين … وفي يد «نوسة» كتاب، وأمامها راديو ترانزستور صغير يأتي بموسيقى خفيفة.

كانت «نوسة» تريد أن تتحدَّث مع أي شخص … أن تقول له ما تُحسُّ به … فأحنَت رأسها على «زنجر» وقالت: هل رأيت مَنظرًا أجمل من هذا يا «زنجر»؟

رد «زنجر» بنُباحٍ خفيف … لم تفهم منه «نوسة» … هل هو مُوافق … أم مُعترض … ومضت تقول: وهواء … وسكون … ما رأيك يا «زنجر»؟

عاد «زنجر» ينبح في تكاسُل وكأنه ضيِّق الصدر بهذا الكلام … إنه لا يحب هذا السكون ويريد أن يجريَ بعيدًا … أو يتعقَّب لصًّا، أو حتى يُعابث الشاويش «فرقع» … أما الجلوس هكذا فأمرٌ لا يحتمله … وهو يفكِّر أن المغامرين قد أخطئوا كثيرًا بحضورهم إلى هذا المكان الصامت.

وفجأةً رفع «زنجر» أذُنَيه، ثم قفز إلى الشُّرفة في ثلاث قفزات سريعة وانطلق يجري … وعرفَت «نوسة» أن بقيَّة المغامرين قد عادوا من السوق؛ فقد ذهبوا لشراء ما يحتاجون إليه للغداء، وفضَّلَت هي البقاء وحدها.

وكان عم «تختخ» الذي يملك هذا الكشك قد دعاهم لقضاء جزء من إجازتهم الصيفية؛ لأنه سافَر مع أسرته إلى أوروبا، ولم يتردَّد المغامرون في قَبول هذه الدعوة.

كان الكشك الأصفر يقف بعيدًا عن بقيَّة «الشاليهات» و«الأكشاك» فوق رَبوةٍ عالية تمتدُّ بجِواره قطعة أرض مزروعة بأشجار التين … ويُحيط بها سِياج من شجر الخِروَع الشديد الخُضرة …

وحملت الريح إلى «نوسة» أصوات المغامرين وهم يتحدَّثون … ولاحظت على الفور أن أصواتهم عاليةٌ أكثر من العادة … ومن الواضح أنهم مُنهمِكون في نِقاشٍ حاد.

وعندما وصلوا إلى قُرب الكشك بدأت أجزاء من النِّقاش تصل إليها … «لوزة» تؤكِّد أنها سمِعَت شيئًا … و«عاطف» كالعادة يسخر منها … وكلما ازدادت سخريته، تمسَّكت «لوزة» بموقفها.

كانوا يحملون الأطعمة التي اشترَوها … وكانت «لوزة» تلوِّح بحُزمة الجرجير الخضراء وتقول: سوف تقرأ هذه الأخبار في الصُّحف!

عاطف: من المُدهِش أنكِ تعرفين الأخبار قبل أن تعرفها الصُّحف، ولا بد أنك وكالة أنباء متحرِّكة!

لوزة: إنك فقط تُجيد السُّخرية … ولا تفعل شيئًا أكثر من هذا!

عاطف: هذا أفضل من أن أُطلِق إشاعات عن أشياء لم تحدُث!

تدخَّل «محب» في الحديث قائلًا: على كل حال المسألةُ أبسط من هذه المناقشة الحامية، ستأتي الجرائد في المساء … وسوف نرى!

عاطف: وإذا لم تنشر الصحف أي شيء عمَّا تقوله «لوزة»؟

محب: في هذه الحالة تدفع «لوزة» ثَمن خمس زُجاجات كوكاكولا كعقوبة!

لوزة: وإذا صحَّت الأخبار؟

محب: يدفع «عاطف» ثَمن الزجاجات.

تختخ: لقد حللتَ المشكلة بطريقة القرد!

وكانوا قد وصلوا إلى مدخل الكشك الصيفي … فوضعوا ما يحملون. وقالت «لوزة»: ما هي طريقة القرد التي تتحدث عنها يا «تختخ»؟

تختخ: يُحكى أن قطَّتَين اختلفتا على قسمة قطعة من الجبن … فذهبتا إلى القرد ليحكم بينهما … فأحضر القرد ميزانًا … وقسم قطعة الجبن قسمَين … وضع كل قسم منها في كِفَّة من الميزان … ولكن القسمة لم تكُن مضبوطة؛ فإحدى القطعتَين أثقل من الأخرى … فأكل القردُ منها جزءًا … فأصبحت أخفَّ من الثانية … فأكل من الثانية فأصبحت أخفَّ من الأولى … وهكذا مضى يأكل قطعة من هنا وقطعة من هناك حتى انتهت قِطعتا الجبن ولم تحصل القطَّتان على أي شيء.

عاطف: وقد قام «محب» بدور القرد تمامًا … فسيشرب كوكاكولا مجَّانًا في الحالتَين.

قالت «نوسة» وهي تضع الكتاب: إنني أسمع نِقاشًا حارًّا وأخبارًا عن قرود وقِطط دون أن أعرف ما هي الحكاية بالضبط!

اندفعت «لوزة» كعادتها قائلةً: لقد سمِعت بالمصادفة شخصَين يتحدَّثان عن سيارةٍ اختفت أمس في الطريق بين مَرسى الحمراء والإسكندرية … وأن رجال الشرطة يبحثون باهتمامٍ شديد عنها … ويبدو أن في السيارة شيئًا هامًّا.

نوسة: هذا ممكن، ولكن أين مَرسى الحمراء أو ميناء الحمراء هذا؟

تختخ: إنه مَرسًى لناقلات البترول يبعُد عن العَلمين بنحو ثلاثين كيلومترًا.

نوسة: وماذا كانت تحمل السيارة؟

لوزة: لا أعرف … ولكني أعتقد أنها تحمل شيئًا أو أشياء هامَّة … فقد كان واضحًا أن الرَّجلَين يتحدَّثان بتكتُّم واهتمام!

عاد «عاطف» إلى سخريته قائلًا: وما دخلُنا نحن في هذا الموضوع؟ هل نحن مسئولون عن السيارات التي تختفي؟ …

لوزة: ألسنا مُغامرين؟ وكل الأحداث التي تقع حولنا تهمُّنا!

عاطف: شيءٌ مُدهِش … إن هناك وزارةً كاملة اسمُها وزارة الداخلية مسئولة عن الأمن … بل هناك أجهزةٌ أخرى مسئولة أيضًا … ونحن بالنسبة لهؤلاء وأولئك لا شيء على الإطلاق!

لوزة: إنك تقلِّل من شأننا برغم أننا حللنا عشرات الألغاز، وخُضنا عشرات المغامرات، وكنَّا موضع تقدير الشرطة.

قطعت «نوسة» النِّقاش قائلةً: الآن سنقسِّم العمل، فمَن الذي سيقوم بتنظيف السمك؟

تختخ: كيف عرفت أننا اشترينا سمكًا؟

أشارت «نوسة» إلى أنفها وقالت: أعتقد أن الله خلق الأنف للشَّم، وقد استعملته في الغرض الذي خُلِق من أجله.

ضحِك «عاطف» وهو يقول: لقد أصبحت مِثل «زنجر»!

نوسة: هذا تشبيهٌ سخيف!

تختخ: سأقوم أنا بتنظيف السمك … فهو سمكٌ كبير الحجم … ويحتاج إلى يدَين قويتَين لتنظيفه.

محب: سأُعدُّ أنا الأرز الفاخر!

نوسة: وأنا أُعدُّ طبق السلاطة!

عاطف: وأنا سأُعدُّ نفسي للأكل!

وضحِك المغامرون … وأسرعوا إلى المطبخ … لقد قرَّروا ألا ينزلوا البحر في هذا اليوم … بعد أن قضَوا الأمس كله في الماء.

وانهمك كلُّ واحد في المهمَّة التي سيقوم بها … وجلس «عاطف» يُساعد «تختخ» في تنظيف السمك … كان عليه أن ينظِّف القشور بعد أن يقوم «تختخ» بقطع الزعانف.

جلست «لوزة» و«نوسة» ينظِّفان الأرز لتسليمه إلى «محب» … وجلس «تختخ» و«عاطف» ينظِّفان السمك … و«محب» يجهِّز الأواني. ولم يجد «زنجر» ما يفعله إلا التجوُّل حول الكشك.

وفجأةً اندفع ناحية الشاطئ … ولاحَظ المغامرون أنه يجري هنا وهناك، وعيناه على الأرض … فقال «تختخ»: إنه يُطارد «كابوريا» صغيرة من التي تعيش في الرِّمال الرَّطبة.

ولم تستمرَّ المطاردة طويلًا، ومنذ وضع «زنجر» قبضته القوية على الكابوريا ونبح مُعلِنًا انتصاره … ولكن هذا الانتصار تحوَّل فورًا إلى ألمٍ شديد … فقد أطلق «زنجر» صرخةً مُوجِعة، وأخذ يقفز في الفضاء.

وأسرع المغامرون يتركون ما في أيديهم … واندفعوا جميعًا إليه … ولكنه صمت فجأةً كما صرخ فجأةً … وتحوَّل صُراخه إلى عويلٍ هادئ حزين.

وعندما وصلوا إلى مكانه وجدوه يهرش أنفه بشدة … وقال «تختخ» مُبتسمًا: لقد قرصته «الكابوريا» في أنفه … كان يجب أن ينتظر حتى تموت قبل أن يقرِّب أنفه منها.

طأطأ «زنجر» رأسه مُعلِنًا أسفه … على حين ربَّتَت عليه «لوزة» وهي تقول: ماذا جرى لك … هل ضحِكت عليك الكابوريا؟

هزَّ «زنجر» رأسه … وعاد معهم إلى الكشك … وعاوَدوا العمل … ولم تمضِ سوى ساعة حتى كانت رائحة السمك المقلي الشهيَّة ترتفع في الكشك، وانطلق المغامرون الخمسة يُغنُّون معًا …

كانوا جميعًا في غاية السعادة … البحر … والهواء … والطعام اللذيذ والصداقة التي تجمعهم.

وأعدَّت «نوسة» المائدة … وأخذ «تختخ» ينقل السمك من المِقلاة وهو يصيح: يا سلام … الأسطى «تختخ» الطبَّاخ يقدِّم لكم أشهى أكلة في العالم …

قال «عاطف» وهو يخطف قطعةً من السمك، ويتذوَّقها مُتلذذًا: يا سلام … الأستاذ «عاطف» الشهير يتنازل بتناول الطعام مع بعض الأولاد المساكين.

وفجأةً على الباب المفتوح ظهَر رجلٌ طويل القامة … لم يكَد الأصدقاء يرَونه حتى توقَّفوا عمَّا يفعلون … فلم يتوقَّعوا أبدًا أن يظهر هذا الرجل في هذه اللحظة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤